تقع رواية جون ماكسويل كوتزيا "العار" Disgrace (1999) في صلب مشاغلنا العراقية الراهنة على أكثر من مستوى. سياسياً تطرح الرواية شجون الما بعد وأسئلة التاريخ والحقيقة والتعايش، وفنياً تقدم الرواية أنموذجاً فذّاً للطريقة التي يمكن بها لفن الرواية أن يرتقي إلى مستوى التحدي فيتفاعل مع ظرف تاريخي ملتبس ليقدمه سردياً ويتأمله فكرياً بعمق. وكوتزيا الحائز على جائزة نوبل عام 2003 عَلَم كبير في الرواية الحديثة لا حاجة إلى التوسع في تقديمه.
تلاحق الرواية عبر تقنية السرد غير المباشر الحر وعيَ الشخصية المحورية فيها أستاذ الجامعة ديفيد لوري ولا تخرج عن هذا الوعي، بالرغم من إدراك القارئ المتزايد أنه وعي إشكالي زائف (بمعنى العزلة عن واقعه). يعتنق لوري فهماً ليبرالياً متحرراً للإنسان والحياة، ويمثّل نمط حياته تمثيلاً نموذجياً، ما يترتب على هذا الفهم من نظرات وخطرات. بالرغم من أن اختصاصه الأكاديمي هو الشعر الرومانتيكي فإن الجامعة تجبره على تدريس مادة الاتصال، فلا يجد لها طعماً. بالنسبة له أصل الكلام لا يكمن في الاتصال بين الناس، بل في الأغنية المنفردة، ويقع أصل الأغنية بدورها في حاجة الإنسان إلى أن "يملأ بالصوت روحه الإنسانية الشاسعة والخاوية". كما أنه سئم النقد والنثر اللذين يُقاسان بالمسطرة وصار يسعى إلى تأليف الموسيقى، ويبقى حتى نهاية الرواية مشغولاً بتأليف أوبرا بعنوان "بايرون في إيطاليا".
تبدأ الرواية بتقديم الطريقة التي تغلّب بها على عزلته وحاجاته الجنسية بعد طلاقين. لقد تعوّد على زيارة مبغى للقاء عاهرة ملوّنة تدعى سورايا يمضي معها أسبوعياً تسعين دقيقة يرى أنها كافية لتوفير السعادة له "هو الذي ظلّ يعتقد أنه يحتاج إلى زوجة، وبيت، وزواج اتضح أن حاجاته خفيفة في نهاية المطاف، خفيفة وخاطفة، مثل تلك التي تراود فراشة." عندما يصادف سورايا في شارع عام مع طفليها وتلتقي نظراتهما تنسحب من حياته ومن المبغى لئلا ينكشف سرّها فتخسر عائلتها.
يهوى لوري حياة المدينة وتدفق الأجساد في الشوارع "حيث الإيروس يتجوّل والنظرات تبرق كالسهام." يدفعه اختفاء سورايا إلى اصطحاب طالبة ملوّنة تدعى ميلاني إلى شقته، وتستجيب الطالبة بدافع الهيبة التي تحيط به أستاذاً جامعياً، ويعيش لوري مغامرة تعيده إلى سني الشباب (عمره الآن اثنان وخمسون عاماً) دون أن تبدي الطالبة حماساً أو رغبة حقيقية في لقائه مما يجعل العلاقة أقرب إلى الاغتصاب منها إلى التواطؤ. حين ينكشف أمر العلاقة بتدخّل من ريان صديق الطالبة الملوّن الغاضب، يجد لوري نفسه في مواجهة لجنة تحقيق في الجامعة تتكون من زملاء له من أقسام مختلفة. يكشف لنا التحقيق أول إشكاليات الطريقة التي يعيش بها لوري. يتكلم باعتداد ويصرّ على أن ما حدث أمرٌ مفهوم: لقد انساق وراء الغواية في لحظة ضعف وهو مستعد لتحمل ما يترتب على ذلك من عقوبة. حين تطلب منه اللجنة أن يتقدم باعتذار علني عما فعل، قد يتيح له الاحتفاظ بعمله يرفض ذلك رفضاً قاطعاً، بدعوى أن القضية تخصه شخصياً، ولا علاقة لها بالمجتمع الواسع حوله. ما يخفق لوري في فهمه ويرفض قبوله هو حقيقة أن القضية ذات أبعاد واسعة تتجاوز حدوده الشخصية الخاصة. وأهم ما فيها أنها تقع في جنوب أفريقيا المحملة بتاريخ شقي من القمع العنصري ضد الملونين والسود، وهي تقع في حقبة ما بعد الفصل العنصري. يتحصن لوري في مثاله الليبرالي المتعالي على تعقيدات الواقع والتاريخ، ويرفض أن تُعطى أية خصوصية لهذه القضية لأن الفرد عالم مستقل بذاته له كرامته التي لا تُمس ويجب أن لا يتعرض للإذلال أمام الناس مهما كانت الأسباب.
