إلى ذكرى المسعفين الثلاثة: حازم بطيخ، باسل أصلان، مصعب برد.
البحث في أسباب أي انتفاضة شعبية أو ثورة، أشبه بالبحث في أسباب ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان والجلطات القلبية والانحباس الحراري والجفاف والمجاعات والتصحر والفيضانات. لا يمكن الإطمئنان معرفياً سوى لمقاربة هيغل-ماركس التفسيرية، لكونها الأقرب لمعاينة الوقائع ورصد سيرورتها، وعدم المصادرة على نتائجها: تراكم طويل للأفعال البسيطة غير المكترث بها ووصولها إلى لحظة لم تعد تحتمل التراكم والاحتقان، فتنفجر.
وهي عينها اللحظة التي يطفح بها الكيل بقطرة ماء، ويختنق من زاد دراقة على الـ99 دراقة التي أكلها، واللحظة التي يتدفق فيها الكلام على لسان الزوجة المظلومة، التي فقدت النطق بعد تعرضعها إلى حالة رعب مفاجئ من زوجها، عند تبليغها بمقتله في رواية العصاة لصدقي اسماعيل.
المجتمع مثله مثل الطبيعة، يشهد فترات طويلة من التحولات البطيئة والتدرجية، لكنه يدخل كذلك في انقطاع للتطور التواصلي الذي تتكفل به الأحداث الإستثنائية الحروب، الحوادث الطبيعية، الفيضانات، الزلازل، الثورات .. المفهوم المادي للتاريخ يساعدنا في فهم حركية التاريخ كسلسلة طويلة من الأفعال وردود الأفعال تشمل السياسة والاقتصاد وحزمة كبيرة من الأحداث الصغيرة: قرارات، مراسيم، إجراءات حكومية، تمردات، احتجاجات .. ويساعدنا كذلك في فهم التغييرات الثورية، كونها نتيجة نظام اجتماعي وصل إلى حدوده القصوى، وصار غير قادر على تطوير القوى والشروط التي تؤمن له الديمومة، ويبقى هذا ضمن ما بات يعرف بالشرط الموضوعي، ولن يُفعّل إلا بتوفر شرطاً آخر هو الشرط الذاتي ويشمل قدرة القوى الاجتماعية المتضررة من هذا النظام على تنظيم نفسها، ووعي حدود إمكاناتها والكفاح لتوسيعها وتطويرها والإبداع فيها.
وتبقى العلاقة بين عموم مظاهر الحركيّة التاريخيّة المتواصلة علاقة مترابطة ومعقدة، لكنها قابلة للفهم والتفسير كعملية عقلانيّة، تدفع في عمقها إلى القطيعة مع الميكانيكيّة التاريخيّة التي سيطرت لقرن من الزمن بفعل العلموية السوفياتية وغيرها من الأيديولوجيات التحقيرية للحركة التاريخية، بتكريسها وتخليدها للعامل الأحادي في تفسير حركة التاريخ، والتي سوف تكتشف ميزاته التضليلية والمخادعة الشركات الرأسمالية، ومن أبرزها شركات التبغ الأمريكية، وتطبقها على الفور كتحذير: التدخين المسبب الرئيسي للسرطان والجلطات القلبية والأوعية الدموية والجهاز التنفسي وأمراض الرئة ويضر بالمرأة الحامل وجنينها.
-1-
السبب المباشر للقومة على الوالي العثماني، والذي تؤكده المصادر التاريخية المتوفرة، هو فرض ضريبة على أهل المدينة عرفت بإسم "الصليان" وهي نوع من الضرائب السنوية التي يفرضها الولاة على العقارات. وكانت الغاية من فرضها والتعسف بزيادتها في عام الإنتفاضة 1819، مشروع الوالي خورشيد باشا جرّ مياه نهر الساجور إلى نهر قويق الذي يشرب منه أهل المدينة، والذي انخفضت مياهه بسبب تواتر سنوات الجفاف، وكان قد كلف في وقت سابق التاجر الفرنسي فانسان جرمان بدراسته ووضع مخططاته.
وقد أقرت قيمة الضريبة بين 40-70 قرشاً لكل بيت، ويستغرب أحد أعيان المدينة، نصرالله غزالة، لكون العديد من البيوت لا تساوي قيمتها قيمة الضريبة المفروضة، وأن أغلبية الأهالي لا تملك هذه الأموال لتدفعها، واقتناع الأهالي كذلك أن الضريبة ستأخذ هذه السنة مرتين لا مرة واحدة.
