يقدم الناقد المغربي المرموق هنا قراءته الجديدة لواحدة من كلاسيكيات القصة القصيرة. يتعقب فيها الاعتذارات الستة، كاشفا من خلال فعل الاعتذار وشكله عن طبيعة الدائرة الدلالية للقصة على المستويات الاجتماعية والسياسية والإنسانية، وعن زوايا جديدة للتلقي فيها بالرغم من انقضاء أكثر من قرن وربع على كتابتها.

«موت موظف» لتشيخوف

محمد أنقار

في سنة 1883 نشر أنطون تشيخوف بالاسم المستعار أَنْـطُوتْشَا تْـشِيخُونْطِي Antocha Tchékhonté قصة "موت موظف" في مجلة Les éclats. وتدور القصة حول الموظفِ الفائق إيفان تْشِيرْفياكُوف الذي كان يستمتع ذاتَ ليلة بمشاهدة أوبــرا أجراس كورنفيل، وفجأة عَطَسَ فظن أن عطسه أصاب قفا رجلٍ عجوزٍ، كان يجلس في الصف الذي أمامه. وتأكد له الظن حينما رأى الرجلَ يمسح قفاه وجمجمتَه الصلعاءَ بقفازه، وسمعه يُزمجر ببعض الكلمات الغامضة. وعرف إيفان أن الرجل هو القائدُ المدني لوزارة المواصلات أو الاتصالات. حينذاك شعر بالحرج واعتذر للقائد الذي لم يبال بالأمر. وتكررت الاعتذارات في القصة حتى بلغ عددُها ستةً، ما بين ليلةٍ ويومين. ولكن الاعتذار الأخيرَ أثار غضب الرجل العجوز وهو في مكتبه، فثار وصاح في وجه إيفان بحدةٍ شعر هذا الأخيـرُ على إثرها بشيء ما قد انشق في داخله. وبعد أن عاد إلى داره واستلقى على الأريكة مات.

أقَـرَّ عديد من المبدعين والنقاد بخلود هذه القصة في الأدب العالمي واعتبروها إحدى درر تشيخوف إلى جانب قصص فَانْكا، وسيدةِ الكلب الصغير، والحِرباء، والقناع، وغيرها كثير. مرة قال إبراهيم أصلان في حوار معه:

«قرأتُ تشيخوف ككاتب مسرحي، وانبهرتُ به تماماً، وبدأت أستكمل قراءته والتعرفَ على عالمه بشكل فيه قدرٌ من التكامل، فقرأت مختاراتٍ قصصيةً له كانت مترجمة بشكل جيد. أول قصة قرأتها له كانت "موتَ موظف"، تلك القصة الشهيرة، وبمجرد ما قرأتها انتابني الإحساس بأني كاتب قصة قصيرة، وأن القصة القصيرة هي الإطارُ الذي من الممكن أن أودِعه أحلامي وما يستوقفني من شئون هذا العالم الذي أعيش فيه».

وحاول رشارد أبو شاور أن يترجم بعضاً من أحاسيس جيل الستينات من الذين عايشوا هذه القصة:

«عندما قرأت قصّة (موتِ موظف) لتشيخوف قبل خمسين عاماً- وأنا أعيد قراءتها حتى يومنا بين وقتٍ وآخر- عرفت إلى أي حد يمكن أن تعيش القصّةُ القصيرة، وحجمَ ما تكتنـزه من عمقٍ، ومعرفةٍ، عن الفرد، والمجتمع، في زمن لم نعشه، ولا نعرف عنه سوى القليل».

وأعترف شخصياُ بأني قرأت لتشيخوف منذ ستينات القرن الماضي غيرَ هذه القصة بالعربية والإسپانية. حتى إذا جاءتني اليومَ فرصةُ الحديث النقدي عن هذا الكاتب الكبير عدت إلى كتاب بعنوان "قصصٌ ورواياتٌ قصيرة" لتشيخوف كان يُنتظَر أن يُقرأ من قِبلي منذ 29 يونيو 1977. أي منذ يومِ شرائه. الكتاب كان قد صدر في سلسلة "روايات الهلال الشهيرة" بترجمة محمد القصاص. وأنا أروي هذه التفاصيلَ الشخصية من أجل أن أعلل اختياري قصةَ "موت موظف" من هذا الكتاب دون سواها. في سياق الحديث النقدي ذاته، اطلعت في الفترة الأخيرة على نص القصة بترجماتٍ عربيةٍ وأجنبية فبدت لي بينها عديدُ من الفروق كما هو منتظر. ومن دون أن يكون قصدي في هذا المقام عقدُ مقارنات بين تلك التراجم أخلص إلى أني انْسبتُ مع ترجمة محمد القصاص، في نفس الوقت الذي لبيت فيه نداءَ ذلك الكتابِ الموضوع على الرف الذي كان يناديني فلا أستجيب منذ أكثر من ثلاثةِ عقود.

