يستثمر الناقد والكاتب العراقي في هذه النصوص الحوارية المكثفة خلاصة تجارب تتعلق بثيمة الحياة السوية الأساسية في حوار بين حكيم وأبنه مقلباً المعاني، الأخلاق، الحكم، السلوك والقيم في أجواء العراق القديم، لكن النصوص تلمس مطلقات الإنسان في علاقته الراهنة بأخيه الإنسان وعلاقته بالحياة.

مدونات سومرية

باقر جاسم محمد

ملاحظة:‏ تدور هذه المدونات حول أحداث وشخصيات متخيلة في مدينة الوركاء السومرية في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد.‏

المدونة (1)‏
قال نخلة الحكيم لابنه تالا: كيف ترى الحقل ؟‏
قال تالا: لا أرى حقلاً.‏
قال الحكيم نخلة: فماذا ترى إذن؟..‏
قال تالا: أرى أرضاً سمراء وماءً وفيراً.‏
قال الحكيم نخلة:وصوامعنا فيها بقية من بذور وسواعدنا قوية؛ فكيف لا ترى الحقل إذن؟..‏

المدونة (2)
قال نخلة الحكيم لابنه تالا: يا ولدي، حين ترى الكاهن يتخذ لنفسه رمزاً هو خنزير له أنياب نمر وبراثن ذئب وذيل أفعى،فاهجر معبده واهرب منه لأنه بدلاً من أن يرعى روحك سيفسدها؛ وبدلاً من أن يوصيك بأخيك سيجعلك تمتص دمه.‏

المدونة (3)‏
قال تالا لأبيه: بالأمس حذرتني من الكاهن،فكيف تحذرني من الأمير؟‏
قال الحكيم نخلة: حين تراه يهتم بكمية السلاح في مدينته أكثر من اهتمامه بكمية الخبز؛ و حين تراه يكثر من القصور لنفسه ومن القبور لرعيته فاعلم أنه فاسد لا صلاح له، فإياك أن تكون من أعوانه.‏

المدونة (4)‏
سأل تالا أباه نخلة الحكيم: متى يصل الإنسان إلى الكمال؟‏
قال نخلة الحكيم: لن يصل إلى ذلك أبداً، ولكن شرفه في أن لا يتوقف عن السعي إليه.‏

المدونة (5)‏
زار نخلة الحكيم وابنه قبر زوجته، أم تالا، الذي يقع إلى جانب النهر، وقد وقفا إلى جانبه صامتين، وحين نظر الابن إلى وجه أبيه رأى فيه حزناً ثم ابتسامة ثم سحابة ثم مطراً؛ فسأل أباه: كيف هو تذكرك لأمي؟‏
قال نخلة الحكيم: كيف أنسى امرأة أنستني حزني لأنني يتيم في هذا الكون وسكبت النور والسرور في أعماق روحي!؟..‏

المدونة (6)
قال تالا لأبيه: ما الذي يحزنك هذه الأيام يا أبي؟.‏
قال نخلة الحكيم: ما يحزنني هو أنني أرى عدد الرقم الطينية التي لم أقرأها بعد، وأرى نقص ما بقي لي من أيام في هذه الدنيا، لذلك أحزن.‏

المدونة (7)‏
قال تالا لأبيه: ما آخر ما قرأت و تريدني أن أحفظه؟‏
قال نخلة الحكيم: قرأت في بردية من وادي النيل الآتي:‏
من المحزن يا ولدي أن يصمت الذين يفهمون، ويتكلم الذين لا يفهمون".(*).‏ "

المدونة (8)‏
قال تالا لأبيه نخلة الحكيم: أولا ترى يا والدي ما حل بالمدينة من خراب؟‏
قال نخلة الحكيم: بلى، وقد تنبأت به من قبل.‏
قال تالا: لقد فسدت الأسواق وشاع الفقر.‏
قال نخلة الحكيم: أصلح حال المعلم.‏
قال تالا: و كثرت المظالم وضاعت الحقوق.‏
قال نخلة الحكيم: أصلح حال المعلم.‏
قال تالا: و أهمل قادة الجند الاستعداد للدفاع عن المدينة و اهتموا بالسلب و النهب.‏
قال نخلة الحكيم: أصلح حال المعلم.‏
قال تالا: لقد شاع الفساد، وصار الكذب أمراً لا يخجل منه قائله، وخان الأزواج بعضهم بعضاً.‏
قال نخلة الحكيم: أصلح حال المعلم.‏
قال تالا: و قد انغمس الأمراء في ملذاتهم وأهملوا حال أهل المدينة.‏
قال نخلة الحكيم: أصلح حال المعلم.‏
قال تالا: فكيف أفعل ذلك؟‏
قال نخلة الحكيم: أصلح حال نفسك أولاً.‏

