الجيش والأجهزة الأمنية والنخبة السياسية، تلك هي مداخل فهم الثورة المصرية ضد نظام حسني مبارك وهي إحدى القراءات الممكنة اليوم لفهم ماجرى في يناير 2011. ومن خلال هذا الكتاب القيم للباحث المصري يمكننا تلمس وفهم الصراع الذي يحدق اليوم، رغم أن الكتاب قد أغفل الدور الأساسي والجوهري للشعب في تحرير الوطن من مغتصبيه ومستبديه.

الثورة المصرية: صراع الأقنعة مستمر

غولاي تركمان درويش أوغلو

من الصعب فهم الثورات، ناهيك عن تقوقعها، والثورة المصرية الأخيرة ليست استثناء. في كتابه “الجنود والجواسيس ورجال السياسة : طريق مصر إلى الثورة” يقدم حازم قنديل، المحاضر في قسم علم الاجتماع من جامعة كيمبردج، الثورة المصرية باعتبارها آخر حلقة من مسلسل الصراع على السلطة بين أهم مكونات النظام المصري الاستبدادي.

عندما ثار المصريون في كانون الثاني/ يناير 2011 ضد النظام الديكتاتوري لحسني مبارك، أخذ العالم على حين غرة ، فلم نولي اهتماما يذكر للسخط المتنامي في مصر إلى ذلك الحد؟، وحتى أولئك الذين أولوا اهتماما لم يتوقعوا أن تتحول هذه النقمة إلى انتفاضة بمثل تلك القوة. عندما انهار نظام مبارك في أقل من أسبوعين، طرح المعلقون السؤال نفسه: بعد ثلاثين عاما من القمع في ظل حكم مبارك، ما الذي جعل المصريين يثورون في يناير 2011 ؟ ما هو المحفز لهذه الثورة السريعة؟

منذ ذلك التاريخ كتبت مئات المقالات وعشرات الكتب في محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة. واعتقادا منه بأن تقديم الجواب في ظرف سنتين فقط بعد الثورة هو “مهمة عظيمة، وربما عقيمة” (ص 1)، ينطلق حازم قنديل في كتابه القيّم ‘الجنود والجواسيس ورجال السياسة : طريق مصر إلى الثورة’ للإجابة عن سؤال مهم آخر: كيف تمكن المصريون من خلع حاكم استبدادي مثل مبارك في فترة لا تتجاوز الأسبوعين؟ بعد كل شيء، كان مبارك يحكم مصر بقبضة من حديد على مدى أكثر من ثلاثة عقود. “كيف تمكن الشعب من تحدي هذه الديكتاتورية التي تبدو منيعة ونجح في إزاحتها ؟”.

جيش ينحاز إلى الجماهير
 حسب حازم قنديل، فإن الجواب عن هذا السؤال يتطلب فهما معمقا للصراع الثلاثي على السلطة بين المؤسسات التي تكوّن الدولة المصرية الاستبدادية، وهي الجيش والأجهزة الأمنية والنخبة السياسية. ويستعمل قنديل مجموعة من المصادر الأولية والثانوية لتعقب تطور الصراع على السلطة هذا ، بداية من انقلاب 1952 الذي قام به الضباط الأحرار، ووصولا إلى ثورة يناير 2011 . وباستخدام مقاربة مؤسساتية، يعيد بناء المراحل الحاسمة إلى الصراع على السلطة الذي دام على مدى ستة عقود واستهلك مصر. وحسب إعادة البناء هذه، كان قرار الجيش خلع مبارك في النهاية هو ما أخلى السبيل أمام الثورة، إذ كان مبارك على مدى سنوات يحابي قوات الأمن على حساب الجيش بهدف عزل هذا الأخير .عندما ثارت الجماهير، قرر الجيش الذي يشعر بالمرارة العمل مع الجماهير ضد مبارك، فالثورة لم تكن إلا “حلقة أعادت خلط اللاعبين وأعادت تركيب ميدان القوى لتمهيد الطريق لجولة جديدة” (ص 4). وعبر ستة فصول يتحدى حازم قنديل النظرة التقليدية بأن مساندة الجيش للنظام المصري هي “ثابتة وليست متغيرة” ويجتهد في رسم تحول مصر من دولة عسكرية إلى دولة بوليسية.

