ينطلق جيل دولوز من سؤال أولي حول امتلاك فكرة جديدة في مجال معرفي أو إبداعي معين، والمتمثل في ماهية تصور جديد في مجال من المجالات المعرفية والإبداعية المختلفة. ويعد امتلاك فكرة جديدة حدثاً نادراً، بل احتفالية فريدة. كما تعد الأفكار ذات طابع خصوصي، إنها نوع من الطاقات المرتبطة والمنخرطة مسبقاً في شكل من الأشكال التعبيرية المتعددة.
وتتمثل وظيفة الفلسفة بالضرورة في صناعة المفاهيم(1). وتشتغل السينما على "كثل الحركات الزمنية"(2)، والفن التشكيلي على "كثل الخطوط اللونيّة"(3). في حين، يهتم العلم بخلق الدوال(4)، والمتمثلة في خلق علاقة ترابطية مقعدة بين مجموعتين على الأقل. ويعد هذا التعريف للعلم، بالنسبة لجيل دولوز، القاعدة الأساس التي أنبنى عليها العلم منذ القديم جداً. كما أن السلسلة المشتركة لهذه الوظائف هي إنشاء زمكانيات(5) محددة ومحدودة.
ونجد في أفلام المخرج الفرنسي روبير بريسون بأن المجال مقسم إلى أجزاء غير متصلة، حيث يتم ربط هذه الأجزاء الصغيرة من المجال البصري عن طريق اليد التي أبدع روبير بريسون في إبرازها سينمائياً. ويعد نمط المجالات عند المخرج الفرنسي روبير بريسون والإبداع السينمائي لليد داخل الصورة أشياء مترابطة طبعاً.
ويمكن تحويل أفكار روائية إلى أفكار سينمائية، حيث تتم لقاءت كبرى بين الروائيين والسينمائيين. وقد استطاع المخرج السينمائي الياباني أكيرا كوروساوا أن يقيم علاقة ألفة مع ويليام شكسبير وفيودور دوستويفسكي، حيث أن الشخوص السينمائية في أفلام كوروساوا تتماثل مع أبطال روايات دوستويفسكي، وذلك من خلال تواجد هؤلاء الأشخاص الروائية والسينمائية في وضعيات مستحيلة.
كما يمكن استخراج مفهوم فلسفي عبر مجموعة من الأفكار، حيث يعد المخرج السينمائي فيسنت مينيلي رائداً في هذا المجال. إن لمينيلي فكرة استثنائية حول الحلم، ومنخرطة في المسار السينماتوغرافي الذي تمثله الأعمال الإبداعية لمينيلي. وتتمثل الفكرة الأساس لمينيلي حول الحلم في كون هذا الأخير يهم بداية أولئك الذين لا يحلمون. يهم حلم الذين يحلمون الأشخاص الذين لا يحلمون. لماذا؟ لأن وجود حلم الآخر يعني وجود خطر، وبالتالي فالحلم هو إرادة قوة جبارة.
يمكن الحديث أيضاً عن فكرة جد سينماتوغرافية، والمتمثلة في الانفصال بين الرؤية والكلام، وبين المرئي والصوتي في السينما المعاصرة عند المخرج السينمائي الألماني هانس يورغن سيبربرغ والمخرج السينمائي الفرنسي جون ماري ستروب وزوجته دانييل أويي والمخرجة السينمائية الفرنسية مارغريت دوراس. يرى جيل دولوز أن الأمر " يتعلق بصوت يتحدث عن شيء ما، وفي نفس الوقت نرى شيئاً آخر، وأخيراً فإن ذلك الذي يتم الحديث عنه يوجد بالضرورة داخل الذي يتم مشاهدته". كما يضيف: " الكلام يرتفع في الهواء، وفي نفس الوقت فإن الأرض التي نشاهد تتوارى شيئاً فشيئاً؛ أو بالأحرى في نفس الوقت ذلك الذي يتحدث عنه الكلام الذي يرتفع في الهواء، فإن ذلك يتم الحديث عنه يتوارى داخل الأرض". وتشكل هذه الفكرة السينماتوغرافية حدثاً استثنائياً، لأنها تسمح على المستوى السينمائي بتحويل أكيد للعناصر. إنها سلك العناصر الكبرى، حيث يصبح للسينما صدى كبيراً في الفيزياء رمزية للعناصر. ويتجسد ذلك جلياً في الأعمال السينمائية للمخرج السينمائي الفرنسي جون ماري ستروب وزوجته دانييل أويي، إنها الدورة الكبرى للعناصر عند جون ماري ستروب، "إن ما نشاهده هو الأرض القاحلة، لكن هذه الأرض القاحلة تصبح ثقيلة من خلال ما تحتويه داخلها، وذلك ما يتحدث عنه الصوت. فإذا تحدث الصوت عن جثث، فإن مجموع خط نسب الجثث يأخذ مكانه داخل الأرض؛ حيث تصبح في هذه الأثناء أقل حركة للهواء على الأرض القاحلة وكذا المجال الفارغ الذي أمام الناظر، وأقل فراغ في هذه الأرض، (تصبح) كل هذه الأشياء لها معنى".
