يتناول الناقد المغربي كيفية التعمية التي تتبناها وسائل الإعلام للتأثير في العقول، والمصالح تتحكم بالموضوعية المهنية، إلا أنه يخلص إلى أن أصواء المعرفة هي السبيل لمواجهة الجهل والتحزبات العقائدية والطائفية، وبالتالي وضع لبنات بناء الإنسان القادر على تخطي الأزمات وتحدّيات المستقبل.

أين أنت أيها الإعلام؟ فَهِّمْني ما يُراد بي فِعْلُه أنا العربي!

حمّودان عبدالواحد

يقول الصحافي الفرنسي الكبير إدي بْلِنِل، في تقديمه لكتاب "الخسائر الجانبية: الوجه المظلم للحرب على الإرهاب" للصحافي الامريكي سيمور هرش: "نحن في خطر، أمام خطر الجهل والعمى. نحن مهددون بعدم معرفة ما يحصل لنا، ما يُفعَل بنا، بالعالم والإنسانية. نحن مهدَّدون بعدم معرفة ما حصل للعالم بعد سقوط حائط برلين في1989 والبرجين الأمريكييْن في 2001. نحن مشاهدون للأحداث ومتفرّجون على ما يقع من كوارث ودمار، ومتنقلون من حرب إلى مجزرة، ومن رعب إلى آخر. نحن قلِقون ومحرومون من الأمل ونوشك أن نرى الخيط يفلت من أيدينا، وأن لا نفهم شيئا".

لوْ لَم أكن ذكرتُ اسم صاحب هذا الكلام لَحسبه القارىءُ شكوى أو صرخة تخرج من عمق أحشاء الانسان العربي المعذب المسكون بهاجس الذعر والخوف والشك والقلق أمام كثرة المآسي في بلده، وتعدد مظاهر الفوضى والخراب، واستفحال الأزمات وتعقدها، وانسداد آفاق المستقبل.

اللافت أن هذه الصرخة المنذرة بأخطار الجهل والعمى أمام الدمار والمجازر البشرية وتهديدات الحرب الأخرى جاءت في ورقة تحمل عنوان "عزلة المتقصي للحقيقة ". والمقصود بهذا الباحث الذي يستنطق الحجر والبشر والحيوان والنبات، وما يحويه الزمان والمكان في محاولة منه لمعرفة ما يحدث بالفعل في أرض الواقع، هو الصحفي الذي يمارس عملَه بوعي مهني عال جدّاً. إنه ذاك الصحفي الذي، من أجل إخبار الناس وإعلامهم بـ" الحدث " بكل موضوعية، يتعامل مع مكوّناته وعناصره بعِلمية تبعده عن التعاليق الذاتية أو الحزبية التي تشوّهه، فلا يتهاون في استخدام كلّ الوقت والوسائل والجهود والقدرات للوقوف على أسباب وقوعه والأهداف منه، وفاعليه وتطوّراته والآثار الناتجة عنه هنا وهناك، مباشرة وغير مباشرة.

ما يهمّ هذا الصحفي ليس هو اليمين أو اليسار، أهل السنة أو الشيعة، العسكريين أو الإسلاميين، المحافظين أوالليبراليين أو الاشتراكيين أو الديمقراطيين..، بل الوقوف على حقيقة الخبر وصحة محتواه وطبيعة الحوافز أو الأهداف التي كانت وراءه. وهذا يرجع إلى كونه يؤمن إيمانًا قاطعاً بنبل وضخامة المسؤولية الملقاة على عاتقه في كشف الحقيقة، وقول الحقيقة، ونشر الحقيقة، لا شيء غير الحقيقة، دون انحياز طائفي أو إيديولوجي أو مذهبي أو حزبي.

