في تلك الزاوية المظلمة من غرفتها .. أشعلت شمعة لتضيء لها الدرب إلى غرفة أمها.. حقا كانت تخاف الظلام.
تلمست ساقيها الصغيرتين المزرّقتين من شدة البرد .. وتقدمت وهي تتحسس بأناملها البيضاء الناعمة الجدران والأثاث في محاولة الوصول الى أمها.
جالت بنظرها الى الفضاء الفارغ حولها .. تتسمع الأصوات البعيدة .. أنها تقترب .. تقترب منها شيئاً فشيئاً حتى كادت أن ترى هالة الشر تُحاذيها.
إرتعبت. سالت من عينيها دمع يأس وهي تشتم رائحة الرصاص والموت .. أنها تقترب. وتجمّدت في مكانها.
أعادها الى الواقع أنين أمها في الغرفة البعيد عنها بخطوات. إنها حقا تحتاج أن تصل الى أمها.
لكنها لم تقدر. مرعوبة ترتعش بذاك الفستان الرقيق الوردي .. آخر ما ألبستها أمها قبل أن يستيقظ الأب من نومه. أرادت أن يرى أبنته الوحيدة في ابها حلّة، فهو لم يراها منذ أسابيع، وقد حلَّ ضيفا عليهم هو و بندقيته ليلة أمس. وسيرحل ثانيةَ هذا الصباح ..
نظرت الى فستانها الممزق. لم يعد زهريًا أنه أحمر كلون الدّم .لم تتذكر دم من؟!. كرهت هذه الرائحة جدًا ككرهها لهذه الأصوات البشعة في الخارج.
- ماما.. ماما!.
نادت بصوت يخنقه الخوف .. رباه أنها حقا تحتاج أمها ..
تهافتت الأصوات والصرخات حولها .. دخان .. نار .. ورائحة موت .. وبعض الذكريات ..
كأس حليب بارد .. هذا آخر ما أجبرتها أمها أن تشرب حين نظر اليها أباها:
- من اجلي حبيبتي اشربي اريدك ان تكبري و تصبحي صبية ..
حينها أردفت أمها قائلةً:
- وتتزوجي بطلاً .. صاحب قضية .. ليحب البندقية أكثر منكِ .. و يرحل عنكِ في كل مساء الى الموت .."
أختنقت الأم بالبكاء وسكتت.
لم تفهم شيئا وشربت الحليب وهي تراقب أباها الذي تشتاق له كل يوم، يحتضن في ألم أمها التي تعشقه بجنون ..
" أمي .. أمي ... أمي "
جمعت شتات نفسها الموجوعة المندثرة رعبًا منهم .. أنهم يقتربون وهي بعيدة عن أمها.
جمعت كل الشجاعة التي تملك في ذاك القلب الصغير وركضت بكل ما أوتيتّ من جهد الى أمها. أمها النائمة أرضًا .. هي أيضا تلبس فستانًا أحمر. تفوح منها رائحة الدم.
لكنها نطقت .. " ابنتي .. حبيبة قلبي .. لا تخافي تعالي في حضن أمك يا ملاكي .." سالت آخر دمعة من مقلتيها و هي تشتم رائحة ابنتها ..
ثم علا صوت الموت عاليا .. عمّ الظلام و الصمت المكان .. و إنطفئت الشمعة .