قراءة المكان تفتح الشهية على المكاشفة والمراودة والاستعادة دائما، لأنها ستكون اشبه بالأركولوجيا التي تغوص في تلافيف هذه القراءة لاستكناه شفرات ومرموزات(المسكوت عنه)، ولتقصي الروح الخبيئة في هذا المكان بكل ما تعنيه من أسئلة عالقة، وما تثيره من وجع مراوغ.
كتاب القاص والباحث لؤي حمزة عباس الموسوم(المكان العراقي..جدل الكتابة والتجربة الصادر عن معهد الدراسات الاستراتيجية في بيروت، يفترض هاجس هذه القراءة العميقة بوصفها موجّها افتراضيا لجدل اشكالي حول هوية المكان وسردياته وسرائره، مثلما ستكون المدخل المورفولوجي لتوصيفات هذا المكان، والكشف عن أنساقه المضمرة، أنساق الثقافي والانطولوجي، وحمولاته المشفرة دائما، المسكونة بالتورية والتقية والمجاز، اذ هي غلّة من الاقنعة والسير، تلك التي تتلمس وجودها عبر أثر، هو الاقرب الى السيرورة الناتئة- تلك التي تتوهج تحت مهيمنات الرعب والحرب والغزو- وتحت مهيمنات التاريخ والمتحف، اذ يظل بطلها المجاهر بموته هو -ضحية المهيمنات- ذلك الذي يصطدم على الدوام بالتاريخ والمكان والسلطة والوثيقة. المكان في هذه السيرة الموحشة لايعني هنا الجغرافيا المجردة، ولايعني الظاهرة الاجتماعية، ولا يعني التمثل للعصاب الجمعي وشروطه المنتجة لظاهرة الخضوع، ولايعني ايضا الانشداد الباشلاري للمكان رمزا للجدار والقبو والسجن والبيت والمقهى، بقدر مايعني المكان بوصفه السردية المتخيلة للوجود المتعالي الذي يستعيد المعنى الانطولوجي لمنظور الانسان-بطل السيرة والرحلة والمنفى والمكوث- والذي ينقل الخبرة الظاهراتية وترجمتها الى مركب من الرموز، اذ يكون هذا المركب هو الباعث التوليدي على انتاج السرديات والمرويات، لأنه يضع الانسان/البطل الانطولوجي للمكان امام غواية السيطرة، وامام رغبة التحقق والوجود والانتهاك، ومواجهة مايهدد هذا الوجود من اخطار ومن رهابات الطبيعة والحروب والطغاة والاشياء الخفية التي تقترن بظهور امكنة مضادة، مسكونة بشهوة الافتراس، خاصة تلك الامكنة التي يصنعها المحاربون والعسكر والغزاة والملاحقون والمنفيون.
ينحني الكاتب على خصوصية مايمثله المكان العراقي من اشكالية تاريخية غائرة، كونه مكانا مهددا على الدوام، بكل ما يمثله من اشكالية وجودية، ومرويات للرد المتعالي الذي اقترن بظهور القوى الطاردة، والجموع الخاضعة، وهذه الثنائية انتجت لنا امكنة غائمة الوجود والهوية، امكنة قابلة للتغاير والمحو، مثلما هي امكنة حافظة للكثير من شفرات المسكوت عنه.
تحقق الحضور في المكان العراقي ظل اسيرا للوقائع التي يرسمها الطغاة والغزاة، وليس الى ذات المكان، لان هذه الوقائع امتثلت الى جوهر الكثير من السرديات الكبرى المسؤولة عن الاقامة، والطرد. والمسؤولة ايضا عن تشكيل مساحات التخيل المستعادة لغويا ورمزيا وعصابيا بشكل كبير، فضلا عن دورها في صناعة مصادر ايهامية للقوة والضعف والعمران المسكون بمدن الحلم والمثيولوجيا، واستعاراتها القلقة في توصيف الهوية وتمثلاتها لسحرية هذه المدن.
