تقترح مجلة (الكلمة) على قرائها ديوانا شعريا لشاعر فلسطيني، عبارة عن قصيدة نثر طويلة. نص شعري مفتوح على أسئلة الشعر والعالم والكينونة. وفق هذه الأقانيم الثلاث تتحرك استراتيجية الكتابة الشعرية في هذا الديوان بميسم حداثي، حيث الحوار العميق مع نصوص وأفكار تؤسس لاختلافها، ولأسئلة الذات والكينونة.

حالات تلصُّص (ديوان العدد)

أحمد حسين

تنزلق الأسماء على منحدراتها الخريفية القاحلة، نحو صدف الوديان العميقة. ربما تكون جنية الرمل العاشقة قد خبأت كنزها المسحور هناك في انتظار علاء الدين.

قالوا الحياة ليست ما ترينا هي ولكن ما نراه نحن، وإلا لقتلتنا وجوهنا الخزفية القبيحة التي تشبه دمية الساحرة.

أقول يمكن دائما استدعاء الأنهار التي لا تستطيع الإغتسال في مائها، والجداول الملفقة التي تضاعف ظمأك. ولكن الخمرة التي تضاعف بهجة الليل تضاعف أيضا تعاسة النهار. بعد أن تنتهى من شرب كؤوسك الفارغة، ستشرب الكأس الأخيرة من يد النادلة الخشبية، وتخلي مقعدك لقادم مجهول.

كم كتب المحتضرون من قبْلنا الرسائل لأنفسهم عن فجوات تركتها الآلهة في أسوار هذا السجن الإنفرادي العظيم. كثير من الزنزانات فرغت من ساكنيها دون أن يدري أحد مِن الذين ما زالوا يستعملون ضمير المتكلم، متى وكبف وإلى أين ؟ كل شيء حتى الموت تافه أمام تفاهة الحياة :

انكسار الأسئلة على واجهات الأسئلة.

العشب الذي يزاحم النعناع في الحديقة بدون سبب.

النساء اللواتي يزاحمن الرجال بأسمائهن في شوارع المدن، ويقترفن شغف الحياة والموت بالمجان

(الأرحام ليست أمكنة آمنة، فهي مليئة كالشوارع بالحوادث المؤسفة. ألم يأت هولاكو من رحم امرأة صغيرة، تشبه زجاجة مملوءة بحليب الأطفال؟ وكولمبوس المشؤوم الذي اكتشف نعش العالم، هل كان حجرا من جهنم؟)

الخطوط المتوازية التي تتحول إلى دوائر ليصبح الخط موازيا لنفسه. العقل يظن أن التعقيد يبعد التفاهة. ولكن العقل ذاته تفاهة مركبة.

الفنان الذى يهرّج بألوان لا وجود لها، والموسيقىّ الذي يعلق الناس من شغفهم على الشرفات، والشاعر الذي يشبه رجلا عاريا يلبس طربوشا أحمر في ميدان مكتظ بالسابلة.

(لا يحب الشعراء الشوارع الضيقة، ويلاحقون الساحات المكتظة بالجماهير. لماذا يسخر هؤلاء الحمقى من أنفسهم! ألا يعرفون أن الشعر مسألة شخصية كالبواسير، يجلس الشاعر النرجسي يهجو نفسه بالمديح، ويعرّف الحب بأنه اقتحام النساء لمخدعه.)

هذه التفاهات العظيمة، هي التي جعلت الإنسان يسير في موازاة نفسه ويخترع اسم الحياة. وجاء العقل فاخترع اسم الموت ليغلق آخر الفجوات. لم يبق هناك فجوة غير مغلقة أمامنا سوى فجوة السؤال. إحترقوا بنارها إذن، ولا تبحثوا عما تسمونه المعجزات. التعساء والصدف معا هم الذين ظلوا يشكلون الفجوات في أوقات فراغهم ويسمونها كذلك :

العفو العام الذي يأتي من الجبهة بغتة، في اللحظة الأخيرة قبل تشغيل آلة الزمن.

والمطر الذي يسقط في أوائل الصيف ويطفيء الحريق.

وهكذا...

أما العنزة التي تأكل الأسد فهي معجزة حقيقية لا يمكن أن تحدث. ومع ذلك فإن الغريق الذي لا ينسج الحبال من الماء هو غريق غريب الأطوار. لماذا يحدق في بشاعة النصوص المؤكدة، ويرفض قراءة الرسائل المطمئنة، ما دام مخدوعا في الحالتين ؟

(المعجزات صُدَف مركبة. قال صيادو البوفالو إنها رسائل االآلهة المكتوبة على السهام. وقال صيادو الحجل أنها رذاذ البارود الأعمى حين يلتقطه اصطفاق الأجنحة العشوائي. لعله أيضا مثل اصطدام المارة في الشارع. ولكن ذلك تصادم عابر لا يصبح صدفة إلا حينما يقتل أحد المتصادمين الآخر. الصدفة إذن إبداع خفي يشبه القصيدة. والمعجزة هي الصدفة المطلقة، تختار مشيئتها قبل أن تستقل مركبتها التي بدون عجلات وتفاجيء السابلة. هكذا صعد المسيح إلى السماء لأن المعجزة اختارته بنفسها من بين شعراءالعالم جميعا. كانت الصدف تعشقه فمنحته وسامة الآلهة وأناقة الحب وكلمات تترقرق في النفس الحزينة كأنها أوسمة من الصفاء معلقة على صدور الفقراء. لكنه اصطدم بصدفة عابرة فقتلته.

قالت: لا بد من مسيح يليق بالآلهة ! ومنحته وجها أنجلوسكسونيا بعينين زرقاوتين ولحية شقراء رغم أنه كان نصراويا أخضر كعرق النعناع. لماذا لم يفتد المسيح لونه الجميل، الذي يشبه سمرة الماء تحت خميلة التين، من هذه السخافة الشقراء ؟ عبثا نسأل! حتى هو لا يدري!)

 

* الشرفات تغص بالمحتضرين. كل الذين يعيشون في مواسم الإحتضار يفضلون المساء. لا يشعرون فيه بغربة الشيخوخة في النهار، حين توزع الشمس بشارة الوقت على الجميع ما عداهم. أما المساء فهو بشارة المحتضرين. يقولون : الوقت أكذوبة مهمة. ولكن الإحتضار لا يعني الموت القريب. إنه مثل جرس الكنيسة. حين تسمعه تغمرك الطمأنينة المؤقتة.

لست أنا الذي مات.

(شكرا لرشاد أبو شاور)

 على بعد تنهيدة واحدة، تحت الجرس القريب المعلق في صمت الكنيسة يلغة أجنبية، تتهامس أصوات بالعربية الفصحى عن قرب انطلاق مركبة البريد إلى السماء.

هناك من سيموت !

يقول الشاعر المحتضر الجالس على شرفته الساطعة مثل كويكبة بين الأرض والسماء يرتشف قهوته المدللة، ويعد نساءه الماسيّات على مسبحة من لآليء البحر : إنه لست أنا ! إنه هو. تراه مات في صفقة مبكرة مع الموت، كي تظل روزنامته معلقة على الحائط لبعض الوقت. ولكن ما الفائدة ؟ أوراق الروزنامة تموت معنا. كلنا نستقل حافلة واحدة.

