يسترجع محرر (الكلمة) هنا بعض الذكريات عن المخرج والمبدع السينمائي الكبير توفيق صالح، يرد بها فداحة الفقدان، ويتأمل معها منجز الراحل الكبير الذي حرص على استقلاله كمثقف وفنان متميز، في عالم طالما عادى استقلال المثقف وحرية الإبداع. ويكشف بالمناسبة بعض وقائع الكوميديا السوداء التي خبراها معا عند رحيل نجيب محفوظ.

توفيق صالح .. المثقف المستقل وآخر الحرافيش

صبري حافظ

وسط دوامة العنف والدم والجنون التي تجتاح القاهرة، رحل عن عالمنا الفنان الكبير توفيق صالح، وكأنه آثر ألا يرى هذا القبح غير المسبوق الذي ساخت فيه اقدام مصر وتعثرت. فقد كان توفيق صالح إنسانا مرهف الحس رقيق الحاشية، يتسم بالدماثة الشديدة بالرغم من حدته في الحق، وصرامته التي لا تعرف المساومة في اختياراته الفنية القاطعة. وحرصه على تحكيم متطلبات الفن الراقية في جل أعماله، في عالم السينما الذي تحكمه، بل تتحكم فيه، اعتبارات سياسية في بلداننا العربية التي عانت من الاستبداد، ومتطلبات الجانب التجاري في تلك الصناعة، وإخضاع لوازم الفن لقيود التكاليف وأمراس الميزانية، والميل لتلبية حاجات السوق الاستهلاكي الذي ينحو المنتج فيه إلى التعامل مع القواسم المشتركة المتدنية في المشاهدين، بدلا من ترقية مشاعرهم، والارتقاء بأذواقهم. ناهيك عن ميل عدد كبير من الأفلام السينمائية إلى المساومة على الفن من أجل تسلية المشاهدين، وملاعبة غرائزهم واصطحابهم إلى عوالم خيالية وهروبية تنحو إلى تنويمهم ودغدغة مشاعرهم، بدلا من إيقاظ عقولهم لحثّهم على التأمل والتفكير النقدي. ولن أتحدث هنا عن تسرب آليات الغش التجاري، المتفشي في التجارة والصناعة في مصر، إلى عالم السينما واستشرائه فيه على حساب قيم الفن الراقية.

في هذا العالم الذي تسيطر عليه المساومات في أحسن الأحوال بين متطلبات الفن وقيود الإنتاج والتوزيع كان توفيق صالح نسيج وحده. يطمح إلى إبداع أفلام متميزة لا يساوم فيها على متطلبات الفن، ولا على تميز رؤاه، ولا يتنازل فيها عن شروطه. عرفته عن قرب عام 1968 وقبيل سفري إلى بريطانيا بسنوات قليلة، ولازلت أذكر لقائي الأول به. كنت قد سمعت به وتحدثت عن فيلمه البديع (يوميات نائب في الأرياف) في برنامج «ندوة المسرح والسينما» الذي كان يعده ويقدمه بهاء طاهر لـ«البرنامج الثاني» حينما كان هذا البرنامج الإذاعي منارة ثقافية شامخة. وحينما قدمني له كاتبنا الكبير نجيب محفوظ إذا به يقول ضاحكا: هو انت فلان! يخرب بيتك! إيه اللي عملته في عادل كامل ده؟! ولم أكن أعرف بالضبط عما يتحدث! كنت قد سعيت للتعرف على عادل كامل قبل ذلك التاريخ بسنوات ثلاث، بعدما فتنتني أعماله وبحثت عنها كلها، بل ذهبت للقائه والحوار معه حولها وأنا بصدد كتابة دراسة طويلة عنه نشرتها في مجلة (الملجة) التي كان يرأس تحريرها الراحل الكبير يحي حقي بعنوان «عادل كامل والرواية المصرية» في مطلع 1964. ولازلت أذكر هذا اللقاء مع عادل كامل في مكتبه الكبير للمحاماة في واحدة من أعرق عمارات القاهرة المطلة على ناصيتي شارع شريف و26 يوليو، وأذكر أنه أهداني نسخة إضافية من رائعته (مليم الأكبر)، وكان عنده رف مليء بنسخ منها، بينما كان الحصول على نسخة منها على سور الأزبكية وقتها من أصعب الأمور، ناهيك عن روايته البديعة (ملك من شعاع) التي لم يكن لديه نسخ منها، فقد فازت بجائزة كبيرة وقتها ونفدت نسخها.

وكنت أعرف أن عادل كامل وتوفيق صالح أيضا من شلة «الحرافيش» الشهيرة التي كان نجيب محفوظ واسطة عقدها، والتي ضمت معهم في ذلك الوقت محمد عفيفي وصلاح جاهين وأحمد مظهر وغيرهم، والتي كانت شهرة سهرتها الأسبوعية كل خميس تطبق الآفاق. و«الحرافيش» لمن لا يعرفها هي أقرب ما يكون إلى الصالون الأدبي المغلق، بكل ما ينطوي عليه الصالون من قيم معرفية جادة، ومن فسحة حرة للجدل والتحليل الأدبي والفكري والسياسي المفتوح. لكن ما عرفته من توفيق صالح، ولأول مرة وقتها، هو مدى تأثير دراستي التي نشرتها عن عادل كامل عليه. كنت قد سعيت في هذه الدراسة لإثبات أن عادل كامل موهبة أدبية كبيرة، وأن إنجازه الباكر في هاتين الروايتين، وفي مسرحية (ويك عنتر) وعدد من أقاصيصه التجريبية اللامعة التي نشرها في مجلة (المقتطف) في الأربعينيات، تتفوق رؤية وعمقا وبنية فنية عما أنجزه نجيب محفوظ في نفس المرحلة، وأطرح فيها تساؤلا عن سر كسره لقلمه وعزوفه عن مواصلة الكتابة. وكان نجيب محفوظ وقت نشر هذه الدراسة قد أصبح على حد تعبير شهير للويس عوض وقتها «مؤسسة يجمع عليها اليمين واليسار والوسط».

وكانت هذه الدراسة فيما أظن أول تناول نقدي جاد لمنجز عادل كامل الأدبي المهم، بعد عشرين عاما من توقفه عن الكتابة. فقرر بعدها أن يترك مكتبه الناجح الكبير لمساعديه، وأن يعود للكتابة، واستأجر شقة لهذا الغرض. وليس من السهل أن يعود كاتب هجر الكتابة لنحو ربع قرن إليها، خاصة وأن قرينه فيها (نجيب محفوظ) كان قد قطع أشواطا فساح في حلبتها، ناهيك عن أن يكون له قصب السبق على قرينه وصديقه الحميم فيها، كما كان عليه الحال من قبل. وقد سبب عجز عادل كامل عن أن يكتب، لا بنفس المستوى الذي توقف عنده فحسب، ولكن بأفضل مما وصل إليه نجيب محفوظ الذي كان عادل كامل من أقرب قرائه إليه، ومن أكثرهم معرفة بطبيعة إنجازه، بل كان له تأثيره الإيجابي الباكر عليه كما نعرف من ثلاثية نجيب محفوظ. أقول سبب هذا العجز أزمة نفسية كبيرة لعادل كامل، لم يعرف بها أو عنها إلا المقربين منه من «الحرافيش»، ومنهم بالطبع توفيق صالح، ولم يستفد منها لغرابة المفارقة إلا نجيب محفوظ نفسه، الذي استلهم منها روايته (الشحاذ).

