يتابع الناقد المصري هنا تناوله للحلقة الأخيرة (مأوى الروح) من متوالية الروائي محمد عبدالسلام العمري الصحراوية بعما سبق له دراسة حلقاتها السابقة (اهبطوا مصر) و (صمت الرمل) و(”قصر الأفراح).

بين رواية الأنثروبولوجيا والمعرفة وظاهرة البطل المهزوم

فتحي أبورفيعة

في الصفحات الأولى من رواية محمد عبد السلام العمري الجديدة (مأوى الروح، روايات الهلال، دار الهلال، القاهرة، كانون الثاني/يناير 2007)، مشهد دالّ يعيد إلى الذاكرة أحد المشاهد الشكسبيرية الرائعة في مأساة هاملت. في المشهد الهاملتي، نرى هاملت وهو يعنِّف حبيبته أوفيليا بعبارات مستهجنة من قبيل "هل أنت عفيفة؟" "هل أنت جميلة ؟" "اذهبي إلى الدير، فما جدوى أن تكوني ولاَّدة للخاطئين؟" "إذا لم يكن من الزواج بد، فتزوجي رجلا أحمق". وهكذا يسترسل هاملت في استفزاز محبوبته وهي في حالة اندهاش شديد لما آل إليه سلوكه من تناقض وتوتر وعدوانية. وكل ما كان بوسعها أن تنطق به هو أن تسترحم له السماء: "تداركيه أيتها السموات الرحيمة؛ أيتها القوى السمائية، عجِّلي بشفائه." بطل "مأوى الروح"، عمرو الشرنوبي، يفاجئ حبيبته الطبيبة ليلى باستفزاز مماثل. يسألها، بلا مبرر، "هل أنت عذراء؟ هل أنت حامل؟ هل كنت حاملا؟ يسألها بغتة عن موعد الدورة الشهرية. تؤخذ ليلى بهذه الأسئلة الفجَّة. تقول في نفسها إن جنونه لا يمكن وصفه، وأن الغربة أفقدته عقله واتزانه. تقول له ليلى: "لقد فقدت وعيك كثيرا في جارثيا. لقد أصاب عقلك الخبل."

"جارثيا" مدينة صحراوية مفترضة انطلق منها عمل العمري الأشهر "اهبطوا مصر" (1997)، الذي أتبعه بروايتين أخريين هما "صمت الرمل" (2002) و "قصر الأفراح" (2004). وتجيء "مأوى الروح" استكمالا لهذه المتوالية الصحراوية التي تستوحي شخصياتها وتستمد مادتها من ذات البيئة التي انطلق منها العمل الأول. و"مأوى الروح" هي بالفعل قصة رجل فقد اتزانه واتجاهه بواقع ضغوط نفسية داخلية وخارجية. وهي قصة مغترب ممزق بين أكثر من نقيض. الغربة والوطن؛ ثقافته وثقافة الآخر؛ محبوبته ليلى، ابنة وطنه التي تعاهد معها على الزواج، والتي سيتعرف عليها القارئ، مثلما تعرف عليها في أعمال سابقة، شخصية قوية، شديدة الانتماء للوطن (تحتفظ في قاع حقيبتها بكيس صغير من البلاستيك فيه حفنة من تراب. يتذكر عمرو الشرنوبي أنها أعطته كيسا مثله عندما تهيأ للسفر إلى "جارثيا"، وقالت إنه من أرض الوطن، حتى نزرع في ذلك التراب أفضل بذور الذاكرة بالوعي والشم معا)، ومحبوبته "الصحراوية" آمال، ابنة الكفيل التي استحوذت عليه بجمال أخاذ وشخصية طاغية. وإذا كان عمرو الشرنوبي، في "اهبطوا مصر"، قد هرع إلى وطنه قادما من "جارثيا" باحثا عن محبوبته ليلى على شواطئ الإسكندرية من المعمورة إلى رأس التين (لم تكن قد ظهرت بعد "هوجة" الساحل الشمالي وشواطئ الغردقة وشرم الشيخ، وإلا لكان واجه مشكلة حقيقية)، فإنه في "مأوى الروح"، وبعد أن صدَّته ليلى بقوة، اقتناعا منها بأنه "لم يعد عمرو الذي كان"، يقطع الأميال بحثا عن آمال في مدن الهند وباكستان (آمال باكستانية الأصل من ناحية الأم، وتخرجت في كلية طب لاهور).

