أجملُ المعارف هي التي نسرقها في غفوة القدرْ !!
ما جسدُ الإنسان سوى فمْ ، لسانه حفيف أوراقٍ و قدمْ!
كيف توصلتُ إلى هذه الحقيقة العجيبة ...؟؟!
غارقًا في وهج الأفكار، تُطبق عليّ شرفة شقتي كمساءات تونس الطويلة ، تنهشني سيجارتي رمادا ، مُشتَّت الذهن و الدخان ... أترشف قهوة بمذاق السأم وسكّر القلق ، أجلس إلى طاولتي الجرداء إلا من بضعة أوراق يتيمة .... لديّ ثلاثة أيام فقط لأعدّ مداخلة لا تتجاوز نصف ساعة فقط سأقدّم فيها تصوّري لمسألة تتمثل في قدرة الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة على تعلم العربية بالاعتماد على الحركة، سيكون الحضور متكوّنا من عشرين خبيرا عربيا في التربية الخاصة و ستكون مداخلتي منطلَقا للمناقشة والحوار ... و الذي زاد في أهمية المسؤولية أن موجِّهي التربوي ربط نجاحي في إلقاء المداخلة بترقيتي و هو ما زاد في توتّري و جعل الأفكار تنضب من ذهني . أمضيت بداية الأسبوع جامعا للمعلومات و مركِّزا على الإحصائيات ، فرّغتني الإدارة من العمل الصباحي ، أصبح شغلي يقتصر على أربع ساعات تبدأ من منتصف النهار ، أسبوع سيزعزع حياتي ، نجاحي سيحدد مصيري ومستقبل عملي بشكل عام وربّما هذا ما جعل الخوف يلتهم تآكلي في جشع ..!
أول ما احترت فيه هو بماذا سأبدأ ؟؟ كنت قد أزمعت الذهاب إلى أحد مراكز الطفولة الخاصة بهذه النوعية من الطلاب و لكنني تكاسلت و كأن فكرة التحقيق لم تعجبني... في داخلي سؤال ضخم يتمطّى بكسل : كيف لي أن أتكلم في موضوع معقّد مثل هذا في نصف ساعة ؟؟؟!
أُطلّ من شرفة شقتي على جاري الهندي المهندس في شركة الاتصالات ، يُخرج سيارته من المرآب للذهاب إلى عمله مبكرا ، و لكنه على غير عادته كل صباح يوقف سيارته عند الناصية و يقطع الطريق ليذهب إلى الحديقة الصغيرة ، كان يحمل بيده فنجانا من الشاي بالحليب متعة الهنود الصباحية القصوى ليقدّمه لعجوز كان جالسا على كرسيّ خشبي في ظل شجرة ، لم أرَ العجوز في الحيّ من قبل ولكنني عرفت أنه والد جاري الشاب ، إنه يشبهه ، من المؤكد أنه استقدمه من الهند ليبقى عنده فترة من الزمن ، انطلق الشاب بسيارته إلى عمله في حين أخذت أنظر إلى العجوز الذي كان يتأمل الحديقة في خشوع ، و أمام تحديقي به انتبه العجوز إليّ فرفع نظره نحوي ، ابتسم لي ثم حيّاني وأشار لي بالنزول، استغربتُ جرأته ، و لكن أمام حيرتي في استنباط الأفكار قلت في نفسي لعل الحديقة تلهمني طريقة في جمع أفكاري فالوقت يداهمني وذهني لازال مشوَّشا ، اقتربتُ منه، كان يضع عمامة برتقالية على رأسه ويُخفي تعابير محياه وراء لحية بيضاء متناسقة مع سمرة الهنود المميّزة ، غير أن تقاسيم وجهه كانت توحي بالسكينة و الثبات ، ابتسم لي في فرح ، فسلّمت عليه بحرارة و دعاني إلى الجلوس بحماس هادئ ، قلت له إنني جار ابنه و أسكن في الطابق الثاني من نفس العمارة ، كان يتكلّم بلغة إنجليزية حازمة ولكنها متعثّرة ذات هوى هندي فاضح ، لقد شعر كل واحد منا بوحدة الآخر ، و بعد دقائق من الصمت الثقيل بادرني قائلا دون أن يلتفت إليّ :
- تبدو منشغلا بأمر مّا ؟ ما هذه الأوراق التي بيدك ؟ قل لي ما الذي يشغلك إذ يمكنني مساعدتك ..