هذا كله عرفته من توفيق صالح في لقائي الأول به، والذي ساهم بدروه في توطيد علاقتي به منذ لقائنا الأول. وكما شغلني توقف عادل كامل عن الكتابة شغلني أيضا توقف توفيق صالح عن الإبداع، أو على الأقل تباعد المسافة الزمنية بين كل فيلم والآخر، بالصورة الذي جعلته برغم تميز إبداعه السينمائي وتفرد رؤاه من المقلين كثيرا في عالم السينما، لا يتفوق عليه في هذا المجال إلا شادي عبدالسلام. ولم يكن توفيق صالح من الشكاءين، ولكنه حرص على أن يفسر لي موقفه الرافض لأي مساومة على القيم الفنية أو على متطلبات الكمال الإبداعي. وقد عرفت منه الكثير عن ترفعه عن الصغائر، وهي كثيرة في عالم السينما. وأهمية حرصه على أن يوفر للعمل الذي يقبله كل الشروط الكفيلة بإخراجه في أحسن صورة، وأن عدد المشروعات التي أخفق في إكمالها بسبب موقفه المبدأي ذاك، لا يقل عن تلك التي نجح في إنجازها. وكان قد سبق لي أن سمعت عن معركته الطويلة مع مؤسسة السينما حول مشروعه عن إخراج ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة. وعما دار في أروقة المؤسسة من عراقيل ينبع بعضها من الغيرة المهنية، وبعضها الآخر من المؤامرات السياسية، وما أكثرها في عالم الستينيات المترع بالمخاوف والشكوك والاسترابات الغامضة، بالرغم من ترشيح نجيب محفوظ له، ورغبته الحقيقية في أن يخرج عمله الكبير. ليس فقط لأن نجيب محفوظ كان يعرف مدى رهافة ذائقته الفنية، ويتابع كشوفه وتصوراته كصديق قريب، وعضو بارز في «الحرافيش»، ولكن أيضا لأنه كان يقدر موهبة توفيق صالح وإمكانياته الفنية الكبيرة، وقدرته على اقتناص جوهر العمل الأدبي الذي يحوله إلى فيلم سينمائي. وأذكر أنه بعد ذلك بأعوام طويلة، وعقب فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل، أن عدت من لندن إلى القاهرة مع فريق من التليفزيون البريطاني لعمل فيلم يقدم نجيب محفوظ وعالمه الأدبي للجمهور البريطاني، أن نجيب محفوظ حرص على أن يحضر توفيق صالح كل مراحل التصوير، وأن يرافقه في كل ما سجلناه له، وأن يستنير برأيه في كل مرحلة من مراحل العمل الذي استغرق تصويره في القاهرة نحو أسبوعين.

فقد كان توفيق صالح، وما أصعب بداية الحديث عنه بفعل كان، من المثقفين والفنانين القلائل الذين يحرصون على استقلالهم ولا يساومون على فنهم. وهو أمر كان يستطيع معه مواصلة الإبداع كما يشاء لو كان يعمل في حقل آخر غير الحقل السينمائي. لأن السينما، وهي كفن المسرح وإن كانت أكثر منه جمعية، فن جمعي مركب، وصناعة تجارية في الوقت نفسه، وهذا ما يجلب إلى الفاعلية في عالمها عددا كبيرا من العوامل، يجعلها فن المساومات دون نزاع. فكيف يتعامل مثقف مبدأي وفنان يقدر قيمة الفن ولا يقبل المساومة على شروطه معها في عالم يموج بالضغائن، وشره الكسب الكبير الذي توفره صناعة السينما. لذلك عانى كثيرا بسبب ذلك برغم تميز أفلامه، وقدرته على أن يشق بالكاميرا والصورة طريقا جديدا وفريدا للسينما المصرية. وآثر أن يعمل بتدريس السينما لقاء قروش قليلة، على أن يساوم على فنه لقاء آلاف من الجنيهات.

وأذكر أنني كنت أتعلم منه الكثير عن عالم السينما عامة، والسينما العربية خاصة، كلما تناقشنا في هذا الموضوع، وتحدثنا باستفاضة عنه. حيث كان النقاش معه يكشف لي عن البنية التحتية لتطور فن السينما المصرية والعربية على مستوى الفن والرؤية على السواء. فقد كان لديه أطروحة واضحة وجديرة بالتأمل حول مسيرة السينما المصرية، وقدرتها على استيعاب بنية المشاعر العربية. وكان أول من كشف لي عن دور الرحلة إلى لبنان وسوريا التي تتكرر في السينما المصرية منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى خمسينياته، ليس فقط في توسيع جغرافيا الفيلم وطبيعة المنظر فيه، ولكن أيضا ومع استيعاب عدد من الممثلين اللبنانيين فيها بلهجتهم المحلية، لتوسيع بنية المشاعر لدى الجمهور العربي العريض. وكانت لديه قدرة خارقة على قراءة محتوى صيرورة الشكل في السينما العربية، ودلالاته الفكرية من ناحية وعلى موضعة تلك المسيرة في سياقاتها الثقافية والتاريخية وحتى السياسية. فقد كان فيما يبدو ومن جلسات قليلة عن السينما امتدت معه لساعات، مدرسا قديرا، لأنه صاحب فهم عميق لموضوعه، وقدره على توصيل هذا الفهم للآخرين. بمعنى أنه كان ينطلق في أي تناول للسينما من فهم نظري واضح ترفده الخبرة العملية والمعرفة الموضوعية الواسعة. فلم يكن توفيق صالح ككثيرين ممن لبوا متطلبات السينما كتجارة وصناعة في المحل الأول، وهما أمران مهمان في هذا الفن المركب، من الذين خرجوا من أروقة الإنتاج أو العمل الحرفي فيها، وتدرجوا في «المهنة» من خلال التدريب على أيدي روادها الأوائل. ولكنه كان من القلائل الذين جاءوا إليها من خلفية ثقافية وتعليمية راقية. وفرتها له طبقته الاجتماعية التي ولد فيها، والمدينة/ الحاضنة الثقافية الراقية التي نشأ بها.

فقد ولد توفيق صالح في الإسكندرية في 27 أكتوبر عام 1926 لطبيب كان يعمل بالحجر الصحي فيها، أيام كان الأطباء من علية القوم. وحينما كانت الاسكندرية بحق عروس البحر الأبيض المتوسط. مدينة كوزموبوليتانية بالمعنى الكامل للكلمة، يثريها تعدد اللغات والثقافات وتجاور الأعراق والرؤى فيها. لم تكن الإسكندرية في العقود الأولى من القرن الماضي، كما هي عليه الآن، مدينة تحاصرها العشوائيات والقذارة ومنتجعات الفساد الفظة، والتخمة البليدة التي تنهش أطرافها كاشفة عن سفه الثراء السهل والفقر المدقع معا، وإنما كانت أحد أبرز حواضر المتوسط، لا تقل رقيا ونظافة وجمالا عن أرقى المدن الأوروبية. ولأن وسيلة المواصلات الأساسية في القرن التاسع عشر وحتى نهاية العقد الرابع من القرن العشرين كانت السفينة، فقد كانت المدينة مرفأ وصول كل الأجانب الذين يفدون لمصر، وأكثرهم من الأوروبيين ومستقر جاليات كبيرة منهم. لأن المهاجر يميل عادة إلى الاستقرار في بلد الوصول. وهذا هو السر في أن عدد الأجانب، من الأوروبيين خاصة، في الاسكندرية كان أكبر من عددهم في القاهرة.