هذا الوعي القصدي الظاهراتي للمكان، هو الذي جعله يتمثل فكرة الحيّز المعلوم الحاضن للحضور، والفاعل في تمكين انتاج وتدوين الوقائع التي اعتادت ان تكتبها السلطة كخطاب يتسع للاستحواذ، والايديولوجيا والتأويل كمصادر لتعظيم خبرة القوة الحاكمة، اذ ان المكان العراقي-الواقعي والمتخيل- هو قرين الحكم، وليس قرين المحكومين، وهذا مايجعل المكان التاريخي، يعيش بالتعالق مع المكان السحري التعويضي، اذ تقترح له المخيلة امكنة ثانوية وثاوية ومدونات تشبه التعاويذ والرقى واركولوجيا اللغة(محمد خضير/البصرة-بصرياثا/جليل القيسي/كركوك/آرابخا) وهذا التوصيف لتلك لامكنة يصطنع له بالمقابل سرديات غائرة تحفظها مدونات السرائر التي يتحشد فيها السحر والتخيل الايهامي، والبطولات التعويضية والتي يرويها رواة متماهون مع طبيعة اجتماعية خارجة عن نسق الحكم، وبالتالي هي خارج نسق المكان المحكوم بقوة الوقائع وسردياتها الكبرى.
المكان العراقي قد يحمل في ظاهرته الاجتماعية استلابات كثيرة، واندحارات كبيرة، وان مواجهاته المستمرة مع العوامل المهددة هي التي صنعت الكثير من انماط ثقافاته وانماط هوياته، وطبائع جماعاته المتعددة في افكارها واقاماته، واحسب ان الكتاب قد تلمس هذا الجانب، من حيث معالجته لتاريخية هذا المكان بكل سيرة ازماتها وصراعاتها، واصطدامها الغرائبي بالكثير من الاحداث الكبرى التي تجسدت عبر الحروب والغزوات والاحتلالات، والتي صنعت بالمقابل خرابات كبرى انعكست على صناعة محنة المكان ومحنة الانسان، خاصة وان الانسان العراقي مسكون بسحرية الامكنة، لصيق بشكل استيهامي وغريب بسريتها وقدسيتها، وان طبائع علاقته بالمكان المديني بشكل خاص جعلته لايترك هذه الامكنة بسهولة، بل هو يعايش ازماته ويدون خراباتها العميقة، وان ذاكرته التاريخية حافظة بشكل غريب على ملامح الامكنة الاولى وجودا او حكايات او تخيلات سردية رغم ماتعرضت له هذه الامكنة من خراب ومحو عميقين، ولعل حيازة الذاكرة والمدونات على الاسماء الاولى هي دليل استعاري على هذه العلاقة الاشكالية مثلما هي دليل على الحفظ الاستعادي لشفرات هذا المكان والتي فيها الكثير من الترميز والتعويض النوستالجي. ولعل ظاهرة التحضر المكاني العراقي هي قرينة بروح المدن التجارية والسياسية، وهذه المدن هي الاكثر تعرضا لقسوة الحروب والمحو والخراب، لان اصحاب الحكم حولوا هذه المدن الى قلاع ومعسكرات، وحتى البيوت الثقافية والمكتبات ودور الحكمة والمعرفة ودور الاجتهاد والفقه كانت ضمن اسوار هذه المعسكرات، وكثيرا ما تسبب هذا الاخضاع المكاني عن موت رمزي للمكتبة وبيت الحكمة والحكايات، وللتكايا، وزوايا الجدل الكلامي، مثلما هو الاكراهي للعلماء والحكماء والاطباء والفقهاء ومريدهم.