ويمكن إضافة بعض العوامل الأبعد تاريخياً ويمكن الزيادة عليها حال توفر المعطيات التاريخية الموثقة: هجرة أعداد كبيرة من سكان المدينة هروباً من الضرائب المتواصلة، وضعف المحاصيل الزراعية بأثر الجفاف المتكرر، وتراجع الصناعات الحرفية المتسارع لضعف القوة الشرائية عند أهل المدينة والأرياف المحيطة بها، وركود الأعمال التجارية، واستنزف الاعتماد المتواصل على الأهالي في تجهيز جيش الباشا المكلف بالذهاب لمساندة الولاة الآخرين في قمع الانتفاضات الشعبية في أقاليم الإمبراطورية ومدنها، ومقومات تجديد حيواتهم ودمارها، وانحياز الوالي إلى إحدى الطائفتين المسيحيتين المتصارعتين وقراره قطع رؤوس أحد عشر مسيحياً في 16 نيسان 1818، وحصول خلل في القدرات العسكرية للباشا في بداية عام 1819 بعد إرساله عدد كبير من جنوده إلى ديار بكر لمساندة واليها في قمع الانتفاضة الشعبية التي تواجه حكمه، ولم يبقي لحماية سلطته في المدينة أكثر من خمسمائة جندي، ووضع عموم الولاة قواتهم في جهوزية تامة للتدخل في المناوشات الحربية التي لا تتوقف على الحدود مع الإمبراطورية الصفوية وحالات الاضطرابات في بغداد، وتهجير مجموعة من عائلات المسيحيين في 14 تشرين الثاني 1819 أي قبل اندلاع الانتفاضة بتسعة أيام، بتأثير تجدد الخلافات بين الطائفتين المسيحيتين، والشرخ العميق الذي عمّقه الفساد والمحسوبية والتعدي على حقوق وأملاك الأهالي، بين الكتائب العسكرية المعروفة بالأرناؤوط والبيروقراطية العثمانية من جهة وبين عموم أهالي المدينة من جهة أخرى .. الخ.
ويبقى ذكر الأسباب في أي ثورة أو تمرد أو احتجاج، شكل من أشكال تبريرها، أي البحث عن الأسباب التي تخفف عن "جريمة" الثوار وثورتهم!! وكأنه جواباً على سؤال لا ينفك يطرح في خلفيات كل ثورة: لماذا الثورة؟
ألم تجدوا طرقاً أخرى أقل ألماً وكلفة لتحقيق مطالبكم؟! السؤال يحمل خلفية حقوقية، مطمئنة لأساليب القرطاس والقلم و"العرضحال"، والقوة الصورية التي تتمتع بها العدالة الذاتية للقوانين، والبلاغة الخطابيّة للمحامين، لكنها بالمقابل تأخذ طريقها إلى عقول الثوار وقلوبهم، من النادر أن تجد ثائراً على مرّ التاريخ، لم يعتكف الليالي والصباحات ليجيب على سؤال لماذا سأقوم بالثورة ولماذا أتبنى خياراتها، قبل أن يتجهز للتعبئة العامة من أجلها، وقبل النزول إلى الساحات للهتاف بمطالبها. ولا يمكن أن نهمل الخلفية الأخلاقية التي يتحصن بها الثوار وهم يلهثون من أجل الإجابة على هذا السؤال، لأن الإجابة عليه لا تكون بدافع معرفي منعزل بل بحضور توأمه: الدافع الأخلاقي بعمقه الإنساني. لا يفكر القتلة والمجرمون والنخاسون وصانعوا المذابح بهذه الطريقة، ولا يؤرقهم عملهم المنحط، لم تتوفر عندنا كتابات نقدية للذين قاموا بمذبحة دير ياسين، صبرا وشاتيلا، ملجأ العمرية، حلبجة، حماة، سجن تدمر.. يظهرون بها تبكيت ضميرهم. بينما نعثر على وفرة من الكتابات التي تعيد تقييم حيثيات ونتائج الثورتين الفرنسية والروسية على سبيل المثال. في النهاية سيقول الثوار طالبين الصفح من المعترضين: سامحونا ياجماعة، لم تبقي لنا الطغم الحاكمة وأعوانها إلا هذه الوسيلة لنسترد حياتنا المسروقة وحقوقنا الضائعة.
