يرى الكاتب أن الثقافة في مصر تحتاج إلى ثورة حقيقية في ظل الأزمة التي تعيشها، كي تستعيد ريادتها العربية على المستوى الثقافي. ويشير إلى أن حركات متعددة مثل تمرد وتجرد وغيرهما هي حملات ثقافية وفكرية في المقام الأول في سعيها لمواجهة الثقافة الرسمية المتردية.

فِي مِصْرَ حَصْرِيَّاً: الوَزِيرُ خَبِير.. والثَّقافَةُ خُرَافَة

بليغ حمدي إسماعيل

تتزايد الاحتجاجات والمظاهرات ضد وزير الثقافة المصري الدكتور علاء عبد العزيز لإقالته أو إجباره على تقديم استقالته الجبرية نظراً لممارساته داخل الوزارة وهيئاتها التابعة لها، والمثير هذه المرة أن المشاركين في الاحتجاجات كبار المثقفين والمبدعين في شتى مجالات الإبداع، أولئك الذين قال في حقهم وعنهم وزير الثقافة لابد وأن يعمل الجميع على دعم الإبداع والتنوير وإيجاد مساحات جديدة لكافة المبدعين بشكل يتناسب مع حق المصريين فى ثقافة تنويرية وحق المبدعين والفنانين فى واقع جديد يتناسب مع رؤيتهم وأفكارهم الإبداعية.

ستنتهي تلك الاحتجاجات بالفعل، وسيبقى الحدث ذاته وهو أنه في زمن السنة الأولى من الجمهورية الثانية صار لدينا وزير للثقافة ووزارة لها وهو الأمر الذي يسترعي الانتباه جيداً والوقوف عنده طويلا لأنني من كثرة المشاهد المتواترة على مصر لا أكاد أصدق أن في مصر ثقافة ووزارة لها ووزير أيضاً.

وهذا لا يعد هجوماً على حكومة الإخوان التي جاء بها الرئيس أو رئيس الوزراء أو حتى مكتب إرشاد الجماعة المتهم دوماً بأي مشكلة تصيب جسد الوطن، لكن الهجوم الحقيقي على الثقافة المصرية نفسها التي أصبحت تعيش أحلك فتراتها على الإطلاق سواء من حيث الفعاليات الثقافية أو الإبداعات التي كانت مصر تنفرد بها، باستثناء اليوم الذي لا نصدق فيه أن رواية قد صدرت، أو أن عملاً مسرحياً سيقام على أحد مسارح مصر المحروسة، أو خبراً عن حفل موسيقى.

إن الثقافة في مصر الآن تحتاج إلى ثورة حقيقية لا تشبه الانتفاضة الشعبية التي قامت في يناير منذ عامين، ولا هي بحاجة إلى تصحيح للمسار، ولكن مصر تعيش أزمة ثقافية حقيقية ولا يمكنني اللهاث وراء اللاهثين خلف مقولة إن عصر مبارك كان ظلامياً ومتخلفاً وغير ثقافي، فعشرات الأقلام وعشرات السلاسل الثقافية ومئات الفعاليات كفيلة بأن عصر مبارك رغم تخلفه السياسي وتدهوره الاقتصادي إلا أن الثقافة كانت تسير بخطى راسخة بدليل أن مصر كانت لها ريادة العالم العربي على المستوى الثقافي الذي يشمل وسائطه الإبداعية والفنية والموسيقية والفكرية.

أما في ظل اختصاص بعض وزراء حكومة الدكتور هشام قنديل في تصفية قيادات الوزارات إما بتهمة الانتماء للفلول باعتبار أنهم من بقية سحرة فرعون وجوقة الملك المخلوع، أو لأن منهم من يريد تعطيل تنفيذ مشروع النهضة الذي كان عدماً منذ بدايته حتى أصبح سداً منيعاً مرادفاً لكلمة العطش.

ولعله من المنطقي وأنت تتجه إلى السيطرة على مفاصل أي كيان أن تتجه صوب الشرق والغرب والشمال والجنوب كي تتخلص من الوجوه التي ربما ستسبب لك إزعاجاً وقلقاً لاسيما وأنك قد تجد وقتاً طويلاً في عرض برنامجك أو خطتك لإدارة المستقبل، لذلك فالخطوة الأولى هي القضاء على القيادات والأشخاص القدامى إكلينيكياً بحجة تطوير المؤسسات، أو السياسات، وسرعان ما يتم تغيير الأشخاص بتغيير الأنشطة وهذا ما يحدث وسيحدث بوزارة الثقافة التي لا وجود لها فعلياً على المستوى الشعبي أقصد المواطن البسيط الذي كان علامة فارقة في تاريخ مصر منذ الزعيم الخالد جمال عبد الناصر وقت أن كانت الثقافة رغيف خبز وهواء يتنفس.

