يضيء الناقد الفلسطيني المرموق كتابا يتطرق لسيرة "العظمة" وجنونها والتي دفعت ب"القائد الأوحد"، الديكتاتور المريض، الى الاستبداد. الكتاب يتطرق لحقبة القذافي الطويلة والتي رسم فيها تاريخ ليبيا المعاصر، ومن خلالها نقترب من أبعاد شخصية القذافي النفسية، شخصية "الطاغية" المريضة المستبدة والتي تميل الى التدمير والقتل بل ونهج أسلوب يدفع بالجميع الى الهاوية من أجل مجده الشخصي، الكتاب يضيء هذا المسار ويعيدنا الى رسم بورتريه لأكثر المستبدين إثارة للجدل في حياته ومماته.

«القذافي البداية والنهاية»: بحث عن الزمن المفقود في ركام دمار القائد الأوحد

إبراهيم درويش

وصف الكاتب الليبي المعروف احمد ابراهيم الفقيه مرة مدينة طرابلس في روايته «نفق تضيئه امرأة واحدة» وهي الجزء الثالث من ثلاثيته المعروفة بالمدينة الحائرة التي لم تعد قرية ولم تصبح مدينة، لا هي شرقية أو غربية، لا تعيش في الماضي أو في الحاضر.  طرابلس كما قال هي مدينة معلقة بين البحر والصحراء. طرابلس مدينة تعيش مأزقها التاريخي منذ ان تخلت عن طبيعتها القروية وفشلت في اكتساب طبيعة جديدة. وقد شرد الكاتب كثيرا في ذكرياته ونواحه على مدينته- العاصمة التي كانت عاصمة ولا عاصمة، وقال إنها فقدت رونقها أو أفقدت هويتها بعد «أن انتهى الزمن القديم بأفراحه البدوية وحلقاته الشعبية التي تعقد في الاسواق وموالد الأولياء وحفلات ختانه وأعراسه وبيوته المتداخلة المندمجة في بعضها البعض، وقد اكتظت بسكانها الذين يصنعون لكل مناسبة عيدا، وباغتها زمن جديد لم تكن مهيأة له أو راغبة في أساليب حياته العصرية، فرفضت الانتماء إليه وظلت معلقة بين ماضيها وحاضرها لا تجد شيئا تنتمي إليه أو ينتمي إليها، تنظر بريبة وخوف الى العالم الذي يحيط بها، أخذت من العصر الجديد شبكات الطرق الإسفلتية التي تحرقها الشمس وصناديق العمارات التي تسفعها الريح وتتكدس حولها الأتربة ويسكنها بشر خرجوا من خباء القبيلة ولا يعرفون التعامل مع جيرانهم الذين جاءوا من قبيلة أخرى إلا بمنطق النظرات المذعورة التي تطل من وجه إنسان مشنوق، ثم ركام هائل من الحديد الذي يقذف به البحر على شواطئها كل يوم، في شكل سيارات ومصاعد ومطابخ ومدافع وأسياخ، تصنع منها منصات الخطابة ومع ذلك فقد ظل هذا الجديد شيئا لا تقوى على الاقتراب منه حتى أدركت أن بعضه ضروري لاستكمال شكلها الحضاري، فان قلبها البدوي يرتعد عندما يأتي ذكر الاندية والمسارح والملاهي والحانات والمكتبات وقاعات الرقص ومدن الالعاب ومراجيح الاطفال ودكاكين الورود وجمعيات الرفق بالأطفال والأشجار والطيور ومستشفيات القطط والكلاب…»، يستعيد الفقيه هذه التعويذة أو المناحة عن المدينة المسروقة من زمنها وتاريخها في كتابه الجديد «القدافي من البداية الى النهاية».
