الولوج إلى أكوان التصوف الإسلامي يحتاج إلى علم وعمل وموهبة فطرية يمنحها الله ـ عز وجل. لصاحبها، والإمام النووي كان يذكر أن التصوف عماده ثلاثة أركان هي العلم، والزهد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألطف ما في التصوف أنه تربية وصقل للأخلاق والآداب السامية، وأعذب ما فيه أنه تجربة غير قابلة للتكرار أو التشابه بل هي تجربة متفردة متمايزة لا تعرف للاشتراك سبيلاً ولا للمشاركة طريقاً. ومن يلجأ إلى تعرف أحوال ومقامات أهل التصوف عليه أن يخطو بحذر ورفق وهو يرصد ويستقرئ ويتناول مواجيدهم وأحوالهم وأخبارهم بعيداً عن ما شاب التصوف من حكايات المتسامرين ونوادر المتعطلين وحجج المتنطعين، وهذا الدخول الحذر في أكوان التصوف والمتصوفة الأجلاء يحتاج إلى قدر كبير وعظيم من الثقة. ثقة بالله أولاً ويخطئ ويجادل من يدعي ليل نهار أنه واثق بالله وأعماله وأحواله لا تشير إلى ذلك، لأن الثقة بالله تشير إلى معان وخصال يجب أن تتجسد في المرء كجزء من تكوينه منها التأدب مع الله سراً وعلانية.
ومنها أن تكون شديد الاطمئنان مع الله تبارك وتعالى، وهذا الاطمئنان هو ما فسره أبو بكر الطمستاني في حديثه عن التصوف حينما ذكر أن من معانيه الاضطراب فإذا وقع سكون فلا تصوف. وهو يقصد بالاضطراب لا اضطراب وزعزعة النفس أو القلق النفسي من عوارض الدنيا وشواغلها إنما أن يظل المرء في حيرة من أمره هل ربه راض عنه بعباداته وطاعاته وقيامه وصلاته وصيامه أم لا؟ وهذا الاضطراب هو الذي يدفع الصوفي إلى مزيد من التعبد والخشوع والالتجاء المستدام إلى الله طمعاً في محبته لأن المتصوف الحق هو الذي يقدم محبة الله على الخوف منه.
ومثلما كانت أحوال المتصوف ومقاماته متفردة ومتميزة عن غيره من المتصوفة، فإن المصطلح ذاته يظل محل جدل في توصيفه وتقنينه ليصبح مواضعة لغوية ثابتة، وأهل التصوف أنفسهم يظلون غير مستقرين على تحديد مفهوم ثابت للتصوف، فمن التفسيرات والتأويلات التي أطلقت على أهل التصوف أنهم في الصف الأول بين يدي الله، أو لأنهم يلبسون الصوف تركاً واجتناباً لفتنة وزينة الدنيا ولقد أجمع المحدثون والقدامى من مؤرخي التصوف على أن اللفظ صوفي مشتق بلا شك من اللفظ الصوف أي من الأصل (ص و ف) فمنه يأتي اللفظ الصوفي (النسبة) واللفظ تصَوَّفَ بمعنى لبس الصوف، واللفظ التصوف (المصدر)، وقيل في التفسيرات أن صوفي على وزن عوفي، بمعنى عافاه الله وكوفي بمعنى كافأه الله والصوفي هو من صافاه الله واصطفاه أيضاً، وسئل طاهر المقدسي عن سبب تسمية التصوف بهذا الاسم فقال : لاستتارها عن الخلق بلوائح الوجد وانكشافها بشمائل القصد.
وهناك من يقول إن اللفظ مشتق من أهل الصفة وكما تظل أحوال ومقامات الصوفية أكثر غموضاً يظل المصطلح ذاته غامضاً حياتهم أيضاً.
