الدورة 66 ماذا حققت ؟
السينما الفرنسية تجد في كشيش معلما في محل رينوار
كانت الدورة 66 من مهرجان " كان " السينمائي الدولي في الفترة من 15 الى 25 مايو من أبرز دورات المهرجان في الخمس سنوات الأخيرة، إذ أن المهرجان الذي يحتل المرتبة الثالثة في قائمة أضخم الأحداث الإعلامية في العالم بعد الدورة الاوليمبية ومباريات كأس العالم في كرة القدم، يقدم كل عام عبر قائمة الاختيار الرسمي التي عادة ماتتضمن أكثر من خمسين فيلما جديد من أصل أكثر من 1200 فيلم يستقبلها للمشاركة في كل دورة جديدة، يقدم أحدث الانتاجات السينمائية في القارات الخمس التي تعكس من خلال مرآة السينما مشاكل وهموم وأزمات وحروب عصرنا، ويختار من بين الأحدث الأعمال السينمائية الجديدة المهمة من نوع " سينما المؤلف "، التي توظف السينما كما يقول المخرج والمفكر السينمائي الفرنسي جان لوك جودار كأداة للتأمل والتفكير في تناقضات مجتمعاتنا الإنسانية، وتطور من خلال هذه " الأداة " فن السينما ذاته، بكل اختراعات وابتكارات الفن المدهشة،بسحر ذلك الضوء الذي يشجينا داخل القاعات، ومن حزمه تصنع الأفلام، فيجعلنا نتصالح مع أنفسنا والعالم، ويقربنا أكثر من إنسانيتنا.
المهرجان يضع لجنة التحكيم في مأزق
وكان الاعلان عن أفلام تلك القائمة في منتصف شهر إبريل الماضي قد أسعدنا بدرجة كبيرة وكشف عن أن الدورة 66 سوف تكون متميزة بحق وبخاصة في مسابقتها بمشاركة مجموعة من أبرز وأهم المخرجين في العالم من أمثال الاخوين كوين وصوفيا كوبولا من أمريكا ورومان بولانسكي وعبد اللطيف كشيش من فرنسا وهاني أبو أسعد من فلسطين وغيرهم، وتوزعت أعمالهم على قسمين: قسم المسابقة وقسم " نظرة خاصة " وافتتح المهرجان بفيلم "جاتسبي العظيم" للمخرج الاسترالي باز لورمان، خارج المسابقة، ودعا المهرجان المخرج الامريكي الكبير ستيفن سبيلبيرج "قائمة شندلر" لرئاسة لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، كما اختار المخرج الدانمركي توماس ونتربرج لرئاسة لجنة تحكيم مسابقة قسم " نظرة خاصة " التي ضمت 18 فيلما من 15 بلدا، ثم سرعان ماتبين لنا بمجرد انطلاقة المهرجان وركضنا داخل القاعات في قصر المهرجان الكبير المطل على البحر في صحبة أكثر من 4000 صحفي وناقد ومصور وأعدادهم في إزدياد كل عام، أن المهمة الملقاة على عاتق لجنة التحكيم برئاسة سبيلبيرج لن تكون سهلة أبدا وبالمرة، بعد أن بهرتنا مجموعة كبيرة من الأفلام الرائعة المشاركة في المسابقة وفي قسم "نظرة خاصة" وقد كان كل فيلم من بين تلك الأفلام يستحق الفوز بـ"سعفة كان الذهبية" بعد مشاهدته في التو، مثل الفيلم الصيني "لمسة خطيئة" لجيا زانج كي والفيلم الايطالي "الجمال العظيم" لباولو سورنتينو والفيلم الفرنسي "الأزرق أكثر الألوان دفئا. أو حياة آديل" للفرنسي من أصل تونسي عبد اللطيف كشيش مثلا، وكان من الصعب جدا التمييز بين هذه الأفلام وإختيار