تصور لنا القاصة الفلسطينية علاقة حب ملتبسة بين معلمة مدرسة والبحر ورجل أحبته في الكتاب والانترنيت في لغة تشارف القصيدة من حيث الكثافة والصورة في محاولتها الوصول عبر شوارع مخيم إلى حافة الموج والزرقة مستعيدا لحظة كهذه من طفولتها البعيدة.

قريبا كحلم.. بعيدا كنجمة

منى أبو شــرخ

كيف قادتني الطرق لتلك المقبرة؟

"البحر نهاية قلبي" هذا ما كان حقا اكتشافي الأكبر لهذا اليوم رغم أنني كنت أُعِدُ نفسي لاكتشاف جديد من لؤلؤ ولوز، هدية تنتظرني خلف جدار من حزن و انكسار.

وجهتي البحر وقلبي وبعض فرح ، كيف وصلت لهذه المقبرة؟.

تركت طلابي ينتظرون درسهم لليوم في التربية الوطنية وتجاوزت بوابة المدرسة دون أن أعلم لنفسي طريق سوى البحر، ألمحه هناك في الأفق يرمي ظله الأزرق فوق كتف المدينة، يستدل به العاشقون نحو ذنوبهم المقدسة.

كل الطرق في غزة تؤدي إما للبحر أو للبحر، البحر هو دليلنا للحياة، للموت، للعشق، للرحيل، للبقاء، عندما عقدتْ غزة قرانها على البحر علِمتْ انه شريكها الوفي الذي ستثقله بخياناتها المتتالية دون أن يتأوه ولو لمرة واحدة، تعلم أن بعد كل خيانة سيبتسم في وجهها و يضمها في صدره و يغمرها بدفيء رمله، تعلم انه الوحيد القادر على كتمان أسرارها، وحده البحر لن يعرف له مهنة سوى أن يعشق غزة، لأنها هي أيضا خلقت لتكون تحت أقدامه جارية الأبد، و رفيقة الخذلان.

كانت عيناي معلقتان نحو ذلك الخيط الأزرق الرفيع، الذي اخذ يتسع شيئا فشيئا، علمت حينها أنني اقتربت بعد أن تجاوزت أزقة المخيم ووجوه العابرين نحو الخبز والحياة، يا إلهي، أين النساء هنا؟، كيف استطاعت الحياة أن تتخفى خلف جدران من تعب؟!

أذكر جيدا هذا الشاطئ، كان عمري  أربعة سنوات عندما وقعت عيناي عليه،  وقفت في هذه النقطة تحديدا، أصابتني الدهشة والذهول، و منذ تلك اللحظة وقعت بغرام البحر، ولم تغادرني أبدا تلك الموجة الزرقاء عند المغيب و هي تتمدد تحت قدميّ و تودِعُ  قلبي الصغير أسرارا عن تاريخ قادم من الخيبات!

يخبرني البحر المذهول من صمتك أنك لا زلت تقف عند آخر حرف من قبلة بيننا، و أنك لا زلت تحاول ترتيب مساءك خجلا دون وجهي، يخبرني عن مقبرة على بعد دهشة و بعض شغف، وأن الله الآن يحبنا أكثر مما مضى لأنه أودع سره في قلب عاشقين يغزلان ذكرياتهما من لؤلؤ و نجمتان و قمر وحيد!  

هل أهذي قليلا لو أخبرتك انك طرقي الأجمل إلى الله!

 تتشبث خطواتي بطرق المخيم و أزقته تماما كما يتشبث خالي الثري ببيته هناك، لا لشيء سوى ذكرى رحيل لم يشهده، هكذا نحن أبناء المخيمات، نمارس نكبتنا الخاصة التي لم نشهدها، و نجلد ذاكرتنا بذكريات لم نعشها، تلقفناها من أفواه الجدات المسنات، و سنرددها لأحفادنا كأنها ذكرياتنا الخاصة و ننسى حياة مديدة نحياها هنا.