الفصلان اللأول والثاني يناقشان أصول الصراع على السلطة بين الجيش والنخبة السياسية خلال حكم عبد الناصر (1956 – 1970)، بينما يروي الفصلان الثالث والرابع قصة توسع نفوذ القوات الأمنية الموالية سياسيا، والتحول القسري للجيش من مؤسسة موجهة الى الحرب الى مؤسسة اقتصادية في عهد السادات (1970 – 1981). ومع قدوم حسني مبارك إلى السلطة سنة 1981 كان الجيش قد تم عزله و”تهميشه والنظر إليه بريبة، بينما برهنت الشرطة على ولائها وإمكانية التعويل عليها. لكن يبدو أن الجيش كان ما زال يحتفظ ببعض النزعة إلى الحرب فيه” (ص 174). يتعقب الفصلان الأخيران تطور تلك الحرب وصولا إلى ثورة يناير 2011 بالتوازي مع التركيز على التوترات الاجتماعية التي تسببت فيها السياسات الاقتصادية للسادات ومبارك.

خلافا لعدة كتب نشرت بعد ثورة يناير 2011، لم يكن هذا الكتاب نتيجة مباشرة للثورة، إذ كان حازم قنديل يشتغل على هذا الموضوع قبل خمسة سنوات من تاريخ انطلاق الثورة. وقبل أيام فقط من الثورة، نشر الكاتب مقالا يحلل فيه احتمالات حدوث ثورة في مصر، وكان يشتغل على النسخة اليدوية لكتابه عندما ثار المصريون أخيرا في بداية سنة 2011. وهكذا، حسب تعبير قنديل، هذا “كتاب عن التاريخ وقع بشكل مفاجئ في الوقت الحقيقي” (ص1)، كما أنه رواية تاريخية مفصلة وجادة لا تغطي فقط المعركة التي دامت ستين عاما بين الجيش والشرطة والجهاز السياسي، لكن يغطي أيضا اللحظات الحاسمة في التاريخ المصري في النصف الثاني من القرن العشرين. إنه رواية تصف تبعات الحرب الباردة على السياسة المصرية، وبالتحديد، العلاقات المتغيرة لمصر والولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا، فضلا عن تأثير هذه التغيرات على النظام الاقتصادي والاجتماعي في مصر.

تغييب الشعب في الثورة
النقد الوحيد الذي يمكن توجيهه ضد قنديل هو الدور الكبير، بشكل مبالغ فيه، الذي يعطيه لهذه المؤسسات في تمهيد الطريق أمام مصر للثورة. وبالرغم من دقة أطروحته المؤسساتية وقدرتها على الإقناع، فهي تغفل عن عنصر حيوي، ألا وهو الشعب في حد ذاته. على مدى كامل صفحات الكتاب (246 صفحة) ، يجد القارئ الكثير من التفاصيل عن السياسيين والجنود والشرطة، لكن القليل جدا عن الشعب وردة فعله تجاه الأحداث السياسية الحيوية. لقد اكتفى الكاتب بالمرور مر الكرام على عدة تحركات جماهيرية حدثت في البلاد-مثل قضية كمشيش 1966، أو اضطرابات الخبز 1977، أوحركة كفاية 2004، أو الجمعية الوطنية للتغيير 2010 ولم يفرد لحركة الإخوان المسلمين التي بلغت 80 عاما من العمر إلا مساحة ضئيلة في ثنايا الكتاب.

خصص الكاتب مساحة مهمة للشعب المصري في الفصلين الأخيرين، لكن فقط في دور مساعد، إذ قدمهم كأدلة على أفكار الكاتب حول تدهور مستوى العيش تحت حكم مبارك. لست أدعو إلى طرح رومانسي للثوار الذين تمكنوا من إسقاط النظام بمفردهم، إذ أن مثل تلك الصورة ستكون غير واقعية، لكن ردود أفعال الناس بما في ذلك المنظمات غير الحكومية والحركات الشبابية يجب أن تعطى اهتماما أكبر مما أعطاها الكاتب، إذا أردنا الحصول على صورة أشمل لثورة يناير 2011.    ما عدا ذلك، أوفى الكاتب حازم قنديل ما وعد به في العنوان، فبالاعتماد على بحث أكاديمي جاد نجح ببراعة في تسليط الضوء على تفاصيل تاريخية من طريق مصر نحو الثورة، وتمكن من فعل ذلك بأسلوب خال من المصطلح الأكاديمي.