تفاجأتُ بجرأته ، أخفيت ابتسامة هزئ عصفت بداخلي ، و لكني وجدت نفسي رغم ذلك أذكر له ما ينتظرني في عملي بعد ثلاثة أيام ، ظل ساكنا لحظة ثم التفت إليّ و قال :
- أمر بسيط يمكنني مساعدتك ..
عادت ابتسامة السخرية لتعصف بي مرة أخرى و لكني قلت له من باب اللباقة و الاحترام :
- أشكرك حقا ...
أردت أن أعرف عمله لأتأكد من أنه بالفعل يمكنه أن يفيدني ، فسألته :
- لو سمحت هل لي بسؤال ؟
لم يجبني ولكنني واصلتُ غير مكترث باستغراقه في التأمل :
- ما مهنتك؟ يعني ماذا تشتغل؟؟
لكنه لم يجبني و كأنه لم يسمعني بل إنه غاب في سكونه حتى شككتُ أنه نسيني ، فقلت في نفسي هذا العجوز الخرِف سيضيع وقتي و الأحسن أن أعود إلى شقتي و أجلس إلى مكتبي و أتعامل مع المسألة بجدية إن كنت بالفعل أطمح إلى الترقية ، غير أنه أحسّ بشرودي فقال لي وعيناه تائهتان في الفراغ والشجر :
- موضوع بحثك هو اللغة ..مسألة بسيطة .. لدينا ثلاثة أيام و سأقدم لك أربعة دروس ... سنعقد اتفاقا ..كل يوم أعرض عليك درسا ثم تصعد بعد ذلك لتطبّقه وتستفيد منه بطريقتك ...
مسكت نفسي عن الضحك و لكني رغم ذلك وجدت نفسي أسأله :
- كيف ستقدم لي الدرس الرابع واليوم الرابع سأقدم فيه مداخلتي ؟
فردّ بصوت واثق :
- الدّرس الرابع سيكون قصيرا !!
عند ذلك لم أمنع نفسي من الابتسام ، أظن أنه انتبه إلى ذلك ، ظلّ غير مكترث بشيء ، بل إنه التفت إليّ للمرة الثانية ونظر إليّ بعمق ثم قال بكلمات تخرج هادئة رصينة وسط غابة الشعر الأبيض التي تملأ وجهه:
- سنبدأ : الدرس الأول : يجب أن تعرف أن الحركة صلاة ....إنها لغة الآلهة ، فالمسلم يصلّي بحركات ومناجاة لربّه و البوذي يتحرك ليدرك الأرواح الكامنة في الكون ....الحركة إذن مقدسة إنها لغة الآلهة فمن الطبيعي أن يكون الأطفال هم الأكثر حذقا لها أليسوا الأقرب إلى الآلهة ؟؟!...
سكت لحظة ثم واصل واثقا:
-انتهى الدرس يا بني ..اذهب الآن .
ظللت واقف مذهولا من حكمته و كذلك من ثقته بنفسه ...عدت من ساعتي إلى شقتي و بدأت العمل ، اعتمدت على كلامه في كتابة تمهيد للموضوع ....