ولأن الأجنبي يقيم في بلد الوصول مستقرا أو مشروعا على غرار ما تركه وراءه، أو ما حلم بتشييده في بلده ولم يستطع، فقد كانت المدينة مليئة بالمقاهي والفنادق والمطاعم والمدارس التي تضاهي أرقى ما تركته الجاليات الإيطالية واليونانية والفرنسية والبريطانية وراءها في بلدانها الأصلية. وكانت فيها جاليات أجنبية تعيش جنبا إلى جنب مع أبناء المدينة الأصليين، في مناخ ثقافي ثري يعرفه من قرأ قنسطنطين كافافي أو رباعية لورانس داريل الشهيرة عنها (رباعية الإسكندرية). وكان توفيق صالح ابن الشريحة العليا من الطبقة الوسطى المصرية، وأهم ما تحرص عليه الطبقة الوسطى المصرية هي أن توفر لأبنائها أرقى ما تستطيع من تعليم، فذهب منذ نعومة أظافره إلى مدارس الجاليات الأوروبية الراقية التي وفرتها له المدينة، ثم إلى كلية فيكتوريا الشهيرة بها. وما أن أكمل تعليمه الثانوي بها حتى كان طه حسين قد أسس أحد أهم صروحه الثقافية الكبرى فيها، والتي وضع أسسها في كتابه الشهير (مستقبل الثقافة في مصر) 1938، ألا وهو جامعة الإسكندرية.

وكانت جامعة الإسكندرية، التي أسسها طه حسين عام 1942 وكان أول مدير لها، تضاهي أرقى الجامعات الأوربية على الضفة الأخرى من المتوسط. فقد أسس مشروعه الثقافي الذي بلوره في كتابه الشهير ذاك على الحوار الخلاق بين ضفتي المتوسط، وعلى ضرورة التوجه ثقافيا ومعرفيا صوب الضفة الأوروبية الأخرى. وعلى العكس من مثقفي عصر الانحطاط الجهلة، وأعلام حظيرة فاروق حسني وتابعه الهمام جابر عصفور وغيرهم من مثقفي حرملك عصر مبارك المخلوع، الذين تصور بعضهم أنهم يقومون بدوره التنويري في عصر الهوان والتبعية الذي ثارت عليه مصر في 25 يناير؛ كان طه حسين على معرفة حقيقية وليست قشرية بما يدور في الضفة الأخرى من المتوسط، وعلى اتصال فعلي بكبار مثقفيها الذين طلب منهم أن يرشحوا له مجموعة من أنبه شبابهم للعمل فيها. ويكفي أن تعرف أن جامعة الإسكندرية الوليدة استقطبت بفضله للتدريس فيها آنذاك مجموعة من أفضل شباب أوروبا الذين أصبح لهم شأن كبير في ثقافاتهم فيما بعد. فقد عمل فيها أ. ج. جريماس ورولان بارت وميشيل فوكو في بواكير شبابهم، كما عمل فيها الشاعران والكاتبان البريطانيان الشهيران روبرت جريفز وجون هيث ستبس.

في هذه الجامعة، التي كانت جامعة بكل معنى الكلمة، درس توفيق صالح الأدب الانجليزي، وكان من مجايليه فيها عدد ممن سيصبحون أعلاما مرموقين في قابل الأيام مثل مصطفى صفوان ومحمد مصطفى بدوي ومحمود المنزلاوي ومحمود مرسي وإدوار الخراط وألفريد فرج وغيرهم. وقد كشف توفيق صالح عن ولعه بالفن وهو لايزال طالبا بجامعة الإسكندرية، عندما أخرج في سنته الأخيرة بها مسرحية توفيق الحكيم (رصاصة في القلب)، والتي برهنت عن موهبته الفنية حينما عرضت في مسرح جمعية الصداقة الفرنسية، فعرض عليه رئيس قسم الأدب الفرنسي بالجامعة منحة لدراسة المسرح في فرنسا. ولكنه طلب أن يدرس السينما بها بدلا من المسرح، حيث كان قد بدأ يتصل أيضا بعالم السينما، ويعمل مساعدا لأحد مخرجيه وهو حسين فوزي. وما أن أنهى دراسته الجامعية عام 1949 حتى سافر إلى فرنسا لدراسة السينما بها في 1950.

وفي فرنسا التقى في جامعة السوربون التي التحق بها بأستاذ علم الجمال فيها «إيتيان سوريو» فغير هذا اللقاء حياته كما يقول في أحدى إفضاءاته. لأنه دفعه إلى الوعي بالجدل المستمر بين الصيغ الفنية المختلفة، واكتشاف عوالم الخبرات الجمالية المتباينة، ونبهه إلى الارتباط الوثيق بين الرسم والمسرح والتصوير الفوتوغرافي والأدب. فانطلق يعب منها جميعا، وأخذ يدرس الرسم والفوتوغرافيا وينهل من فيوض الأدب الروسي التي لا تنضب، دون التركيز على الدراسة التي أوفد من أجلها. فسُحِبت منه المنحة بعد عام واحد. فقد كان فهم الجيل الأول للدراسة في الخارج فهما معرفيا واسعا، لا يرتبط بقاعات الدرس، ولا بقيود الشهادات في المحل الأول، قدر ارتباطه بانتهاز فرصة وجوده في عالم ثقافي غني مغاير للاغتراف من معارفه، لأن عليه أن يستوعب أفضل ما فيه، وأن يرَقِّي عبره مداركه وذائقته. كان هذا ما فعله توفيق الحكيم ومحمد مندور من قبله. فانطلق في إثرهما يثقف نفسه قدر طاقته، غير عابئ بالمنحة التي سُحِبت منه ولا بشروطها المقيدة لحرية الثقافة.

وواصل الحياة في باريس بعد عام المنحة الأول ذاك لعامين آخرين يثقف فيهما نفسه، ويتعلم السينما كما شرحها له أستاذه، أستاذ علم الجمال، سوريو. يوسع معارفه بكل الفنون والآداب، ويواصل في نفس الوقت التعرف على أدوات صناعة الفيلم وحرفيتها. لأنه كان قد تعرف على منتج سينمائي فرنسي استخرج له تصريحا من النقابة الفرنسية بالعمل كمخرج تحت التمرين، فواصل العمل في عدد من أفلام الدرجة الثانية الفرنسية الشعبية كما يقول، ليكتسب مع المعرفة النظرية والفنية والفكرية أدوات العمل السينمائي العملية. ففي هذين العامين الأخيرين عرف توفيق صالح عددا من مثقفي اليسار الفرنسي وتعرف على فكرهم. فقد كانت الخمسينات من أزهى فترات ازدهار الفكر اليساري في فرنسا، حيث ازدهر فيها بعدما أبلى أعلامه في الثقافة خاصة بلاء حسنا في ساحة المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، فتفتح وعيه على فكر اليسار، وعلى الالتزام في الفن معا.