إن وزير الثقافة الجديد الدكتور علاء عبد العزيز سيفشل لا محالة، وقد يغضب لهذا الكلام إن وصل لمسامعه لكنه إن عرف السبب بطل عجبه إن شاء الله، فشله سيأتي لاعتماده عدة منطلقات وركائز أساسية لا يمكنه التخلي عنها منها أن يرأس وزارته فقط، وهذا أول الفشل فالثقافة جزء أصيل من التعليم وليس ضرورياً المشاركة في لجان واجتماعات التعليم الجامعي وما قبل الجامعي كضيف شرف دون التوجيه والمشاركة الفاعلة في صنع القرار التعليمي حتى صار أبناؤنا بغير ثقافة وبلا تعليم يذكر لذلك نجد أفضل طالب متميز بمجرد الحصول على درجته الجامعية الأولى يلتحق بكافة برامج التدريب المهني ومشروعات التنمية البشرية لأنه بالفعل خرج من ثقافة التعليم خاوي اليدين.

إن مشكلة الثقافة المصرية ووزارتها المختصة أنها تتعامل مع المواطن الذي يبدو مثقفاً أنه مهيؤ بالفعل لتلقي المنتج الثقافي الرسمي الذي تقدمه الوزارة على اعتبار أنه مر بمراحل تعليمية مختلفة جعلته على استعداد لقبول أطروحات الوزارة الثقافية من إبداعات شتى. وهذا الأمر حينما يعود على وزير الثقافة فهو يلزم العودة أيضاً إلى وزير التعليم ووزارته التي في غفلة حقيقية عن ثقافة العصر أو حتى تنقية التراث الثقافي الذي يتم وضعه في كتب الوزارة المدرسية الرسمية.

الركيزة الثانية التي تنبئ بفشل وزير الثقافة ووزارته عما قريب إذا لم تفلح الاحتجاجات في توجيه المسار أن المسئول عن الثقافة في مصر وسوء الظن عصمة يبحث دائماً عن غلاف الكتاب، وورقة عمل الندوة الثقافية، وكتيب العرض المسرحي، وأجندة النشاط الثقافي لقصر من قصور الثقافة، والجدير بالاهتمام هو كيف تقوم وزارة الثقافة بإعداد المبدعين وتوجيههم والتدريب على الإبداع الذي لم يقتصر على الموهبة بل التدريب والاحتضان وصقل التجربة، لكن دائما ما تسعى المؤسسة الرسمية للثقافة في وجود منتج جاهز دائما ما يكون من خارج الوزارة نفسها لكن هي ماذا قدمت سوىالطباعة أو الإمكانات أو المكان.

وحينما يصطدم وزير الثقافة أي وزير بصفته مع المثقفين والرواد في مجالاتهم فثمة اضطراب يحدث في عقل وجسد الثقافة، لأنه من الطبيعي أن تدور المعارك الثقافية بين المثقفين حول قضايا جوهرية تتعلق بالوطن أو بجوهر وكنه الفكر مثل قضايا التنوير والتراث والتجديد وغير ذلك من قضايا وظواهر تستحق المناقشة، أما أن يصل أمر الخلاف إلى تعليق عمل بعض المبدعين الكبار لممارسة إبداعاتهم داخل هيئات الوزارة فعلى الوزير وأعوانه وشركائه أن يقفوا برهة لإدراك ما هم فاعلون وماضون فيه. وعليهم بجدية تدبر الظاهرة لأن المنصب وإن طال قصر أما الفن سيبقى سواء اختلفنا على تمييزه أو اتفقنا على براعة جودته.

وحينما نرى أجهزة الأمن تغلق الطرق المؤدية لوزارة الثقافة خوفاً من المتظاهرين والمحتجين على الوزير بدءاً من قرار تعيينه انتهاء بقراراته النافذة فإننا نرصد نهاية للثقافة على أرض باتت مهداً للعلم والمعرفة والتنوير، وليتنا قمنا باحتجاجات أو أعلنا عن غضبنا واشترك معنا الوزير نفسه ضد مسألة ثقافية تتعلق بحق مصر في مياه النيل مثلاً أو ريادة مصر بآثارها أو برموزها الذين يتم تكفيرهم على شاشات القنوات الفضائية ليل نهار، لكن الثقافة تحتضر ويخطئ من يظن أن أي وزير يستطيع النهوض بأمر الثقافة في مصر لأنه لا يزال ظالماً لنفسه بفضل نظرته للثقافة نفسها على أنها مجرد إنجازات ورقية أو مشاهد مسرحية أو عروض موسيقية، فالثقافة في بلدان الثقافة الحقيقية هي طريقة حياة ونظام معيشة وأسلوب معاملة.

