كانَ يوماً أسكندنافيا خالصاً في الغيوم التي عمتْ سماءَ روحي قبل سماء مدينة Brønshøj التي كنتُ أحلم أن تكون مأوى وسكن دافئ أحلم به.
لحظتي صارت أركانها عتمة وظلام ويأس من الحياة والعمل والأولاد الذين كنت أظن بهم خلاصي من كآبتي وسوداوية مشاعري، وحتى هو الذي كنت أظن به شريكَ عمر باتَ لا يفقه من عذاباتي شيئاً.
مارستُ طقوسي الصباحية وكأنني أتمتع حقا بأجازةٍ من العمل، لم أستيقظ مبكرةً كأنني أميرة تعودت النهوض متأخرة وهناك من يجهز لها قهوة الصباح. وجدتهُ يجلس إمام شاشة الحاسوب الذي أدمنَ معانقته طوالَ وقت تواجده في البيت.
- صباح الخير
- صباح الخير حبيبتي أش لونك اليوم؟.
- بخير!.
أجبته بحيادية متأملة لحظة رحيلي والخلاص من دجل المشاعر الزوجية الكاذبة. لكن لا..لا..لا..لا كانت صادقة على الأقل من ناحيتي.
كان في عالم أخر ليست له علاقة بي وبألمي وعذاباتي ومشاعر الفقد التي لبستني كجلدي، وكنتُ أعد طقوس رحلتي إلى السماءِ كسيدةٍ مغمورةٍ بالهمومِ والحزنِ.
وحيدة مع عذابات غربتي و أمومتي.
غزالة روحي ضائعة في غابة الهموم.
لم يغادر جلسته كما كان يفعل قبل عام ليقبلني قبلة الصباح، أي منذ أن أصبتُ بعجزٍ في العمود الفقري وصرتُ أشكو من ألآمه الفظيعة. ظل جالساً كعادتهِ أمام جهاز الحاسوب يتسلى بقراءة رسائلٍ تأتيه من نساءٍ بعد أن أشتهر كفنان فتوهم نفسه دون جوان زمانه.
كنت أحس بما ينسج من علاقات مع نساء تبحث عن متعة اللحظة. إذ يبدو منتشياً مرحاً غير مبالٍ بالألم الذي يسحقني ويعصر روحي.
مرة سمعته يتكلم بخفوت ظاناً بأني نائمة، فهو يعرف قوة الحبوب المهدئة التي أدمنتها بعد إصابتي، سمعته يستجدي عواطف ومشاعر أحداهنَ ويبكي وحدته وهجرانه من شريكةِ عمرٍ اختارها من دون البنات قبلَ أكثر من ثلاثين عاماً!.
* * *
وَدعتُ ولدي الصغير الهام بالذهاب إلى مدرسته وعلى وجهي ابتسامة مذبوحة.
دخلتُ الحمام كي أعمد هاجس الخلاص والرحيل.
كنت عازمة على السفر إلى الأبدية!.
كنتُ فارغة الرأس تماما إلا من فكرة الخلاص، فلم أفكر مطلقاً ماذا يعني أن تقرر أمٌ كانت لولب في حياة ولديها تركهما في وسط الطريق؟.
ارتديتُ أحلى فستان. غيرتُ شراشف سريري التي اعتادت أنفاسي فقط منذ عام. وضعت قليلا من المساحيق على قسمات وجهي التي كانت تصرخ وتصيح:
- كوني كما أنت دون أصباغ!.
كان صوت الموت والخلاص أقوى واصدق من كل الأصوات التي كانت روحي تسمعها في ذلك الصباح الرمادي.
صوت الخلاص الذي كان الوحيد قوياً وطاغياً، مسيطراً على رأسي يناديني بحب:
- احسميها وتَخلصي من العذابات التي أدمنت روحك؛ آلام جسد مبرحة، هجران، جفاء.
- احسميها فالحبيب لم يعد يحس بكِ، الحبيب الذي قاسمتيه تفاصيل الحياة والعذاب والتشرد والجسد الذي كان شامخاً وعامراً بالصحة والفرح.
لدي من الحبوب ما تقتل عشرة!.
وحيدة، خائبة، باكية ودائخة بعمري الذي ضاع في وعود وأحلام كاذبة.. من حِلم مدينة ماركس الفاضلة الذي تشردت من أجله إلى لحظتي هذه مهجورة وجسدي ينوء بعللٍ وأمراض، ويومي الذي ابدأه بعّب الأدوية المسكنة للآلام التي أشعر بها تنخر روحي، وأنا أتحسر على لحظات نوم طبيعي.