وفي ديسمبر عام 1953 عاد توفيق صالح إلى مصر وقد أحس بأنه نهل من معارفها الفنية والفكرية ما يؤهله لبداية حياته الفنية بتمكن واقتدار. وتعرف في العام التالي على نجيب محفوظ الذي كان قد فرغ من كتابة ثلاثيته الكبيرة (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية)، وإن لم ينجح في نشرها بعد، وأخذ ينفق طاقته إبان البحث عن ثيمات روائية جديدة في الكتابة للسينما. وكان نجيب محفوظ وعبر معرفتي الطويلة به شديد الشره لمعرفة ما يدور في الخارج واستيعاب رؤاه، وكيف تلقاه مصري عاش فيه. لذلك رحب بتوفيق صالح في دائرته القريبة، وعرف منه ما عرفه في فرنسا وما يدور في أروقتها الثقافية. كما وجد توفيق صالح في نجيب محفوظ أكثر من عرفهم من المصريين وقتها قدرة على فهمه وعلى الحوار مع أفكاره الجديدة، وخاصة في عالم السينما الذي كان محفوظ بالقطع أكثر من فيه ثقافة ومعرفة وسعة أفق. لذلك عرض عليه توفيق صالح مشروع الفيلم الذي كان قد أعده في أواخر فترة إقامته الباريسية، وميله لفكر اليسار فيها. وهو معالجة سينمائية فكر في أن يبدأ بها حياته الفنية في مصر، فنصحه نجيب محفوظ بعدم تنفيذها لئلا يُتهم بالشيوعية. فقد شهد عام 1954 أول اعتقالات واسعة للشيوعيين في مصر بعد أزمة مارس الشهيرة، وعقب التوقيع على اتفاقية الجلاء التي انتقد اليسار المصري بشدة تضمنها لبند، سمته المعارضة سخرية بالبند التركي، يتيح لبريطانيا العودة إلى القناة، إذا ما تعرض أمن أي من بلدان المنطقة أو حتى أمن تركيا للخطر، حفاظا على سلامة الممر الملاحي.

لكن محفوظ قرر مساعدة صديقه على تحقيق حلمه ببداية فنية جديدة دون تعريضه للخطر، بالانطلاق من معالجة توفيق صالح، والتمويه عليها بتجذيرها في الحارة المصرية، عالم محفوظ الأثير، والحفاظ في الوقت نفسه على روحها النقدية والثورية معا. فكانت (درب المهابيل)، نتيجة هذا التحوير الجديد، باكورة أعمال توفيق صالح التي اخرجها عام 1955 فلفتت له الأنظار بمنهجها الواقعي الجديد الذي يرى الواقع بعين جديدة؛ أسست لواقعية نقدية، مغايرة لواقعية المحاكاة التقليدية التي عرفتها السينما المصرية قبله في أفلام مثل (العزيمة) 1939 لكمال سليم، أو (السوق السوداء) 1945 لكامل التلمساني، أو (النائب العام) 1946 لأحمد كامل مرسي، وحتى (ريا وسكينة) 1953 لصلاح أبوسيف. فقد اتسم (درب المهابيل) برغم موضوعه البسيط، ودوران جل أحداثه في الحارة المحفوظية الأثيرة، وواقعيته الشعبية، برهافة جماليات الصورة السينمائية وزوايا التصوير فيه. إذ يلفت الفيلم انتباه المشاهد لها منذ لقطة السلة الافتتاحية التي تهبط لعالم الحارة من علٍ بكاميرا تسجل وتكتشف وتحلل في آن. كما أنه استطاع أن يطرح جدليات الواقع الخصب في مواجهة الحل الهروبي الذي تشكله ورقة اليانصيب، والذي ساد في سينما ما بعد الحرب العالمية الثانية.

وتوشك نهاية الفيلم التي تتجاور فيها حركة الجموع في توافدهم المحموم على مجذوب الحارة لخطب وده، مع حركة جموع الماعز التي تلتهم الأوراق النقدية التي جلبتها ورقة اليانصيب أن تكون صدمة قاسية لكل سينما الشره للمال والهروب من الواقع في عالم مابعد الحرب العالمية الثانية. كما اتسم الفيلم ببناء الشخصيات الغنية متعددة الأبعاد والقادرة على أن تتحول إلى استعارة لما يدور في الواقع الأوسع. بدءا من الشباب الراغب في الانفلات من قبضة الفقر والقهر وتأسيس حياة جديدة على أسس من الحب والندية في قصة بطليه الإيجابيين، طه صبي العجلاتي وخديجة، مرورا بتزمت الأب، والد خديجة، الديني المغلق الذي ضيع فرصة الثراء الهابطة مع ورقة اليانصيب، والذي تصفه زوجته بأنه لا يرحم ولا يترك فرصة لرحمة الله. وصولا إلى نظيري الحبيبين المتمثلين في عبده ابن عمارة العجلاتي وعلاقته الحرام بعاهرة الحي، وإلى نموذج «أفة» المجذوب الذي تؤول له ورقة اليانصيب بالصدفة البحتة، وتعري تلك الثروة التي هبطت عليه الحارة، وتحرك ركودها ورتابة الحياة فيها، بل تفجر الكثير من الأطماع والصراعات التي كانت خامدة تحت سطح تلك الرتابة فيها.

ولأن الفيلم يعي أهمية تجنب الحلول الهروبية، فإنه وقد استخدم الثروة الكبرى التي هبطت على الحارة مع ورقة اليانصيب في تعرية شخصياتها، ينتهي بها وقد تبددت عندما تناثرت النقود التي أخفاها «أفة» في غطاء عنزته، والتهمتها الماعز، والتهمت معها فرص الثراء الوهمية، لتواجه الشخصيات واقعها بعدما كشفت الأحداث عن حقيقة الحارة وعن جدليات الصراع بين شخصياتها. بصورة شكل معها الفيلم نقلة نوعية جديدة في السينما الواقعية القادرة على الارتفاع بعرامة الواقع وزخمه إلى آفاق الشعر.

بالرغم من نجاح فيلم توفيق صالح الأول فنيا، بالصورة التي أصبح معها الآن أحد كلاسيكيات السينما المصرية، إلا أنه لم ينجح تجاريا بالدرجة الكافية. مما وضع عددا من الصعوبات أمام حصوله على فرصة ثانية يواصل عبرها تجديده للسينما المصرية، وتثويره لاستراتيجيات الفيلم فيها. فلم تجئه الفرصة الثانية إلا بالصدفة، وبعد سبع سنوات، حينما حال المرض بين المخرج والمنتج عزالدين ذوالفقار وإخراج فيلمه (صراع الأبطال) فأوكل إخراجه له عام 1962. ووافق توفيق صالح على تنفيذ العمل، وقبل القصة التي كتبها عزالدين ذوالفقار نفسه مع عبدالحي أديب ومحمد أبوسيف، ولكنه قرر إعادة كتابة السيناريو كلية. فجاء فيلمه الثاني تعزيزا لمنهجه في الواقعية النقدية التي انتقل بها في هذا الفيلم الثاني من الحارة القاهرية إلى القرية النائية الصغيرة. مطورا جماليات الحبكة المتقنة والمركزة عنده في قدرتها على الكشف عن جذور الصراعات الطبقية، وهي تتبدى من خلال مستويات اقتصادية واجتماعية ومعرفية في آن. حيث تستخدم القوى الاجتماعية المسيطرة كل ما في جعبتها لعرقلة مساعي طبيب جديد انشغل، كما يجب على المثقف بقضايا القرية التي وجد نفسه يعمل بها، وليس بكسب ود القوى المسيطرة فيها والمتحكمة في أقدار فلاحيها.