"عمرو الشرنوبي"، كما عرفه القارئ في الحلقات السابقة من متوالية "اهبطوا مصر"، معماري مصري ذو شخصية مركبة وتصادمية، لكنها رقيقة ومحببة في الوقت نفسه. وهو مهني مثقف واع يعتز بتاريخ وطنه وأمته ويضعه دائما في موقع الصدارة والتبجيل. وقد عاش الشرنوبي أزمات الوطن (وانتصاراته) وتفاعل معها، من النكسة إلى الانفتاح والخصخصة وبيع "أصول" الوطن وموارده، وما لكل ذلك من تداعيات اجتماعية - اقتصادية. وقد أدهش القارئ في تلك الحلقات بقدرات خارقة على التحمل والمراوغة واختيار الطريق الصعب دائما في سبيل التمسك بقناعاته ومواقفه. لن يجد القارئ كثيرا من هذه المواقف الصلبة في "مأوى الروح". ليس أكثر من لحظات التحسر والنوستالجيا على حاله الشخصي وحال الوطن والأمة. ولعل المؤلف قد تعمد أن يكون بطله الرئيسي تعبيرا عن هذه الحالة من الانفصام والتمزق (وضحية لها في الوقت نفسه). فها هو بعد رحلة الاغتراب الطويلة يتساءل:"ما هذا التفتت، وهذا الانفصام، وهذا التشتت؟ وهل هذا طبيعي؟ خيِّل إليه في وقت ما أنه لا يعرف ما يريد." "بدا ممزقا، منفصم الشخصية"، هكذا يشير إليه الراوي في أكثر من مناسبة.

وسيلمس القارئ ما يكشف عن مظاهر هذه الشخصية القلقة والمقلقة في الفصول الأولى من "مأوى الروح" التي يلتقي فيها عمرو الشرنوبي وحبيبته ليلى، مبررا لنفسه اللقاء: "ممزقا لا زال بين حبين"، ومؤنبا نفسه متسائلا كيف أمكنه أن يتخطى حاجز ثقته بنفسه وكرامته والذهاب إليها ثانية". كانت ليلى، التي قررت من قبل قطع علاقتها به، وإن كان قد بقي في القلب حنين طبيعي لذكريات ماضية، كانت قد أصبحت طبيبة مسؤولة في أحد المستشفيات الكبرى. وكانت جادة في رفضها له. ورغم محاولاته استمالتها، كان رفضها القاطع: "لأني متأكدة أنك لم تعد عمرو الذي أعرف." وهاهي ليلي تلقي مزيدا من الضوء على هذه الشخصية التي بهرت القارئ في مناسبات سابقة. تقول له: "إنك تتكلم كالعامَّة، وأنا أتكلم كدارسة علم. إنك لا تعرف ما تريد، وأنا أشفق عليك. إنك تتقدم ورأسك إلى الوراء، وما تراه دائما فات أوانه." وفي مناسبة أخرى تواجهه بلهجة أشد حدة: "لم تعد صغيرا لمثل هذه المناورات. كانت مشاغباتك في ما مضى محببة، لماذا لا تأخذ الأمور بجدية؟ الوقت يمضى والحياة تتجدد دائما، وأنت مازلت أسير أنانيتك وذاتك المنتفخة وتشتتك." وقالت له بصريح العبارة: إنه ليس أهلا لها.

وفيما هو يعاني مرارة هذا الرفض القاطع والمهين من جانب ليلى، تتملكه ذكريات الحب الجامح مع آمال، التي كانت قد تزوجت من الملياردير الوطني صاحب المشاريع العملاقة "أبا الخير" (الذي قدمه العمري أيضا في أعمال سابقة). وتصله رسالة من أحد زملاء العمل في "جارثيا" بأن آمال ستسافر إلى باكستان بصحبة زوجها، فيقرر، رغم جنون الفكرة ومحاذيرها، أن يسافر للقائها هناك، في الوقت الذي يكون فيه الزوج قد قرر السفر إلى القاهرة بدلا من باكستان. وبعد أن يختتم الشرنوبي رحلته إلى باكستان والهند، يعود إلى القاهرة حيث يجد أن "أبا الخير" يبحث عنه للقيام بتنفيذ مشروع قديم جرت الإشارة إليه في الأعمال السابقة من المتوالية وهو مشروع بناء مدينة للمطلقات. وتدبر آمال للقاء عارم مع عمرو. وتنتهي الرواية بطلاقها من أبا الخير، ولكن ليس بزواجها من عمرو الشرنوبي، إذ يترك المؤلف الباب مفتوحا أمام أي تطورات أخرى قد تشهدها علاقات بطله المتقلبة وغير المستقرة التي انعكست على شخصيته ونفسيته وجعلت منه شخصية مقلقة ومثيرة للجدل حتى بالنسبة لنفسه. وسوف يتوقف الراوي طويلا مع نفسه متسائلا عن هذه الحالة من التناقض والتفتت. وهاهو يتساءل في إحدى فقرات الرواية:

"إلى ماذا ترجع هذه التناقضات وعدم التآلف والتساوق مع النفس؟ هل هي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية؟ التطلعات والأحلام والطموحات؟ لقد كانت أوضاع مصر السياسية طوال تاريخها تؤدي إلى إيجاد هذا العنصر في النمط الاجتماعي للشخصية المصرية، إذ تعاقب على حكم مصر طوال تاريخها القديم والحديث حكام وولاة وسلاطين ومماليك وملوك ورؤساء، وكان على الشعب أن يذعن لمشيئتهم جميعا، وإلا تعرض لألوان مختلفة من العقاب والنقمة. وجاءت طغمة الاستعمار فأكدت ظاهرة التكيف السطحي. أم أنه يتصرف كأن الطاغية يراه؟ أم هي جارثيا والحر؟ أم أن هناك شيئا آخر لا يستطيع الإفصاح عنه؟" (ص 59)

تمثل هذه التساؤلات عن الذات والهوية سمة ظاهرة من سمات "مأوى الروح" مثلما كانت كذلك الأعمال السابقة في متوالية "اهبطوا مصر". ومن خلال هذه التساؤلات ومحاولات الرد عليها، يخرج المؤلف كثيرا عن السياق الغالب للرواية، وهو أزمة عمرو الشرنوبي المتمثلة في البحث عن حب مفقود والسعي إلى "ترميم" أو إعادة بناء ذاته المفككة، فيثير العديد من القضايا في ثنايا النص، ثم يعمد إلى إلقاء أضواء كاشفة عليها إيضاحا وتحليلا. وفي هذا السياق، تعرض المؤلف للكثير من الأساطير الفرعونية والآسيوية، ولتاريخ الهند وباكستان وثقافتهما الشعبية من خلال الاحتفالات الشعبية التي حضرها بطله "عمرو الشرنوبي" خلال زيارته لهذه المنطقة، ومن خلال مخالطته لأهلها، والتعرف على جوانب بؤسها الاجتماعي، وحراكها السياسي، وأيضا من خلال انخراطه في ملذاتها من سياحة وجنس، بحثا عن حبه المفقود وذاته الضائعة، مؤصٍّلا بذلك ما عرف عنه من شغف برواية المعرفة والأنثروبولوجيا التي تحتفي بالتوغل في الجغرافيا البشرية للبلدان والشعوب وبتقديم صور إثنوغرافية دقيقة عن شخصيات أعماله تعميقا لمعايشة القارئ لهذه الشخصيات. هذا الاحتفاء بالنزعة المعرفية والتركيز على المفاهيم والمعاني والدروس المستخلصة من التجارب الحياتية لشخوص الرواية ينعكس في العديد من أقوال "عمر الشرنوبي" في ثنايا الرواية.

وسواء كانت هذه الأقوال تخص الراوي مباشرة أو أنها أقوال مأثورة يرددها الراوي في مواقف معينة، فقد أضفت على لغة الرواية عموما شيئا من الحكمة والاتزان المفتقدين في تصرفات الراوي، وبخاصة استغراقه المغالى فيه عند وصف المواقف الإيروطيقية التي اكتظت بها الرواية. ومن هذه "الأقوال المأثورة" لعمرو الشرنوبي: "لكل جيل أسطورة، ولكل رحلة خطوة أولى، ولكل ملحمة بداية"؛ "إن اليأس أكبر خطأ يمكن أن نقع فيه، إنه يعتري الإنسان الذي يحاول جادا أن يفهم الحياة الإنسانية، وأن يجد لها ما يبررها"؛ "إذا كانت التحديات من حولك كثيرة، صادق نفسك واكسب حليفا"؛ "خلقت المرأة للكذب، وخلق الرجل لكي يصدق"؛ "لا تقع في حب الغرباء، فإنهم دائما على رحيل"؛ "فكر في الجياد الفائزة في السباق، لا في الكلاب التي تعرقل المسيرة، وعندما تتقدم اترك همومك، ولا تنس أن الأشياء التي تملكها هي التي تملكك"؛ "لا تتحدث مع من لا يسمعك، ولا تدع قلبك أبدا في حجرة مظلمة"؛ "إنني أعرف أن قلب الإنسان مثل الأرض، جزء تضيئه الشمس، والآخر غارق في الظلام." في "مأوى الروح" يهرب بطل "العمرى" من فضائه الخاص إلى فضاءات غيريَّة أو فضاءات الآخر بحثا عن حب مفقود وسعيا إلى إعادة تشكيل شخصية منهزمة مستعينا بالمعرفة المكانية التي تكتسب معانيها وقوتها من الأحداث التي تقع فيها، حيث يصبح المكان تجسيدا لذكريات وآمال وقيم ومخاوف إنسانية، وحيث يستخدم الأسطورة الخاصة بهذا المكان ليس باعتبارها خرافات تاريخية أو حكايات خارقة، ولكن بالمعنى الذي يعرِّفها به رولان بارث بأنها: "شكل من أشكال الكلام، ونظام اتصال، ورسالة، ووسيلة من وسائل التعبير."