وإذا كنت قد عللتُ سبب اختيار القصة فإني لن أفعل مثلَ ذلك فيما يخص اختيارَ موضوع هذا المقال الذي أديره حول الاعتذاراتِ الستةِ التي صدرت عن الموظف إيفان في قصة تشيخوف. إن الدائرة الدلالية لعنوان القصة شاسعةٌ جداً على المستويات الاجتماعية والسياسية والإنسانية. وفي هذا المجال أعول على ذكاء القارئ وحساسيته من دون أن أطالبه في نفس الوقت بأن يرقى بحساسيته إلى درجة معاناة إيفان المسكين. غايتي أن ندخل جميعاً إلى هذا الكون المرهف الذي أجاد تشيخوف تصويرَ تفاصيله.

1 - الاعتذار الأول: الحساسية وما تفعل:
«- أرجو عفوَك. يا صاحب السعادة. فلقد عطستُ .. ولم أقصد أن»..

لماذا عطس إيفان؟ إن قصة "موتِ موظف" لا تجيب ولا ترجِع إلى الوراء. لكنها تشير في نفس الآن إلى أن العطس حالة طبيعية منتظرَة من الجميع. ورد في القصة: «لكل واحد الحقُّ في أن يعطس حيث يريد. ولم يكن أحدٌ من الفلاحين ومفتشِ البوليس، بل وأعضاءِ مجلس البلاط يمنع نفسه من العطس. كان لكل شخص أن يعطس، لكل شخص».

بيد أن كتب التحليل النفساني تربط بقوة ما بين الزكام وأعراضه والحساسية. ولا أظن أن هذه الحقيقة العلميةَ كانت غائبة عن ذهن تشيخوف القاصِ الطبيب، حينما كان بصدد تـَمثُّلِ شخصيةِ إيفان ثم تصويرِها سرداً. ربما نتيجة لذلك جعله يُربِّتُ تارة "بمنديله على أنفه"، وتارة أخرى يُصدر "سُعلةً خفيفة". ورغم ذلك، فالواضح أن تشيخوف في أثناء الصياغة غيب في أعماقه شخصَ الطبيب، وفسح المجال واسعاً، بدلاً من ذلك، لمهارة القاص المبدع. وواضح أيضاً أنه مارس تلك المهارةَ من خلال راويه الذي سخّر معجماً لغوياً جامعاً بين الرجاء وطلب العفو، وتبجيلِ الطرف الآخر الذي وقع عليه فعلُ العطس، ثم الإشارةِ الناقصة إلى "القصد". أقول الناقصةَ لأن إيفان لم يوضح طبيعة قصده بعد. وخلال الصياغة اللغوية للاعتذار استنجد الراوي نوعاً مخصوصاً من علامات الترقيم وإن بخجل: يتعلق الأمر بالعارضة، والتنصيص، والنقطة، ونقط الحذف. وهي علامات ليست كثيرة لكنها لافتةٌ تُبـرز :

 أ- أن الكلامَ المخصوص لصاحب الحساسية جاء وَفق الطريقة التي سنلفيها لاحقاً في حوارات إرنست همنغواي بعد عقود سردية من تجربة أنطون تشيخوف: (العارضةُ في بداية الكلام، ثم إيرادُ جملة الحوار بين علامتي التنصيص).

 ب- أن تَقَطُّعَ جملِ صاحب الحساسية وعدمَ قدرته على الإتيان بالكلام المتماسك يَنمان عن حالة نفسية غير عادية. فقد بدأ التوتر في الموقف وغدا إيفان رجلاً على غير ما يرام: (نقط الحذف).