أين هو الإعلام العربي اليوم من هذه الرؤية البناءة والهادفة في التعامل مع المعلومة والخبر، ومواجهة "الحدث" من منطلق البحث في صحته أو كذبه، وفحص تفاصيله وجزئياته لمساعدة القارىء على فهمه فهماً يمكّنه من معرفة ما يحدث فعلا، لا شيء آخر؟

أصبح الصحفي (الباحث المتقصي للحقيقة) في دنيا العرب كائناً إعلامياً في طريق الانقراض، تعترضه عقبات جمّة وعملاقة، ويجد نفسَه في غالب الأحيان وحيداً في قلب المعمعة يتخبّط بوسائله المحدودة باحثاً عمّن يساعده ويفيده معنوياً ومادياً في الإلمام بكل ما له علاقة بـ"الحدث". وبما أن المشاركين في "الأحداث" والموجودين في قلبها أو المعنيين بها من قريب أو بعيد كثيرون، إذ منهم الفاعلون ومساعدوهم من المفعولين معهم والمفعولين من أجلهم، فمن الطبيعي أن تقف أمامه جهاتٌ لا تريد أن يكتشف جمهورُ القرّاء الحقيقةَ فتناصبه العداء وتهدده أو تختطفه أو تقتله.

يعرف هذا الإعلامي (الحرّ)، النادر وجوده في المنطقة العربية، أنّ الخاسر الأكبر في التظاهرات والاحتجاجات والانتفاضات وحركات "التمرّد" والانقلابات العسكرية وعمليات "الاعتصام" والمذابح التي ترتكبها الأنظمة العربية، والحروب الأهلية والتدخلات الخارجية - كما يحدث اليوم في العالم العربي والإسلامي بالخصوص - هو الحقيقة. وهذا هو الخطر الذي يقاوم ضده كلُّ إنسان يريد أن يعرف ما يُصنَعُ به وبأهله، وما يحدث عنده في أرضه وداره وحيّه وبلده، وعند جيرانه وأصدقائه.

هنا يتسائل العربي: ما الذي يحدث؟ ماذا يراد بي وبوطني؟ من يقف وراء كل هذا؟ ولماذا بالضبط؟ يطرح هذه الاسئلة وأخرى في محاولة منه لفهم مجرى الأحداث وأسبابها وأهدافها حتى يستعد لمواجهة أخطار الحاضر وتهديدات الغد، لكن لا جواب يُشفي الغليل ويرفع الضبابية عن الواقع. بل بالعكس يتيقن من أن كل شيء مخطط في غاية من الدقة لخلط الأوراق وإتلاف الدلائل وتلفيق التبريرات وتضخيم التهديدات. كل ذلك من أجل زرع الشكوك في صفوف المواطنين والمجتمع، ونشر الفوضى والبلبلة بين الناس، أفراداً وجماعات. كل ذلك من أجل إخفاء ما يجري في الكواليس ومنع الحقيقة من الانكشاف والظهور.

لكنّ عربيَّ اليوم، أصبح من كثرة التجارب المريرة وتكرار المآسي عليه، المغرقة إياه في وحل من الشقاء والتعاسة واليأس الدائم أنّ من بين أكبر الحقائق التي تنطق بها كل الأحداث ولم تستطع لحد الساعة كل المناورات الديماغوجية والدبلوماسية حجبَها عن الأعين والعقول تتجسّد في كون كل ممارسٍ للسلطة أو متطلعٍ ساعٍ إليها، أينما يوجد، في الغرب أو الشرق، وكيفما كانت إيديولوجيته، تهيمن عليه عقيدةٌ مكيافيلية تطبع نفسيته وعقليته، سلوكياته ومشاريعه تقول: لا مكان للمبادىء، كل ما في الأمر أن هناك شيء أساسي وحيد اسمه المصالح والبراغماتية.

فهل نستغرب بعد هذا حين نرى ونشاهد ونسمع ونقرأ يوميا الهول الجحيمي والإرهاب الجماعي والدمار المستمر وحصد الأرواح في المذابح ببعض البلدان العربية (سوريا ومصر حالياً) وهي تحتضر أمامنا وتستنجد؟ كثيرة ومتعددة هي تلك الأيدي، المباشرة وغير المباشرة، النظامية وغيرها، العربية والغربية وغيرها، الملطخة بدماء الآلاف من أبناء الوطن العربي الأبرياء! وكل واحدة منها تلقي باللائمة على الأخريات وتحاول تبرئة نفسها من الجريمة. وكل واحدة لها قنواتها وإعلامها وفضائياتها وطاقمها الصحفي للدفاع عنها، وتبرير عملياتها الميدانية وأنشطتها السياسية ومشارعها الحزبية أو الفئوية.