وليد اللحظة
وعلى ما يبدو فالكتاب وليد ظروف الثورة الليبية إذ أنه يتميز بدفقة عالية من الغضب والتكرار أحيانا، الغضب على ما حل ليس بمدينة طرابلس التي يقول أن العقيد القذافي كان يكن لها الكراهية الشديدة بل على ما حدث من تشويه على نفسية الليبيين. وعبارة كراهية القذافي لطرابلس أو أية مدينة أخرى سمعناها من آهل بنغازي الذين قالوا أن القذافي لم يكن يحب مدينتهم، وترك شوارعها كما كانت عليه منذ أربعين عاما، بل إن أحد المعارضين الذين عادوا اليها بعد الثورة قال أن الشارع أمام بيته لا يزال على حاله كما كان منذ
30 عاما حيث ترك ليبيا مهاجرا الى بريطانيا كلاجىء سياسي. ولعل الاثر الاكثر سوءا الذي تركه القذافي على الشعب الليبي انه لم يدمر المكان ولم يصحر الشعب الليبي او «يبدونه» بل دمره نفسيا. وتركت العقود الاربعة الاخيرة على الشعب الليبي اثارها العميقة، فهذا الشعب الذي ارتبط ذكره بالزوايا الصوفية المجاهدة والمقاومة للاستعمار الايطالي، والذي ارتبط تاريخه بالقوافل القادمة من قلب افريقيا الى البحر المتوسط وكونه حلقة وصل بين المشرق العربي والمغربي العربي تحول في العقود الاربعة الى حطام ومختبر تجارب مارس من خلالها الزعيم الذي قدم نفسه على انه سادن القومية العربية، والمفكر العالمي وصاحب النظرية الثالثة والذي يملك الحل الاقتصادي لمشاكل البشرية، صاحب الطريق الثالث، وحكيم افريقيا في اخر ايامه وملك ملوكها، دمر هوية الشعب الليبي وأطاحت ممارساته المزاجية بصورتهم حيث كان الليبي المفاخر بتاريخه يشعر بالخجل من نفسه عندما يربط وطنه بهذا الشخص المتقلب النزاعات. حتى من كانوا يمثلون هذا الوطن المتماهي مع البحر والصحراء والتاريخ الممتد الى عصور سحيقة والذي اخرج اباطرة وأبطال ملاحم في التاريخ كانوا يرون كيف دمر العقيد ما تركته الانسانية له باسم العودة للصحراء التي جاء منها حافيا وعاد اليها حافيا وخائفا ومرعوبا عندما وقع في ايدي الاجيال التي درست في مدارسه وتعلمت اغنية واحدة طوال عمرها «يا معمر يا الغالي».

البحث عن الأصيل
ومن هنا فكتاب الفقيه هو مديح للزمن المفقود في ليبيا ونواح على الاطلال التي دمرها العقيد في نزعاته الغريبة تحت مقولة «أكره المدينة»، فصاحب الخيمة الكبيرة، أراد أن يبعد طرابلس عن البحر ويحجزها عنه بأفكار لم تجد قبولا من أي معماري عاقل كي ينفذها، ودمر باسم الحرب على الآثار الامبريالية معالم تاريخية وأثارا من العهد الملكي وما بناه الطليان من صروح جميلة أصبحت بعد كفاح الليبيين ملكهم وارثهم التاريخي لأن الطليان أقاموا هذه الصروح بسواعد وتراب الليبيين. كما دمر زوايا تؤشر لانفتاح المدينة على القادمين إليها من الشرق والغرب والجنوب ومن البحر من العلماء والأولياء الصالحين، مثل زاوية الكتاني ومسجد مولاي محمد التي دمرها وأقام مكانها كتلا من الاسمنت لم تكن بصورة ما دمرته البلدوزارات التي كانت تحل ضيفة بدون «إحم أو دستور» وتهدم تاركة الما في القلوب ودموعا في العيون. كان الزعيم كما يشير كتاب الفقيه يكره كل شيء الرياضة او كرة القدم التي كان يراها لعبة المغفلين حيث أرسل مرة حرسه لإطلاق النار على مباراة كانت بين ناديين سيطر عليهما أبناه، محمد والساعدي حيث حار الليبيون دائما ماذا يفعلون ولكن الزعيم قرر حسم الأمر بطريقته فقتل من قتل من الحضور وبهذا أغلق نوادي الرياضة، وحرب القذافي لم تكن على الرياضة بل