لن أفعل ذلك...!

لن أخبر أحفادي إلا عنك وإن كان لهم جذر غيرك!

سأخبرهم عن رجل قابلته يوما بين دفتي كتاب، وعندما أفلت من بين يدي مؤلفه، أصبح يلمس أحلامي و يؤلف لي ذكريات للزمن القادم..

أهذي .. أليس كذلك..!

 سأظل أمشي وأمشي في الشوارع لا أهتدي سوى بالبحر، و عندما يتوه مني أكتشف أنني عشت خمس وعشرين عاما في مدينة لم أكن أعرف أن فيها بيوتا تلاصق الموج لدرجة أنه لا يمكنني السير على الشاطئ، وأن امرأة تستطيع الشموخ بقامة غزية تكاد تكون حصرية على النساء الغزيات فقط فوق جرف بجانب بيتها المطل على أمواج البحر، وحدها، تضع يدا واحدة خلف خاصرتها، و تحدق بعينين قويتين في الموج كأنها تلقي عليه أمرا بالتراجع.

أحب نساء غزة!!

حاولت الرجوع للشارع الذي قادني بعيدا عن البحر ربما أجد طريقي في التفريعة الجانبية منه، لكن ذلك الشارع الفرعي قادني لمربع نظيف تحيط به المنازل من  ثلاثة جهات و تترك الرابعة لتحاذي الشارع الرئيسي في المخيم، توجهت لفتحة صغيرة بين بيتين في الناحية الغربية من المربع، لعله يقذف بي لإحدى الموجات، لكني وجدت نفسي وسط مقبرة، تطل عليها نافذة تبدو لغرفة نوم، و رائحة طعام شهي تفوح من المنزل الملاصق للمقبرة، لا، ليس ملاصقا، المقبرة جزء من المنزل!

لا مفر..

النهايات هي نفسها النهايات

مهما حاولت أن اصنع لقصتنا نهاية أجمل، سيبقى وجهك يخدش سطع  ذاكرتي.

 تسمرت أمام أحد القبور دون أن أعي ما أفعل، روحي غارفة في ضوئها الأزرق، تحاور ظلك، و تتشبث بصلاتها التي أصبحت بذنوب حبك أجمل، أجد نفسي وسط مقبرة كنت أقف على بعد أمتار قليلة منها أسكب هواجسي في البحر طيلة أعوام كثيرة من عمري، لأجد الموت ينتظر هناك، عند الطرف الآخر من الذكرى!

لا..

لن تكون هذه النهاية..

علمت يوم رأيتك أول مرة أن لي معك حكاية تنتظر نضوج التفاح داخلي كي تعلن عن نفسها حكايتي الأجمل .. لن تكون هذه نهايتها!

خرجت من المقبرة بسرعة و اتجهت شرقا في اتجاه الشارع الرئيسي لأجد نفسي قريبا من شارع عمر المختار، كنت خارج المخيم، لكنها إحدى الوصلات السكانية التي تبدو من الوهلة الأولى وكأنها جزء منه، وهناك تحديدا الصخرة التي لم تشتكِ يوما من ذنوبي، ولم تتصدع من حماقاتي، كما هو حضنك تماما عندما احتواني أول مرة، وكما هي قبلتك الأولى التي باءت بالفشل، لك أن تفكر كما تشاء، فأنت لست بحاجة لي، لكني امرأة وحيدة تركت طلابها يعبثون بمستقبلهم لتقابل رجلا تعتقد أنها تحبه لمجرد أنها رأته داخل كتاب، وحادثته طويلا في شبابيك من خيوط عنكبوت و فضاء يسمونه الانترنت، في مدينة يتحجر فيها كل شيء بسرعة و يتكلس، حتى هزائمنا، سريعا ما تصبح تماثيل انتصار!

 

فلسطين – غزة  6-1-2013