كتابة المكان العراقي منذ ثلاثين عاما هي كتابة مغامرة، لانها تستعيد ماهو تاريخي بوصفه قوة ومقدس عبر استعادة اللحظة الحاضرة بوصفها خطيئة، او بوصفها لحظة انشدا تعويضي لكل ماتحمله من اشارات ودلالات، وبكل ماتثيره من اسئلة طاعنة، لان هذه الاستعادة قد حولت المكان كمايصفه الكاتب الى المكان المندحر، وهذا التوصيف هو تكثيف لمعطى توصيف الزمن السياسي العصابي الايديولوجي المسؤول عن انتاج الكثير من مظاهر هذا الاندحار، اذ يجد الكاتب صعودا اخر لظاهرة المعسكرات داخل المدن، وتراجع الحدائق فيها، والذي يعد دليلا رمزيا على استمرارا لعبة محو ذاكرة المكان، مثل هي تعبير اكثر رمزية عن مآل هذا المكان الى حيز اخر فيه الكثير من مظاهر الوحشية والقسوة واشهار فكرة الحرب/الموت، والتي يجسدها الكاتب ينوع من الغرائبية حين يشير الى مدينة الملاهي وهي تطل على مقبرة، او تشييد مبنى للامن السياسي الذي يمثل الوجه القمعي للحكم، وعلامة لقوة محوها، مثلما ثمثل وجها مذعورا لصورة الكائن المحكوم التابع الفاقد لشهوة الوجود والمعنى... هذه النقائض هي بعض الاثر المباح والمعلن لسايكولوجيا الخراب في المكان العراقي المعاصر، ذلك الذي غامت ملامحه بتغريبات استلابية للامكنة التاريخية، وتشوهات للقصور الباذخة في رمزيتها ومعانيها، فضلا عن نزوعها القهري لتسطيح غريب لمفهوم المكان/المدينة، ونشوء العشوائيات بشكل غير مسيطر عليه والذي افقد السيطرة على هندسة المكان، وعلى نموه الانساني الصياني، واربك روح التصميم الاساسية للمكان كما يصفه العارفون بعمران المدن.
الكتاب بمقدمته المثيرة التي وضعت كتابة المكان ازاء ما يعادله من التنوع في الخصائص الجمالية لهذا المكان، وضعنا امام مقترح قرائي نستعيد من خلاله تلمس مايمكن ان يحمله المكان العراقي من مثيرات، وبواعث تضع المؤرخ مثلما تضع السارد امام غواية القراءات، وامام تدوين سسيو ثقافي لمرجعيات هذا المكان الذي يظل خزانا كبيرا للكثر من الاستعادات والمدونات والقراءات.
وحتى اقسام الكتاب الاربعة(قراءتان معماريتان) و(قراءتان نقديتان) و( المكان، الزمان، الذاكرة)و(شواهد ومشاهد) تحمل اشتراطات هذه القراءة الظاهراتية التي يقصد من خلالها الكتاب الكشف عن وعيه بمعطى هذا المكان، عن تحولاته، عن مايراه وهو شاهد على خرابه وموته تحت انماط من اكراهات الحكم العصابي والسياسي والايديولوجي والاحتلالي..
كما ان اختيار الكاتب لمواد كتبها مثقفون عراقيون متعددو الاتجاهات الادبية والعلمية والفنية ومن اجيال مختلفة، عبّرت عن الاحساس بفداحة الفقدان، ورهاب المحو، وهشاشة الوجود في المكان العائم، المكان المسكون بفكرة الزوال والحرب، هذه الكتابات تواشجت مع منهجية الكتاب في رثاء المكان العراقي، لكنها انطوت، مثل محمد خضير، ياسين النصير، محمد خضير سلطان، سعد محمد رحيم، واحمد سعداوي وصفاء ذياب وغيرهم، وهو ما يؤكد نزوع الكاتب الى ابراز اهمية قراءة المكان العراقي، ليس بوصفه مكانا مهددا حسب، بل بوصفه مكانا ثقافيا مسكونا باشباح الحكماء والشعراء والمغنين والذين حولوا المكان الى نص، النص الجامع المفعم بالمدونات والاسرار، والخبيء برعب الموت، المحمول على ذاكرة ابن المقفع وابن برد وابي حنيفة النعمان..
كتاب الدكتور لؤي حمزة عباس لم يكن سيرة للمكان او لسيطرة لكائناته المرثية دائما، بل هو لحظة فادحة للوقوف عند عتبة هذا المكان، المكان الذي اصطنع الحياة والموت، واتسع للجدل، والاختلاف، مثلما اتسع لصراعات الحاكميات التي اختلط فيها السياسي والايديولوجي والطائفي والايروسي والعصابي، حتى باتت صورة المكان وكأنها ايقونة للمكان البائد، المكان الذي تركه الخلفاء العباسيون الى خلفاء طارئين، والى غزاة غلاظ، والى جنرالات وبدو ولصوص جاؤا ليمارسو اخطر عملية تخريب للمكان العراقي، المكان الذي نستدعيه بوصفه نصا او معنى او جسدا لكي نلتذ باستمنائية الرثاء، والوقوف عند ظلال المدن العلقة فينا...