من خلال الإبحار في عوالم الأطبيوغرافي للناقدة العربية المرموقة وكتابها الصادر حديثا عن دار الآداب ببيروت، نتوقف عند مسار طويل من الكتابة ودربة الخطاب، رغم أن الكتاب/ السيرة يبحر في أقانيم متعددة، حيث يلتئم التاريخ مع الأدب مع النقد مع الأمكنة و..تفاصيل أخرى تسبك بحس روائي وتخييلي عبر استعادة محاكاة حميمية للذات.

يمنى العيد تكتب سيرتها الذاتية

محاسـن عـرفـة

في نصها “أرق الروح” الصادر عن “دار الآداب” بيروت،  تكتب الكاتبة والناقدة اللبنانية يمنى العيد سيرتها الذاتية، عبر استعادة محاكاة حميمة للذات، وتوجز الكاتبة في صفحات سيرتها الـ247 حياة حافلة بالعطاء الثري والسخي،  تستنطق الماضي، وتبحث عن الهوية والجذور، في روح حساسة ومتوثبة للقبض على أحداث مفصلية من الأمس لليوم. السرد الذي عنونته الكاتبة بوصفه “سيرة”، لا يغيب عنه الخيال الروائي الخصب، الذي يمحو الحدود بين الأنواع الأدبية، معتمدة على عدة تقنيات في السرد منها القطع، والفلاش باك، وعرض وجهة نظر الكاتب، وأيضا لعبة الضمائر وسواها.

 حين نتذكر
الناقدة يمنى العيد هي أستاذة جامعية في النقد الأدبي الحديث، ولها عدة كتب في النقد، كما أنها على اطلاع تام بخصائص المنهج الأدبي وما يمثله من قواعد وقيم فنية. هل في الكتابة عن الماضي خيانة؟ يحق لنا طرح هذا السؤال، حين نقرأ العبارات الأولى التي استهلت بها الكاتبة سيرتها قائلة : “سوف أخون زمني الماضي،  أقول، كلما فكرت في الكتابة عنه. فالزمن مفارقة مستمرة لذاته، إنه حركة لا يمكننا أن نستعيد إيقاعها ولغتها. ثمة خيانة نقع فيها حين نتذكر، فالتذكر لا يخلو من تخييل، والتعبير لا يخلو من ابتداع.. هي خيانة ولكنها جميلة”.

توجز هذه العبارات، ما يحمله هاجس الكتابة عن الذات من ألم، لا يمكن التجرد منه بسهولة، وبين ثنايا هذا الألم ثمة تشكيك في ما يمكن أن تقترفه الذاكرة من خيانة، لكنها خيانة مخلصة للذات، ترغب في أن تكشف الآخر والعالم، بغية الوصول إلى العصب الأساسي للروح.

الاسم والهوية
منذ البداية وتحت عنوان ” أكثر من حكاية” تطرح الكاتبة سؤالها الوجودي والجوهري الذي يلخص كل تساؤلاتها : ” من أنا؟ هل أنا حكمت أم أنا يمنى؟”

هذه الهوية المتراوحة بين اسمين: “حكمت” الذي فرض على الكاتبة فرضا، من قبل العائلة التي أرادت لها اسما ذكوريا، يعوض الأم خسارة إبنها (عبد الحليم)، أما الأب فقد اختاره بسبب حنينه إلى مرحلة الحكم التركي، هو الحاج الذي تعلم التركية في صغره، ثم شهد الانتداب الفرنسي وكان غاضبا لوقوع لبنان تحت حكم دولة لا يربط المسلمين بها دين، وهي إذ تحكي عن علاقتها مع اسمها الذي اختاروه  لها تقول : “طفلة لم آلف اسمي،  ولم استسغه يافعة” ص14. وكان الاسم الثاني الذي اختارته لنفسها عندما كانت موظفة في وزارة التربية،  لمواجهة القرار الذي يقضي بمنع الموظفين من الكتابة بلا إذن مسبق، من هنا جاء اسمها الجديد ” يمنى العيد” و لم يبق مجرّد اسم لجأت إليه، بل أصبح ذاتاً مستقلة، لها انتاجها الأدبي، حيث الآخرون لا يعرفون حكمت صباغ، بل يمنى العيد، الكاتبة والناقدة، وربما لهذا السبب تأتي الآن يمنى لتطرق باب “حكمت” وتسألها عن الماضي، وتطالبها بالبوح.