على الفن والأدب حيث أغلق النوادي السينمائية أو قل صادر بعضها وحولها الى مؤسسات حكومية، أما المسارح ودور السينما والمكتبات العامة فلم تكن في وارد أو انشغالات الزعيم طالما لم تصب في رؤية تمجيد البطل أو تأكيد هوية البطل المعبود من الجماهير. كما وخسرت ليبيا التي شهدت ميلاد صحافة ثرية منذ العهد العثماني وفي أيام الملكية منجزاتها التاريخية في سياق الانجاز الصحافي العربي عندما صادر العقيد ممتلكات هذه المؤسسات الصحافية ودمجها في مؤسسة واحدة. ولأن ليبيا لم تكن تصدر سوى عن شخص واحد فقد حرّم «النجومية»، ومن هنا فلم يكن متاحا أمام فنانين أو مغنين، فقد اضطر اصحاب الحناجر الجميلة وفي ظل حرب العقيد على النجومية الموت صمتا والتلاشي في ضوضاء وغبار الحياة التي صنعها العقيد لنفسه، أحدهم مات بالسكري وأخر بالمرض الخبيث دون أن يكون قادرا على تمويل العلاج، واضطر احدهم للعمل كسائق شاحنة وأخر كمؤذن. بل كان بعض أصحاب المواهب يجدون أنفسهم اسرى في سراديب لأسباب لا يعرفونها كما حدث لكاتب الاغاني مسعود القبلاوي الذي سجن عامين ثم اعتذر له بان سجنه كان خطأ وانه سجن لمجرد وشاية كاذبة، كما ورط النظام الفنان محمد الزواوي بالسجن في تونس حيث حشرت أجهزة الأمن الليبية اسمه في قضيه واتهمته بتهديد الامن التونسي.  ولعل جناية القدافي على الادب والثقافة في لبييا جاءت كما يشير الكاتب من فكرة عدم السماح لأي صوت بالبروز وكراهية العقيد لأي نوع من أنواع الادب تحت ذريعة أنه امبريالي أو غربي حيث الغى عند مجيئه للحكم مشروع مجمع ثقافي كان تحت الانشاء يشبه مركز بومبيدو في باريس . ويقول أن احد المثقفين الليبيين عاش حياته وهو يطارد حلما ببناء مركز ثقافي في العاصمة، وطاف الأستاذ الطاهر الشويدي كل المراكز المهمة في العالم كي يستفيد منها في بناء خطط المركز، وكلما كان يقترب من حلمه كانت يد خفية تلغي المشروع. وهي نفس اليد التي كانت لا تحب صعود الليبيين على المستوى الدولي وحضورهم في المؤسسات الثقافية العالمية مثل اليونسكو أو العربية مثل الاليسكو، حيث كان يجد المرشح الليبي وهو الأحق بالمنصب نفسه امام قرار من طرابلس يحيله عن عمله او ينقله الى مركز أخر وفي الوقت الذي حارب فيه المسرح والسينما والفن لدرجة انه لم يظهر في ليبيا أي فنان حقيقي من الداخل باستثناء من فروا بروحهم للخارج وواصلوا ابداعهم ومع ذلك لم يسلموا من شره باعتبارهم من الكلاب الضالة حيث لاحقتهم كلاب مخابراته فانه حول ليبيا كلها لمسرح عبثي يشهد الليبيون كل يوم مشهدا هزليا منها سواء أكانوا في الشوارع او يلاحقهم في ارزاقهم باعتبارهم مندسين او يدمر بيوتهم ومراكز معايشهم. بل وحرم عليهم البهجة والمتعة، فمن مشاهده الهزلية عام 1989 عندما حرم 30 الف متفرج احتشدوا في الملعب البلدي لمشاهدة تصفيات كأس العالم بين المنتخب الليبي والجزائري ليطلع عليهم صوت المذيع يخبرهم الغاء المباراة لان «الأخ العقيد» وانطلاقا من مبادئه القومية قرر الغاء المباراة لأنه يرى انه لا يصح للعرب التنافس في المباريات وأهدى المباراة للمنتخب الجزائري، وبنفس السياق كان المتفرجون يجدون أنفسهم احيانا تحت رحمة كتائبه التي كان يرسلها للملاعب لشحن المتفرجين عنوة في واحدة من نزوات عسكرة المجتمع الليبي، وينقل الكاتب عن احد اصدقائه ان العقيد ارسل كتائبه للإذاعة والتلفزيون وقاموا بضرب المذيعين والمذيعات بالهراوات.