سيذكرونه بكل اللغات. ويترجمون التلاوات على روحه إلى لغة الكومبيوتر.

سيوزعون الليمون الحامض في مجالس الرهافة. ثم يتنفسون

بإخلاص شديد عند الخروج.

سيزرعون الكفن حول موته بالأشجار المثمرة ويوزعون اثمارها على الفقراء بسعر زهيد.

الذين يعتبرون ان الموت هو قيامة الأحياء، سيذكرونه ميتا فقط، ويعتذرون عن أشعاره بالصلوات. أما الذين يعتقدون أن الموت هو النهاية الفضفاضة للشعراء، والنهاية المقتضبة للناس العاديين، فسيشربون الخمر بتوسع مقصود على موائد الذكريات، لعلهم يعيشون على حافة اسمه المعلق في سقف الذاكرة كأنه نجفة من النجوم المطفأة.

هذا هو كل شيء !

عبثا ! الدخان يتصاعد من جثث الأشياء المحترقة وليس من النار التي أحرقتها. كيف إذن نريده أن يحمل رسائل الدفء الى أصابعنا التي أشعلها الجليد ؟

لن نستطبع أن نساجل الموت. فلماذا نلاحق ساعاتنا الأخيرة بترهاته في ردهات الإحتضار ؟

يلوّح بخطايانا التي شجعتنا على المكوث، ليغرينا بالمغادرة.

يمشي وراءنا من نافذة الخيبة إلى محطة القطار الخشبي، حاملا سلة الليمون التي ترينا رائحتها الفصول الأربعة.

حتى الرسائل التي لم نقرأها عند وصولها، يلقي بها أمامنا. أما الرسائل المقروءة فيعيد إليها نضارتها المؤسفة ليضاعف لنا ألم الوقوف على ثلوجه السوداء.

(ألأحياء هم الذين يعلمون أنهم سيموتون. ولكنهم لا يحبون الحبال المشدودة، لأنها تشبه عقارب الساعة. يريدون فسحة أخيرة للكبرياء، تحميهم من ارتخاء قاماتهم في اللحظة الأخيرة. يقولون : الذي سينقذنا من الموت هو الموت ذاته. فما شأن الوقت بذلك ؟ صنعناه لنضع العراقيل في الطرقات أمام الجنازات، فأصبح يعمل حوذيا لدى صانع التوابيت. يستعرض أمامنا مركبة الدفن المزدانة بالزهور وعبارات النعي البليغة، ويترك لنا اختيار التفاصيل. أما المواعيد فيشتريها من الذين يسهرون في الليالي الفاخرة على راحة المحتضرين. هذا السخيف يتسكع في خطواتنا بدون سبب ظاهر للعيان، يتفقد معنا القطارات، وأجراس المدارس، وحبال الغسيل. وحينما نحاول النوم يصبح وسادة مليئة بالحصي تحت رؤوسنا يحصي بها حسراتنا.

فلنشهر في وجه الموت كبرياءنا المستحيلة. كل شيء في الحياة سيغدو مستحيلا عندما يقرر الموت أن اللعبة قد طالت أكثر مما يجب. حتى هو تفسه لن يجد في النهاية ما يفعله ويدخل في حاشية الذي لا يأتي. هذا الصفيق الذي لا يُرى ولا يُسمع، يثير من الضجيج حينما يأتي أكثر مما تثيره الصواعق. ولكن الكبرياء أيضا تثير من براكين الغضب المشتعلة أحيانا، ما يجعل الناس يتمتعون بلعبة الإحتضار.)

هذه لعبة تبعث على الجنون !

هل فخخت الطبيعة الحياة بالوقت لتحافظ على أسرارها من تحالف الزمن والناس ؟ يا للسخف ! الزمن ليس كهفا للمعرفة، إنه فوهة الوجود المعتمة. أما الناس فيحملون كتبهم مقلوبة عند القراءة. وإذا كانت مليارات السنبن لم تعلم الناس كيف يجارون السلاحف ليستوفواأعمارهم حتى اللحظة الأخيرة، فكيف سيرون أقفيتهم ؟ يظنون المعرفة عقلا، فيضعون السم بين يدي الأطفال.

أليس العقل دسيسة مهلكة ؟ من الذي يحصد القمح في الشتاء ويقطف الثمار قبل نضجها سوى ذلك الأخرق ؟ أليس هو الذي جعل الناس يغزون الكواكب بالقردة ويموتون بإنفلونزا الخنازير. الضحك هو المعنى الوحيد لهذه المهزلة؟

(لم يكن شابلن يحاول أن يضحك الناس. كان يكتفي بألا يضحك منهم، فينفجرون في الضحك. أما عنزة أسخيلوس التي كانت تفتتح كل المشاهد بصمتها، فقد اكتسبت خبرة الممثلين وصارت تثغو حينما يصمتون، فيصفق لها المشاهدون بحماس بالغ.

أما سيد المهزلة، العقل، فقد كان يقيم الهياكل في جماجم الآدميين، يخبيء فيها ثماره المسمومة للقادمين ويمارس في حجراتها السحر. لا تصدقوا أن العقل له كتاب غير كتاب الذات. يحمل جسد الطبيعة مقلوبا على رأسه ليقول أن الأرض هي سقف المعرفة. لم يكن ماركس يقول كالأنبياء : تعلموا ! كان يقول إعلموا ! ولكن كيف إذا كان التاريخ يكذب ؟ هل يتفق صفاء الجو في الأيام الربيعية الناعمة كالحرير الدمشقي، مع الزلازل والبراكين التي تطلقها الطبيعة فجأة، حينما يكون الناس منهمكين في الترحيب بأنفسهم تحت أشجار الزينة ؟ ولكن ماذا تفعل الطبيعة الرؤوم ؟ لقد أصيبت بالخجل من نفسها حينما تكلم إسكافي القيصر الجرماني، وقضى على وجهي العملة وحولها جميعا إلى كرات ملساء لا جوانب لها. بعدها جن سكان اللغات، فصاروا يشوون البطاطا في الثلاجة، ويبحثون عن " سيلان " في أكواب الشاي السيلاني، وأختلفوا في تأنيث المذكر وتذكير المؤنث بدون خجل. وحينما اشتاقوا إلى الأقواس وعلامات التعجب، هربتْ منهم إلى الطوابق السفلية، خوفا من الإغتصاب.

من الذي يقود الحروب ويأمر أيدي النحاتين بتخليد كبار القتلة ليحملوا عنه أوزارها سوى العقل ؟

الأفعى تتهم نابها !

ومن الذي جعل أنامل الفنانين تخلد رنين السيوف وعزف الغدارات في " واترلو " ؟ الدم ليس أقل جمالا من الموسيقى. أليس كذلك ؟ يقول أعضاء المحفل، وهم يمارسون في الحدائق العامة عادة التفكير السرية التي اخترعها العقل.

للعقل عين واحدة يرى بها عن يساره. لقد جاء متأخرا. وحينما لم يستطع أن يصبح إلها، أصبح مشاغبا يساريا يعشق اليمين، لأن كل العروش تُبنى هناك. الوحيد الذي اختفى ولم يعد يراه أحد، هو الإنسان.