يُجبر لوري على الاستقالة من الجامعة، ويقصد ابنته لوسي التي تعيش في منطقة ريفية في الكيب الشرقي، بعيداً عن كيب تاون مدينته الكبيرة. وهي نقلة مهمة لأن ما ظلّ لوري يعتنقه (أن الفرد عالم مقدس لا صلة له بالتاريخ والآخرين) يُوضع على محكّ صعب في بيئة ريفية بسيطة يتقارب فيها الناس ويتضامنون، ويحتاج أحدهم إلى الآخر. وهو يرثي لحال ابنته وبساطة حياتها وبؤس جيرانها، ولكنها إمراة ناضجة الآن، تعلم ما تريد وتصرّ على استقلالية قرارها. تقول له "أنت على حق، أصدقائي لن يرتقوا بي إلى حياة أسمى، والسبب أن لا وجود لحياة أسمى. هذه هي الحياة الوحيدة الموجودة وهي الحياة التي نشترك بها مع الحيوانات." لكنه يصرّ على مثاله الليبرالي قائلاً "إن الإنسان من طينة تختلف عن الحيوان. قد لا نكون أسمى من الحيوان لكننا نختلف عنه." تدفعه ابنته وهي ترى فراغ حياته في الحقل إلى عمل تطوعي في عيادة بيطرية ويقبله، لكنه يؤكد لها أنه غير مستعد لقبوله بوصفه وسيلة إصلاح له، أو تغيير لأنه غير مستعد لتغيير نفسه بالرغم من كل ما حدث: "أريد أن أبقى أنا."
تتصاعد أحداث الرواية عندما يتعرض مع ابنته لهجوم من ثلاثة من السود، يقومون باقتحام الدار واغتصاب لوسي، وحرق وجهه، وسرقة سيارته هاربين. تحرص لوسي على إخفاء أمر الاغتصاب عن الشرطة والناس، بينما يلحّ عليها هو أن تفعل ذلك. ولابد أن نلاحظ هنا التناقض في موقفه بشأن التستر على فعل الاغتصاب عندما صار الأمر يتعلق بابنته نفسها. ابنته حريصة على البقاء في مكانها، ومدّ جذور فيه، لأنها لا تجد نفسها في أوروبا التي يدعوها هو إلى السفر إليها والإقامة فيها. ولأن البقاء قرارها النهائي، فإنها تأخذ بنظر الاعتبار ما يترتب على إشهار أمر الاغتصاب في ظروف البلاد المحمّلة بإرث تاريخي طويل من الصراعات المريرة. تقول لأبيها: "في زمن آخر، ومكان آخر، يمكن أن تصبح قضيتي شأناً عاماً. لكن هذا الأمر متعذر هنا، في هذا المكان وفي هذا الزمان. إنها مشكلتي وحدي، وحدي فقط." ويسألها أي مكان تتحدث عنه فتقول "جنوب أفريقيا". لكنه يرفض رفضاً قاطعاً الاعتراف بما يترتب على خصوصية المكان وتاريخه كما فعل من قبل في التحقيق الجامعي. يسألها "هل تأملين أن تتمكني من التكفير عن جرائم الماضي بالمعاناة في الحاضر؟"
تصاب ابنته بالذهول من شدة الكراهية التي مارس بها المهاجمون الاغتصاب. وتسأله لماذا؟ فيرد عليها "أنه التاريخ يتكلم من خلالهم. التاريخ الخطأ. قد يبدو الأمر شخصياً، لكنه ليس كذلك. إنه قادم من الأجداد." قناعته هذه لا تقوده إلى قبول إصرارها على الامتثال لمستحقات التاريخ والبقاء في حقلها، لا يبدي استعداداً لقبول ما يترتب على التاريخ من معاناة بينما هي تعي أن شقاء الحاضر جزء من شقاء الماضي، ولا بد لمن يريد التعايش من التحاور والسعي إلى قبول طريقة قد تكون مؤلمة بالنسبة له، يتصالح على أساسها. تقول لأبيها: "ماذا لو كان هذا [أي الاغتصاب] هو الثمن الذي أدفعه للبقاء في مكاني؟ ربما هكذا فهموا الأمر، وهكذا يجب أن أفهمه. إنهم يفهمون أنفسهم بوصفهم جامعي ديون مستحقة، جامعي ضرائب. كيف يمكن لي أن أعيش بدون أن أدفع؟ ربما هذا ما يقولون لأنفسهم." يردّ عليها أن ما تفعله يمثل رغبتها في التواضع أمام التاريخ " لكن الطريق الذي تمضين فيه هو الطريق الخطأ. سيجردك من كل كرامة. لن تتمكني من العيش مع نفسك. أتوسل إليك، اسمعيني." لا يدرك الأب أن الحل الذي يقدمه (أن تغادر المكان والبلد إلى هولندا) لا يمثل بالنسبة لمن يريد مواصلة العيش في مكانه حلاً معقولاً، وهو ما يذكرنا أن الحلول التي ترفض التاريخ وتتنكر له، تكون دائماً حلولاً عدمية، لا تصلح وسيلة للتفاهم والتصالح على العيش المشترك.