ويخطئ من لا يظن بأن التصوف فلسفة، فهو في الحقيقة فلسفة لها جوهر كائن وقائم بذاته، وفي هذا الصدد نجد أبا الوفا التفتازاني يشير إلى التصوف معرفاً إياه بأنه " فلسفة حياة تهدف إلى الترقي بالنفس الإنسانية أخلاقياً، وتتحقق بواسطة رياضيات عملية معينة تؤدي إلى الشعور في بعض الأحيان بالفناء في الحقيقة الأسمى، والعرفان بها ذوقاً لا عقلاً، وثمرتها السعادة الروحية، ويصعب التعبير عن حقائقها بألفاظ اللغة العادية لأنها وجدانية الطابع وذاتية".
والتصوف في حقيقته فكر وطريقة تفكير رصينة ؛ فكر يستنجد بالدين وتعاليمه وشرائعه السمحة التي لا تعرف للتطرف سبيلاً، ولا تفطن للغلو طريقاً، وأسلوب تفكير يرتكز على التأمل أو ما يعرف بنظرية السلام الداخلي، وهذه النظرية تمثل أعلى درجات التحصيل للإنسان وهي وصوله إلى نقطة تنعدم عندها كل رغباته بحيث يستحيل إنساناً كريماً مع الجميع ولا يطلب شيئاً من أحد مطلقاً لأنه في حالة وصال واتصال مستدامة مع ربه تبارك وتعالى. والسلام الداخلي حل حصري للتخلص من المعاناة اليومية للإنسان التي تنتج من هوس المرء بالرغبات والشهوات، فمثلاً إذا تعلق الإنسان بأمر من أمور الدنيا الزائلة فلا مناص من أن يصنع شيئين؛ إما أن يحاول جاهداً للحصول عليه أو أن يتوقف عن الرغبة فيه، وفي كلتا الحالتين فلن يكون حزيناً بعدها، لكن الأخطر أن فكرة الحصول وتحقق الرغبة والشهوة من مطامع الدنيا تولد لديه طمعاً وجشعاً في تحقيق مآرب كثيرة ومطامح عديدة تجعله يبدو أكثر توتراً وقلقاً. ومن المؤسف حقاً أن الناس لا يستطيعون التوقف عن الرغبة في الأشياء.
واعتاد أصحاب حملات الهجوم على التصوف التطاول على ماهيته التي في أساسها التدبر والتأمل والاعتبار والتفكير في وظيفة الإنسان في هذه الحياة، واهتموا فقط هؤلاء المتعثرين فكرياً على التقاط بعض المظاهر السلوكية لفئة من البشر غير محسوبين على التصوف وأهله، وارتكزوا على انتقاد بعض التصرفات لفصيل لايمكننا وصفه بفساد العقيدة ولكن بالخروج عن تعاليم الإسلام وهم أولئك الذين نجدهم يفترشون الطرقات ومداخل المساجد وأسوارها وهم بالضرورة القطعية لاال من الأحوال.
ولو كلف مهاجمو التصوف والصوفية أنفسهم بجهد قراءة مقامات ومواجيد أهل الحب، أعني التصوف لفطنوا بعقولهم أن أقطاب الصوفية احتكموا إلى العقل وهم يتعاملون مع الدنيا وفنائها، ولكن غلبة النصوص المجردة واللغة الاستثنائية لأقطاب التصوف جعلتهم بعيدين كمال البعد عن العامة والعوام. فالحسن البصري يقول : "فضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحاً"، ويقول في موضع ثانٍ " والله يا ابن آدم لئن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حزنك، وليشتدن في الدنيا خوفك وليكثرن في الدنيا بكاؤك".