مسكين أنت أيها الكائن المبجل بنياشين البطولات المدفونة في الثلج. أنت الذي تقايض الموت بالنجوم. ألموت لك، والنجوم لا تفارق سترة السماء. الثمار والأزهار وأعشاب البرّ لها أسماؤها الخاصة وأنت اسمك الوحيد الإنسان. لا رفيق لك على هذه الأرض سوى الخوف، ومدارات الهرب.

لا تحاول ! لن يهرب أحد من قدميه أو ظله أو دمه. نحن ذبائح لأعياد الآلهة التي لا نعرفها إلا بسقوطنا. قدم عنقك بسلام.

 

لا تمتحن مزاج الرب! سر في ظلاله الثقيلة كحجارة مذبح إغريقي ولا تسأل. الرب كالعقل يعبد ذاته. ولولا الوقت الذي يكره كليهما بالتساوي لقتل أحدهما الآخر.

التفاحة لا تؤكل سوى مرة واحدة. ووجودنا هنا طويلا يحرج الوقت. والوقت ليس له جهات. يجلس في الأشياء ولا ينتظر، وأحيانا يهب مثل الريح يطفيء المصابيح ويعود إلى أَيْنه المجهول. فماذا يفعل الذين هجرتهم الحكاية في الوقت، سوى التبول الإضافي على ظلالهم المعطرة كمثل أعلى؟ لو كنت ستواصل كتاية الشعر، وتعانق المزيد من النساء في وقتك الإضافي، فلن يكون ذلك أنت. سيكون شخصا آخر لا تعرفه. لأن لكل عابرٍ حكاية واحدة طولها أكثر من ملياري سنة غير ميلادية. لو تغيرت فيها حركة واحدة لتغيرت اللعبة بكاملها وبدأ العالم من جديد)

لا يوجد هنا ما يُفهم، فلماذا وجد العقل ؟ يهجس الشاعر على شرفته : إذا كان لديه ما يقوله فليعطنا سببا واحدا للموت. وإذا كان الموت جزءا من اللعبة كما سيقول، فلماذا يحرض الناس على القتل ؟

كم كان شهريار ملكا ! قال الشاعر :

كان يفتتح المدن، ليقتل النساء بحثا عن امرأة غير موجودة. وكنت في مملكة الشعراء أنادي المدن والنساء فيأتين إليّ. لم أقتل امرأة واحدة لأن أعمار النساء تصلح عطرا للذاكرة المدللة، ولا تصلح زينة للقبور. هل كان شهريار يبحث عن جوهرة الجسد، أم عن حكاية يحفظ فيها اسمه من النسيان ؟ النساء فواكه مثقوبة على أغصانها وعربات محملة بأفراح الجسد. هل تملك المرأة سوى جسدها المحدود الصلاحية، كعنقود العنب، فلماذا لا نمتص رحيق أنوثتها من الكؤوس تحت، تحت خمائل الجنس المنداة بالمَني ؟ لم يكن شهريار من الخالدين. كان يدعو الوقت إلى مائدته ليراه وهو يطفيء مصباح الليلة الفائتة. ولكن الوقت الذي كان يعشق الأعمار الصغيرة منحه التريث دون أن يستطيع حمايته من نفسه. الحكاية هي التي ستعيش، لتوزع كراريسها الملونة على طلاب الصفوف الأولي الذين ستقصفهم الطائرات بعد دقائق أو سنوات. ترى متى بدأ الوقت ؟

(ليس على الكون شيء واحد لم يأت قبل الوقت، كان الكهف أولا، ثم العتمة. لذلك بدأ شهريار اللعبة من نهايتها. كل ما قبلها لم يكن إلا تسكعا في ظنون البداية. كثيرون سحرتهم الرحلة وأسكرتهم رسائل الغموض التي رأوها على جدران المهزلة، فغرقوا في أنهار البداية التي كانت تتلاشى قبل وصول البحر.

هكذا قالت السيدة ذات الأجراس. وهكذا زعم أيضا البربري نيتشة ذو العقل الأفطس كأنف هولاكو :

كل ما حولك هو أنت. وكل ما تراه هو لك، كلنا يجب أن نقتل لنعيش. هذه هي اللعبة بالتمام. قالت السيدة ذات الأجراس. عرف قابيل ذلك حينما اكتشف البعد الثالث للخط المستقيم، بعد انكسار المطلق تحت شجرة الجنس السماوية، وتكوّن المثلث الأزلي المتغير الأبعاد.

 كلنا خالدون، تؤكد السيدة ذات الأجراس، الذين يُقتلون يعودون إلى مطلق الخلود في برية هابيل العمياء، والقاتلون سيخلدون في مثلث الجحيم الذي اختاره قابيل. فما شأن القاتل إذا كان القتل خيار المقتول ؟ لو أراد هابيل لكان هو القاتل، ولكنه كان شاعرا يفضل السكون على الحركة، والهدوء على صخب النساء وأواني الطبخ.

تلك السيدة ذات الأجراس عجوز شابة ترى ما تريد، إنها ليست منا نحن الترابيين. هي قدوم بحري غامض حمله الموج إلى شواطئنا. أوقات الماء لا تشبه أوقات التراب. اختباتْ من الوقت تحت قدم شيطان الماء. وحينما جاءت، كنا نُنتثرعلى بساط الوقت لا نعرف سواه، لأن صوت التراب الخافت لا يغادر مسامعنا. والموسيقى الترابية التي تجوس أزقة الجسد تكرر فينا جملة بيتهوفن المرعبة : كفى ! أوقفوا هذا الصخب ! عليّ أولا أن أغسلكم بموسيقى الأبد الترابي، ثم ابدأوا في العويل.

كان بتهوفن يرى الموسيقى ولا يسمعها. لذلك لم ير ما يجب أن يسمع. كان عبقريا مغفلا استطاع أن يرى ما لا يُرى، فرأى الجبل ولم ير الأشجار التي فوقه. وأخيرا قال أن الموسيقى هي صوت السهم الأعمى الذي يخترق الفضاء، وليست صوت القوس أو الوتر. أنصتوا جيدا لتسمعوا من أين يأتي الصفير !

وقال أحد الشعراء : أرى ما أريد ! كلا يا سيدي. لقد قلت ما أردت، ولكنك ذهبت دون أن ترى شيئا مما رأينا. الأمور ليست بهذه السهولة. كان عليك أن ترى ما تُريك اللعبة قبل أن تغمض عينيك لترى ما تريد، نحن لم نولد لنعرف، ولم نعرف لماذا نولد، كل ما ندريه هو أننا هنا فقط، أراد ذلك الموسيقي الأصم أن لا يرى ما يُرى وأن لا يسمع ما يُسمع. فرأى ما لا يُرى وسمع ما لا يُسمع. وأخذته كبرياء الشاعر الأعمى الذي حقد على سكان الأوليمب عماه فأخذ يقرأ أفكارهم الخسيسة ويلقيها على نساء الإغريق مقابل حفنة من الشعير أو قليل من الدهن أو الملح. هكذا تفعل السيدة ذات الأجراس التي ستحرق بيدر الوجود من أجل حفنة قمح واحدة. وهكذا فعل شهريار وهولاكو وهوميروس. كلهم أراد أن يُسكت اللعبة ليتكلم، فرأى ما يريد، واختبأ من الموت في الجنون.