-2-
انطلقت القومة في23 تشرين الأول 1819 في مدينة حلب، التي قدر عدد سكانها وفق الباحث الفرنسي أندريه ريمون بمائة وعشرون ألفاً، ونظمتها فئتين من الحلبيين:
الأشراف أو السادة (السِيَدا) وهم وجهاء البلد المنتمون إلى آل النبي ويتمتعون بنفوذ قوي عند العامة، والانكشاريون المسلحون المبعدين عن الخدمة والناقمين على الوالي، وساندتهم فرقة "السكمان" وهم من مرتزقة الجيش العثماني ووقف معهم العامة من أبناء المدينة، قبل توسعها لتشمل عموم الأهالي.
أما أعيان الأرياف المحيطة بالمدينة فكان موقفهم متبايناً، زعماء البدو وقفوا على الحياد، ولم ينحازوا إلى أي من طرفي الصراع، رغم وعودهم المتجددة لمساعدة المنتفضين. عشيرة الحديديين ساندت الأهالي في حدود دنيا، وبقي موقفها متردداً، وكذلك عشيرة الموالي التي ساندت الأهالي لفترة قصيرة، وانحازت بعدها إلى موقع الباشا، أما عشيرة الريحان التركمانية فقد انحازت منذ بداية الانتفاضة إلى الوالي ودعمته بالمؤونة والخيول، وبقيت قوة حامية حلب العسكرية المرابطة في القلعة على الحياد طيلة فترة الصراع، رغم وعودها بالتعاون مع الثوار تحت تأثير حصارهم وحمايتهم لها وتأمين بعض حوائجهم، وتدخلت أكثر من مرة في محاولة الصلح بين الوالي خورشيد باشا وزعماء القومة. بذلك بقيت القومة بلا عمق ريفي يوسع حركتها، ويحمي قياداتها ويؤازرها بالدعم المادي والمعنوي، ولم يتوفر لها دعم خارجي، رغم الإشاعات التي تداولها الكونت البولوني فينجيسلاس رزيفوسكي عن دعم والي مصر محمد علي باشا.
شارك في القومة جميع سكان المدينة من نساء ورجال وحتى الأولاد ودون تمييز بين الملل، انتشرت الهتافات في الشوارع التي تؤكد معنى الوحدة والمساواة "السيّد والانكشاري والنصراني واليهودي سوى" (معاً) عرضنا ودمنا سوى (معاً)" وفق ما رواه المطران بولس أروتين.
بذهاب الوالي إلى نهر الساجور ليترأس أعمال جرّ المياه، ويتغيب هناك عدة أيام عن المدينة. وعيه توفرت فرصة اللقاء بين زعماء البلد، فاجتمع أعيان المدينة ورفضوا طلبه في دفع الضريبة، وطلبوا منه عزل "المتسلّم" وكيله، المعروف بسيرته السيئة، رغم كونه لا يملك أي استقلالية عن قرار الوالي في فرض الضرائب أو غيرها، إلا أنها من الوسائل التي اجترحتها الشعوب المضطهدة لتجنب الصدام مع مركز القرار (الوالي العثماني) وفاعليته والتركيز على هوامشه، لما تعلمه بيقين التجربة عن أكلاف الصدام مع سلطة تتمحور حول فرد بصلاحيات واسعة ودعم لا محدود من المركز الإداري والسياسي في العاصمة.
لا يمكن اعتبار مطلب العامة، الذي حمله الأشراف ودعمته الانكشارية العائدة من النفي بطلب من الأعيان، مطلباً ثورياً، ويستوجب قومة شعبية-عسكرية لتحقيقه، ولم يحمل في تضاعيفه عناصر لبرنامج موسع ليشمل إعادة النظر بالنظام الضريبي أو تحقيق حالة ما من التمثيل السياسي على سبيل المثال، مطلباً ذا طبيعة إجرائية وقابلاً ليحققه الوالي ذاته دون عناء وبقليل من الفطنة والحنكة متجنباً أي تأثير على سلطته وخياراتها، لكن بنيتها القمعية الراسخة وعدم توفر ميل إصلاحي مختبر تاريخياً للإصلاح، كان سبباً أساسياً لتوحد الثوار حول خيار القومة واعتمادها كوسيلة وحيدة لتحقيق هدفهم المتواضع، والذي يشبه في عناصره طلبات "العرضحال" التي يقدمها العامة توسلاً لإنصاف من جور، أو رد حق ضائع في سراديب بيروقراطية متعفنة، وكأنه إقرار ضمني من الثوار بعدم قابلية بنية هذا النمط من الأنظمة الإجتماعية-الاقطاع العسكري-الأسيوي- للإصلاح دون أن يستنتجوا ذلك من قراءة مونتسكيو ومقاربته لأنظمة الاستبداد الشرقي، ليغدو تحقيق ذلك مطلباً اصلاحياً-إجرائياً يحتاج لاستحضار واستنهاض عناصر الثورة كلها لا بعضها.
