لم يعدم الأدب المغربي عبر القرون محاولات التفاعل مع جِغرافية شبه الجزيرة الإيبيرية وبشَرها، مثلما لم يعدم الأدب الإسپاني محاولات التفاعل مع جِغرافية شمال أفريقيا وبشره. لكن هل هو تفاعل حقاً، أم تجاور، أم تعايش، أم تواصل، أم تصوير متبادل؟ الحقيقة أن اختيار المصطلح الدقيق ليس أمراً هيناً. لكن على الرغم من كل الصعوبات سنباشر مغامرة البحث خطوةً خطوة، وبصفة متدرجة. وسننطلق منذ البدء من مهمة حصر مجالات الأدب الواسعة في جنس سردي محدد هو "الرواية".
الرواية جنس أدبي قديم في أوربا؛ بينما عمره في المغرب قصير وفتيّ. وأقصر منه عمراً الرواية المغربية المكتوبة بالإسپانية. وليس هذا مجال الخوض في معلومات تاريخ الأدب وإحصاءاته؛ لذا نبادر إلى القول إن موضوع المغرب كان ولا يزال حاضراً بوضوح في الرواية الإسپانية منذ جنس الرومانثـيرو إلى يومنا هذا. علماً أن ذلك الحضور قد اشتد خلال فترة الحماية الإسپانية على المغرب (1912-1956). وفي مقابل ذلك، كان حضور الموضوع الإسپاني في الرواية المغربية المكتوبة بالعربية محتشماً، يظهر في صور محدودة ثم يختفي، إلى أن برزت إلى الوجود في العقود الأخيرة ظاهرة الرواية المغربية المكتوبة بالإسپانية حيث جعلته واحداً من انشغالاتها، خاصة بعد استفحال ظاهرة الهجرة والقوارب السرية.
حضور الموضوع المغربي أو الإسپاني هنا وهناك لا يعني بالضرورة تحقق التواصل بين الضفتين على مستوى التخييل. في رواية "عيطة تطاوين" لگالدُوسْ Galdós تظل الأرض المغربية مسرحاً لأحداث إسپانية في انفصال واضح بين الطرفين المغربي والإسپاني. وفي رواية "المرأة والوردة" لزفزاف تمثل أرض الأندلس مرتعاً خصباً يمارس فيها البطل المغربي السياحة والجنس بكامل حريته. وحتى في روايتي غويتيصولو Goytisolo الطلائعيتين "استعادة الكُونْضِي ضون خوليان" و"مقبرة" لا يتحقق التفاعل الكامل بين طرفي المعادلة. ولست أدري كيف يمكن أن يقيّم القراء روايتي "باريو مالقه" إن سألتهم عن الانطباع الذي قد أوحت إليهم به عندما صوَّرتُ تعايشَ المغاربة والإسپان معاً في حارة شعبية شهيرة في مدينة تطوان.