ألوان التراب هي فقط التي تكتب آثار الموتى على آثار من سبقوهم. ولكن من سيعرف أين التراب الذي اسمه هولاكو. ومن سيسمع صدى الأجراس في تراب السبدة التي ستقدم قريبا إلى صخرة الوجود أعظم ولائم التراب ؟ هؤلاء العائدين من البحر إلى اليابسة كل بسمكة وحيدة مقلوبة الحراشف في فقحته، هم قردة المهرجان، فماذا سيحمل الشعراء في أحشائهم من الهواء الذي رأوه على شرفاتهم المدلاة في العاصفة؟)

قال هولاكو وهو يرى أثر سيفه في النهر يقفز في الغياب كشبح اعمى : حتى الدماء لا تترك أثرا على ثوب المهزلة. تأخذ لونها وتمضي إلى لون السماء في البحر حيث تلتهم الزرقة الكاذبة الألوان جميعا. لا شيء يتغير في هذه اللعبة، الذي يتغير هو نحن فقط. كل ما هو فوق الجلد أو تحته يصبح أكثر بشاعة مما كان. تتجه الأشياء نحو القبح لتستأنس بالموت. هذا هو القانون. لم يفعلون هذا ؟ يسجنون الوعول في برية الإحتمالات اللانهائية، تحت شجرة وحيدة في المكان، ربما ليستطيعوا اصطيادها برؤوس أناملهم كثمار التوت، ثم لا يريدون منها أن تغضب.

وقال الشاعر :

لماذا لا يكون لكل إنسان احتماله الوحيد المختلف. ألا يرضي هذا غرور الأيدي الخفية. ولماذا يرعى الرب كل غنمه في حقل الشوك والسفوح ملأى بكل احتمالات العشب والأزهار الجميلة؟هل على الشعراء أن يشاركوا الدببة مصيرها مثل عمال السكك الحديدية ؟ وهل يحق لشرطيي الأرصفة ما يحق لحراس الملكة ؟

(يستطيع بعض الشعراء أن يعدلوا مزاج اللحظات العابرة بوصفةٍ مجرّبة، ولكن هل يظنون أنهم يستطيعون إعادة توصيف العالم ؟ لقد وُجد الشعراء لوصف العالم فقط بشروط مشددة. عمال السكك الحديدية وشرطة الأرصفة، يشترون البطاطا بالعرق. واتطفيليون يشترون اللحم ببطاطا عمال السكك الحديدية. وشرطة الأرصفة هي التي تحرس نوم الشعراء في مخادع الطفيليين. أليس على الشعراء إذن أن يحرسوا نوم حراس الأرصفة في مخادع حراس الملكة ؟ بلى. ولكن هناك دائما شعراء يرفضون أن يكونوا الحلقة المفقودة بين الدببة والملكة، وينضمون إلى عمال السكك الحديدية بدون تردد.)

- الشعراء أجنحة الجمال، يصوغون زينة الحجارة ويضاعفون جمال الذهب. تصور العالم بدونهم.

- بل تصوره بدون عمال السكك الحديدية. ليس بالجمال وحده يحيا الناس. بدون دميته يعيش الطفل. وبدون حليبه يموت.

- الجمال أيقونة السعادة والقبح تعاسة النفوس الجميلة.

- القبح ليس خطيئة. إنه سوء حظ. والمحرومون هم طيبو العالم وأقرب إلى بهاء الإنسان من شعراء البطاطا.

- من هم هؤلاء ؟

 - الوحيدون الذن لا يعرفون أنفسهم، ويعرفهم كل أميّي العالم.

- لا أدري. ولكن الشعراء يقرأون العالم بطريقة لا يحسن الناس العادبون قراءتها.

- لو قرأوها كما يقرأها الناس العاديون لعرفوا أنفسهم جيدا.

- تذكّر الفرق بين المرآة والماء ؟ الشعراء يرون كما يرى الشعراء، وأنت ترى كما يرى الناس العاديون. هم ينظرون في دخيلة الماء فيرون الفصول وهي تتكون، وتنظر في المرآة فترى ضجرك من الأيام. نحن نرى حتى الهواء وهو يزوج الضوء والعتمة على وجنات الماء الطلق، وأنت ترى صورتك المعلقة على الحائط في مياه الزجاج الراكدة. من هو الحقيقي، المعلق على الحائط خارج الزمن كالروزنامة ينتظر أسماء الوقت. أم المتجسد في أقاليم الكينونة التي تُملي على الناس أجسادهم؟ الشاعر لا يعيش لحظات السكون أبدا. ولا يرى الحياة خارجه لأنها لا تُرى هناك.

ماذا يفيدنا أن نرى ما تريده الحياة بدون أن نعرف ما نريده نحن أولا ؟ هل نقطف الثمار من حديقة الموت كما فعل بتهوفن ؟

(في حديقة الموت لا يوجد سوى أسمائنا. ألثمار الحقيقة موجودة في حديقة التراب وحدها. "أصغر جذر في الأرض إذا اختلج بزبد كتاب العالم حرفا ". لا تبحث عن عصافير الدخان الشاحبة خارج كتاب الموت والحياة. هذا العالم المتعجرف حقيقي للأسف! ولا يليق بنا ونحن نقذف كبريائنا المهندمة في وجهه، أن نقضي وقتنا في اللعب بالرمل على شاطيء البحر. أو نخرج من حضرته حاملين السمكة التي اصطادت فقحاتنا بحراشفها المقلوبة. سنظل أضحوكة المهزلة إذا لم نبن هيكل الكبرياء للإنسان، وليصنع الموت ما يريد. هذا الإنسان لا يستطيع مجاراة القوة الخفية، ولكنه أعظم منها وأجمل لأنه يستطيع أن يحب، وأن يقول "لا!".

الحب والمعنى هما الوحيدان اللذان يليقان بكبريائنا، فلنبحث داخلهما عن عصافير الوَلَهِ المشعة وليس عن عصافير الدخان. المعنى والحب هما وجودنا الموازي الذي ننتزعه من ذاك المتعجرف. هذا هو أقصى ما يستطيعه الغضب. نقول نعم! ثم نقول لا ! أما تزيين حبال المشنقة بالياسمين فهو أقصى ما يحاوله الخوف. لا أحد يستطيع أن يصبغ الماء بالماء، ليتخيل شيئا لم يره من قبل، أرني شيئا لم نره بعد ! يمكنك أن تقلب الكأس إذا أردت، ولكن لا تزعم أن فيها ماء)

صغر جذر في الأرض إذا اختلج يزيد

أرى رجلا قديما يشبهني يمرر أصبعه في الرمل وكأنه يكتب، وإلى جانبه امرأة في منتصف العمر تشيح عنه بجمالها الرمادي نحو البحر. ولكن أفجع المشاهد هو ذلك النهر الصغير تحت شرفتي وهو يترنم مبتعدا بين راهبات النرجس المحنيات الرؤوس بكبرياء، وهن يؤدين صلواتهن للمرايا. أليس هذا هو الحب الذي يصنع الكبرياء؟