وعلى العموم فقد هيمن على ذلك المعجم النـزوعُ الشديد نحو نكرانِ الذات. وتُذكّرنا تلك الهيمنة بالسمة المميزة للإنسان المفرط في إنسانيته حسب تعبير نيتشه. مثلما تذكّرنا، حسب مصطلحات علم النفس، بذوي الحساسية المفرطة. وإذا شئنا دقةً أكبر قلنا إن هذه الحالة مرتبطةٌ أيضاً بالوسواس القهري obsession compulsive ، أو بالمريض الذي ينتظر دائماً أسوأ الاحتمالات والعواقب Hypocondriaque

إن الوضعية الجديدة للتلقي أصبحت تقتضي الآن المزيد من سرد التفاصيل. ذلك أن إيفان لم يعد وحده شخصيةً على غير ما يرام، بل حتى القارئ نفسه. فقد شمِـلَنا التوترُ جميعاً. إن الزكام معد.

2 - الاعتذار الثاني: الإحساس بالذنب:
«سامحني، فإني.. لم يكن ذلك من قصد!»

وصف الراوي في متن القصة هذا الاعتذارَ بأنه مواصلة للاعتذار الأول. لكن سياقَ السرد وطريقةَ كتابته على الورق يجعلان منه اعتذاراً مستقلاً من منظور القارئ. والملاحظ في الصياغة القصصية لهذا النص استمرارُ نهجِ نكرانِ الذات من لدن إيفان، وتذلُّـلِه إلى الطرف الآخر العجوز. لقد اكتشف الموظف المسكينُ أن العجوز ليس رئيسه الإداري، لكنَّ رتبتَه أعلى كثيراً من رتبته. ذاك تفصيل بلاغي ذكي من شأنه أن يعمق البعد الدرامي للقصة. كما استمرت في تلك الصياغة الإشارةُ إلى "القصد" السلوكي المرتبط بفعل العطس المشارِ إليه في الاعتذار الأول. ثم استمرارُ نقط الحذف؛ أي الإيحاءُ بعدم تماسك كلام الموظف وارتباكِه.

إن أجواء الاعتذار الثاني تجعل القارئ يتمثل صورةَ إيفان كما لو كان إنساناً ارتكب ذنْباً فوجب عليه الاعتذارُ وطلبُ المسامحة. هي إذن عقدة الذنب التي تلازم صاحب الحساسية المفرطة. أو قل إن هذه العقدةَ هي وجه آخرُ من وجوه العقدة الكبيرة المتشابكة التي تـجْثُم على صدر إيفان فتجعله يعاني.

3 - الاعتذار الثالث: عن القصدِ:
«لقد عطستُ عليك يا صاحب السعادة ... سامحني ... فأنت تعلم ... أني لم أقصد...»

استمرارُ ثنائيةِ التبجيل ونكرانِ الذات وإحساسِها بالذنب. والحقيقة أن هذه الثنائيةَ كانت قد بدأت مع بداية سلسلة الاعتذارات، وإن كانت آنذاك غيرَ متكافئة بين طرفي الصراع: إيفان والقائد المدني العجوز. ثم سيكون من تحصيل الحاصل القولُ إن ورودَ عبارةٍ من قبيل "يا صاحب السعادة" كان على سبيل التَّكرار؛ لكن التحليل النفساني يعتبر التَّكرار من سمات ذوي الحساسية المفرطة، وهو يندرج لديهم في سياق الوسواس القهري المتسلط المشار إليه. غير أن اللافت للنظر بحدة استمرارُ الإلحاح على القصد للمرة الثالثة. ومن المعروف أن صاحب الحساسية المفرطة يولي القصدَ أهمية قصوى. وأفترض أن جانباً من البعد الدرامي لقصة تشيخوف يتجسَّد في عمق القصد، أو اللاقصدِ على الأصح. وتذكرني هذه الفكرة بما ورد لدى الشاطبي، من أن الأعمال وإن كانت بالنيات إلا أن المقاصد معتبرة في التصرفات. إن إيفان لم "يقصد" بالطبع أذيةَ العجوز ولا نوى ذلك. لكن مأساتَه تكمن أساساً في إقناع الطرف الآخر بعدم القصد السيئ. وتتعمق المأساةُ أكثر حينما يرفض ذلك الطرفُ سماعَ سلسلة الاعتذارات. بل إنه لا يترك الفرصة لإيفان لكي يمارس فعل الإقناع بهدوء وروية. لذلك احتدّ الصراعُ في أعماق الموظف المسكين، وأضحت المجالَ الفسيح للتوترات المتشنجة المتدرجة. إن هذا الإلحاح لابد أن يثير انتباهنا من المنظور النفسي ويجعلنا نتساءل:

-      لماذا يُـمعن رجلُ الحساسية في استحضار القصد؟

الظاهر أن القصد لديه يشكل رتبةً نفسية خطيرة إن لم أقل مصيرية. هو في أعماقه رجل طيب، يصدر في سائر أعماله عن نية حسنة. إنه من فئة هؤلاء البشر الذين نصفهم بأصحاب الضمائر الحية. له "نية واحدة" حسب تعبيرنا الشعبي وليس عدةَ نوايا. لكل ذلك يتشبت صادقاً بتلك "النية الواحدة"؛ أي بالقصد الوحيد ويعمل جاهداً من أجل أن يتعامل معه الآخرون من منظور ذلك القصد الوحيد وليس من منظور قصدٍ آخرَ متوهَّمٍ. المطلوب إذن عين الصدق. لكن الـمَهمّةَ الصعبة إن لم أقل المستحيلة التي تُفرَض على صاحب الحساسية فرضاً هي ضرورةُ إقناع الآخرين بصدق ذلك "القصد الواحد". وغالباً ما تكون مَهمةً صعبة ما دام الطرف الآخر يمكن أن يَصدر في رد فعله عن "مقاصد" عدة، وليس عن قصد واحد، أو قد يَصدر حتى عن اللامبالاة كما هو شأنُ القائد المدني مع إيفان. وربما كانت اللامبالاة أشدَّ وطأةً من التأويل الخاطئ للقصد.

4 - الاعتذار الرابع: عن التوقيت:
«في الليلة الماضية ونحن بالأرْكاديا، إذا كنتَ لا تزال تَذكُر، يا صاحب السعادة.. عـ.. و.. و.. حدث. أن.. أرجو
..».

كانت الاعتذارات الثلاثة السابقة مترابطة زمنياً. لكن المسافة الزمنية بدأت تتسع منذ هذا الاعتذار الرابع؛ أي في منتصَف مجموعِ الاعتذارات الستة. حدثتِ الاعتذاراتُ الثلاثةُ الأولى في "الليلة الماضية"، بينما بدأت كتلةُ الاعتذاراتِ الثانية "في اليوم التالي". وسيكون لإيفان اعتذاراتٌ أخرى في يوم لاحق. بذلك يكون زمنُ الاعتذاراتِ في القصة كلِّها قد تم في ليلة ويومين. كان إيفان قد ذهب في "اليوم التالي" إلى القائد المدني وهو في مكتبه الإداري. ومن المؤكد أنه لم يذهب إليه ليلاً. أضف إلى ذلك أن بدايةَ سلسلةِ الاعتذارات الجديدة عرفت تحديداً للمكان الذي وقع فيه حدثُ العطَس. وهو تحديد لم يرد في الاعتذار الأول كما كان مفترضاً: "مسرح الأركاديا" الشهير. تُرى ما السر في هذا التأخير؟. يكمن ذلك في:

 أ - أن السارد كان قد ذَكَر قبل الاعتذار الأول قدْراً من المعلومات من قبيل "أجواء المسرح"، و"أوبرا أجراس كُـورنِـفيل"، ثم لا بأس بعد ذلك من تأجيل القدْرِ الآخرِ من تلك المعلومات وإيراده الآن على سبيل تحقيق بلاغة التوازن، أو بلاغة المقابلة.

 ب - جماليةِ توزيع المعلومات والحقائق داخل القصة. ذلك أن كاتب القصة القصيرة غالباً ما يعمد إلى بث المعلومات في مواضعَ متبايةٍ نجنباً من تكديسها في مكان واحد فيضيع بذلك التوازنُ والانسجام.

ج - أن تأخيرَ ذكرِ اسم "الأرْكاديا" على لسان إيفان حتى الاعتذار الرابع من شأنه أن يوكد الحميميةَ التي عاشها الرجل في ذلك المكان تحديداً، وربما عاشها الطرف الآخر بدوره. إن حميمية الأماكن مقدسةٌ لدى أصحاب الحساسية المفرطة.

أضف إلى كل ذلك استمرارَ حضور نقط الحذف توكيداً لتكسير تماسك الكلام. هو إيحاء بالانهيار. والدليلُ على ذلك أن الكلمة الواحدة لم تعد تخرج من فم إيفان بصورة طبيعية. لكنها ليست مطلقَ الكلمات؛ بل فعلُ "عطَس" بالذات. الفعل الذي يقف وراء مصيبة إيفان: "عـ.. عطستُ.." وعندما أقول الإيحاءَ بالانهيار لا أعني التدرجَ المتسلسل في النطقِ. إن صاحب الحساسية قد يَعرِف في بعض المواقف جرأةً على الكلام غيرَ عادية، لكنها جرأة قد تأتي متأرجحةً بين القوة والضعف والضعف والقوة. والدليل على ذلك طبيعةُ الاعتذار الخامس.