وحينما يعود عمرو الشرنوبي إلى وطنه، تكون في انتظاره مفاجأة (أو لنقُل رمزيَّة أو مجازية) "أبا الخير" الذي يساوم على شراء الأهرامات (انظر المقتطف)، ونوادي البلد الرياضية، ويسعى إلى بناء قصر لزوجته في قلب أوسع نقطة من مجرى نهر النيل. و"بكروت التوصية، فتحت كل المحميات الطبيعية والصناعية أمام جيوش المغول هؤلاء، وكلابهم المدربة، وصقورهم التي جاءت على الأخضر واليابس. اجتاحوا كل المحميات، قضوا على كل شيء." (ص 184). "مأوى الروح" تكرس ظاهرة "البطل المهزوم" الذي أصبح في الحقبة الأخيرة سمة من سمات الإبداع العربي المعاصر، في الرواية كما في المسرحية والشعر والفن عموما، وتعبيرا عن الواقع المريض للأمة. لكن "مأوى الروح"، بما يجسده عنوانها ومضمونها، تعبير صادق عن قيمة الوطن والانتماء إليه والارتباط به خاصة بالنسبة لمن عانوا من محنة الاغتراب عنه، وأسوأ من ذلك، في داخله.

* * * *

مقتطف من "مأوى الروح"
"عندما رأى الشيخ الهرِم، سأل بصوت عال:كم ثمن هذا؟ وكم ثمن هذه الأهرامات الصغار؟ وكم ثمن أبي الهول؟ قرأ الشيخ صباح هذا اليوم أن هناك قطاعات كبيرة من ممتلكات الوطن تم بيعها، وأصبح كل شيء معرضا للبيع، كما تخيلوا، وأن قطار الخصخصة يمشي ببطء ولكنه أكيد، وذلك منذ بدأ تاريخ الانفتاح. "وضع في اعتباره أن له أولوية الشراء بصفته عربيا، وأنه الوحيد القادر على الحفاظ عليه، وبصفتها - الأهرامات - أحد الموروثات الشرعية لعالم العروبة، خاصة الذين فتحوا مصر ولم ينالوا الأهرامات بأي نوع من أنواع الأذى. سيحافظ عليه ويطوره ويجدده. سينظفه ويتحكم في مخارجه ومداخله. وكان الشيء الوحيد الذي أرق تفكيره هو البحث عن مكان رئق بجوار الهرم ليبني لآمال هرما صغيرا، تسكنه، وتشرف في الوقت نفسه على التطورات والتوسعات الهرمية الجديدة.

"ركبا الخيول والجمال التي أناخت فور اقترابهما منها، كأن بينهما سابق معرفة حميمة وود أكيد. أقر الشيخ أن هذه العلاقة فاتحة خير، وأنها بداية جيدة، فالأرواح تنادي بعضها. التراث والتاريخ والجذور لا يمكن التغاضي عنها أو نسيانها ولو بعد مئات السنين، ولو تباعدت آلاف الكيلومترات. حقا نحن أولى ببعض كما قال. "البادرة والمبادأة مشجعة. يتفاءل بالبدايات، فأخذ على عاتقه الاتصال فورا بالمسؤولين لاتخاذ إجراءات حقيقية وصحيحة لدفع ثمن المنطقة ونقل الملكية." (الرواية، ص 128).


* النصوص المقتبسة من "هاملت" نقلا عن ترجمة الدكتور محمد عوض محمد، دار المعارف، القاهرة، 1992