وهذا يجعلنا نعود مضطرين إلى أحد وعود وبنود خطة الأيام المئة للرئيس الدكتور محمد مرسي وهو القضاء على التلوث والاهتمام بالنظافة في الطرق والشوارع، وحينما يلجأ رئيس، أي رئيس، لمثل هذه الوعود فإن على المرء أن يحزن طويلاً لأن في مصر التي أنجبت أول حضارة تمخضت عنها ثقافة وعلم وهو علم المصريات أصبحت من أحلامها تحقيق النظافة والقضاء على تلوث الأمكنة وهذا بسبب أن الثقافة ظلت وستظل حبيسة المكتب الوزاري ولن تنتقل إلى البائعين المتجولين ولا إلى ردهات المدرجات الجامعية ولا أروقة المصالح الحكومية، ولا عجب في أن نرى وزارة تغفل عن الأغاني البذيئة والثقافة السطحية الرديئة وفساد الذوق والذائقة وغموض الرؤية في النقد وتسعى لتصفية خلافات قديمة ومظان لا تصل إلى حد اليقين.

ولكي ينجح وزير الثقافة الجديد في ممارسة عمله وتحقيق أهداف أجندته التي يطمح إليها فلن ينجح إلا بالمبدعين والمخلصين من الرواد والوجوه الشابة على السواء، وحينما عرفت منذ أكثر من أسبوعين عن فكرة تغيير الاسم الشرعي لمهرجان القراءة للجميع المعروف بمكتبة الأسرة إلى مكتبة الثورة، لم أغضب أو أحزن أو اندهش كبقية مثقفي وقارئي مصر المحروسة، بل دخلت في نوبة من الضحك المستدام لولا انتباه أحد الأصدقاء لي، أولاً لأنه بات من المؤسف أن نلجأ إلى مصطلح الثورة والشهداء والإرادة الشعبية والديموقراطية حينما نستشعر باهتزاز الموقف أو ضعف الدفاع، ثانياً لأن الإدارة الجديدة لابد وأن تأتي بفكر جديد لا بالنكوص والارتداد إلى حالة مضى عليها أكثر من عشرين عاماً. ثالثاً ليس مجرد تغيير الاسم هو وثيقة شرعية لإعلان الحرب على مبارك وحرمه ونظامه لكسب حالة من التأييد والمباركة للإدارة الجديدة.

والحقيقة أنه لا تفيدنا مسألة إقالة الوزير طالماً أنه يؤكد على عدم وجود حرب ضد الفن والإبداع، وهذا يحسب له وهو مضطر لأن يبدأ عمله الرسمي بالدخول كرهاً لا طوعاً في مشكلات ونزاعات بدلاً من التفكير في إعادة الحياة وبث الروح في ثقافة الشعب الذي قهرته السياسة وأخذته بعيداً عن الفكر والتذوق والتنوير والاستنارة، ولكن كم تعتريني الدهشة حينما يصر الوزير الدكتور علاء عبد العزيز أنه في حرب ضد الفساد، لأن هذا يدفعنا للبكاء على حال الثقافة في وطني، فهي فاسدة والفساد الذي يقصده الوزير هو إهدار المال العام لكن حينما يفسر مثقفو مصر الفساد الثقافي فهم يرون أن ثقافة الوطن منتهية الصلاحية وغير صالحة للاستعمال والتداول والاستخدام وهذا ما يجب أن يعني وزير ثقافة مصر الآن.

إن التسليم بقاعدة أن كل وزير خبير في عمله فكرة انتهت منذ ظهور العولمة والكوكبية وتناثر المعلومات والبيانات وتباين الطاقات والإمكانات، نعم الوزير الخبير هي فكرة ظلت مرهونة بعهود حاكمة مرتبطة بسلطة سياسية عسكرية أو مركزية لكن بعد التحول الاستثنائي الذي شهدته البلاد منذ الخامس والعشرين من يناير 2011 فالوزير بحاجة إلى مرتكزات عمل جديدة نافعة وذات فعالية وأن يكون هو المبدع لا الناقد أو الصياد والمتصيد والقناص لما يظن أنه خطأ.

وحينما نرى في مصر حركات وحملات متعددة مثل تمرد وتجرد وغيرهما علينا أن ندرك أن هذه الحملات هي ثقافية وفكرية في المقام الأول فماذا فعلت الثقافة الرسمية لمواكبة أحداث مصر؟ وساعة ما نرى كيف أن الرياضة لم تعد أخلاقاً بل صارت قبائل وفصائل بينها حروب دامية على المستويين الجسدي والنفسي فمن الأحرى أن تتحرك المؤسسة الثقافية الرسمية لمواجهة هذا التوغل غير الشرعي في الرياضة باعتبار أن الرياضة في العالم كله ثقافة إلا في مصر هي لعبة أقدام فقط وهذا دور الثقافة ومؤسساتها وهيئاتها. ولحظة ما نشاهد ليل نهار عمليات التحرش الممنهجة والشرسة والتي تعصف بعرض مصر وشرفها فعلى وزارة الثقافة أن تعد عدتها للتصدي لهذه الكارثة غير الخلاقية، ولكن الوزارة لم تفعل شيئاً إزاء كل هذه المشاهد والملامح المجتمعية.