ويكشف الفيلم من خلال قصته التي تعتمد على تفاعل حبكتين وزمنين: زمن ما قبل وصول قطار الطبيب الذي يبدأ به الفيلم، وينتهي به مغادرا فيه، ولكن بعد صراعه مع قوى القهر في القرية صراعا هو صراع الأبطال فيها، لأنه يكشف عن بنية السيطرة والسلطة التي تبقى الفلاحين تحت خط الفقر، يقتاتون على الفتات، فعلا لا مجازا، إذ يعيش فقراؤهم على مخلفات المعسكر الانجليزي القريب، والتي لا يتركها لهم الاقطاعي بل يتاجر فيها، يمتص بها دمهم وعرقهم، حتى تتسبب في انتشار وباء الكوليرا بينهم. وكيف يجد الاقطاعي المتحكم أنصارا في الاحتلال الانجليزي ومفتش الصحة والقابلة والعمدة وكل من يضيره أن يتحرر الفلاحون من الجهل والفقر والمرض. ويجسد الفيلم سطوة التخلف في مواجهة سعي التحرر والتقدم الوئيد من خلال تحريك الجموع فيه، لا صوب التقدم والتحرر، وإنما كي تبقى سادرة في الجهل والتخلف. وقد صور توفيق صالح حركة الجموع، وقد حركها الكذب والخوف والتضليل بصورة جعلت هذا الفيلم نموذجا للتوظيف الفني والجمالي معا للجموع، وقد صورها من زوايا متعددة. وخلق من هذا القسم من الفيلم لوحة باقية في ذاكرة السينما المصرية. كما استطاع أن يحيل وباء الكوليرا الذي ضرب القرية إلى استعارة دالة على كثير من الأوبئة التي تعمر القرية، وتتحكم في حركة عالمها وفي مقدمتها القهر والاستغلال. والواقع أن حركة الجموع في هذا الفيلم تتجلى بصورة بالغة الرقي والحرفية والجمال معا على الشاشة، وتكشف في الوقت نفسه عن قدرة مدهشة على التعبير بالصورة والحركة عن البنية التحتية للواقع الجمعي المصري.

 

بعد أربعة أعوام قدم توفيق صالح فيلمه الثالث (المتمردون) 1966 الذي يوشك أن يكون أكثر افلامه قربا من موضوع الثورة على الأوضاع الفاسدة التي يرزح تحتها الواقع، والذي استشرف فيه هزيمة 1967 التي وقعت قبل أيام من عرض الفيلم الذي تعثر لعام تقريبا في أروقة الرقابة والجدل معها، بالرغم من لجوء الفيلم إلى حيلة موضعة أحداثه تاريخيا قبل الثورة. لكن الفيلم الذي قدم استعارته الشفيفة للمعتقل السياسي/ المصحة التي يرزح فيها تحت وطأة القهر والفساد عالم من المرضى، الذين لم يقعدهم المرض عن الشوق للتغيير، ولمستقبل أفضل. فالفيلم الذي كتب له السيناريو توفيق صالح كما هي الحال في كل أفلامه، مأخوذ عن رواية صلاح حافظ التي كتبها في معتقل الواحات الشهير الذي أمضى فيه عددا من سنوات الستينيات، والتي يكشف فيها عن استشراء القهر والفساد في مجتمع يعمره الأمل في مستقبل أفضل، ويطمح للتغيير، بالرغم من قهر السلطة لتمرده.

أما فيلمه التالي فكان (السيد البلطي) عام 1967 المأخوذ عن رواية صالح مرسي (زقاق السيد البلطي). ويوشك هذا الفيلم أن يشكل مع (درب المهابيل) الحارة القاهرية، و(صراع الأبطال) القرية المصرية، ثلاثية يكتمل بها استقصاء الفضاءات المصرية الأساسية. لأن هذا الفيلم يتقصى جماليات الفضاء الثالث وهو الفضاء الساحلي. فتوفيق صالح الشغوف بسينما الأبيض والأسود، شغوف ايضا بشعر الصورة واقتناص جماليات المكان في تكويناتها المنتقاة بعناية بالغة. لكن شغف توفيق صالح الجمالي لا يتحقق إلا بدراما التغير وتناقضاته الاجتماعية؛ سواء أجرى الأمر في الحارة أو القرية أو في مجتمع الصيادين، كما هو الحال في هذا الفيلم. وهو أكثر أفلام توفيق صالح انشغالا بقضية الحداثة ورياح التغيير الذي تجلبه المركب الألية الضخمة التي تعاند الرياح إلى حياة صيادي القوارب البدائية الصغيرة التي تعصف بها الرياح نفسها. كما أن فيلمه هذا من اكثر أفلامه انشغالا بتعدد الحبكات وبالتضافر بين الصراعات الاجتماعية والطبقية من ناحية، وقوى الطبيعة ورياح التغيير التي تعصف عادة بالضعفاء من ناحية أخرى.

لكن فيلم (يوميات نائب في الأرياف) عام 1968 والمأخوذ عن عمل توفيق الحكيم الشهير، هو عندي أحد أجمل أفلام الأبيض والأسود المصرية، وأشدها رقة وشاعرية وواقعية معا. وقد عانى توفيق صالح في إخراج هذا الفيلم بالصورة التي أبدعه بها كثيرا، إلى الحد الذي لم يعرض فيه الفيلم إلا بعد أن شاهده جمال عبدالناصر شخصيا وصرح بعرضه كاملا، في وجه مطالبات متكررة من أعضاء متنفذين في «الاتحاد الاشتراكي» وقتها، بحذف عدد كبير من مشاهده بعد أن أخالته لهم أكثر من جهة رقابية وسيادية وقتها. والواقع أن هذا الفيلم الذي كتب له توفيق صالح السيناريو أيضا كعادته في كل أفلامه، فكتابة السيناريو عنده لا تنفصل عن الرؤية الإخراجية، وبنية العمل الدرامية وهي عماد بنيته السينمائية، يعتمد على واحدة من أفضل أعمال توفيق الحكيم وأكثرها أصالة. وهو الأمر الذي عززه السيناريو والإخراج معا بصورة لا يقل معها الفيلم جمالا وعمقا وشاعرية عن النص الذي أُخذ عنه، وهو من الأمور النادرة حيث تتفوق النصوص الأدبية في أغلب الأحيان على معالجاتها السينمائية. والواقع أن أجمل ما في هذا الفيلم هو قدرته من خلال التحكم في الإيقاع وجماليات تشكيل المشهد واللقطة على تأكيد أن زمن نص توفيق الحكيم زمن سرمدي، لم يتغير بالرغم من مرور عشرات الأعوام عليه. فلاتزال الجريمة الغامضة التي راح الفلاح ضحيتها بلا حل. ولم نعرف بعد من ارتكبها، ولاتزال محاولات فض طلاسمها تتعثر في أليات انتاج جرائم أخرى يروح ضحيتها أجمل ما في القريم «ريم» الجميلة، ولاتزال الانتخابات تزور كما كانت تزور في زمن توفيق الحكيم، وبعد مرور ستة عشر عاما على ثورة جمال عبدالناصر.