إلى جانب كل ذلك لابد من إضافة القوة الحاجبة للعامل المفجّر في أي انتفاضة-ثورة على العوامل الأخرى اللامرئية، والتي صنعتها ببطئ سيرورة طويلة من المفاعيل المتواصلة.
ماتزال كتب التاريخ المعاصر لاتبارح واقعة "بوسطة عين الرمانة 13 نيسان1975" كحدث مفجر للحرب الأهلية في لبنان، وكأنه بتدارك هذا الحدث العارض من دورية شرطة المرور، كفيلة بتجنب الحرب الأهلية، واغتيال الطالب الصربي لأرشيدوق النمسا في سراييفو، كسبب لتفجير الحرب العالمية الأولى.
-3-
بعد تحديد ساعة الصفر واختيار النداء الذي اتُفق عليه بين الثوار، جاب الدلاّلون الأحياء وهم ينادون "ولد عمره سبع سنوات قد ضاع وستعطى هدية لمن يجده "تجهز الثوار للانطلاق، وبدأت طليعة منهم (ثمانية رجال) في الساعة الثالثة ليلاً بالهجوم على بيت الكتخدا (وكيل أعمال الوالي) وقتله، وقتلت العديد من عساكر الوالي الباقين في المدينة، لكنهم لم يفعلوا شيئاً في اليوم الثاني للقومة، كأن يوسعوا أعمالهم الحربية بالاستيلاء على مراكز الدولة المتعددة، قبل عودة الوالي وإعادة امتلاكه للمبادرة المضادة. من هنا تبين عجز الثوار عن استثمار الخطوة الأولى المباغة، والتي حققت بعض نتائجها في إرباك الوالي لوقت محدود، سرعان ماتجاوزها وانطلق إلى الهجوم.
حين وصله الخبر واجه الوضع المتأزم بعنف، أمر جيشه بمحاصرة المدينة وضربها بالمدافع، وفي اليوم الثامن من الانتفاضة قرر قطع مياه الشرب عنها، وحال دون وصول الذخيرة والإمدادات الغذائية، وعمل على تسيير قوة لإلقاء القبض على طليعة الثوار لكنه عجز بسبب من التضامن الأهلي الصلب، وعجّل في إرسال نداءات النجدة إلى الولات العثمانيون في ديار بكر، سيواس، أضنة، سالونيك، عنتاب .. والباب العالي الذي طلب بدوره من كل الولاة دعم سلطة خورشيد باشا بكل الامكانات والتزام أقصى السرعة في تنفيذها ليرسلوا المساعدات العسكرية والإغاثية، مما أقصى مبكراً مشروع الحصول على السلم الاجتماعي بالاصلاحات.
في اليوم الحادي عشر للانتفاضة لم تحصل أي أعمال عسكرية، وتقدم أهل البلد إلى الباشا بشروط الصلح: أن يقصي الباشا متسلمه (وكيله) وينزل هو بنفسه إلى السرايا ليحكم البلد، ورفع ضريبة "الصليان"، وضرورة جمع عسكره الأرناؤوط في السرايا ومنعهم من الإقامة في البيوت العائدة لأهل البلد، لكونهم لا يدفعون إيجارها ويخربونها أيضاً. لكن الباشا لم يقبل بالشروط، ولم يفاوض على تعديلها.
والسؤال الذي يطرح هنا، هل كان فعل الثوار كافياً ليقدموا بمبادرة الصلح كي يقبل بها الباشا؟!! أم أنه عكس وبزمن قصير حدود طموح قومتهم؟!!