محاربة المكان
يضيء الفقيه الكثير من الجوانب التي لم تكن معروفة عن الحرب التي شنها نظام العقيد على الثقافة والمثقفين وعلى الفضاء الليبي بشكل عام، فطرابلس مثلا التي بدأنا بالإشارة اليها ظلت عاصمة ولا عاصمة، فهو اي الزعيم حاول نقل العاصمة اكثر من مرة الى الجفرة او سرت التي بني فيها مركزا ضخما «واجادوجو» والذي لم يكن يستخدم سوى مرة واحدة لاجتماع القمة الافريقية وانفق عليه الملايين بدون جدوى. وما اجبر القذافي على البقاء في المدن التي يكرهها هو رفض البعثات الدبلوماسية الانتقال لأنها تريد ان يستقر العقيد على رأي ويضع مخططا مقرونا بخطة زمنية، وتريد أن تكون قريبة من المطار الدولي والميناء كي تتحرك ويتنقل موظفوها. ولا بد من الاشارة هنا الى أن مقولة القذافي عن كراهية المدن تعني « الهدم والتخريب»، فمن ضمن جرائمه هدم مقر المصرف العقاري الليبي الذي يقول الكاتب أن المهندسين المعماريين تفننوا في جعله تحفة فنية، واستعاروا له لوحات فسيفسائية من المتحف الليبي وانفقت الملايين على صيانته، وتحسين مرافقه ووضعت كل الملفات والكتب على رفوفها، وكما هو الحال بدون إنذار أرسل الحاكم الناهي الجرافات وهدمت المكان على ما فيه وضاعت قطعة من تاريخ ليبيا، ولم يقف مسلسل الهدم عند الآثار الدينية مثل مسجد مولاي محمد بل حاول هدم مدينة طرابلس القديمة التي تعتبر من ضمن التراث الانساني والمسجل في اليونسكو، وجاءت عملية الهدم أو «التطوير» تحت ذريعة ضيق الازقة وعدم استطاعة سيارات الاسعاف دخولها، ولولا هبة مثقفي ليبيا وصرخاتهم لضاعت المدينة القديمة، وتوقف معاول الهدم لكن المدينة آلت للإهمال والتفسخ. جاء القذافي للحكم وعاصمة البلاد تعتبر من انظف مدن العالم وتركها خرابا بعد ان شن حربا على أهلها وقتل الالاف. وكتاب الفقيه يحتوي على صور أكثر فداحة لكنني أجد نفسي مسوقا للحديث عن جنابة القدافي على الحياة الثقافية في ليببا حيث كانت العاصمة والمدن الاخرى تحتوي على مراكز ثقافية لكن « الحاكم الذي عهد الى نفسه أن يكون هادم اللذات ومفرق الجماعات وميتم المسرحيين والمسرحيات والفنانين والقنانات لم يحارب الفن فقط بحجب الميزانية عن ادارات السينما والمسرح والموسيقى ولكن طارد هذا التراث المعماري» من المسارح ودور السينما، فقد احال مسرح الغزالة الى مخزن للتربية والتعليم، ثم هدمه قبل أن يزول حكمه، ونفس الامر فعل مع المجمع الترفيهي الذي أراده صاحبه ان يكون متنفسا للحياة في طرابس فحوله الى مركز لاجتماعاته العسكرية وحوله الى «قاعة الشعب»، وواجه مقر مجلس الوزراء الذي كان تحفة فنية بما فيه من فسيفساء وجدرايات ولوحات، وهدم فنادق مثل المهاري وغراند هوتيل والوديان، ومكتبة الاوقاف وقاعة المطالعة العامة، ولم تقف جنابة القدافي على الفضاء بل لاحق كل كتاب يتحدث عن الحزبية أو يناصر الرأسمالية أو نظم اوروبا السياسية وحرم دواوين نزار قباني وروايات احسان عبدالقدوس وأقيمت تلال من هذه الكتب وأحرقت في الميادين العامة، وطال سوء الطالع الفيلسوف المعروف عبدالرحمن بدوي الذي كان يدرس في الجامعة الليبية في بنغازي حيث أخذت كتبه للمحرقة واقتيد هو للسجن ولم يخرج إلا بوساطة من السادات حيث كان كل طلب بدوي هو استعادة جوازه ونقله للمطار مباشرة متنازلا عن محتويات بيته وكل ما لديه من حقوق لدى الجامعة. وكان بدوي ضحية ثورة القذافي الثقافية وهي واحدة من ثوراته الادارية وإعلانه الجماهيرية «العظمى» الذي كان ممثلوه يجدون حرجا عندما يتم توقيع اتفاقيات دولية مع دول عظمى حيث يتساءل مسؤولو هذه البلاد عن مدى عظمة ليبيا وموقعها من الاعراب.