المدونة (9)‏
انتقل صديق لنخلة الحكيم من مدينة الوركاء إلى مدينة أور؛ وقد زاره ليودعه ويطلب نصيحته.‏
قال الصديق: لقد اشتريت بيتاً في أطراف أور، وهناك بيوت قريبة من بيتي. وقد علمت أن الأمن غير مستتب في تلك الأنحاء،فماذا أفعل لكي أضمن لنفسي ولأهلي الأمان؟‏
قال نخلة الحكيم: لا تظلم أحداً، وأحسن الظن بجيرانك وأحسن إليهم.‏
قال الصديق: ولكنني سمعت أن المرء قد يقتل دون ذنب؛ فكيف أحمي نفسي وأهل بيتي؟‏
قال نخلة الحكيم:اشتر لنفسك سيفاً، ولكن لا تبادر إلى استعماله دونما ضرورة.‏
قال الصديق: أظن أن من الحكمة أن أشتري عشرة سيوف.‏
قال نخلة الحكيم: منْ يشتري سيفاً فإنه يريد الدفاع عن نفسه؛ أما من يشتري عشرة سيوف فإن له غاية أخرى.

المدونة (10)‏
قال تالا لأبيه: ماذا أعمل لكي أعيش؟..‏
قال نخلة الحكيم: و ما المهن التي يمكنك العمل فيها.‏
قال تالا: الجندية، أو الخدمة في المعبد، أو التجارة، أو الفلاحة، أو النجارة، أو الحدادة، أو البناء.‏
قال نخلة الحكيم: الجندية قد تكون مهنة قتال دفاعاً عن المدينة، أو مهنة قتل وفتك دفاعاً عن أمير ظالم. و الخدمة في المعبد و التجارة تجعلانك تعيش على كدح الآخرين دون أن تنتج شيئاً، أما المهن الأخرى فإنها تجعلك تنتج الخير لنفسك و لأهلك و للآخرين. فاختر منها ما تشاء.‏

المدونة (11)
قال تالا لأبيه: يا أبي، أنوي السفر إلى دلمون، وسأبقى هناك مدة من الزمن. فهل تنصحني أن أتخذ لنفسي هناك أصحاباً من أهل مدينتنا الوركاء، أم من أهل دلمون نفسها، أم من أهل أور؟‏
قال نخلة الحكيم: الناس صنفان:منهم من هو طيب تأمن له وتأنس إليه، ومنهم من هو شرير‏
لا يؤمن جانبه.‏
قال تالا: ولكن لم تقل لي من أي المدن أتخذ أصحاباً!‏
قال نخلة الحكيم: بل قلت لك‏.

المدونة (12)‏
ذهب نخلة الحكيم وابنه تالا إلى سوق مدينة الوركاء لشراء محراث جديد. وقد وقفا عند دكاكين النجار و صانع الفخار و صانع الحصران، وحين اقتربا من دكان النخاس، أسرع نخلة بالمشي حتى كأنه لم يلحظ أي شيء فيه. و قبل أن يصلا إلى دكان صانع المحاريث قال تالا لأبيه: لماذا أسرعت يا أبي؟ فأنا لم أتمكن من مشاهدة ما يعرضه النخاس من العبيد والجواري.‏
قال نخلة الحكيم: لن أقول لك لو كنت أنت عبداً فهل ترضى بأن تقف ليتفرج عليك الناس ويساوموا النخاس لشرائك؛ ولكنني أقول لك أن من بين كل ما رأيته من أمور يرفضها عقلي وقلبي فإن العبودية هي أكثرها شراً ونذالة.‏