(كلا يا صديقي! هذا هو سقوط الشاعر على الصخرة التي تجاور النرجسة. أما الحب فهو كبرياء العاشق وهو يودع حبيبته على ناصية شارع لا يدري يؤدي إلى أين. يقول لها: العالم صغير! ربما نلتقي ذات مرة. فتقول بمرح الفراشة : نعم ! كل احتمالات الأمكنة لنا الآن! ويلتقطها المكان مسرعا. ثم لا يلتقيان أبدا. كبرياءؤك اليائسة لن تُغضب الموت. الذي سيغضبه فقط عاشق يحيط به فرح العناد، يسير بموته الجميل على جسر المعرة الذي سرقه إليوت، مرتديا شال النظرة الأخيرة التي ألقتها عليه سيدة العالمين)

لو رأينا الحب بالعيون التي نرى بها ما حولنا لهربنا من النوافذ. كيف نرى الحب بدون الشعر. نحن في الحقيقة نرفض أن نرى شيئا عدا ما يراه الشعر.

(الشعر لا يبحث في الأماكن المشمسة، تأسره الظلال لأنها أعمق من الضوء فيبحث فيها عن أطياف الدهشة التي تطارد النعاس في عيون الكينونة المتعبة. الحياة أم لا قلب لها. ولكنها تعرف كيف تشفّر قلوبنا بالجمال وتطلقها في الرغبات كعصافير الحناء، لتقودنا حيث تشاء. تعطينا الزمان والمكان وموسيقى الجسد الخفية، وتأخذ منا الحكاية لتفاخر بها الموت. الحب لا يصنعه لنا احد. هو القصيدة التي كتبت نفسها عليك. تميمتك الترابية المشفّرة مكتوبة فيك بأنامل سفرك الطويل بين ترنمات الأقاليم. هي التي نقشت فيك الترنيمة التي تخبرك من أنت.

يخلع الحب ظله عليك كالشجرة، ويرتديك وَلَه المعنى كالوقت. يكون الحب امرأة أحيانا، ويكون جمالا يشبه جمال المراة دائما. كثيرون ضحوا بأجسادهم من أجل أشياءهم الجميلة، مثل البحر والأرض والغابات والبساتين المرسومة على سجادة الذاكرة. وكثيرون سقطوا على وجوههم الجميلة حبا بالتراب. كل الناس شعراء، وفي النهاية يرتدي كل شاعر موته الجميل، كما يعرفه، ويفاخر به الموتى في لحظات العبور على جسر المعرة. هذا هو الحب - الحزن يا صديقي. ستشربه من يد الساقي قي كأس من الطين وليس من يدك. هو فقط يعرف السر، أما حيث أنت فاللعبة ميتة. لا يوجد سوى ظل الأشياء في ظل الماء. لا شيء أبدا سوى انزلاقك الطلق على الظلال التي تزيف جسدك. التجول بين المستنقعات، وعيادة الضفادع الميتة في مدار الجدي، ووضع الزهور على قبعات الموتى، ليس حبا. إنه الضحكة الساخرة التي على وجه جمجمتك التي لن تراها. لكي تهزم رعب الحياة، عليك أن تتفتح كالزهرة وتفوح كالعطر، وتصنع كبرياءك من الحب. الحب هو القوة والمعنى معا. هما الوحيدان اللذان يقفان في صفنا، يصنعان عالمنا الموازي، لنحقق موتنا الجميل. هذا هو كل ما نستطيع. ولكنه أيضا أكثر مما تستطيعه المهزلة، التي ليس لديها سوى السمكة المقلوبة الحراشف تقتل بها كبرياء الكذبة الذين يستقلون عربات الشعر ليبحثوا عن الحب. هذا هو العبث الذي يكابرون به الموت الغارق في الضحك. المرأة والرجل مثل الناس وترابهم الحي ّ يصنعان معاا كلمة واحدة. من لا يحترم الجسد لا يحترم المعنى لأنهما معا كلمة واحدة أيضا، هي الإنسان الجميل، الذي بصنع روحه من الحب ليكونا معا شاعرا عاشقا بالجسد والمعنى. لم يكن طه محمدعلي عاشقا يبحث عن الشعر , كان عاشقا سجد الشعر لروحه الجميلة لأنه حمل حبه بدون أن يراه أحد. أما الشاعر الذي يصبح مشهورا قبل أن يكتب الشعر، فهو معجزة لا مبرر لها.)

* تصفح عمره الوسيم الذي لوحه صيف الأنوثة الطويل على شواطيء الجزر الرملية، حيث اعتدت النساء على ذكورته في عرض الصحراء مرات عديدة، دون أن يقدر على الصراخ. تلك التميمة الأحفورية للجسد بوجعها المائي العظيم، واندلاقها كفرحة الكهوف العالية بالفيضان، قذفته في إغماءة السجود للمعجزة الخائنة. في تلك الجزر الجنسية لا يعرفن الجمال ولا الحب، ويكشفن كل شيء عدا وجوههن التي تشبه وجوه الديكة. هناك تنبّه للمرة الأولى أن الماعز دونا عن كل حيوانات الأرض الأخرى، تمشي وهي تشيل أذنابها القصيرة إلى الأعلى. ترى ما السبب الذي يدعوالآلهة لاقتناء هذه الحيوانات الصحراوية المنفرة ولديها من النمور والظباء والطواويس قبائل لا تحصى ؟ لا مزاج للثلج سوى إلثلج، وللآلهة سوى الألوهية. يعلقون الطيبين على الخطايا، ويعلمون القتلة طريق المغفرة.

حينما تعلم النساء الجميلات سألها عن الأمازونيات وهن يتجولن على اليابسة كاٍلأسماك. قالت ضاحكة : يبدو هذا الأمر منطقيا مقارنة بحالتنا. كانت عارية تماما كالتفاحة وكان عاريا ككوز ذرة ذهبي انتزعت أوراقه الخضراء. وشعر بالخوف لأن الموت أكثر ما يتجول في صدف الجمال ومحطات السعادة. قالت لا تخف ! سأحميك بجمالي من الموت.

آه ! أين أنت الآن أيتها الجميلة ؟ لو استطعت أن أسبق التنهدات وصلتْ إليك. ولكن اجنحتي المتعبة من التحليق تتهاوى على صخرة الإحتضار العالية.

 

(الجمال والسعادة يفجران براكين اليأس في نفوس الذين يصفقون لسحناتهم الخزفية. يهمسون : واأسفاه. لم نكد نرى وجوهنا جيدا! أهذا هو كل شيء ؟ حسنا ولكن ماذا بعد ؟ ترى هل يقطر الزمن من الأشياء أم تقطر منه ؟ لن تخبرهم التنهدات شيئا سوى ما يريدون أن يعرفوا ! ذلك يلغي لعبة التنهدات المزيفة من أساسها. تصبح رسائل الشاعر كلها رثاءا لابتسامته المغتصبة.

