تقيم القاصة السورية عالما يختلط فيه الواقع بالأخيلة في حكاية هي أقرب إلى القصص المكتوبة للأطفال حيث الجنية الطيبة قرب النبع والجدة الطيبة وعالم القرية الساكن في زمن البراءة الأولى حيث لم تصبح الحياة بعد رحلة عناء

جـنـّيـّة ُالنبع الطيـّبة

نهى أسـتور

قبل ربع قرن على وجه التقريب أخذنا والدي إلى قريته للمرة الأولى منذ ولادتي، وكنتُ آنذاك في العاشرة، لنقضي الصيف فيها. ولشدّ ما أحببتُ كطفلة الحياة في تلك البقعة من الأرض فقد أتاحت لي انفتاحاً على عوالم نفتقدها في المدينة. تعلمتُ ركوبَ الحمير، وجمع بيض الدجاج، وحلب الأبقار والماعز، وتسلق الأشجار، ووضع قِـرَب مياه الشرب على الحمير لملئها من نبع القرية الذي يقع في  واحة ٍ مُعـشبة من الأشجار الوارفة وسط واد ٍ قريب ٍ أجرد، وكانت نساء القرية وفتياتها يفعلن ذلك فرادى أو ضمن مجموعات صغيرة.  
وذات ظهيرة قائظة، وضعتْ  جدّتي قربتي ماء فارغتين على ظهر الحمار بحيث تتدلى كل منهما على إحدى خاصرتيه وقالت لي:
ـ يا حبيبة جدّتك، أريدك أن تأخذي الحمار إلى النبع لملء قربتي الماء فلديّ أعمال أخرى. وخذي هذا الإبريق البلاستيكي. املئيه من ماء النبع وأفرغيه كل مرّة في قربة مختلفة حتى لا يختلّ توازنهما على ظهره إلى أن تمتلئا. وسيقودك الحمار ذهاباً وإياباً.
دفعتُ الحمارَ أمامي بتربيتة على وركه الأيمن فانطلق وانطلقتُ في إثره. حين وصل إلى أولى أشجار واحة النبع توقف فجأة على نحو غريب ٍ فأثار انتباهي. وصلتُ إليه فاكتشفتُ أنه كان متيبـّساً تماماً وكأنه تمثالُ حمار ٍ من الإسمنت المسلّح. وسمعتُ خشخشة غريبة بين الأشجار فأسرعتُ إليها ولكنني لم أر شيئاً. عدتُ لأسحب الحمار إلى النبع إلا أن كلّ محاولاتي لتحريكه قيد أنملة أخفقتْ. وانتابتني الحيرة ولم أعرف ما يجدر بي أن أفعله وأوشكتُ على البكاء. وهنا سمعتُ الخشخشة نفسها ولكنها كانت هذه المرّة فوقي، بين أغصان الشجرة التي وقفتُ تحتها. رفعتُ رأسي فهالني ما رأيت. كانت ثمة امرأة ٌ في غاية الجمال تنزل عن الشجرة إليّ. ابتسمتْ لي فأحسستُ أن حيرتي قد تلاشتْ. أمسكتْ يدي بيدها اليسرى فدَبَّتْ في عروقي طمأنينة ٌ ما بعدها طمأنينة، وأخذتْ بيدها اليمنى الإبريق البلاستيكي من يدي. أمالـَتـْهُ فوق إحدى القربتَـيْـن ِ فانسكبَ منه ماء تدفق دون انقطاع حتى امتلأت القربة تماماً. وجحظتْ عيناي من الدهشة. كان الإبريق خاوياً تماماً عندما أخذَتـْهُ من يدي ومع ذلك انصبّ منه الماء دفعة ً واحدة ً حتى ملأ القربة دون أن تذهب به إلى النبع لتملأه، والقربة تتسع لعشرة أباريق على الأقل لتمتلىء، وامتلأت القربة حتى فوهتها دون أن يؤثر ذلك على توازن القربتين على جانبي الحمار. أمالت الإبريق فوق القربة الأخرى فانصبّ منه الماءُ متدفقاً حتى ملأها تماماً. لم أصدّق عينيّ لكنـّها أعطتني الإبريق ومسّـدَتْ شعري بيدها فتلاشى استغرابي. انحنـَتْ عليّ وقبّلـَتـْني على وجنتيّ وقالت لي في صوت ٍ أرقّ من رفيف الفراشات: "لن تذكري لأحد ٍ يا سُهى ما حدث". وربّتـَتْ على خاصرة الحمار فدَبّتْ فيه الحياة واختلجت عيناه قليلاً. 
استبدّ بي الذهولُ مرّة أخرى: "كيف عرفـَت اسمي؟". وكنتُ على وشك أن أسألها ذلك بيْدَ أنها ذابتْ في الهواء تاركة ً حولي رشـّة َ عبير أثيريّ.
نظرتُ إلى الحمار فبدأ في التحرّك الحثيث عائداً إلى القرية وتبعـْتـُهُ مأخوذة ً بما حدث. كان بودّي أن أخبر والديّ وجدّتي وأهالي القرية جميعاً عن تلك المرأة غير أنها طلبتْ منّي ألا أذكرَ ذلك لأحد.
استغربَتْ جدّتي من قِصَر ِ المدة التي عدتُ خلالها من النبع بقربتين ممتلئتـَيْن:

-                     لا شكّ في أنّ أحداً ساعدَك ِ في مَلْء ِ القربتَيـْن فمن غير المعقول أن تفعلي كل ذلك بمفردك وبهذه السرعة!