المدونة (13)‏
أخذ نخلة الحكيم يقضي وقتاً طويلاً في مراقبة السماء ويمعن النظر فيها صباح مساء.‏
فسأل تالا أباه: لماذا يا أبي تقضي كل هذا الوقت وأنت تنظر إلى السماء؟ هل تريد أن تصبح كاهناً؟‏
قال نخلة الحكيم: كلا يا ولدي، إنما أفعل ذلك لأمر آخر.‏
قال تالا : فما هو؟‏
قال نخلة الحكيم: أريد أن أعرف كيف تؤثر السماء فينا،.‏
قال تالا: هكذا يتكلم الكهان. إنهم يزعمون معرفة ما تريده السماء، و أنهم يمثلون الصلة بالسماء، وأرى أن كلامك يشبه كلامهم.‏
قال نخلة الحكيم: ليس الأمر كما بدا لك يا ولدي. فالكهان يزعمون معرفة إرادة السماء ويحتكرون تلك المعرفة لأنفسهم لأنهم يريدون إخافة الناس ومنعهم من التفكير. أما أنا فأريد معرفة السماء لأدرك سبب تغير الفصول وكيف يؤثر ذلك في الزرع وفي تكثير الماشية. وأريد أن أنشر ذلك بين الناس حتى يزداد حصادهم وعديد ماشيتهم. فهل يتساوى من يخيف الناس بمعرفة السماء ويزعم أنه الوسيط بينهم وبين السماء مع من يدعوهم لمعرفة السماء مباشرة حتى يفهموا متى يحرثون ومتى يبذرون ومتى يحصدون؟...‏

المدونة (14)‏
تعرضت بلاد سومر لرياح عاتية ومطر غزير لم ينقطع لثلاثة أسابيع كما فاض الفرات حتى دمرت المياه الزرع وقتلت كثيراً من الأنعام، ولم يبق ظاهراً فوق الماء سوى باسقات النخيل وبعض الأماكن المرتفعة فتجمع بعض الناجين فوق تل مرتفع؛ و كان بينهم الأمير و الكاهن ونخلة الحكيم.‏ قال الأمير: صوامع الغلال مبنية على مرتفع من الأرض وفيها ما يكفي الأمير وعائلته وجنده.‏
قال الكاهن: في المعبد من المؤونة ما يكفي لمن يخدمون الآلهة.‏
قال نخلة الحكيم مخاطباً الناس: فلنجمع ما بقي من بذور ونقسمه قسمين؛ قسم نأكله وقسم نزرعه. فالأرض قد جفت وقد زادها الفيضان خصوبة وهي في شوق لاحتضان البذور.‏

المدونة (15)‏
قال تالا لأبيه : لقد وعيت وحفظت ما علمتني يا أبي. وسوف أعمل به.‏
قال نخلة الحكيم: ولكن ذلك لا يكفي.‏
قال تالا: فما الذي يكفي يا أبي؟..‏
قال نخلة الحكيم: يا ولدي، لقد علمني والدي أشياء كثيرة حفظتها عنه ولكنني لم أكتفِ بها؛ فقد وجدت الحياة أوسع مما علمني والدي. فتعلم أنت من الحياة وأضف إلى ما تعلمته مني.‏

المدونة (16)‏
قال تالا لأبيه نخلة الحكيم: أراك يا أبي أكثر ميلاً إلى جارنا تانو من جارنا كوهال؛ فلماذا أنت كذلك يا أبي؟‏
قال نخلة الحكيم:لأن تانو يخطيْ قليلاً، وحين يخطيْ فإنه يعتذر ممن أخطأ بحقه؛ أما كوهال فإنه يخطي كثيراً بحق الآخرين ولم أسمعه مرة يعتذر لأحد.‏