التنهدات قصائد رثاء قصيرة من الشعر الخالص. ولكن أجمل المراثي يكتبها العشاق لحبيباتهم بالصمت، حينما يضعون على قبورهن باقات البنفسج التي جمعوها من خمائل التراب الفقيرة، بدلا من باقات النرجس التي يجمعها الآخرون عن قبورهم. كثير من الشعراء لم يكونوا عشاقا أبدا. جلسوا على عروش الحزن المطهمة بجمر التنهدات الكاذبة، ليقذفوا حجارة شعرهم على المارة. الشجرة التي تثمر حجارة فقط، هي الأرض الميتة.

والتنهدات لا تخون العشاق، الذين لا يشوون شعرهم على الفحم في في سوق البلدة، ثم يشترون في المساء بعض البطاطا ليقال أنهم من البروليتاريا. يريد هؤلاء العسس الذين خدعونا بالشعر واليطاطا مرة، أن يخدعونا الآن بالشعر وحده.)

أنا القيثارة النبوية ماذا فعلت لتتقطع أوتاري ؟ أنا العاشق القديم أطرد الآن عن موائد الحب كالمشردين ؟ كم امرأة همست حين رأتني : أنا زلبخة يا يوسف. ثم كانت تقد قميصي من دبر وتعطيني كل ملابسها. ولكن حينما يذهب الشاعر إلى نافذة المخدع ليتظر إلى حديقته الخلفية يصبح أغنية سابقة، وتسّاقط كل النساء من مخدعه كالأشباح الهاربة.

(ليس هذ هو الحب. لو كان الناس يحبون لينجوا من الموت، لكان الحب عربة محملة بالبطاطا.)

المعجزات لم تعد تأتي بعد. لقد نفذت الطيبة من العالم ! في الماضي لم يكن الشعراء الجيدون يموتون تماما كما يفعل الآخرون. كان لهم عطرهم المقيم في المخادع وكانت أسماؤهم تمر بين التنهدات كالصدى البعيد بين الفينة والأخرى. كانوا يهبطون نحو أبواب التراب ترتدي أجسادهم غلائل المجد، وتصعد أرواحهم إلى السماء في بخور الترانيم، ولكن أجسادهم أيضا تبقى معلقة في الهواء ولا تدخل ملكوت انتقام الجذور من البشر.

اليوم لن ترى شاعرا واحدا حصل على جنازة فاخرة. يتم نسيانهم حالا مثل مناشف الحمام حينما يموتون، عدا ذلك التافه الدمشقي ذي الوجه الغجري. ليس لأنه كان شاعرا جيدا، ولكن لأنه ادخل الملابس إلى الشعر وأخرج منها النساء، فسارت الأنوثة العربية كلها عارية وراء نعشه. وبينما كان ذلك الميت يبلل مناديل النساء بدموعهن، كنت أنا الشاعر الأخير أتضور شبقا إلى أمرأة عارية.

الآن بعد أن مرغت أنفه في التراب أعيد الثياب إلى مشاجبها وأشرب القهوة من يدي وأتوارى خوفا من زحف الظلال نحو شرفتي ! ليس هذا عدلا. لقد اشتريت جنازتي بقوافل محملة بطيوب سمرقند. كثيرون رأوا على نافذتي أسرابا ثلجية ناصعة من الحمام وسحبا ملونة من الفراش لم يشاهدوها في مكان آخر. هذا ليس عدلا !

(دعك مما يقوله الحرويّون. العدل ليس مسافة بين الشعراء والنشالين. العدل هو المسافة الشخصية بين الذات والأنا. إنه أقسى من كل الروزنامات والشهور والجسورالأحادبة العبور التي بكى عليها الشعراء.

يريدنا العدل أن نكره ما نحب ونحب ما نكره بدون ثمن. ألظلم لا يظلم أحدا والعدل بشبه " والت ديزني "، الذي جعل الفئران تظلم القطط ليدافع عن الأقوياء. الوحيد الذي فهم اللعبة هو المصلوب. عرف أن الحب هو خمرة الوجود الوحيدة، ولكنه فضل نبيذ المعرفة فمات وهو يدافع عن خراف إسرائيل الضالة ضد الموآبيين. حتى هو ضحى بالحب من أجل المحبة. فرفض أن يطعم الكلاب من خبز الأبناء. وتركها تموت جوعا.

العدل هو الظلم الذي يجب أن يكون. هكذا تقول الأيدي التي خلقت الطحالب وأشجار الصنوبر. لا تمطر السماء فقرا أو فقراء. الفقراء يأتون من أرحام النساء مثل اوناسيس. من هو الذي يولد فقيرا في عالم يقطر منه العطاء ؟ السر في الظلم الذي يجب أن يكون هو ليصنع العدل. هل كان العرب أشهر من الصفر الذي اخترعوه، أو كان آيتشنين أشهر من القنبلة الذرية ؟ ومن الأشهر خشبة المسرح أم نعل الراقصة، قصيدة الشاعر أم ثوب المغنية؟ العدل هو الظلم الذي نريده لغيرنا. والظلم أشهر الجميع. لأنه تاج العدل على رؤوس الآلهة. يعذب الفقراء بالجوع والأغنياء بالحرمان. أيهم تكون ستندم. إشرب سمك بهدوء ؟ كم مرة ستشاهد الموناليزا لتحملك ابتسامتها الكئيبة إلى يأس دافنشي من الألوان؟

من لم تستطع الحجارة تخليده هل ستخلده ابتسامة خبيثة كلدغة العقرب ؟ الأحافير أقل وحشة من وجه الموناليزا.

ومن لم يخلده الحب هل ستخلده الأوسمة الورقية ؟

ماذا سيرسم دافنشي لو كان يسير معنا اليوم في شوارع هذه المدن التي تنبح المارة كالكلاب؟ هل كان سيرسم المسيح الذي ما زال يتدحرج على صخور البلاد الصغيرة التي فشل فيها حبه الوحيد الصغير. هل كان سيرسم مجدلية أكلت البشارة وجهها. لن تنجب هذه البلاد أحدا يمكن أن تعشقه الألوان غير الحمراء. ولكن ألم يفتد الناصري فلورنسا بدمه لتولد فيها الموناليزا التي ما زالت تلاحق دمه بابتسامتها المتشفّية ؟ لماذا لم يفتد الناصرة وبيت لحم أيضا. لو افتدانا بعشاء فقير من السمك والنبيذ، فلربما كان دافنشي يرسم الآن في فلسطين عشاء العالم الأخير. لا تٍسأل عن العدل. ألظلم هو القاعدة التي تفرض العدل على الناس ,)

قالت لى سأحميك بجمالي من الموت. ولكن إذا كان الله شخصيا هو الذي سيقتلني، فماذا ستفيد الصدف الجميلة الذين لم تفدهم المعجزات. كل الذين شفاهم المسيح، ماتوا حاملين ألقابهم المريضة معهم إلى السماء. حتى تلاميذه كانوا يقولون مريم الزانية، ماذا أفاد المجدلية أن شفاها المسيح من الزنا ولم يشفها من العار؟ إذا سمينا الموت حياة هل يصبح للقبور نوافذ لدخول الهواء؟ الألهة تفعل ولا تفكر. لمن ستعتذر عن خطاياها ؟

إلى وادي الغيبة، حيث تجلس الساحرة ترفو الرمل بالماء فيقفز الوجود من العدم، كثيرون ذهبوا ولم يعودوا. ربما لم يصلوا بعد، ولكنهم أيضا لم يموتوا، لو ماتوا فأين قبورهم إذن ؟! أين النهاية المكتوبة على جدار الحكاية ؟ سأرى ما أريد.