وهذا ما فطن له الشباب العربي وانتبه إلى مخاطر طرقه المسدودة الكبارُ والصغار من نساء ورجال فقرّروا اتخاذ موقف صارم ممّا يُرادُ فعله بهم وبجغرافيتهم وبمقدساتهم وبثرواتهم، وانتفضوا بالتالي ضد إعلام الجماعات والإيديولوجيات والطوائف. وهاهم اليوم يعبّرون بإلحاح غير مسبوق عن رغبتهم الصلبة المستميتة في فهم ما يحدث في أراضيهم وأوطانهم، واستيعاب ما يُخطط لإخوانهم ولأبنائهم في الحاضر والمستقبل.

ما برح العربي في اللحظة الراهنة يتطلع بشغف وشوق عميقيْن إلى الصحافة المستقلة النزيهة التي تنقل له الخبر اليقين وتقوم بتغطية الحدث في صورته الكاملة دون الانتقاص منه أو فرض قيود عليه، وتخضعه لتحليل أمين صادق وفحص مهني شمولي ومقتدر. يصيح القارىء العربي بالصحفي أو الإعلامي الذي بإمكانه تأدية هذا المطلب الحضاري والإنساني السامي، اللائق بالمواطن الحريص على تقدم بلاده واحترام حقوق الانسان و"حرمة الدم البشري" فيه: "أين أنت؟" فلا يستقبل كجواب إلا رجع صدى مخيب للآمال ومحبط للعزائم: "أين؟ أين؟.. ".

وتتكرر المآسي، وتتكرر المذابح والمجازر، وتتكرر الأسئلة والمطالب لكن لا جواب إلا عودة الصدى بالسلب والنفي والعدم... ونظل ننتظر إلى ما لا نهاية...

ومع ذلك يلح العربي على إرادته في معرفة وفهم ما يقع له ولأبناء وطنه لأنه أصبح على يقين تام بأن في خيوط هذا الفهم يكمن نسيجُ تعلم الحياة في تقلباتها ومفاجآتها، تقدمها وتطورها. يرغب العربي في فهم واستيعاب ما يحدث لحياته لأنه ساخط على وضعيته وشروط عيشه ووجوده فيرفض أن يكون غريباً عن كتابة تاريخه بنفسه، وصناعة غده بعقله وطموحاته. أنه يطالب بعدم تهميشه من العالم كما يتحرك ويتقدم ويُصنع بالطريقة التي يقودنا بها. ففي الفهم تكمن إمكانيات التخلص من القسرية والتغلب على السكونية، ومنه ينشأ الاستعداد للتحرك ومواجهة المستجدات، وبفضله ترتفع حظوظُ العربي في استرجاع حقه في الحرية وتقرير مصيره بنفسه وشق طريقه بوعي حضاري مستقل.

يعرف العربي اليوم أنّ بالفهم يمكن له أن يتفادى المعرفة السطحية أو التظاهر بالوقوف على حقيقة الأشياء، كما يستطيع أن يضع حداًّ لكل المحاولات التي تسعى لتزوير الحقائق والنيل من عقله وثقافته وهويته.

يعرف العربي أن الفهم يمكن له أن يقود إلى أكثر من هذا وأبعد: "تفضيل أضواء المعرفة والعقل على مغالق النرجسيات المظلمة، والمعتقدات البالية المخجِلة والخرافات والأساطير"، الشيء الذي من شأنه تسهيل مواجهة الحدث في شراسته وعنفه، وتعقيدات أسئلته أو نصاعتها. إنه لا يشك لحظة واحدة في كونه بحاجة مستعجلة إلى الفهم المؤدي إلى تفضيل المعرفة والوعي المنفتح، ونبذ عمى الانحياز الحزبي والعقدي، والآراء والمواقف الجاهزة لأن في هذا الفهم يوجد قسط كبير من الحل لأغلب مشاكله على اختلافها وتعددها. وفيه على وجه الخصوص تستقر بداية التحرر من المذهبية والطائفية، والجهل والتعصب والتزمت. وهنا تكمن أولى اللبنات الضرورية لبناء الإنسان العربي الجديد القادر على تخطي أزمات اليوم وتحدّيات المستقبل.

 

(كاتب عربي يقطن بفرنسا)