وقد بدأ توفيق صالح بفيلمه الأول (درب المهابيل) عام 1955 بداية مضيئة، كان من الممكن لو لم تعرقلها العراقيل أن تنتج عددا كبيرا من الأفلام الجيدة. ولكن توفيق صالح على مد رحلة طويلة مع السينما لم يخرج بعده غير أربعة أفلام أخرى في مصر، وفيلمين خارجها. ومع أنه أخرج سبعة أفلام فقط، فإن ثلاثة أو أربعة منها تعد الآن بين أفضل مئة فيلم عربي. وذلك لحرصه على إثراء عمله السينمائي فنيا وفكريا على السواء، وعلى عدم المساومة على مبادئه الفكرية ورؤاه الفنية. إذ تشكل ثلاثة من أفلامه المصرية الخمسة ثلاثية مهمة أدعوها بثلاثية تفكيك الواقع الاجتماعي المصري والتعرف على أدوائه وسبر أغوار بنيته التحتية. فبعد (درب المهابيل) الذي دار في الحارة القاهرية وتناول تأثير حالة الخدر الاجتماعي التي تفشت في المدينة المصرية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، انتقل في فيلمه التالي (صراع الأبطال) إلى القرية المصرية، كي يراها بعين واحد من أبنائها مهموم بضرورة أن يلعب دوره فيها. وأن يعالج ما تعاني منه من سلبيات وفقر وخرافة. فقصة الفيلم هي قصة طبيب جديد طالع من الطبقات الشعبية، ويشعر لذلك بالمسؤولية عن النهوض بالفلاحين وعلاجهم، لا من المرض فحسب، ولكن من استغلال الطبقة الاقطاعية لهم. في واقع يتحالف فيه الاقطاع مع الاستعمار الانجليزي في نفس مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية، واستشراء وباء الكوليرا في بعض القرى المصرية المتاخمة للمعسكرات الانجليزية والتي تعيش على «زبالتها». ثم انتقل مرة أخرى في فيلمه الرابع (السيد البلطي) إلى السواحل المصرية وعالم الصيادين فيها. يتناول صدمة التحديث ووفود القوارب المميكنة الكبيرة وتأثيرها على مجتمع الصيادين الفقير وقوارب المجاذيف اليدوية الشراعية الصغيرة. مفككا آليات الحراك الاجتماعي الجديدة التي تتخلق نتيجة لهذا التغيير.

والواقع أن ما أبقى هذه الثلاثية الفيلمية الجميلة في ضمير السينما المصرية علامة على سينما جادة ومغايرة للسائد والمألوف هي قدرتها على استقصاء الفضاءات المصرية الأساسية، والكشف عن جمالياتها البسيطة وشعرها الداخلي. لأن هذه الأفلام الثلاثة على صعيد جماليات الصورة والكادر السينمائي تتقصى جماليات الفضاءات المصرية الثلاثة: الحارة والقرية والحي الساحلي الفقير، المطل على البحر وأنوائه العاصفة. فلاتزال صور المراكب البيضاء بتشكيلاتها الجميلة وصياديها الذين ينشرون شباكهم فوق صفحة البحر الرمادية تأسر المشاهد حتى اليوم. فتوفيق صالح الشغوف بسينما الأبيض والأسود، شغوف ايضا بشعر الصورة واقتناص جماليات المكان في تكويناتها المنتقاة بعناية بالغة. سواء أتعلق الأمر بفضاء الحارة المحدود، أو بفضاء القرية المفتوح على الزرع والنخيل، أو فضاء الساحل بقواربه وشباكه وامتدادات الماء المرهصة بالخير والموت معا. وهي جماليات يكتب عبرها توفيق صالح دراما التغير وتناقضاته الاجتماعية؛ سواء أجرى الأمر في الحارة أو القرية أو في مجتمع الصيادين. فعلى العكس من سينما شادي عبدالسلام المولعة هي الأخرى بجماليات الأبيض والأسود، وبشعرية تكوين الصورة، فإن جماليات الصورة عند توفيق صالح تحرص على القيام بوظائفها الاجتماعية وبالكشف عن البنية التحتية للواقع من خلال عمليات التجاور والتناقض الدرامية بين الصور والتكوينات.

أما الفيلمان المصريان الباقيان (المتمردون) و(ويوميات نائب في الأرياف) فإنهما يشكلان ثنائية تفكيك آليات السلطة المصرية عنده. حيث سعى أولها، وهو يتناول موضوع الفساد في مؤسسة علاجية معزولة في الصحراء، والتفاوت الشديد فيها بين ما يتلقاه الأثرياء من رعاية وما يعانيه الفقراء من إهمال، إلى خلق استعارة شفيفة لما يدور في المعتقلات السياسية، وانعدام الحرية. بينما قام ثانيهما، وهو أجمل أفلام توفيق صالح المصرية وأكثرها عذوبة عندي بالكشف عن مدي استمرار بنية انعدام الحرية وتزوير الانتخابات في الواقع المصري، لا حتى نهاية المرحلة الناصرية التي أخرج الفيلم في أواخرها، ولكن والعمل الفني الجيد يصوغ نبوءته الكاشفة للواقع حتى الآن. فلايزال الحلم المصري الذي حرك الثورة والناس حتى اليوم هو الحلم بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

ويبدو أن الواقع المصري لم يحتمل تمرد توفيق صالح عليه أكثر من ذلك، فكان هذا الفيلم الجميل آخر ما أخرجه للسينما المصرية. فبعده بعامين رحل عبدالناصر الذي انقذ تدخله فيلمه الأخير من التشويه بل التدمير على أيدي الجهل والرقابة. وجاء عصر أنور السادات الكئيب بمناخه الطارد، وتفريغه للعقل المصري من حراس الضمير فيه، كي يتيح للتيار الإسلامي النمو والتسلط وفرض الحجاب على وجوه النساء وعقول الرجال من ناحية؛ وكي يمرر مخططه في التفريط في الاستقلال الوطني والهوان والتبعية من ناحية أخرى. وخرج توفيق صالح مع من خرجوا نتيجة للمناخ الطارد في عصر السادات. ذهب إلى لبنان ثم إلى سوريا حيث أخرج فيلمه التالي وفي ملابسات لا تقل تعقيدا وإشكالية عن تلك التي تركها خلفه في مصر. إذ كان فيلمه التالي (المخدوعون) عام 1972 عن رواية غسان كنفاني الشهيرة (رجال في الشمس) من انتاج المؤسسة السورية العامة للسينما. وهو فيلم كان يريد أن يخرجه في مصر منذ قرأ رواية غسان كنفاني في الستينيات، ولكن المشروع تعثر. وقد كتب له السيناريو كعادته في كل أفلامه، وناقش مع صاحبه، قبل اغتيال الدولة الصهيونية له، أهمية تغيير نهاية الرواية التي تنتهى بسؤال مرّ: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ فقد دق الفلسطينيون جدران الخزان، وسمع العالم دقاتهم بكل عنفوانها وغضبها.

وفيلم (المخدوعون) ككل أفلام توفيق صالح السابقة مصور بتقنيات الأبيض والأسود، برغم توفر الألوان وقتها بيسر، وهو اختيار جمالي قبل أن يكون مصادفة تقنية. ويدور الفيلم/ كالرواية التي صاغت نبوءة كنفاني الباكرة بأن الكويت لا يمكن أن تكون فردوس الفلسطيني، لأنها مقبرته. يدور في عام 1958 في الكويت، حيث يحاول ثلاثة من الفلسطينيين، يمثلون ثلاثة أجيال من الفلسطينيين عقب النكبة: الجيل الذي انهزم في الحرب، والجيل التالي له، ثم الشاب الغض الذي عليه أن يتحمل عبء تلك الهزيمة/ النكبة، الهروب من البصرة إلى الكويت. ويقترح سائق شاحنة خزان مياه فلسطيني أن ينقلهم في شاحنته ويهربهم سرا عبر الحدود لقاء أجر زهيد، ولكنهم يختنقون في الخزان من شدة الحر، ويلقيهم السائق على أكوام القمامة في الكويت وهو يتساءل: لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ لكن فلسطينيي توفيق صالح يدقون جدران الخزان عام 1972 والذي لم يدقه فلسطينيو غسان كنفاني عام 1958، دون أن يغير الأمر كثيرا من مصائرهم، إذ ينتهون أيضا بالموت، وكأنهم يؤكدون ما أكدته حرب الخليج بعد ذلك بعقدين، أن الكويت هي مقبرة الفلسطيني، وليست بأي حال من الأحوال منجاته.