(هذه الحكاية تبعث على الجنون

نتحدث إلى اليأس لنتذكر فيقول اليأس هازئا : من هو صانع المعجزات ؟ لا يخالف الله ألوهيته ليعمل إطفائيا. لا بد أن صانعها هو سوبرمان " واسبي " خلقته آلهة الهنود الحمر المغفلة. كانوا ينصبون كمائن السحر الأسود " للواسب " ويدخنون غلايينهم بانتظار المعركة. اختلط دخان النار المقدسة بدخان الغلايين، فاحترق الهنود وتعلم " الواسب " التدخين. وأنت ستحترق بينما يستمر العالم في التدخين. هذا هو كل شيء !)

سأرى ما أريد. أصنع من أسفار الخيبة في أودية العبث الباهت سفرا آخر يشبهني. لن أنتظر المراكب الوهمية للعشاق الذين يعبدون امرأة في السر. لم اعرف كيف يكون العاشق أعرف كيف يكون المعشوق.

(أنت جميل كابتسامة عاجية، أنيق مثل شفرة الحلاقة. ولكن التحيز للجمال يا صديقي لوثة تصيب البشر، لو أصابت الآلهة لنبتت الثمار مقلوبة على الشجر، وصعدت الأرواح إلى السماء مشيا على الأقدام. ولكن نبيذ الآلهة هو دم العذارى وليس عصائر ثمارهن الفجة. لهفي عليك يا ابنة أغاممنون ! قد يكون الجمال أحيانا وردة في يد امرأة تقدمها لبندقية سريعة الطلقات في يد أمريكي مريكيأمريكيأا. والإنسان لبس سوى عصفور في خيط الآلهة. ولكن لو تركتْ الآلهة الناس يخلقون أنفسهم، لكانوا قرودا على مؤخراتها نقوش مذهبة. هكذا هو هاننجتون مثلا.)

آه ! أين أنت الآن أيتها الكاذبة ؟ العابرون يلوحون لي بأقفيتهم.

والنساء يبتسمن على مرورى ثم يخفين شفاههن بمناديل الشفقة !

أيتها العابرات في خطواتي، كيف تعبرن الشوارع بدوني ؟ سوف تعشن في أكفاني بعد أن أموت.

أللعنة على " والت ديزني " الذي يصنع النساء من القطط !

لا ترى القطة إلا السمكة، وحينما تختفي، تبحث عن البحر في صناديق القمامة.

أيتها العابرات ! من الذي أراكن الأرجوان المقصب في الليل سواي ؟

من الذي عبر بكن البحر إلى الجزر المنسية، ونادم بكن ليالي القرفة والعاج في سرنديب غيري ؟

كم مرة مددتن إلىّ درج العطر من النافذة لأصعد، ودرج الإبتسامة عن الشرفة لأعود. أنا الصدفة الجميلة كابن يعقوب، خرجت من بئر الكينونة حافيا فسجدت لي نساء الكواكب. وخرجت من بئر آدوم عبدا فقالت مصر هيت لك. وسقطت في بئر الملك جائعا وخرجت إلى خزائن فرعون. هل عاد بوسف ثانبة إلى البئر ؟

(هذا التجوال بين ثقوب الكينونة الصغيرة مشيا على الأقدام، هو الذي يضحك منك الالهة)

النساء أسف العالم. يجلسن تحت أشجار الفاكهة في الصيف ليتسلق الرجال الجذوع ويقطفوا لهن الثمر.

(ليس هذا صحيحا يا أخي. ليس كل من أكل الحلوى على موائد النساء عرف الحب. وكثير من النساء يفتشن عن الحب في كتب الطبخ. وقد يكون الحب دراجة تتسع لرجل واحد يتجه بها إلى حيث يرى المرأة التي سيحبها. يولد الرجل في صدفته عاشقا، لأن امرأة بعينها ستصنع له الحب. في مجسات الجسد توجد المرأة المشفرة التي سنحبها. نحن لم نخرج من وحشة الطين إلى مائدة الغداء مجهولي الهوية. حينما فتحنا عيوننا كانت تعرف ماذا سنحب وماذا سنكره. أما الذين يركبون الحافلات بحثا عن الحب في سلال الصدف، بعد أن يصبحوا شعراء، فسوف تدوسهم الألوان ويصبحون أضحوكة سوداء. لا يمكن أن تحب أكثر من مرة واحدة. ولن تتذوق فرح الحب سوى من يد امرأة واحدة. لأن كل النساء بعدها سيصبحن ظلالا في حديقة نومها، والذي عاش مرة واحدة فقط لا يمكن أن يموت أو يحب مرتين. كلْ ما تقدمه لك النساء في العتمة، ولا تتحدث عن الحب)

الذين يكثرون الحديث عن الحب لا يعرفونه. بشبهون حوذي عربة الدفن الذي لا يعرف عن الميت شيئا. ولكنه يمدح طلعته المهيبة وشاربيه الأنيقين وهندامه المطعم بالقصب فتعلم أنه يتحدث عن نفسه وكأنه هو الميت. الحب صفقة جميلة بين جسدين. فماذا يوجد لنضيفه إلى الحكاية سوى المبالغة في وصف مهارات الجسد.

(لا يمكن إضافة شيء سوى الحب. إذا تعذر الجسد فسوف نحب أيضا، لا أحد يستطيع أن يضطهد جسده ولكنا لن تسمح له أن يقطع علاقته بالحب ويتنقل بين كهوف الرغبات المعتمة. كثيرون يضعون كل جمالهم في وجوههم ليستروا خواء نفوسهم. ربما لن تهمك حكايات الحب الجميل، لأنك ستقطع الجسر على طريقة الموت، ولكني سأعلمك كما حاولت أن تعلمني,

أحببتْها بدون أن تراني.

عندما وجدتها أخيرا، سقطت القصيدة عن عرشها القديم. تحت تاجها الكستنائي بدأت قصيدتي الأولى في عينبن تترنمان بأغنية عسلية، وشفتين مطبقتين على أسرار القبلة الأولى. لم تحبني للحظة واحدة. كلما نظرت نحوها احتمت عيناها بالسماء خوفا أن تراني. نلتقي في صباحات المدرسة فتبتعد الحمامتان نحو السماء باتجاه أبراج الأديرة الملتصقة بالغيوم، وأعرف أنني سأسقط يوما من برج الجرس في " نوتردام " على أصلب صخرة في الحديقة. صدفة الحب لا تكتمل أحيانا، فعندما تكون الصدفة بقلب واحد، يبدأ افتراق البخار عن الماء ولا يستطيع أحدهما الإمساك بالآخر، فينتصر الفرح الحزين وتتغير القصيدة إلى الأبد. أما الحب فيكون قد بدأ. لقد وفت الحكاية بوعدها وجاء العاشق في موعده. ولكنه وجد المعشوقة ولم يجد العاشقة.