مات مصعوقا
يصدر الكاتب في تحليله لحقبة القذافي الطويلة من تاريخ ليبيا المعاصر عن محاولة لفهم ابعاد الشخصية النفسية للقذافي والطاغية المستبد السايكوباتي ويلح في ربط تصرفات العقيد الميالة نحو التدمير والقتل والاعتماد على الحثالة من ابناء شعبه، ولهذا هناك ارتباط واضح بين الفساد والقمع، فالطاغية يحتاج الى شعب كالعاهرة المستسلمة لزبونها مقابل ثمن زهيد، ولعل ما يفرح الزعيم هو ان يجعل الشعب يفرح لهزائمه، ويستعين الديكتاتور المريض نفسيا على البقاء بكاريزما عالية تجعل الناس يسيرون نحو حتفهم على الرغم من ان طغاة اوروبا في بداية القرن العشرين كانوا اكثر جاذبية لجماهيرهم من حكام عرب كما يرى كاتبنا، ويخدم الديكتاتور شلة من الكتبة والمؤلفين واصحاب الاقلام المأجورة الذين يتقاضون اثمانهم على اعمالهم التي يقومون فيها وفي حالة الزعيم الليبي هناك من وصفه برسول الصحراء واخر وصفه بالاسطورة الحية كما في العمل الاوبرالي الذي قدمته الاوبرا الانكليزية وحصل كاتبه الهندي على ملايين الدولارات مقابل هذا العمل. وعلى العموم فالقذافي في سيرته كحاكم لبس قناعا اخاف من خلاله شعبه، وطلع عليهم خلف البهرجة والالبسة والوجوه المتعددة من اجل مواصلة سيطرته على عقل الناس وعندما تعرى الطاغية من ملابسه وكهنوته العالي بدا عاريا امام شعبه بدون حام. ومن هنا لا يهم الكاتب الطريقة التي قتل بها القذافي وان تأثر الكثيرون بمشهده المدمي وطالبوا بالتحقيق فكما يقول «ولكن ثوار ليبيا لم تكن تهمهم حقيقة كيف يموت ومتى سيموت لأنهم كانوا فعلا يؤدون مهمة ويقومون بتقديم رسالة لهذا الطاغية مرسلة من مئات ألاف الضحايا، وكان لا بد من ان تصل اليه وبقوة ودون تأخير»، كان على القذافي كما يقول الفقيه ان «يموت مصعوقا بالدهشة قبل الموت من اثر الرصاصة لأنه لأول مرة يرى دمه وليس دم ضحاياه هو المسفوك هذه المرة، ونهايته وليست نهاية خصومه هي التي ترتسم بحروف من دم امام عينيه»، وهنا لا بد من التذكير ان الفقيه يقدم جردا لحالات وتطورات العقيد وانقلابه الذي يرى انه مدبر من السي اي ايه، وان عمالة سادن القومية العربية واضحة، وينقل ان القذافي منذ ولادته كان مسكونا بروح الشر لدرجة ان وليا صالحا لم يكن راغبا برؤيته، كما يشير الى ان الجدل حول اصول القذافي، وان والد العقيد لم يكن مجاهدا ضد الطليان بل كان رجلا قد حاله وعمل مع الطليان او البريطانيين طوال حياته «طوبجي». في تشريح طبائع الاستبداد عند القذافي يقدم الفقيه اكثر ما يقدم كم قتل القذافي من شعب ليبيا في ادغال اوغندا وجنوب السودان وفي النبطية في لبنان عندما كان يوزع عربة تموين على عائلات ضحاياه ممن سقطوا في الواجب الوطني لإقامة العزاء، وكم بذر من اموال على كل قضية خاسرة وحركة ثورة لا ناق له فيها ولا بعير، وكم خسر من اراضي ليبيا عندما احرق مكتب السجلات القومي وبهذا اضاع حقوق الشعب والوطن خاصة ما حدث في الخلاف مع تشاد والنزاع على اقليم اوزو. وتبدو ليبيا في عهد القذافي مثل مسلخ للبشر، وقتل يومي وإعدامات في الساحات العامة، وبلد يتحول فيه المخبر والمراسل الى مدير جامعة، واللافت ان عملية الهندسة المشوهة على البشر والمؤسسات طالت كل شيء إلا صناعة النفط التي من خلالها قام القذافي بالسيطرة على ليبيا والليبيين. ومهما يكن من امر فقد اضاع القذافي خلال اربعين عاما من ثورة الفاتح أمة وقتل وحرق في السجون واسقط طائرات وحول البلاد الى سجن كبير، وليبيا الخارجة من زمن القذافي وان اكدت على الانتقام من الزعيم فهي لا تزال تعيش حيرتها بين الماضي والحاضر، وعندما تختفي البنادق من الشوارع ويرمي الثوار السلاح ويعودون للحقول او المدارس ويصبحون اناسا عاديين ويعلمون ابناءهم الحب والغفران فستتوقف ليبيا عن ربط اللون الاخضر بالكتاب الاخضر بالراية الخضراء التي كانت ترمز لجماهيرية لم تكن، وتنسى كل شيء مرتبط بالعظيم المزيف لأنها تعرف ان هناك عظيما واحدا وأعظم وهو الله.

 

القذافي البداية والنهاية، أحمد ابراهيم الفقيه، بيروت- 2013