الفيلم الأفضل من بينها، والذي يستحق أرفع جوائز المهرجان "السعفة الذهبية" وعن جدارة، ولذلك كان المهرجان مثيرا للنقاش والجدل والتوتر، ومليئا بكل المفاجآت والتوقعات المستحيلة وراح يسطع بأفلامه مثل كوكب منير على حافة البحر، ويتحفنا بأعمال سينمائية جيدة وطازجة وعميقة مثل "العيش" الطري الخارج لتوه من فرن الأحلام السعيدة، ولانشبع أبدا من التهامه وبخاصة في الدورة 66 التي كانت عيدا للسينما بحق.. و لذلك صرنا نتعاطف مع سبيلبيرج ونشفق لحال لجنته الموقرة ومهمتها المستحيلة ونتساءل ونحن نتابع أعمال مهرجان كان ونواظب على حضوره منذ عام 1982 كيف سيتعامل وهو الامريكي المتجذر بأعماله في مصنع الأحلام الهوليوودي مع تلك الأفلام من نوع "سينما المؤلف" التي لم يتعود على رؤيتها، وهي على النقيض من الأفلام "الهوليوودية" التي يصنع، وتعبر عن "رؤية" و "موقف" من قضايا عصرنا ولاتخضع لأهواء المنتجين المنفذين في هوليوود، الذين يقررون لكل فيلم من انتاج الاستوديوهات الكبرى كيف تكون نهايته، وعينهم دوما وأبدا على شباك التذاكر، ولايعتدون بشييء آخر غير ذلك!..
الدورة 66 نقطة تحول؟
وقد تنوعت تلك الأعمال من نوع سينما المؤلف التي يصنعها المخرج بكامل حريته كما في أعمال المصري يوسف شاهين والسويدي برجمان والايطالي فيسكونتي واليوناني انجلوبولس والياباني كيروساوا وتضع هؤلاء المخرجين في مصاف الروائيين وحكواتية عصرنا الكبارمن أمثال الروسي ديستيوفسكي والفرنسي بلزاك والمصري نجيب محفوظ، تنوعت في قائمة الاختيار الرسمي وقدمت نماذج باهرة لفيلم الفانتازيا كما في فيلم "الجمال العظيم" للايطالي باولو سورينتينو، والفيلم السياسي كما في فيلم "لمسة خطيئة" لجيا زانج كي من الصين، والفيلم الواقعي كما في فيلم "الماضي" للايراني أصغر فرهادي والفيلم الرومانسي كما في فيلم "شابة وجميلة" للفرنسي فرانسوا أوزون، والفيلم التاريخي كما في فيلم "المهاجر" لجيمس جراي وفيلم السيف كما في فيلم "الله وحده يغفر" للدانمركي نيكولاس ويندنج والفيلم الفني كما في فيلم "فينوس الفراء" لبولانسكي بل والفيلم السيكولوجي النفساني أيضا كما في فيلم "جيمي. ب" للفرنسي ب دلبشان، وفيلم الرعب كما في فيلم "بورجمان" للهولندي لاليكس فان ورمردام وبما يرضي كل الأذواق، حتى تساءل البعض بعد الاعلان عن جوائز المهرجان ترى ماذا تبقى للمهرجانات السينمائية بعد مهرجان "كان" من أفلام لتعرضها في دوراتها المقبلة، بعد أن استحوذ المهرجان على أفضل الانتاجات السينمائية لهذا العام وعرضها في دورته 66 هذه التي ثبت بعد أن وزعت جوائزها انها لم تكن دورة متميزة وعيدا للسينما فحسب، بل كانت نقطة تحول أيضا على مستوى السينما الفرنسية وعلى مستوى تاريخ كل دورات المهرجان ذاتها، بفوز فيلم "الأزرق أكثر الألوان دفئا أو حياة آديل" للمخرج المتميز عبد اللطيف كشيش بسعفة كان الذهبية أرفع جوائز المهرجان.