منذ ذَهَبَتْ وأنا أودع عطرها واشيخ على مقعد المدرسة. تسكعت في النساء هربا منها، فكن ابوابا لرجوعي إلى حديقة غيابها خمسين عاما. يغير الزمن الوان ستائره ويظل غيابا. لا حضور إلا للغياب. وأعظم الغياب حضور ما لا نري. لم أرها مرة واحدة بعد ولكني لم أبحث عنها. وحينما كنت تبحث في ممالك النساء عنك، كنت أبني لهن العروش من الشعر لعل حبيبتي تعرف عرشها. عشتُ حبي وحيدا فى جنة الشعر، وعشتَ موتك وحيدا في جنة العبث. دخلت مثلك حدائق النساء، وعشقت فيها كل الزهور باسم ياسمينة واحدة. عشقتهن ولم يعشقنني، ودخلتَ كل حدائقهن فلم تكن عاشقا أو معشوقا. كلانا سنموت ولكن أحدنا فقط هو الذي عاش. ترى هل كنت تبكي أمام الموت، لو كنت عرفت ما هو الحب ؟ هل تعشق الأوطان عشاقها والسفوح رعاتها والأزهار نحلها. الحب جنة العاشق وليس حنة المعشوق. ألم نعشق المدن والقرى التي طردتنا منها ؟ نحن أسطورة عاشقة لا بداية لها ولا نهاية. نعشق آثار أقدامنا على ضفة النهر الذي سيغرقنا، والتراب الذي سيبتلعنا. الفراشة لا تجهل النار، ولكنها تعشق وقوع الضوء على أجنحتها الملونة. يا لقسوة الحب والجمال في الرحلات القصيرة)

لا تريث في الحياة، يولد ماء النهر ميتا.

كل يوم أخرج من قطرتي إلى البحر. وكل شيء جميل يقربني مرتين من الموت. في الفنادق الجميلة ندفع ضعف الوقت لنأخذ نصف الفرح. نتدحرج على سطوح الخدعة الملساء، ككرات نيتشة، لا يوحدنا سوى الضباب النيتشوي الكثيف الذي يوحد كل سطوح العبث في عماء واحد كبير. فلماذا نبحث في عبث الحب عن الخلاص؟ لو كان المسيح أحبنا حقا لكنا الآن نصعد مثله إلى السماء بدل أن ندخل ظلمة التراب.

الخطيئة أسهل من الموت. فمن يفتدينا من الخوف والحزن إذا كان المسيح يرى الموت دواء للخطايا؟

(هذه الخدعة السوداوبة هي التي توحي للكائنات بالموت، لم تختف معجزات الخلاص، بل نحن الذين خبأناها في الغموض وصنعنا لها ثقوبا تأوي إليها في الشعر الكاذب. الحزن والموت أكثر وداعة من النعاس ولكنهما أيضا التراتيل الجميلة الباردة التي يكرهها المصلون على الجنازات. الحزن والموت والحب هي العائلة المقدسة لمعجزة الحياة التي لا يمكن أن نكرهها أبدا. من كره الحياة أحب الموت ؟ فهل تخاف إذن مما تحب؟)

سر في شوارع العبث كما تشاء؟ أللغات هي الصلوات التي نقدس بها العبث. إلى متى نعيش عابرين؟

من أنت أيها الخفي ليظهر؟ لا نرى سوى كبرياءك وأنت تلقي بنا من طوابق الموت التي لا نهاية لها. لا يستطيع أحد أن يحبك. تخلع علينا دثار الخوف والألم لنعبدك بهما، ولو حكمتنا بالحب عبدناك به. أعطنا ملء أيدينا الصغيرة فرحا نعطك ملء قلوبنا حبا. ولكنك لم تفعل.

(هذه الأرض ليست بحاجة إلى صدفة أخرى. لا آخر يستطيع أن يعيد جمالها الفاجر ثانية. تعالوا نقف إجلالا لزينتها السحرية وعذوبة ألامها. لنزهة حرها وبردها على جنازة أجسادنا التي تتسكع في الخوف ونهتف للموت. لا ألم لا نسيان لا ذاكرة. لا نافذة لا عطر لا فرح لا حزن، لا قبح لا جمال لا موسيقى. لا أنت لا نحن. ندخل موتنا مرفوعي الرؤوس.

كانت الحكاية حقيقية بحجم الكف، علقتها الأيدي الخفية التي لم نر سوى ظلها على صفحة العدم، ورقة وحيدة بحروف مجهولة لا تشبه سوى ما هي عليه. ووجدنا أنفسنا هنا للمرة الأولى. كان قبلنا الكثير من الأطلال والحكايات والأسماء. الكثير من الشعراء والعشاق والمجانين الذين دونوا عبورهم بالدماء والحجارة، أخبرونا في صحفهم المسائية عن عبورهم المجيد حفاة في شوارع البطاطا التي أكلت وجوههم.

اما انا فأنتِ سيرتي الذاتية وورقتي الوحيدة الخالية من الحروف. صورة امرأة تشيح بوجهها إلى جهة مجهولة، على صفحة بلون التراب، وعلى رأسها تاج كستنائي مجعد، لا أعرف سوى اسمها، ووجهها العاجي. تلك التي رأيتها ولم ترني، جئت لأحبها وحدي، وإذا عدت من السفر فلكي أحبها ثانية، وإلا لماذا أعود ؟

سأعبر الجسر بملابسي العادية بدون خوف. سيكون المجهول أقل ألما من جمال الحياة وقبحها. العدم هو الوجود الآخر في الفناء المجاور والمشكلة هي الخلود. ستستعيدنا الأرض مرة أخرى من أرحام التراب لأنه لا مناص من ذلك أبدا. وإلا فلماذا نحمل داخلنا بذورنا الثبوتية كالثمار. لا عدم سوى عبث الحمقى بوجودهم على األغصون العالية، القريبة من نوافذ الآلهة. لنا نحن أيضا نوافذنا العالية. ألم تعزفنا الأنامل الخفية على صخر الوجود الأول لنكون بستانيي الألهة على صخرة العبث، لكي تختبر وجودها بوجودنا ؟ لقد نسيتْ أن لكل وجود ألوهيته ومعجزاته الصغيرة. حتى حينما أرسلت أمراءها الثلاثة ليجمعوا الصلوات من حقولها الصخرية الملساء، جاءوا مزودين بالهراوات واواصر القربى ولغة السماء كي لا يموتوا جوعا وعطشا، فعادوا يحملون ريع بساتين الأرض إلى السماء. وعاد الأوسط يحمل معجزة الأزهار التي تنبت في حقول الشوك فداء للفلاحين الذين يحرثون التراب. معجزة الحب في جحيم الطبيعة التي أرادتها السماء بدون روح، ألإنسان صانع الروح من الحب. والأيدي الخفية لا روح لها.

أيتها المرأة الياسمينة، ما زال غيابك يعطر غربتي. تكاثرت أعياد الميلاد في روزنامتي، وتساقط طلاء الحائط. أنت ورقتي الأخيرة، ومع أنني لم أسرق من عمرك لحظة واحدة. أقول لك كما قال باراباس : إليكِ أسلم روحي)

 

آذار 2013

شاعر وكاتب فلسطيني من فلسطيني 48