والصوفية تعد حركة تحديثية وتجديدية أسماها المستشرقون بالحداثة المعكوسة حيث إنهم نادوا بالحداثة عن طريق العودة إلى الماضي واتباع السلف الصالح في القول والفعل معاً وهم قوم أيقنوا أن مزيد من العبادة والتجرد عن الأهواء والرغبات وشرور الدنيا وفتنتها أمل في الشفاء من أسقام النفس وأوهام العقل.يذكر إبراهيم بن أدهم أن العباد لو علموا حب الله (عز وجل) لقل مطعمهم ومشربهم وملبسهم وحرصهم، وذلك أن ملائكة الله أحبوا الله فاشتغلوا بعبادته عن غيره، حتى إن منهم قائماً وراكعاً وساجداً منذ خلق الله الدنيا ما التفت إلى مَنْ عن يمينه وشماله، اشتغالاً بالله وبخدمته. ويقول مالك بن دينار : "خرج أهل الدنيا ولم يذوقوا أطيب شئ فيها، قالوا: وما هو يا أبا يحيى؟ قال: معرفة الله تعالى".
ومن أبرز ما يجده المستقرئ في مواجيد ومقامات الصوفية غلبة الحزن على نصوصهم الشفاهية أو الكتابية، وهو حزن يقرب المرء للعباده حيث إن المتصوف يجد نفسه مضطراً لإعمال عقله في حاله وكنهه ووظيفته في الدنيا التي هو على يقين بأنها فانية مثله تماماً وأنه في دار عمل وشغل وعليه أن يكتفي بعباداته وطاعاته التي تقربه إلى الله عز وجل. وفي هذا نجد أقوالاً كثيرة للحسن البصري الذي تغلب على نصوصه الصوفية مسحة الحزن تلك، فيقول في عدة مواضع: "نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا فقال: لا أقبل منكم شيئاً، ويحك يا ابن آدم هل لك بمحاربة الله طاقة؟ إنه من عصى الله فقد حاربه". ويقول في موضع آخر: "إن المؤمن يصبح حزيناً ويمسي حزيناً ولا يسعه غير ذلك، لأنه بين مخافتين؛ بين ذنب قد مضى لا يدري ما الله يصنع فيه، وبين أجل قد بقى لا يدري ما يصيب فيه من المهالك". ويقول أبو الدرداء: "إن أخوف ما أخاف إذا وقفت على الحساب أن يقال لي: قد علمت، فما عملت فيما علمت؟".
والرائي بعمق وروية وتدبر في النص الصوفي يدرك على الفور خارطة طريق واضحة المعالم لحياته التي يجب أن تكون سليمة الفطرة والتكوين والنشأة ومن ثم يضمن لنفسه سلاماً داخلياً بغير تعب نفسي أو احتدام داخلي بين رغبات وشهوات قد تعصف به، فأبو الدرداء يقول: "ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك، ويكثر علمك، وأن تباري الناس في عبادة الله عز وجل، فإن أحسنت حمدت الله تعالى، وإن أسأت استغفرت الله عز وجل". والحسن البصري يقول: "رحم الله رجلاً لم يغره كثرة ما يرى من كثرة الناس، ابن آدم إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك، وتحاسب وحدك، ابن آدم وأنت المعني وإياك يراد".
والفضيل بن عياض يقدم للمرء روشتة علاج سريعة من أمراض القلب وهوس الرغبة وفتنة الدنيا، فيقول: "لم يتزين الناس بشئ أفضل من الصدق وطلب الحلال". ويقول: "ثلاث خصال تقسي القلب: كثرة الأكل، وكثرة النوم، وكثرة الكلام"، ويقول في موضع آخر: "لم يدرك عندنا من أدرك، بكثرة صلاة ولا صيام، وإنما أدرك بسخاء الأنفس وسلامة الصدر والنصح للأمة".
أما شقيق البلخي وهو أحد أبرز أقطاب التصوف الإسلامي وأول من تكلم في علوم الأحوال ببلاد خراسان فيقول: "من أراد أن يعرف معرفته بالله فلينظر إلى ما وعده الله ووعده الناس، بأيهما قلبه أوثق". ويقول: "ميز بين ما تعطي وتُعطى، إن كان من يعطيك أحب إليك فإنك محب للدنيا، وإن كان من تعطيه أحب إليك فإنك محب للآخرة". ويقول: "إذا أردت أن تكون في راحة فكل ما أصبت، والبس ما وجدت، وارض بما قضى الله عليك".