في اليوم الخامس والأربعون من الانتفاضة، قبض عسكر الباشا على ستة رجال أرمن عربكلّية، وتعود التسمية على بلدة عربكير التي تبعد عن مدينة ملاطية 70 كيلو متر، خارجين من حلب بعد قضاء حوائجهم التجارية، واقتيدوا إلى مكان إقامة الباشا في تل الشيخ أبو بكر، وسألهم عن أحوال حلب ومعاشها، وعن مفعول القصف المدفعي عليها، فأجابوه عن البحبوحة التي يعيش فيها الأهالي، وقلة ضرر القصف على نشاطها، مما أغاظه. وقال لهم "إن شئت أخرب حلب وأزرع فيها الحنطة والشعير، وإن شئت قتلتكم مع جميع أهالي البلد".
دلت هذه الحادثة على قدرة أهل المدينة على التكيف مع الأوضاع الحربية وآثارها التي تقع كل يوم، ومحدودية تلك الآثار على النشاط اليومي الاقتصادي على وجه الخصوص داخل المدينة، وتأمين الثوار لاستمرار النشاط الإقتصادي وضمان سلامة الوافدين وأعمالهم، ويدل كذلك على القوة الحربية التي يدخرها الباشا ولم يستخدمها بعد.
في اليوم الثامن والخمسون من الانتفاضة اقترح الباشا الصلح ووضع شروطه بتسليم الآغوات قادة الإنكشارية، ومعهم الشيخ إبراهيم درعزاني صاحب الدور الكبير في القومة، وإعادة عسكرهم الانكشاري إلى المنفى، وإعادة البيوت في أحياء قرلق والمشارقة وباب النيرب إلى عسكر الأرناؤوط. ورد أهل البلد في اليوم التالي برفض الشروط، وبدأوا يزيدوا في تحصيناتهم ويقظتهم تحسباً لهجوم جديد يكون أقسى مما سبقه من هجومات وقصف.
بالمنطق الاصلاحي لا غيره، الذي حكم فكر وإرادة من قام بتعديلات بسيطة في شروط الحكم التعسفي، أن لايقبل بشروط الصلح، لكونها لا تحمل أي من عناصر الصلح، وهي أقرب للاستسلام دون شروط.
في اليوم السابع والسبعون بدأت تظهر آثار القصف والحصار على أهل البلد، ومظاهر الجوع والتسول في الشوارع، والعجز عن إيفاء الديون، وعدم صلاحية البيوت المتضررة للسكن واللوذ بالأماكن العامة والأسواق والقيساريات والجوامع والكنائس، إضافة لأثر العوامل الجوية من البرد والمطر على الأطفال والنساء، وجزء مهم من زمن القومة حصل في"المربعانيّة"، وازدياد عدد القتلى والمصابين بلا علاج .. في هذه الشروط عاد طرح الصلح-الاستسلام، وانقسم أهل البلد حوله.
في اليوم الثمانين مضى أعيان البلد إلى الباشاوات الثلاثة، الذين أتوا لدعم خورشيد باشا بن جبان (والي أضنة)، لطف الله باشا (والي سيواس)، بكر باشا (والي قيصرية)، وختموا ورقة منهم أنه: "أمان أمان أمان على جميع أهل حلب".
ولم يقبل الانكشارية ولا قسم من الأشراف (الِسيَدا) بهذا الصلح. وتحت تأثير هذا الموقف حلّت قيادة جديدة للثوار ترفض الفكرة المطروحة، مكان القيادة التي سعت إليه وقبلت به.
في اليوم الثالث والثمانون يقترح الباشا صلحه، يريد في ثمانية أيام لا أكثر: تسليمه كل أبواب المدينة، وكل البيوت التي شغلها الأرناؤوط ومقتنيات الذين قتلوا فيها، وتسليم عشرة من الِسيَدا-الأشراف وثمانين من الإنكشارية، ومجموعات الصليان، وضريبة الخراج، وضريبة المحرمية، وضريبة المقاطعات، وضريبة الحرايم. وحين قرأ هذا "الصلح" في اجتماع قادة القومة من الِسيَدا الأشراف والإنكشارية، صاح السيدا: "نحن جميعنا نلف زنانير، كلنا سوى معكم " بمعنى أن الأشراف اختاروا حمل السلاح مع الانكشارية، لكون الزنار من الرموز الدالة عليهم. لكن الإرادة والشجاعة وقوة الشعور بالحق لا تكفي لتعديل عناصر القوة غير المتكافئة، لم يكن الثوار يحاربون الوالي بمفرده، بل عناصر متحدة من سلطة الإمبراطورية العثمانية.