5 - الاعتذار الخامس: الندم:
«عفوك يا صاحب السعادة! كل ما في الأمر أن الندم الذي يشعر به قلبي قد جرَّأني على إزعاج سعادتك...»

يعود الكلام إلى صيغة التماسك الذي يوهم بأن الأمر يتعلق برجل خال من العقد. حتى نقط الحذف قليلة في هذا الاعتذار. لكن انتبه! هو كلام متماسك في الظاهر، عليل في العمق. خلاله يعترف إيفان بالندم العارم الذي يشعر به في قلبه. أجل في قلبه دون سواه. ذاك الندمُ العليلُ هو الذي يقف وراء الجرأة المتماسكة ظاهرياً. ولنا أن نتذكر لاحقاً ما سيحصل لإيفان في نهاية القصة جرّاء التركيز على هذا العضو في الجسد. ولا شك أنه تركيزٌ جامع في وقت واحد بين ما هو من قبيل التصوير الطبيعي والجسدي للحالة الطارئة وبين المقتضيات البلاغية للتصوير ذاته. هو قمةُ التنوير القصصي. لذا لا غرابة بعد ذلك أن يكون الاعتذارَ ما قبل الأخير.

6 - الاعتذار السادس: الضحك:
«يا صاحب السعادة، لقد جرُؤت على إزعاجك بالأمس لا لكي أضحك منك، كما ظننتَ سعادتُك، بل لأقدِّم إليك اعتذاري عن إساءتي إليك بالعطس.. أما عن الضحكِ منك، فإني لم أفكر في شيء من هذا قط وكيف لي أن أجرؤَ على ذلك! إننا لو وضعنا في أذهاننا أن نضحك من الناس لما بقي هناك أي احترام... أي احترام للرؤساء».

 هو أطول الاعتذارات جميعاً، ربما لأنه آخرُها. ويظهر أن إيفان قد انتبه إلى فشل خطة الإيجاز فعمد بعدها إلى الإطالة. لماذا هذا التحول المفاجئ؟. ربما بسبب استشعاره أن الانهيار التام حاصلٌ لا محالة، مما يعني أنه لم يعد يبالي بما يمكن أن يخسره أكثرَ من حياته ذاتها. أما العنصرُ الجديد في الاعتذار هو "الضحك". ومعروف نقداً سيادةُ الـمَسحةِ الساخرة في ثنايا مآسي قصص تشيخوف. والضحك بالنسبة إلى إيفان بمنـزلة الباطل الذي نزل عليه ظلماً وافتراءاً. إذ بعد كثرة اعتذاراته اتهمه القائدُ المدني بأنه يستهزئ به. ومعلوم مدى التأثير السلبي الجارح للباطل في نفس ذي الحساسية الرقيقة. هو يراه افتراءاً لا يعكس مطلقاً حقيقةَ شخصيته الطيبةِ المتسامحة فيحاول جاهداً التخلصَ منه كما لو كان سماً زعافاً قد تسرب إلى جسده. وقبل هذا الاعتذار الطويل كان إيفان قد فكر في كتابة خطاب إلى القائد المدني ثم تراجَع نظراً إلى يقينه بعدم جدوى الكتابة في مثل هذا الموقف الظالم. لا بد إذن من المواجهة الشخصية. إن الكلمة المنطوقة تقتضي نظر العين في العين، وإسماعَ الطرفِ الآخرِ الكلماتِ، وربما الاستعانةَ بحركات اليدين. وكلها عناصر تسهم في الدفاع عن النفس أكثر من الكلمة المكتوبة. هكذا توهم إيفان جرياً على نهج أصحاب الحساسية الذين قد يمضون بعيداً في الدفاع عن النفس إلى درجة المبالغة. ولقد كان من الممكن لإيفان ألا يبالي بالموقف برمته مثلما هو حال الأسوياء من البشر فلاَ يحفل بمجرد عطسة. ولكن من هو السويّ في حقيقة الأمر؛ إيفان أم البشرُ اللامبالون؟.

 المهم أن مجردَ عطسةٍ وسلسلةَ الاعتذارات التي تلتها أودتْ بحياة الموظف المسكين.