لم تتح الصعوبات التي لاقاها توفيق صالح أثناء انتاج فيلمه ذاك، والذي امتلكت حقوق عرضه مؤسسة السينما السورية، والتلفزيون البريطاني، لهذا الفيلم أن يرى النور، إلا على شاشة التلفزيون الانجليزي. لأن مؤسسة السينما السورية منعت عرضه، بالرغم من فوزه بأكثر من جائزة في أكثر من مهرجان. ولم يتح لمخرجه أن ينتج فيلما آخر في سوريا أيضا، بالرغم من أنه كان يريد مواصلة العمل فيها، لأن الظروف التي تركها وراءه في مصر كانت تزداد سوءا عاما بعد عام. وأذكر أن توفيق صالح طلب مني أن أسجل له نسخة VHS من هذا الفيلم حينما يعرض في التلفزيون ببريطانيا مرة أخرى، وقد فعلت وجلبت له نسخة مسجلة منه. ثم سافر بعد سنوات قليلة للعمل في العراق، مدرسا لفن السينما في كلية الفنون فيها. وفي أثناء إقامته العراقية في أواخر السبعينيات أخرج فيلمه الأخير في العراق، وهو (الأيام الطويلة) عام 1980 والمأخوذ عن رواية بنفس الاسم لعبدالأمير معلة. وبوشك هذا الفيلم أن يكون الاستثناء في عالم توفيق صالح. فهو فيلمه الوحيد بالألوان، عن تجربة الشاب محمد الصقلان (صدام حسين) في اغتيال عبدالكريم قاسم، وهروبه إلى مصر التي يعيش فيها أياما طويلة من الانتظار قبل العودة مرة أخرى. وهو الفيلم الوحيد الذي يتناول قضية سياسية بشكل مباشر، فكل أفلام توفيق صالح تتناول السياسة بشكل غير مباشر. وهو أخيرا الفيلم الوحيد له الذي لم أشاهده، ولا استطيع أن أكتب شيئا عنه.

وأخيرا لا أستطيع أن أنهي هذه الكلمات التي أكتبها بمناسبة رحيل هذا الفنان الكبير والإنسان العذب دون أن أحكي عن المرة الأخيرة التي التقيته فيها قبل عدة سنوات. كان ذلك بالتحديد يوم 30 أغسطس عام 2006 وفي الجنازة الرسمية لنجيب محفوظ، وهي الجنازة التي أصر رئيس الجمهورية وقتها، محمد حسني مبارك، على تصوير نفسه وهو يمشي فيها مع ابنه الذي كان يجهزه لوراثة عرشه. وكان مبارك في سنوات حكمه الأخيرة وقبل أن يعزله الشعب المصري بثورته النبيلة عليه في 25 يناير 2011، يعيش في قوقعة أمنية محكمة، لا يتاح لأحد، حتى ولو كان جثة ميته، كما هو الحال مع نجيب محفوظ يومها، أن يدخلها إلا بعد تفتيش دقيق. وكانت المقادير وحدها قد أتاحت لي دخول تلك القوقعة، وحضور مراسيم الجنازة بصدفة غريبة.

فقد تلقيت خبر موت نجيب محفوظ الذي كنت أحرص على رؤيته بانتظام في كل مرة أزور فيها القاهرة، وأنا عائد من رحلة من الدار البيضاء إلى القاهرة مساء اليوم الذي توفي فيه. ولذلك ما أن استيقظت في صبيحة يوم وصولي للقاهرة حتى توجهت إلى الجنازة التي سمعت من الإذاعة أنها ستكون جنازة رسمية يحضرها رئيس الجمهورية وتخرج من مسجد آل رشدان بمدينة نصر بالقاهرة. فتوجهت إلى هذا المسجد بمفردي، ودون معرفة بأن حضور أي حدث يحضره مبارك وقتها كان يخضع لإجراءات أمنية صارمة. والواقع أن وجودي لفترات طويلة خارج مصر قد جنبني الخضوع لمثل تلك الإجراءات الأمنية الفظة، أو كان السبب في استخفافي بها، أو ربما عدم تفكيري أصلا فيها. سأعرف فيما بعد، وبعد انتهاء مراسم الجنازة المهزلة والتي كانت أقرب إلى كوميديا سوداء منها إلى أي جنازة رسمية مهيبة، أن كل المثقفين الذين سمح لهم بحضور تلك الجنازة قد شحنوا «كالأنفار» في سيارة جاءت بهم من المجلس الأعلى للثقافة، وبعد أن استخرج لهم «مقاول الأنفار الثقافية» جابر عصفور تصريحات أمنية رسمية عُرضت بمقتضاها أسماؤهم على أمن الرئاسة، واستبعد منهم من استبعد.

لكني لم أتعرض لشيء من هذا بمحض المصادفة، وربما لأنني كالطفل الذي اكتشف أن الإمبراطور عارٍ لا أعرف قواعد البرتوكول في دولة مبارك البائدة. وإن كنت قد تذكرت بعد الموقعة، المرة الوحيدة التي شاهدت فيها مبارك شخصيا قبلها بعدة سنوات في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وما تعرضنا له من رقابة أمنية في الدخول والخروج إلى القاعة التي كان يلتقي فيها بكل من دجنوهم من المثقفين وأدخلوهم حظيرة فاروق حسني الشهيرة، والانتظار لأكثر من ساعة قبل حضوره، ثم معرفته بعدد محدد من الذين أجلسوهم في الصف الأول كي ينافقوه. والواقع أنني حضرت هذه الجلسة السنوية مرة واحدة على سبيل الفرجة على كرنفالاتهم، والتعرف على ما يدور فيها عن كثب، ولم أكررها. المهم أنني أخدت تاكسيا في الصباح وتوجهت إلى المسجد الذي ستخرج منه جنازة نجيب محفوظ، لأنني وقد استيقظت متأخرا بعد سفر الليلة الماضية لم ألحق بالصلاة التي أقيمت صباحا علي جثمان نجيب محفوظ في مسجد الحسين الشهير قرب الأزهر، بحي الجمالية. وما أن وصل التاكسي إلى أول الشارع المفضي للمسجد، حتى وجدنا الكردون الأمني المنبئ بأن مبارك سيحضر. فقال لي سائق التاكسي وهو يشير إلى المسجد على بعد ثلاثمئة متر، أن عليّ أن أنزل هنا وأكمل المسافة مشيا، فلن يسمح له بالدخول إلى الشارع، «لإن الظاهر إن الريس جاي» كما قال لي بفكاهة ابن البلد.