في اليوم الثامن والتسعون للقومة وبتعهد من الفرنج المقيمين في حلب يكتبون رسالة يؤكدون فيها موافقة أهل البلد على كل ما يطلبه الباشا، ويقبلون بصلحه دون شروط.
وفي اليوم الواحد بعد المائة يستدعي الباشا العلماء والمشايخ والأفندية والفرنج لكي يسمعهم رده على بالموافقة على الصلح. ويدفع قادة القومة والعامة الثمن الباهظ لفشلهم، القتل والنفي والمجاعة وتدمير البيوت والسخرة وإعادة الزامهم بدفع الضرائب المتعددة. وقبل أن تستكمل المدينة تضميد جروحها وترميم أوضاعها، ضربها زلزال في العام 1822، وتبعه بالأعوام القادمة تفشي وباء الكوليرا.
-4-
استمرت الانتفاضة مائة يوم ويوم، من 23 تشرين الأول 1819 ولغاية 1 شباط 1820، استنهض الثوار فيها أنماطاً من التلاحم والتضحية والشجاعة والإبداع في مواجهتهم غير المتكافئة، وفكروا بالتعاون مع أصحاب الحمامات لصناعة المدافع، وحفروا السراديب ووضعوا فيها الألغام لإيقاع أكبر الخسائر في جيش الوالي، ورفعوا المتاريس ليعيقوا الخيالة ويحتموا من الرصاص، وحفروا شرنبو (الخنادق) لتخفي العائلات وتحميها من القنابل والرصاص، وشهد في بطولاتهم من كان يقتلهم وينكل بهم من عسكر الأرناؤوط. "لم نر في مدينة جنكجية (محاربون) مثل أهل حلب، ولكن لا حيلة لهم "، وحافظوا على أمن الناس وممتلكاتهم رغم الظروف القاهرة، ووقفوا بحزم ضد التعديات على حقوق الوافدين إلى المدينة، "لم يكن هناك هدوء وحفظ نظام في حلب أفضل من هدوء فترة الفوضى هذه، ما يستدعي مدح الشعب ورؤسائه" وفق قنصل فرنسا في حلب.
تحملت الناس ظروفاً صعبة فوق مستطاعها، وباتت تتمنى في لحظات يأسها اجتياح "الوبا (الوباء) وتفضله على الأوضاع المزرية التي تعيش فيها، وتمنت قدوم الفرنج ليخلصهم من حكم الوالي"، و"أغلب الناس صارت تشحد على الأبواب نساء وبنات وأولاد ورجال، وحتى اللذين يشحدون أكثر من اللذين لايشحدون" وفق المطران إبراهام كوبليان.
وقدمت مدينة حلب الآلاف من أبنائها في هذه القومة الكثير، وقدر عدد القتلى من أهل المدينة بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف قتيل وفق الكونت البولوني رزيفوسكي، وقدرت قذائف المدفعية التي ألقيت على المدينة بين25-31 ألف قذيفة، وعدد القنابل ألفي قنبلة.
وقبل نهايتها وقع انقسام بين حلف الثوار (الأشراف والانكشارية) وهم يقيمون نتائج الانتفاضة وحدود كل طرف مشارك فيها وعزيمته الكفاحية، أولهم أغلبية (الأشراف) أيدوا الصلح لنقص المؤونة والجوع والمرض، وعدم تحمل آثار قصف المدينة وتدمير البيوت والأسواق وحرقهما، وفقدان الأمل بالحصول على أي مساعدات خارجية تعزز قدرات الضغط على الوالي وتوقف عدوانيته على المدينة، والثاني أغلبية (الانكشارية والسكمان والعامة) من اللذين لا يملكون شيئاً ليخسروه، الانكشارية كانوا مبعدين عن المدينة وموزعين في حمص وحماة والأرياف قبل الانتفاضة بسبعة سنوات، ورسائل الأشراف لهم هي من استدعاهم وطمأنهم للقدوم والمشاركة لإعادة اعتبارهم العسكري السابق، ولأنهم يعلمون أنهم وحدهم من سيدفع ضريبة الصلح إما بالقتل والسجن أو بإعادة نفيهم من المدينة، أما العامة فسيرغمون على دفع الضرائب وأعمال السخرة (أعمال قاسية غير مأجورة) فيما لو أرادوا متابعة القتال ودفعه إلى نهاياته، ولم تجدي النداءات التي حمّلوها بأمنياتهم ودفق رجائهم إلى كل الحارات والساحات والأسواق، التي تطالب بالصبر والصمود والتفاؤل: "يا أمة عيسى يا أمة موسى يا أمة محمد يا أهل حلب، اصبروا تسعة عشر يوم بعد هذه المدة حلب تصير قدح لبن، ويصير فرح".