من الغد الساعة التاسعة صباحًا ، نظرت من شرفتي إليه فوجدتُ نظره معلَّقا بي و كأنه ينتظرني فنزلت إليه مسرعا ، بادرته بالتحية فأجابني مبتسما ، ثم قال :
- الدرس الثاني : الحركة معرفة ..اللسان مجرم قتل كل الأعضاء جعلها خرساء فظل هو يتكلم فقط ، الأصل أن كل أعضاء الإنسان تتكلم فحركة الإنسان يجب أن يعرف بها نفسه فيسبر أغوارها و أحسن عضو يتكلم و يصرخ ولكننا لا نسمعه هو القدم... فحركات القدم و ما تنتعله إنما تشير إلى أعماقهم .... أقدام البشر تتكلم عندما تتحرك و ليس كل الناس يعرفون هذه اللغة...فالثعبان أقوى الكائنات لأنه لا أقدام له أما نحن البشر فأقدامنا هي ألسنتنا ، من هنا نستنتج أن اللغة هي معرفة الإنسان بنفسه و لذلك هي أيسر المعارف ...هل تستطيع أن تدخل هذا في بحثك ...؟؟
كنت منبهرا بما يقول حتى أنني لم أتوقع سؤاله ولكنني أجبته :
- نعم يمكنني ذلك ...شكرا لك ...
أجابني بنبرة صارمة :
- اذهب الآن .
بقي يوم واحد و لابد أن أُتمّ عملي ، ثلاثون دقيقة فقط لعرض نظرة موضوعية حول دور الحركة في تعليم اللغة مهما كانت إمكانيات الطفل الذهنية والجسدية ....
من الغد الساعة التاسعة تقريبا نزلت إليه مسرعا كالعادة ، وجدته ساكنا ثابتا على نفس الوضعية و كأنه تمثال لم يتحرك مذ تركته يوم أمس ، تساءلتُ بيني وبين نفسي عن المدة التي يبقاها في الحديقة ، هل ينتظر ابنه حتى يعود معه إلى البيت ؟
حيّاني كعادته دون أن ينظر إليّ فرددت عليه تحية الصباح بكل حفاوة ثم قال :
- إليك الدرس الثالث : الحركة صلاة ثم معرفة ثم اكتشاف ...الإنسان المتحرك هو كائن حي ، قدَمُه هي التي تكشف له العالم ، فالرضيع مثلا يحبو ليعرف ويعيش والعجوز يسكن لأنه بصدد الانتهاء والموت ..يجب أن تجسّم ذلك وأنت تلقي مداخلتك ..يجب أن تتحرك لتطبّق ما تقول ، أرأيت هذه الأشجار القليلة في الحديقة ؟؟ اعتبرها الحضور الذي سيستمع إليك ..هيا تحرك بينها وخاطبها ..و لا تنس أنك تتكلم بأقدامك قبل أن تتكلم بلسانك ، الإنسان ليس ثعبانا ...قدَمه هي وجوده ..هيا تحرك ...
بدون أن أشعر طفقت أتجوّل في دعة بين الأشجار القليلة ، كنت أتحسّس العالم بخطواتي ، أشعر بقدمي تنزل متمهّلة كلما وطئت العشب الأخضر النديّ ، أحسّ به و كأنه كائن سينكسر إن ضغطت عليه بقوة ، وحين عدت إليه قال لي في حزم :
- انتهى درس اليوم ، اذهب الآن .
أصبحت أعجب بطريقته في إلقاء الدروس ، لقد تقمّص دور الأستاذ بشكل حقيقي . خمّنت أنه يعمل مدرسا أو راهبا أو حتى عالما في الهند ، بل إن معرفته بأهمية الحركة في حياة الإنسان جعلتني أتأكد أنه ربما كان في شبابه مدربا لإحدى الرياضات القتالية ....
صعدت إلى غرفتي ، كان تصور المداخلة في لمساته الأخيرة ، من الغد نهضت مبكرا ، كنت جاهزا ، أخذت ملفي معي و حاسبي المحمول و خرجت بسيارتي من مرآب العمارة ، عند الباب بالضبط التفتُّ إلى الحديقة ، وجدت كرسيه فارغا فتأكدت أنه لا يخرج إلى الحديقة إلا مع توجّه ابنه إلى عمله فقد رأيت سيارة جاري في المرآب .
عند باب مركز تعليم اللغات في منطقة البطين و جدت موجّهي واقفا عند الباب ، كان مضطربا أكثر مني ، قال لي :
-هل أنت جاهز ؟
فأجبته واثقا:
- بالتأكيد ..