يحكي الفيلم عن علاقة حب مثلية سحاقية بين فتاتين على مدار ثلاث سنوات ويستغرق عرض الفيلم أكثر من 3 ساعات، وهي المرة الأولي التي تعرض فيها السينما الفرنسية لـ "علاقة حب" خاصة جدا من هذا النوع، أو علاق عشق ودعنا من توصيفها ويبرع كشيش في تصويرها بكل تفاصيلها وبخاصة في الفراش ويعرض لمشهدين جنسيين من النوع الساخن الملتهب المتوهج بالعشق ليكونا بمثابة " تحية " الى الحرية، فالثورة أي ثورة لايمكن أن تكتمل في عرف كشيش إلا إذا كانت "ثورة جنسية" أيضا أو على مستوى الجنس، وقد أهدي كشيش فيلمه أو ثورته الجنسية الى المرأة التونسية التي ناضلت وشاركت في ثورات الربيع العربي، وحقق بفيلمه وبإعتراف أغلب النقاد الفرنسيين – في ما عدا ناقد صحيفة " الفيجارو " التي تنتمي الى اليمين- حقق "قفزة كبيرة" للسينما الفرنسية بمجمل أعماله التي تقترب من المذهب الطبيعي على سكة المخرج موريس بيالا "في نخب حبنا" ومن قبله جان رينوار "قواعد اللعبة" وببصمته السينمائية المتميزة، معبرا بذلك عن " حساسية " جديدة تلاءم عصرنا وتنسجم مع متغيرات الواقع الفرنسي في ظل حكومة فرانسوا هولاند الاشتراكية، وبخاصة بعد صدور قانون جديد يبيح الزواج بين المثليين، ويمنح حق الزواج للجميع، فتستطيع إمرأة أن تتزوج من إمرأة، ويستطيع الرجل أن يتزوج من رجل.
في أطار تلك الجمهورية الفرنسية والدولة المدنية العلمانية التي ترفع شعارات الحرية والمساواة، ولاتفرق بين المواطنين على أساس الجنس وتمنحهم حريتهم المطلقة في أن يصنعوا حياتهم بالطريقة التي تروق لهم وتعجبهم فهم أحرار. وقد تزامن عرض فيلم كشيش في المهرجان وحصوله على السعفة الذهبية مع المظاهرات التي خرجت بالالاف للتظاهر بمشاركة أحزاب اليمين واليمين المتطرف واليمين الكاثوليكي ضد ذلك القانون في أنحاء البلاد، بعد أن أفضى الى انقسام فرنسا الى معسكرين مع وضد القانون، وبدا كما لو أن الفيلم يقف في صف المظاهرات المؤيدة و70 في المائة من الشعب الفرنسي الموافق على العمل بالقانون المذكور.
وقد كان حصول فيلم كشيش على أرفع جوائز المهرجان نقطة تحول أيضا في تاريخ السينما الفرنسية كما كتب أحد النقاد الفرنسيين في جريدة "ليبراسيون" اليسارية، فقد كانت السينما الفرنسية في السنوات العشر الأخيرة تفتقر الى "معلم" MAITRE بعد وفاة جان رينوار ثم وفاة موريس بيالا، لكن يبدو بحصول كشيش بفيلمه "الثوري" البديع الفذ، يبدو كما لو أن السينما الفرنسية قد عثرت أخيرا على معلمها في شخصه عبر أفلامه الروائع التي حققها مثل فيلم "خطأ فولتير" وفيلم "الهروب" L ESQUIVE وتحفته "الحبوب والسمك" LES GRAINES ET LE MULLET التي حصلت على العديد من الجوائز في مسابقات "السيزا" الفرنسية، واكتسحت بعمقها وأصالتها وتميزها أفلام السينما الفرنسية، وجعلتها تبدو قزمة بمقارنتها بأفلام كشيش العملاقة. كل شييء جائز في "سيرك" الأفلام والإعلام الدولي كما يحب رومان بولانسكي أن يطلق على مهرجاننا السينمائي الكبير.