في الزيارة التي يقوم بها لوري لعائلة ميلاني الطالبة التي اغتصبها باستخدام نفوذه الأكاديمي درسٌ بليغٌ آخر. يحاول لوري أن يفسر ما وقع بطريقته الخاصة، فيقول لأبيها إسحاق إن علاقته بها كان يمكن أن تنجح، لكنه أخفق في تقديم شيء مهم هو ما يسميه "الغنائية". بالنسبة له كانت العلاقة تعاني من نقص "الغنائية، فأنا حتى عندما أحترق لا أغني." وهي توبة غريبة بالتأكيد ينبهه الأب إلى زيفها: "ولكننا جميعا نشعر بالأسف عندما يُكتشف جرمنا. ليس المهم أن نشعر بالأسف، المهم ما هو الدرس الذي تعلمناه من أخطائنا؟ السؤال هو ما الذي سنفعله الآن وقد أدركنا الخطأ." ما يشير إليه الأب في قوله هذا يُعدّ مشكلة سياسية كبرى في جنوب أفريقيا، فلجنة الحقيقة والمصالحة، التي استمعت إلى اعترافات البيض بذنوبهم تجاه السود، ظلّت تلام دائماً على أنها لم تشفع الاعتذار بتعويض مادي حقيقي للسود عن الظلم الذي لحق بهم. لم تتغير أحوالهم البائسة، وظل الاعتذار موقفاً مجرداً يسبح في فضاء منقطع عن الممارسة. لذلك يردّ لوري على الأب قائلاً: "بعد عمر معين لا يكون الإنسان قادراً على تعلّم الدروس، يمكن أن يتلقى العقاب مرة إثر مرة، ويقبل العار الذي لحقه من عمله. أليس هذا كافيا؟" لكن الأب يؤكد من جديد: "السؤال هو ما الذي يريد منك الرب أن تفعل وقد أسفت لخطئك؟"
في القسم الأخير من الرواية يظهر الصبي الذي كان ثالث المهاجمين السود على بيت لوسي، ويتضح أن قرابة تربطه ببطرس الجار الأسود، الذي يساعدها في أداء أعمالها في الحقل. وتكتشف لوسي أن الاغتصاب ترك جنيناً في أحشائها. يهرع لوري راجعاً إلى الحقل في ضوء هذه التطورات ليحتدم جدال جديد. ترفض لوسي اقتراح أبيها بالإجهاض، وتبقى متشبثة بالحمل والبقاء في مكانها، بل وحتى التنازل عن حقلها لجارها بطرس مقابل أن يؤمّن لها حماية ويقبلها في المنطقة. ويردّ الأب أن هذا ضرب من الذل، فتقرّ بذلك وتضيف: "ربما كان هذا ما تحتاج إلى تعلمه. أن تبدأ من الصفر، من اللاشيء. دون أوراق، دون أسلحة، دون ملكية، دون حقوق، دون كرامة؟" وهو ما يصيب الأب بالجزع. عندما يعود من جولة في الحقل يجد الصبي المهاجم يتلصص على ابنته لوسي، فيستشيط غضباً وينهال عليه بالضرب، ويطلق عنان الكلب الذي معه لمهاجمته. وهنا يستشعر لوري لأول مرة همجية الحقد العنصري وهي تنفجر في داخله هو، وندرك أن مثله العليا المعزولة عن الواقع والتاريخ سرعان ما تنحدر إلى هاوية العنصرية بسبب عزلتها هذه. ابنته تعالج الصبي وتغضب مما فعل والدها، لأنها تريد البقاء والحفاظ على رابطة الجوار مع جيرانها، وهكذا يخرج الأب مطروداً من بيتها.