تكشف الكاتبة عن العلاقات العائلية في محيطها، ترسم صورا لأفراد عائلتها بعاداتهم وصفاتهم النفسية، فأمها منيرة تقية وورعة، أبوها الشيخ علي المجذوب الصبّاغ ذو جذور مغربية لأن جده قدم من مدينة فاس، خالتها منيفة، عمها رشيد الذي مات شاباً والذي كان يختبئ في البئر هرباً من الأتراك والخدمة العسكرية، أما  عبدالقادر عمها وزوج خالتها الذي يعمل في الدكان مع أبيها، فمشاعرها نحوه ملتبسة، فهي تحس أنه يضمر غيرة خفية من أبيها. هناك أيضا أمين إبن العم الذي مات في فتوته والذي ظلت تذكره مع مسحات من الحزن.

جاء العسكر
تهدي الكاتبة ” أرق الروح” إلى مدينتها (صيدا)، وهذا الإهداء الذي ينطوي على كثير من الدلالات في التعلق بمكان الطفولة الأول، يستمر على مدار النص إذ تتوقف الكاتبة خلال سردها الذاتي أيضا عند أحداث مهمة في تاريخ لبنان، فتحكي عن دخول القوات الإنكليزية والفرنسية والأسترالية مدينة صيدا، ثم تحكي عن نهاية الحرب العالمية، وعن وجود لبنان تحت الانتداب الفرنسي،  لنقرأ “سمعت أبي يقول بهدوئه الذي نعرف، راح العسكر، جاء العسكر. دفعنا للتركي ليراتنا الذهبية حتى يعفينا من حربه وحاندفع للفرنساوي والإنكليزي حتى يعفينا من حاله” ص 38. تحضر ذكريات مدينة صيدا في أكثر من موضع على مدار الكتاب، من القلعة البرية، إلى هضبة الموريكس، والشاطئ البحري، إلى البساتين ومعبد أشمون، وبين ذكريات الكاتبة عن المدينة، تطرح قضية هامة جدا تتعلق بارتباط اللبنانيين بتراثهم الفينيقي، لكن يمنى العيد تقف مواجهة هذا الارتباط، مصرة على الانتماء إلى جد عربي،  ينتمي إلى شبه الجزيرة العربية.

ولم تحدث هذه المواجهة بين الكاتبة وذاتها إلا إثر تعرضها وهي شابة يافعة إلى الإصابة برصاص الانتداب الفرنسي حين تم إطلاق النار على مجموعة من الفتيات الشابات خرجن في مظاهرة مطالبات بالاستقلال في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1943، فقتل منهن من قتل، أما الكاتبة فقد أصيبت في ساقها وكان من الممكن أن تُبتر تلك الساق لولا تدخل الطبيب في اللحظات الأخيرة، ليوقف البتر.

تقول: “دفعتني إصابتتي برصاص الانتداب الفرنسي إلى تعزيز انتمائي إلى جد عربي، من الشرق، من شبه الجزيرة العربية، جد عربي لا تعترف كتب التاريخ التي تفتح وعيي على الدراسة فيها، بأي جذر آخر له، وخاصة الفينيقي” (ص 59)

بيد أن سيرة “أرق الروح” تنطوي أيضا على كشف حقيقي لمحاربة التعصب، فالكاتبة التي تنتمي إلى الفكر اليساري تعترف أنها تكره “التعصب، والتفرقة،  والمذهبية”ص194،  ويتضح هذا من مواقفها الحياتية خلال ممارستها للتدريس للبنات في المرحلة الثانوية، وتستمر هذه المرحلة من حياتها، حتى حصولها على منحة لمتابعة دراستها في “السوربون” لنيل شهادة الدكتوراة.

ولعل ما يجدر التوقف عنده في سيرة “أرق الروح” هو تلك الرؤية العميقة إلى الحياة التي تمتلكها الكاتبة، وهذه الرؤية تعبر عنها الكاتبة جيدا في رغبة الكتابة، فالسفر، والدراسة، والزواج، والأولاد، من وجهة نظرها،  شكل من أشكال إبداع الحياة، لكن الكتابة “حياة ترنو إلى المجهول” (ص 203). ولعل هذه الرغبة في الكتابة، هي التي جعلت يمنى العيد ترفض حمل السلاح حين كانت منتمية إلى الحزب الشيوعي بل ردت قائلة: “لن أحمل السلاح،  قلمي هو وسيلتي للنضال السلمي، السلاح فقط ضد من يحتل أرضي، ووطني” (ص 220).

تنضح سيرة “أرق الروح” بالحنين، وبالأسئلة، وبالمواجهة، ليس للذات فقط، بل للوطن، وللعروبة، وللتاريخ. سيرة تختمها الكاتبة بكلمة “وداعا” تقولها لمدينتها صيدا، ولأبيها،  ولبيتها القديم، والأهم لاسمها الأول الذي تعترف أنه أتاح لها أن تكون كاتبة.