لم توفر الطليعة (الأشراف والانكشارية) مجموعة عناصر لابد منها لانطلاقة أي عمل مشترك، تحقيق وحدة المصالح والهدف بين الثوار، والتي لم تتحقق إلا لفترة قصيرة من زمن الانتفاضة، لتناقض المصالح الاقتصادية والسياسية بينهما، وحضور آثار عميقة لتاريخ دامي بين الجماعتين، آخرها مذبحة كبيرة قامت بها الانكشارية للأشراف وعرفت بحادث جامع الأطروش 1798، وذبح فيها عشرات الأشراف الملتجئين للجامع ذبح النعاج. وغياب خطة العمل، تصب فيها كل تراكمات النضالات اليومية للوصول إلى تحقيقها وتثبيت إنجازاتها، فائض الجرأة والشجاعة والتضحية كعناصر ضرورية لأي إنتفاضة-ثورة لكنها غير كافية لتحقيق انجاز في العمل التاريخي الكبير وحسم نتائجه.
ضرورة أن يحقق الثوار بقوتهم المقدمات الكافية لشق الطبقة الحاكمة والنفاذ إلى بنية السلطة واستقطاب كتل مهمة منها إلى موقع المنتفضين، على العكس من ذلك حصل تفكك في صف المنتفضين وبرز ترددهم في أكثر من مرحلة. وساهم غياب فكرة الاصلاح عن الوالي والزمرة العسكرية البيروقراطية، في دفع الصراع إلى شكله الحربي الذي أظهر تفوق الوالي رغم الانجازات البطولية والتضحيات التي قدمها العامة، عجز المنتفضين عن توفير الدعم الغذائي والعسكري ليمكنهم من الاستمرار لفترة أطول تستنزف الوالي وقدراته، بينما استنفر كل حكام الولايات العثمانية لإمداد الوالي بالأسلحة والجند والأغذية.
وتم الاتفاق مع الباشا على الصلح بأثر من تدخلات الولاة العثمانيون والقناصل والأشراف والفرنج، لتدخل قواته المدينة بعد ذلك، وبدأت بوضع حد لتجاوزات الأرناؤوط القوة العسكرية الضاربة للوالي، وعملت على تصفية ثوارها وزعمائها وعاقبت كل المشتركين فيها، وعادت فرض الضرائب المتعددة وزادت في أعمال السخرة.
تذكر هذه القومة، بالإضراب عن الطعام الذي يقوم به السجناء حين يخاطرون بأجسامهم ويقايضون بآلامها التي قد تصل بهم إلى الموت، من أجل تحسين شروط سجنهم، ومحاولة تذكير سجانيهم، أن هذا الكائن لم يعد يحتمل شروط حياته.
بمصادفة تاريخية لا أكثر، ربما لم يدر بها الثوار الحلبيون أنه في زمن قومتهم، انفجرت الموجة الثورية الأوروبية الأولى 1820-1824، اسبانيا 1820 ونابولي 1820 واليونان 1821، وانطلقت معها وبعدها ثورات موازية في أمريكا الجنوبية، لتنفصل البرازيل عن البرتغال 1822، وتتحرر غالبية دول أمريكا الجنوبية عن اسبانيا .. وماخاب هنا تقدم وانتصر هناك، في أمل يتجدد ويندفع بقوة الألم الشعبي ويحفر أخاديده في صدر كتامة الغرور وصلفه.
(ملاحظة: اعتمدت في كتابة هذا المقال على يوميات المطران أبراهام كوبليان، الذي حققها المطران بطرس مراياتي ومهران ميناسيان، ونشرت في حلب 2008)
حلب، سوريا