أثارت رواية (العار) جدالات واسعة في جنوب أفريقيا. وكتب جيكز جيرويل المدير العام لمكتب الرئيس في زمن ولاية نلسون مانديلا، والمساهم الفعال في كتابة دستور جنوب أفريقيا الجديد مقالين عنها. كان عنوان أحدهما "هل هذه هي الصورة الصحيحة لأمتنا؟". بينما يمتدح جيرويل جديّة الرواية في التصدي للحالة في جنوب أفريقيا فإنه ينعى على كوتزيا تشاؤمه فيها (غادر كوتزيا جنوب أفريقيا بعدها ليقيم بشكل دائم في استراليا عام 2002). ومصدر التشاؤم أن غايات لوري الليبرالية العامة لا تجد في الرواية مكاناً لها في جنوب أفريقيا الممزقة. وقد أصدر المؤتمر الوطني الأفريقي بياناً أدان به الرواية، لما تقدم من صورة نمطية للسود بوصفهم مرتكبي جرائم الاغتصاب والنهب. من جهة أخرى اعترض على الرواية مدافعون عن البيض، لأنها تقدم لوري وريثاً لاستغلال البيض لمن يخضع لسلطتهم من الملونين. وهو ما ينبهنا إلى دقة المنطقة التي تستكشفها الرواية، وحرصها على الكشف الروائي لا التخندق الحزبي.
أما كشف الرواية العميق فيتمثل في حالة الصراع والتناقض بين مبدأين نبيلين بحد ذاتهما هما الحرية والعدالة. فحرية الفرد كقيمة عليا مجردة من ظرفيتها التاريخية والسياسية تبدو مبدأ سامياً يُغري بالتمسك به، لكن هذا المبدأ الأثيري سرعان ما يصطدم بوقائع التاريخ المريرة، حيث إرث الظلم والتعسف من قبل مجموعة من الناس تجاه أخرى. وهنا يصبح لزاماً على مبدأ الحرية إما أن ينصاع لمستحقات العدالة، ويحدّ من حرية الفرد وغطرسته، ويجبره على دفع التعويض عما سبّب لسواه من مصائب، وإما أن ينسحب من المشهد كليا فيلجأ إلى حل عدمي، لا يقبل به أحدٌ متحصناً بمُثل لا صلة لها بالتاريخ، سرعان ما ترمي به إلى لجة العنصرية (أو الطائفية) دون أن يدري. إن مصدر تشاؤم الرواية وعجزها عن تقديم حلول واضحة مقنعة لهذا الصراع يكمن في أن الانحياز لأي من طرفي المعادلة (الحرية أو العدالة) سيرافقه لا محالة عناء وتعب وخسائر وهذا ما أدركته لوسي وأقرّت به بمرارة.
لقد حاول مخرج الفيلم الذي استند إلى الرواية ستيف جيكوبز، وهو فيلم جدير بالمشاهدة، أن يخفف من حدّة النهاية المتشائمة التي انتهى إليها كوتزي فأضاف مشهد زيارة يقوم بها الأب لابنته يقع في الأصل قبل المشهد الأخير في الرواية وهو المشهد الذي يتخلى فيه لوري عن كلب ظل يرجو التمكن من إنقاذه، فيقبل قرار التخلص منه. يبدو مشهد الزيارة في ختام الفيلم أقرب إلى التلويح بأمل المصالحة. لكن الرواية كما أرى غير متشائمة بالرغم من نهايتها القاتمة، فالمطلوب من فن الرواية عموماً أن يواجه الأسئلة الصعبة ويجسدها تجسيداً حياً ينقلنا إلى مكان الحدث وزمنه ثم يترك الحلول للفاعلين أنفسهم. لن ينسى القارئ قوة الفصول التي صوّر بها كوتزي جو الرعب والقلق والحيرة الذي أعقب حادث اغتصاب لوسي واحتدام الخلاف بينها وبين أبيها.
لابد من حاشية أخيرة على فنية هذا العمل الروائي الفذ. سيَعجَب من يقرأ هذه المقالة عندما يبدأ بقراءة الرواية نفسها (إن لم يكن قد قرأها من قبل، لا أعتقد أنها قد ترجمت إلى العربية بعدُ) لقدرة كوتزي الفريدة على التمسك بسرد سلس ممتع مشوّق بعيد عن الثرثرة والحشو، موجز حافل بالتنوع والإيحاء والحركة. لقد حضرت مؤخراً مناقشة لهذه الرواية في منتدى الكتاب هنا في هاملتون/كندا فوجدت أن أغلب الحاضرين قد أحبّوا الرواية، واستمتعوا بها بالرغم من أنهم لم يدركوا هذه الأبعاد الفكرية والسياسية العميقة التي تنطوي عليها. بهذا يكون كوتزي قد ظلّ وفيا لفنه الروائي بينما هو يمعن التفكير في معضلة راهنة ويصفها لنا دون مصادرة سهلة جاهزة.