بدأت عرضي بمقدمة أكدتُ فيه على أن الحركة صلاة ومعرفة و اكتشاف و بنيتُ على ذلك استنتاجي المتمثل في ضرورة إدماج الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة مع بقية الطلاب العاديين في التعلم عموما...لم أتجاوز الوقت المحدد و حين انتهيت لاحظت الارتياح على وجوه الحاضرين وخاصة مُوجِّهي التربوي الذي صافحني بحرارة وقد تهلل وجهه، قال لي إنه مازالت مداخلة أخرى نحضرها ثم سنبدأ نقاشا يتبعه احتفال بسيط .. ولكنني اعتذرت قلت له إنني سأنسحب بعد النقاش فلم يعارض.....
انطلقت بسيارتي نحو منطقة سكناي ، اشتد الحر وتعالت الرطوبة في الجو ، كنت متأكدا أنني لن أجده في مكانه في مثل ذلك الوقت و رغم ذلك ظللتُ مُصرًّا على الوصول إلى البيت و حين كنت أهمّ بإدخال السيارة إلى المرآب السفلي للعمارة رأيته جالسا في مكانه كالتمثال بلا حراك ، أوقفت سيارتي في مكانها ثم ذهبت إليه ، حييتُه بحرارة ، جلست بجانبه وأخبرته بنجاح مداخلتي فالتفت إليّ وقال لي وقد غمرت وجهه ابتسامة هادئة :
- كنت متأكدا من ذلك ...
في تلك اللحظة رأيت ابنه يحيينا من بعيد و هو يدخل سيارته إلى المرآب ، بعد لحظات عاد يقطع الطريق ، بدا الذهول يغشاني حين انتبهت إلى أنه كان يدفع شيئا أمامه ، لم أتبينه جيدا بحكم اشتداد حرارة الشمس ، نظرت إلى العجوز الذي تهلّل وجهه حين رأى ابنه قادما ، اقترب الابن منا ، ازداد ذهولي و استغرقتني المفاجأة فقد كان ابنه يدفع كرسيا متحرِّكا و عندما وصل إليّ صافحني وهو يقول مازحا :
- كيف كان أبي معك ؟
- كان رائعا جدا !!
- إنه يحب الحدائق وقد استقدمته من الهند لأنه أصبح يعيش وحيدا خاصة بعد وفاة والدتي فهي التي كانت تساعده على الحركة فهو ....فهو ...كما ترى ...لقد فقد أعزّ ما عنده في هذه الدنيا : أمي وعمله .. سأحاول أن أجعله يعيش معي هنا في أبوظبي....
لم أتصور لحظة أن ذلك العجوز الذي يتكلم عن الحركة و أهميتها في حياة الإنسان هو مقعد و عالة على غيره أيضا و رغم ذلك سألتُه في حزن :
- و ما كانت مهنته في الهند ؟
- كان يعمل إسكافيا ..يصنع النعال في أحد أسواق بومباي الشعبية !!!
ازداد استغرابي فنظرت إلى العجوز ، بدا لي حزينا وهو يستمع إلى كلام ابنه فأشار إليه بحركة من يده يريد أن يقوم ، فحمله الولد مثل طفل صغير ووضعه على الكرسي وحين همّ بدفعه التفت إليّ و قال لي :
- سندعوك لزيارتنا يوما ما ، يبدو أنكما قد أصبحتما صديقين ...أبي ساحر حين يتحدث ...
أجبته بثقة و أنا أنظر إلى العجوز :
- نعم لقد صدقت فأبوك ساحر حتى حين يكون صامتا..
حين ابتعد عني قدر مترين تذكرت شيئا ، لحقت به واستأذنت من الشاب ، وخاطبت أباه قائلا:
- والدرس الرابع يا أستاذي ؟؟؟؟
رفع العجوز رأسه إليّ وقال و هو ينظر إلى ساقيه النائمتين على الكرسي منذ زمن بعيد ...قال بصوت حزين ولكنه حازم :
- يا بنيّ ، الدّرس الرابع هو ما ترى!!!