-                     لقد ساعدَتـْني امرأة طيّبة رأيتـُها هناك.

-                     ومَنْ هي؟ أنتِ تعرفين كلّ نساء قريتنا الصغيرة.

-                     ليستْ من قريتنا. إنها المرّة الأولى التي أراها فيها.

-                     ربما كانت عابرة سبيل. هنالك قرويون وقرويات يمرّون بنبعنا فيشربون من مائه ويغسلون وجوههم استبراداً وخصوصاً في الصيف، ثم يتابعون طريقهم إلى قراهم.             

شعرتُ بأنني لم أنكث بوعدي لتلك المرأة وفي الوقت نفسه لم أكذب على جدّتي. وبدءاً من اليوم التالي للحادثة حرصتُ على النزول إلى النبع عدّة مرّات في اليوم، وكنتُ أقضي عدّة ساعات هناك. كنتُ أمنـّي النفس برؤيتها مرّة أخرى، ولكن دون جدوى. وانتهى فصلُ الصيف وحان وقتُ رجوعنا إلى المدينة.
ومرّت ِ السنون تلو السنين ولم تبرح تلك المرأة مخيّلتي يوماً واحداً. كنتُ أتوقع أن أراها في أيّ مكان أذهب إليه. ولا أعرف لماذا. وخابت كلّ توقعاتي. وفي زياراتنا التالية إلى القرية في أيام الصيف، كنتُ أسرع إلى موقع النبع وأمعن النظر في غصون الأشجار هناك. ولكنّ تلك المرأة لم تظهر مرّة أخرى قطّ. ولطالما تساءلتُ في قرارة نفسي إن كنتُ حقـّاً قد رأيتـُها، وإن كانت قد ساعدَتـْني فعلا ً، أم أنها كانت خيالات طفولة.
عندما دنا أجلُ جدّتي، أرسلتْ في طلبي وهي على فراش الاحتضار فأسرعتُ إليها. قالت لي بصوت واهن حين خلت ِ الغرفة من أي شخص آخر:
- هل تذكرين يا جدّتي حين أرسلتـُك ِ مع الحمار إلى النبع لملء قربتي ماء ٍ؟ هل تذكرين كيف استغربتُ وقتها عودتك بسرعة؟ كان ذلك قبل أكثر من عشرين عاماً. يومها قلتِ لي أن امرأة ً عند النبع ساعدَتـْك ِ وأنها ليست من أهالي القرية. لقد ساعدَتـْني أنا أيضاً تلك المرأة يا جدّتي. لكنني لم أرها قـَط ّ. كنتُ أملأ الإبريق من النبع وأهمّ بسكبه في إحدى القربتـَيْـن ِ وأكتشف أن القربـتـَيْن ِ مملوءتان تماماً. كنتُ أحسّ أنها حولي. وفي إحدى المرّات التي ساعدَتـْني فيها همستُ في الهواء قائلة "أنا جدّة سُهى التي ساعـَدْتـِها قبل سنوات"، وللتوّ فاح في المكان حولي عطر ٌ لم أشمّ أطيبَ منه في حياتي. ولكنني لم أرها قـَط ّ. إنها ليست مـنـّا يا جدّتي. إنها جـنـّيـّة ٌ طيّبة أحبّتْ نبعنا وصارت تتردّد عليه. ولا أعرف سبب ظهورها لك وحدك.
ولشدّ ما فاجأني تصريحُ جدّتي وملأ قلبي بحنين ٍ جارف إلى تلك المرأة.
في اليوم التالي فاضتْ روحُ جدّتي. وجاء جميعُ افراد العائلة من عدّة مدن ٍ لحضور مراسم دفنها في مقبرة القرية. في مجلس العزاء الذي انعقد في بيتها كانت امرأة في مقتبل العمر تجلس إلى يميني. مدّتْ يدها إليّ ووضعَـتْ شيئاً في حضني انشغلتُ عنه بتقبـّل عزاء أحد الحضور. وحين نظرتُ إلى ما في حضني انتفضتُ واقفة ً في حركة ٍ لفتت انتباه القريبين منـّي. لم أجد المرأة التي كانت تجلس إلى يميني. سألتُ عمـّي الذي كان يجلس إلى يساري:
- أين ذهبـَت ِ المرأة ُ التي كانت تجلس إلى يميني؟
فأجاب:
- لم يكن ثمة أي شخص يجلس إلى يمينك. هذه الكراسي مخصصة فقط لأقرباء المرحومة الجالسين لتقـَبـُّل العزاء.
وكنتُ أمسك بيدي ما وضـَعـَتـْه ُ تلك المرأة ُ في حضني. دبّوس زينة ٍ كنتُ قد فقدتـُهُ عند النبع قبل أكثر من عشرين عاماً حين كنتُ أذهبُ إليه يوميّاً عـلـّي أحظى بلقائها، ولم أكتشف ضياعه إلا بعد عودتنا إلى المدينة آنذاك.

 

ـ  قاصة من سورية تقيم في إنكلترا.