هذا، ولا يدخل امتلاك فكرة في مجال من المجالات المعرفية أو الفنية في نظام الاتصال، حيث يعد الاتصال طريقة لإيصال ونشر معلومة ما. والمعلومة هي مجموعة من التعليمات. وبمعنى آخر، فإن الإعلام هو تداول التعليمات، وبالتالي فإن الإعلام هو بالضبط نظام للمراقبة. ويهمنا هذا كثيراً اليوم، لأن ندخل إلى مجتمع يمكن نعته بمجتمع المراقبة(6). وقد قام المفكر ميشيل فوكو بتحليل نمطين من المجتمعات الحديثة والمعاصرة، مجتمعات أسماها بمجتمعات السيادة(7) ومجتمعات أخرى نعثها بمجتمعات الطاعة(8). وفي عهد نابليون، تحولت مجتمعات السيادة إلى مجتمعات الطاعة. ويتميز مجتمع الطاعة بإنشاء أماكن للحراسة: كالسجون والمدارس والمحترفات والمستشفيات...، وأن بوادر نمط آخر من المجتمعات آخذت في الظهور، حيث أعتبر ويليام بوروز(9)، الذي يكن له ميشيل فوكو تقديراً كبيراً، أن المجتمعات المعاصرة تتحول بالتدريج إلى مجتمعات المراقبة، وأن هذه المجتمعات الأخيرة لن تحتاج قط لأماكن الحراسة. فالإعلام إذا نظام مراقب للتعليمات التي تتداول في مجتمع ما. ويوجد في المجتمعات الديكتاتورية الإعلام المضاد الذي لا يصير فعالاً إلا حين يصبح فعلاً للمقاومة فما هي العلاقة الموجودة بين الإبداع الفني والاتصال؟ ليس الإبداع الفني أداة للاتصال. فالمقابل، يوجد تناسق أساسي بين الإبداع الفني وفعل المقاومة. وما هي هذه العلاقة الغريبة الموجودة بين الإبداع الفني وفعل المقاومة؟ حيث أن الأشخاص الذين يقاومون ليس لديهم لا الوقت ولا الثقافة الضرورية التي تسمح لهم بإقامة علاقة مع الإبداع الفني. لقد طور الروائي الفرنسي أندريه مالرو مفهوماً فلسفياً مهما حول الفن، حيث يعرف الفن بـ"أنه الشيء الوحيد الذي يقاوم الموت". ويكفي ملاحظة منحوتة يعود تاريخها إلى آلاف السنين قبل الميلاد، لكي نلفي بأن تعريف أندريه مالرو حول الفن يعد تعريفاً جيداً. فالفن هو ما يقاوم، ليس الوحيد طبعاً، وبالتالي العلاقة الوطيدة بين فعل المقاومة والإبداع الفني.
وحين يقوم روبير بريسون بفصل الصورة السمعية عن الصورة المرئية، فما هو فعل الكلام هذا الذي يرتفع في الهواء في حين أن موضوعه يمر داخل الأرض؟ المقاومة. وهذا ما حصل منذ النبي موسى إلى فرانز كافكا ويوهان سباستيان باخ. ما هو فعل الكلام عند باخ؟ إنه موسيقاه. موسيقى باخ كفعل المقاومة غير تجريدي، وكصراع فعلي ضد تقسيم المجال المقدس والمجال العامي. ويصل فعل المقاومة هذا في الموسيقى إلى قمته في صرخة. "إلى الخارج، إلى الخارج، اذهبوا إلى حال سبيلكم، إنني لا أريد رؤيتكم". إنه فعل المقاومة. ولفعل المقاومة وجهان: إنه إنساني، وكذا فعل الفن. "وحده فعل المقاومة يقاوم الموت، وذلك عن طريق الإبداع الفني أو عن طريق صراع الأشخاص". ما هي العلاقة الموجودة بين صراع الأشخاص والإبداع الفني؟ تتماثل هذه العلاقة مع ما حاول قوله الرسام الألماني بول كلي بعبارته: "أتعرفون، إن الشعب غير موجود". الشعب موجود وغير موجود في نفس الوقت. "لا يوجد هناك إبداع فني لا يستحضر شعب لم يوجد بعد".
(صحافي وكاتب من المغرب)
الهوامش
* Qu’est-ce que l’acte de création? Conférence donnée dans le cadre des mardis de la fondation Femis - 17/ 05/ 1987.
(1) Les concepts.
(2) Les blocs de mouvements-durée.
(3) Les blocs de lignes-couleurs.
(4) Les fonctions.
(5) Des espace-temps.
(6) Les sociétés de contrôle.
(7) Les sociétés de souveraineté.
(8) es sociétés disciplinaires.
(9) William S. Burroughs.