خرجتُ من الحمام في طريقي إلى غرفتي الباردة، لمحته يحملق بالشاشة في أقصى الصالة حيث يسكر كل ليلة وينام. خلدت إلى سريري. أفرغت حفنة من الحبوب المختلفة براحة كفي، فتراقصت ألوانها، ألقمتها فملأت فمي، بلعتها مع كأس ماء قائلةً لروحي:
- نامي بهدوء وكفاك تمثيل دور الحسين.
* * *
بين الصحو والخدر، وفيما كنت على وشك التحليق سمعتُ تلفوني يرن وكمن يتشبث بقشته الأخيرة ضغطتُ على زر الجواب قائلة:
- هاي!.
كان صوت مديرة القسم في الدائرة التي أعمل فيها:
Det er Lone -
أجبت وقد بدأَ الخدرُ يدبُ بأنحاء جسدي، لكن كان ذهني متألقاً، سألتني عن موعد عمليتي فأجبتها:
- لا ... تأجّلَ الموعد بسبب إضراب الممرضات من أجل تحسين أجور وظروف العمل.
فسألتني عن حالي الآن فقلت لها:
- ستأتين حتما لتوديعي وإلقاء كلمة في مراسيم رحلتي إلى الأبدية!
أغلقت الهاتف وبدأت أنفصل عن المكان وأخر شيء سمعته هو في الصالة بدأ في سماع أغاني فيروز الصباحية بينما وجه ولديَّ ينظران نحوي وفي وجهيهما هلع وكأنهما يشاهدونني أصعد قليلا.. قليلا إلى السماء ثم صرت في عالمٍ آخر.
* * *
رحلت روحي إلى عالم أركانه ناصعة البياض. فرأيتُ والدي الحبيب وأعز مخلوق لديّ. جاءني هادئاً ومعاتباً متسائلا:
- ليش بويه؟
- ...!
- وولديك نسمة وعادل
- ...!.
- لا..لا..لا.. يا بويه ليش؟
لم أستطع الكلام، لساني كان ثقيلاً كثقل الحياة التي قررت الرحيل عنها، ثم سقطت في العدم.
أفقتُ في مكانِ غريبٍ وأصوات غريبة. حملقتُ في سقفِ المكان الذي لم اشعر بأي ألفةٍ معه. رائحة الأدوية زكمت أنفاسي. أحدى ذراعيَ مشدودة إلى السرير. الأخرى غرز بشريانها إبرة كيس المصل البلاستيكي الذي كان يمنح جسدي الذاوي شيئاً من الحياة.
حاولت أن أتذكر لكن دون جدوى فذاكرتي أعطبها قهر الزمن وأوجاع التجربة.
- أين أنا؟
رددت مع نفسي:
- (تسقيني بكرمْ وتْلومني من أسكرْ) * وأنا لم أسكر بل أردت أن أرحل عن الحياة المليئة بالزيف.
أغمضت عيني، فتحتهما معتقدةً أنني في موقع الثوار في زيوة خلف العمادية على نهر الزاب يوم 5 حزيران حينما قصفنا الدكتاتور بغازاته السامة، لكن لا! الليلة مختلفة تماما، لم أكن بذلك المكان.. لا..
عينايَّ مليئتان بدموع عجزي و خسارتي.
آه كم كنت واهمة أنه كان ظلي.
لمحتُ وجها ولديّ, فلذة كبدي يترائيان إلى جانب السرير يحملقان بي بصمت.
* * *
لونا صديقتي ومديرة القسم الذي كنت اعمل به اتصلت بالشرطة حال إغلاقي الهاتف صبيحة ذلك اليوم وأخبرتهم بأن هنالك محاولة انتحار وأعطتهم عنوان بيتي.
هو لا يدري ماذا يدور في البيت الذي أنتج أجمل وأعمق أعماله الفنية، كان غائبا عني.
جاءت الشرطة وطرقت الباب. وقف مذهولا لا يعرف ماذا يرد على أسئلة الشرطة التي كانت ملائكة خلاصي.
كان أنانيا وأنا كذلك.
أنانيتي كانت أقسى حين قررت الرحيل عن ولديَّ وهم في نصف الطريق
* * *
سمعت صوت ولديّ:
- ماما حاولي أن ترتاحي ولا تفكري .
- ...!.
- بابا ينتظر في غرفة الضيوف.
- ...!.
- مُنِعَ من الدخول!.
كنتُ قد أوصيتُ بذلك حال يقظتي.
كوبنهاجن 2 أيار 2008
كاتبة من العراق تقيم في الدنمرك
* من أغنية للمغني العراقي الراحل رياض أحمد