مهما تختلف حالات تفاعل المكونات الأدبية والبشرية بين الضفتين يظل ثمة إشكالُ وصفِ تلك الحالات بالدقة النقدية المطلوبة. وفي رأيي أن الخطاب النقدي المحتمل في هذا المقام يمكن أن ينظر إلى التواصل التخييلي بوصفه ترجمةً أو تعبيراً عن الأفكار والعواطف والأحاسيس يتم بواسطة الصور الروائية. وهذه الصور لا تكتفي بإنجاز مهمة التعبير وإنما هي أيضا بمنـزلة لغات تتطلع إلى تحقيق التواصل. وعندما يفحص الناقد تلك الصور نادراً ما يجدها متسمة بالتوازن، محترِمةً، جمالياً، طرفي المعادلة الإنسانية، لكنه يلفيها في تارات عديدة موصوفة بالاختلال أو التحامل أو ضبابية الرؤيا. وننبه في هذا السياق إلى أننا نتحدث عن "التوازن" أو "الاختلال" في وضعهما الكلي الشامل، أي من حيث إنهما يشملان كافة الميادين أو الواجهات الاجتماعية والثقافية والسياسية والجمالية. وأفترض أنه من الصعب جداً التمييز نقدياً بين الواجهات المتعددة للغة الروائية في الأعمال الجيدة الصنعة، بينما يمكن الفصل فيما بينها في الأعمال الأدبية الرديئة. إن الصورة الروائية المحبوكة تتعالى عن الثنائيات، وهي تصبو إلى التوحد وضم المكونات المتناثرة إلى بعضها. ليس فيها أي انفصام بين الفكر والجمال. وأضرب المثل في هذا السياق بذلك التوحد الذي ترجمته رواية "السيميائي" للكاتب البرازيلي پاولو كويلهو P. Coelho حينما دعت إلى لغة العالم.. لغة الحب.. لغة الإنسان، لغة السلام. وعندما تتحقق هذه المستويات التعبيرية تصبح الصور الروائية آنذاك أفضل سفير بين البشر، ما دامت تنـزع إلى الحديث باللغة الكونية تخييلاً.
لنحاول ترجمة كل تلك التأملات النظرية من خلال صورة روائية مستمدة من عمق رواية كويلهو المشار إليها سابقاً:
أخذ يتجول في الميدان متمهلاً. كان الباعة قد شرعوا يقيمون منصاتهم وساعد (سانتياغو) رجلاً يبيع الحلوى على نصْب منصته. كانت تُميِّز وجهَ ذلك الرجل ابتسامة تختلف عن الآخرين. كان سمح الوجه، متفتحاً على الحياة، ومستعداً لاستقبال يوم طيب من العمل، كانت ابتسامة ذكرته بطريقة ما بالشيخ، ذلك الملك الغامض وقال لنفسه: "هذا البائع لا يصنع الحلوى لأنه يريد أن يرحل أو يريد أن يتزوج ابنة تاجر، لا، إنه يصنع الحلوى، لأنه يحب هذه المهنةّ". هكذا فكر الشاب ولاحظ أنه يستطيع أن يفعل مثل الشيخ: أي معرفة ما إذا كان الشخص قريباً من أسطورته الذاتية أو بعيداً عنها فهو لا يحتاج سوى أن ينظر إلى هذا الشخص، وقال لنفسه "هو شيء سهل ولكني لم ألاحظه أبداً من قبل".
وعندما انتهيا من نصب المنصة قدم له الرجل أول قطعة أعدها من الحلوى، فالتهمها الشاب مغتبطاً، وشكره ثم مضى في الطريق. وعندما ابتعد قليلاً خطر على باله أن شخصين هما اللذان نصبا المنصة، أحدهما كان يتكلم العربية والآخر الإسپانية. ومع ذلك فقد كان هذان الشخصان متفاهمين تماماً وقال لنفسه:
هناك لغة تتجاوز الكلمات. عرفتُ ذلك بالفعل مع الشياه وها أنذا الآن أعرفه مع الرجال1«.
المعنـيُّ هو راعي الغنم سانتياغو، والمناسبة وجوده في طنجة قادماً إليها من الأندلس بعد أن بدأ مغامرته في البحث عن الكنـز، تلك المغامرة التي ستفضي به حتى مصر.
يتكلم الراوي بأناة وتمهل لأن الحديث عن لغة العالم لا يقتضي العجلة. ومن ثم تغدو لغة البلاغة واحدة؛ لغة الوسيلة والغاية. كل ذلك ينسجم مع القصد البعيد الذي تصبو إليه رواية كويلهو؛ قصدِ التوحد مع كل شيء من أجل التوحد في نهاية المطاف مع الذات. لكن على الرغم من ذلك تبدو لي في الصورة ثغرتان: هذا الشاب الفتيّ الذي يتكلم بالحكمة الرفيعة على الرغم من فتوته ومهنته (كان يرعى الماشية)، ثم ذاك المغربي الذي يبيع الحلوى لأنه يحب مهنته. قد يكون هذا الحب الإنساني وارداً في الواقع المعيش؛ لكن قد تنافسه كذلك الحاجة أو الضائقة المادية التي دفعت المغربي إلى صنع الحلوى وبيعها.