فنزلت وتوجهت إلى المكان، وحينما اقتربت من الباب، تجمع عليّ عدد من ضباط الأمن يسألون عن هويتي وعما أريد، فقلت لهم أليست هذه هي جنازة نجيب محفوظ؟ قالوا نعم! قلت إنني من أهل الفقيد وقد جئت لتلقي العزاء! فجلبوا ضابطا أعلى رتبة، فحص أوراقي، وقلت له كان نجيب محفوظ بمثابة الأب، ولابد أن أتلقى العزاء فيه! وكان معي بالصدفة ما يفيد بأنني عضو في اتحاد الكتاب المصري وأستاذ في جامعة لندن، فأمر بدخولي وبشكل استثنائي. وما أن دخلت وقبل أن أتبين أن الواقفين لتلقي العزاء ممن أعرفهم جميعا مثل زكي سالم وجابر عصفور ويوسف القعيد وجمال الغيطاني، حتى وجدت من يشدني بيدي بعيدا عنهم، فاحتضنته وقد وجدت أنيسا. كان توفيق صالح هو من تشبث بي، وسألني كيف جئت، فشرحت له ما جرى، فقال إنهم جاءوا به من بيته إلى هذا الموقف الغريب، لأن معه مفتاح المقبرة التي سيدفق فيها نجيب محفوظ. وهي مقبرة اشترياها سويا في مقابر جديدة قرب مدينة 6 أكتوبر، وهي من الضواحي الصحراوية الجديدة للقاهرة. وهي نفسها المقبرة التي دفن فيها توفيق صالح إلى جوار نجيب محفوظ قبل أيام قليلة. وقال لي لابد أن تبقى معي وأن تجيء معي للمدفن، فوافقت وظللت معه وبجانبه طوال الوقت.

أدركت وقتها وأنا أحضر بالصدفة المحضة هذه المهزلة الرئاسية كم يشعر توفيق صالح بالغربة في هذا الموقف، قدر شعوري أنا أيضا بالغربة فيه. كانت جثة نجيب محفوظ قد تم اختطافها في حقيقة الأمر كي تستخدم في مناسبة انتهازية لتبيض أو بالأحرى غسيل سمعة الرئيس المتردية بل القذرة وقتها، بسبب موقفه المخزي في الحرب الصهيونية الشرسة على لبنان قبل أكثر من شهر من وفاة محفوظ. واكتشفت مذهولا كيف أن مثقفي الحظيرة الذين وقفوا لتلقي العزاء فيه على معرفة بكل رجال الأمن والسلطة الذين لا يعرفهم توفيق صالح، ولا أعرف أنا حتى أسماءهم التي كانت تثير الرعب في القلوب وقتها، وكان جمال الغيطاني فخورا بمعرفته بهم، يشرح لي بثقة العارف حقيقة كل منهم ودوره الكبير في مؤسسة السلطة. كنت أسمع عن بعضهم، ولما رأيتهم وشاهدت تصرفاتهم لم أصدق مدى تدني مستوى مؤسسة الرئاسة التي تحكم مصر وتتحكم فيها، والتي يديرها شخص يتصرف كـ«عربجي» كما نقول في مصر، بكل ما ينطوي عليه هذا الاصطلاح من سوقية وابتذال. سأحكي مشهدا واحدا مما جرى لأكشف للقارئ عن سر انزعاج توفيق صالح في هذا الموقف وغربتي فيه.

ولكن قبل أن أروي هذا المشهد لابد أن أنقل للقارئ ما جرى قبله. كان المتوافدون على المكان هم كل أفراد المؤسسة الرسمية: الوزراء ووكلائهم والضباط الكبار من كل الأسلحة في الجيش والشرطة، وكلما وفدت جماعة منهم كان توفيق صالح يهمس لي ساخرا: -  دا أحنا عندنا طيران!؟ ومع فوج آخر: وكمان عندنا بحرية! وكمية كبيرة من اللواءات ذوي النياشين، وكمان عندنا وزراء! وشرطة! ... إلخ كانت وفود غريبة تدخل بشكل رسمي، وقد رسم الجميع على وجوههم حزن زائف، وكأننا في كوميديا سوداء بملابس مزركشة بالرتب والنياشين. وكانت السخرية المرة هي سلاح توفيق صالح في تحمل هذا الموقف الغريب الذي وجد نفسه فيه، وهو يشاهد اختطاف جنازة صديق عمره بهذا الشكل البذئ. بل ويشاهد وهو المخرج القدير في تحريك المجاميع، وخاصة في (صراع الأبطال)، كيف يتم إخراج هذه المهزلة الرسمية أمام عينيه بشكل فج رخيص، دون أن يستطيع حتى التدخل، ناهيك عن الاحتجاج. في هذا اليوم رأيت عن قرب كل الوزراء، وكبار رجال البرلمان والدولة! ولم أر مثقفا واحدا غير من يتلقون العزاء، وعرفت فيما بعد أن مقاول الأنفار الثقافية أدخلهم من الباب الخلفي (وهو كباب الخدم في عمارات القاهرة القديمة، الجدير بخدم المؤسسة وكلاب حراستها) وأجلسهم بالتالي في الصفوف الخلفية، بينما دخلت أنا ببراءة طفل أندرسون من الباب الرئيسي كي أتلقى العزاء في الفقيد الكبير. وقبيل وصول مبارك بلحظات سمعت صراخا، ووجدت أحد مثقفي السلطة ينبهني، وقد ساءهم فيما يبدو استخفافي أنا وتوفيق صالح وتهامسنا المستمر وضحكنا، بكل ما كان يدور وسخريتنا منه، بأن هذا هو زكريا عزمي، وهذا يعني أن «الريس» على وشك الوصول!

هنا حدث المشهد الذي وعدت القارئ بروايته، والذي تفوق في غرابته وسوقيته على تمرير أجهزة الكشف عن المفرقعات أو المعادن على جثة نجيب محفوظ، بعدما أمر الأمن بفتح النعش وانتهاك حرمته! إذ توجه زكريا عزمي إلى شيخ الأزهر وقتها (محمد سيد طنطاوي) وقال له بأمر صارم صلِ! فرد عليه بأدب بأن صلاة الجنازة فرض كفاية! وبالطبع لم يفهم زكريا عزمي المصطلح، فوجدته يصرخ فيه: ما تقوليش كفاية! أما أقولك صلِ، يبقى لازم تصلي! صلِ التليفزيون بيصور! فرد عليه شيخ الأزهر لدهشتي ودهشة توفيق صالح معا: حاضر يا أفندم! وصلى! مع أنه قد تمت الصلاة عليه في جامع الحسين الشهير في الحي الذي خلده نجيب محفوظ في أعماله، وصلاة الجنازة فرض كفاية! إذا قام به أحد من المسلمين سقط عن بقيتهم. وهو ما لم يفهمه زكريا عزمي ذاك! ودارت الكاميرا، وكانت كاميرا الرئاسة هي الكاميرا الوحيدة المسموح لها بالتصوير، وقد اقصيت كل كاميرات الإعلام العربي منه والدولي. فقد تعلمت الرئاسة درس استخدام كاميرات التليفزيون في الاغتيالات منذ استخدامها في اغتيال أحمد شاة مسعود في أفغانستان. ووصل مبارك كما توقع العارفون بالأمور! ولم يمكث أكثر من دقائق مشى فيها عدة خطوات في مقدمة الجنازة، وتم فيها تصويره وانصرف مع ابنه! ونقل النعش إلى سيارة نقل الموتى لأخذه للمقبرة، وبحثوا وقتها عن توفيق صالح فتوجهت معه للسيارة، ولكن الأمن مرة أخرى قال بصرامة أنه ليس بها غير مكانين: واحد لتوفيق صالح حامل مفاتيح المقبرة، والثاني لضابط الأمن! وتركني لأشهد بقية فصول المهزلة التي لابد لي من أن أرويها للقارئ العربي كاملة في يوم من الأيام، بالرغم من أنني كتبت عنها حينها مقالا ضافيا باللغة الانجليزية.