المدونة (17)
قال نخلة الحكيم لولده تالا: إذا أردت أن تحيا ونفسك مرتاحة ومطمئنة فأحبب زوجك وأسعدها؛ أحبب أهلك وأبناءك؛ أحبب أهل مدينتك؛ وأحبب الناس من أهل المدن الأخرى.‏
قال تالا مستزيداً: وماذا يا أبي؟..‏
قال نخلة الحكيم: وأحذر أن تفعل مع الآخرين ما لا تود أن يفعلوه بك، وهكذا لن تحتاج إلى شراء سلاح أو لبناء سياج لحقلك.‏
سأل تالا أباه نخلة الحكيم: ولكن يا أبي، ماذا لو فعل الآخرون معي ما لا أحب أن أفعله معهم؟‏
قال نخلة الحكيم: فكن أقرب للسماح منك للانتقام، فإن لم ينفع ذلك فادفع عن نفسك ما يحيق بك من أذى ولا تذهب إلى أبعد من ذلك.‏

المدونة (18)
قال تالا لأبيه نخلة الحكيم: حدثني يا أبي عن أمور أخرى تفيدني في الحياة.‏
قال نخلة الحكيم: خذ عظة مما حصل للفلاح مانو من الوركاء.‏
قالا تالا متسائلاً: و ما حكايته يا أبي؟‏
قال نخلة الحكيم: كان مانو فلاحاً نشيطاً، ولكنه كان كثير الشك بالآخرين فاعتزلهم. و كان يخشى على حقله من الطيور فأنشأ سياجاً عالياً حول الحقل وجعل في كل ركن منه فزاعة حتى لا تقربه الطير. وحين ازدهر حقله لم تزره الطيور؛ ولما لم تزره الطيور التي تأكل الجراد فقد تكاثر الجراد الذي يوجد منه القليل في كل حقل حتى صار يهدد حقله وحقول الآخرين.‏
قال تالا: وماذا حصل بعد ذلك يا أبي؟..‏
قال نخلة الحكيم: أدرك مانو خطأه، وأسرع إلى جيرانه طالباً العون منهم ورفع الفزاعات كافة، وهكذا استطاع أن ينقذ حقله وأن يصلح شأنه مع الناس.‏

المدونة (19)‏
كان نخلة الحكيم يمشي في سوق سومر فمرَّ من أمام بائع تماثيل الآلهة وآنية الفخار. نادى نخلة فتوقف، التفت فوجد الكاهن و النخاس عند بائع التماثيل. قال البائع: لماذا يا نخلة الذي يوصف بالحكمة تمر سريعا ً من أمام دكاني و لا تقف لتتحدث إلي كما يفعل هذا السيدان؟ قال نخلة الحكيم: معذرة. عمتم صباحاً، ولكن لدي ما يشغلني.‏
قال البائع: أنت معروف بالحكمة فأردنا أن نتحدث معك عسى أن نستفيد، وعسى أن تشتري شيئاً من دكاني.‏
قال نخلة الحكيم: حسناً، هل لديك مجمرة من الفخار، فالشتاء على الأبواب.‏
قال البائع: هاهي المجمرة. ولكن، قل لي يا نخلة الذي يصفه الناس بالحكمة، لماذا لم تشتر يوماً تمثالاً لأحد الآلهة لتضعه في بيتك حتى يحميك من الشر؟‏
قال الكاهن: إنه لا يحترم الآلهة، ولا يقدم لها النذور.‏
وقال النخاس: ولم أره يوماً يقف عند دكتي حيث أبيع أفضل الجواري الحسان وأقوى العبيد. قال نخلة الحكيم: ما نوع التماثيل التي لديك؟‏
قال البائع: لدي آلهة من حجر الصوان وأخرى من حجر الحلان وأخرى من الفخار.‏
تبسم نخلة الحكيم وقال: و من صنعها؟‏
قال البائع: لقد صنعها أمهر النحاتين و الفخارين في أوروك و أور.‏
اتسعت ابتسامة نخلة الحكيم بينما كان الكاهن ينظر إليه بعينين تتقدان ناراً.‏
قال نخلة الحكيم: أعطني المجمرة التي طلبتها و سوف أوافيك بثمنها. ودعني وشأني، فلدي مشاغل لابد من إنجازها.‏

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تقتفي هذه المدونات السومرية ما كتبه الدكتور مصطفى هيكل في جريدة "طريق الشعب" البغدادية في سبعينيات القرن الماضي من ناحية الشكل فقط. ولعل من المهم الإشارة إلى أن بعض ما جاء في المدونة السابعة مأخوذ من البرديات المذكورة.‏