بيد أن الراوي ومعه كويلهو نفسه لا يباليان كثيراً بثغرات البناء الظاهرية. إذ الأساس عندهما طلب الحكمة والتعبير عنها بواسطة أساليب وديعة تنسجم مع "لغة العالم"، ومع "الأسطورة الذاتية" حسب تعبير المؤلف ذاته. إن كويلهو يستنجد الأسلوب الپانورامي أكثر مما يستنجد الأسلوب الدرامي في روايته الأخاذة. المصطلحان معاً لپِـيـرْسي لوبوك P.Lubbock، وهما يصلحان لاستشراف الطوابع الحكيمة لهذه الرواية على حساب الطوابع المتوترة والأحداث المتضادة. حتى الحروب والمعضلات يحلها الراوي في روايته بالسحر والخوارق. لذا يتجلى واضحاً أن هم كويلهو الأساس تبليغُ الرسالة الحكيمة بالأسلوب الوديع حتى يحقق بذلك الانسجام بين الغاية والوسيلة.
لنعد الآن إلى التفصيل الأساس في الصورة: ذاك الذي يفضي إلى "لغة العالم"؛ أي القدرة على التواصل بين رجلين يتكلمان لغتين مختلفتين، وينتميان إلى وطنين مختلفين، ومهنتين مختلفتين. وعندما اكتشف سانتياغو أن المغربي سعيد لأنه يحب مهنته المتواضعة اهتدى إلى ذلك بلغة العالَم وليس بلغة المعاجم. إن الراوي جعل بهذا الصنيع بطله يلتفت نحو التفصيل الإنساني عوض الاستعانة بالوصف الإثني أو الأنثروپولوجي الذي عجت به مثلاً رواية الحماية الإسپانية على المغرب. ولكن كم كان يلزم الأدب الغربي من آلاف الروايات حتى يتجرأ على الالتفات نحو الموضوع القريب إليه جغرافياً وإنسانياً، وحتى يحتفل بالتفصيل الذي هو في متناوله لكنه لم ينتبه إليه. إن كويلهو يلح على هذا السبيل الإنساني طوال روايته. ولعل السيمياء، التي تصبو إليها الرواية كلها تتمثل في القدرة على الانتباه إلى ما هو قريب منا: قربِ الإنسان من نفسه، وقربِ الجار من جاره، ثم قرب الإنسان من الإنسان. وحتى الملك الغامض والسيميائي نفسه لا يفتران في الرواية عن تنبيه سانتياغو إلى ضرورة الاحتفاء بما هو قريب احتفاءاً يتعالى عن المصالح الظرفية القاصرة.
لقد حول الروائي صفحات روايته وشخصياتها وأفكارَها إلى صور بعثها سفيرة إلى كل الناس. وكم خيب الروائيون أملنا طوال قرون وعقود من تكلمهم لغةً وحيدةَ الدلالة. أقصد في هذا المقام لغة المعاجم وليس لغة الإنسان. وأظن أنه ينقصنا جميعاً بذل جهد أدبي كبير من أجل أن نتقن طرائق تشغيل اللغة الكونية حسبما أتقنها السيميائي وسانتياغو في رواية كويلهو. وسيمثل ذلك الجهد سبيلاً آخر من السبل الأصيلة لتقوية آصرة الجوار التي تجمع بيننا.
الهوامش
1- فضل بهاء طاهر ترجمة رواية پاولو كويلهو "السيميائي" لعنوان "ساحر الصحراء"، ولقد اعتمدنا في مقالنا على تلك الترجمة. انظر سلسلة روايات الهلال، دار الهلال، ع 571، يوليو 1996، ص 47-48.