يتناول محرر «الكلمة» رواية مصرية جديدة تدور في تونس، وتفتح مقاهيها على عالمنا العربي كله. ويكشف آليات تخليق الصورة الزائفة فيها وتمكنها من بنية الواقع العربي في الزمن الرديء، بصورة تجسد مدى انسداد الأفق فيه أمام شخصياته، وتخبطها في شراك الغواية التي تحول دون تحقيق حلمها في التحرر والتحقق.

«باب الليل» .. آليات الغواية والأفق المسدود

صبري حافظ

ما أن فرغت من قراءة رواية وحيد الطويلة الجديدة (باب الليل)(1) حتى شعرت بأنني بإزاء عمل أدبي مهم، يستحق التريث طويلا إزاء عوالمه وكشوفه وتأمل استقصاءاتها. عمل استطاع أن يوظف ببراعة ما أدعوه بمحتوى الشكل الروائي بطريقة تجعل بنيته الشيقة جزءا من الرؤية التي يطرحها، والعالم الذي يبلوره، والاستعارة المركبة التي يصوغها للواقع العربي الأوسع في تلك الرواية الجميلة الثرية. فمنذ عتبة الرواية الأولى، وعلى العكس من العنوان الإشكالي لروايته الجميلة السابقة (أحمر خفيف)، يوفق الكاتب في اختيار عتبة نصه الأولى مرتين بالعنوان والغلاف، فيصبح الباب والليل والمقهى هي أبواب الدخول إلى هذا العالم الكثيف. فالعنوان – بما ينطوي عليه من تجاور وتناقض، بين الباب والليل: فالباب يفتح والليل يسد الأفق ويغلقه – يفتح الكاتب روايته على عالم الليل وبهمته بامتياز، وهو يسد الأفق في وجه الجميع، ويدخلنا في سراديب ظلمته الفعلية والاستعارية على السواء. ويجعل الأبواب الحقيقية منها والاستعارية هي السبيل لدخول هذا العالم وإماطة اللثام عن بهمته. بينما تكشف لوحة الغلاف عن حقيقة المقهى الفقير وعرضيته باعتباره الفضاء المدوّخ الذي تدور فيه الرواية، ويسيطر بتناقضاته على كل ما فيها. وكأن النص بعتباته الاستهلالية يطرح زمكانيته، بالتعبير الباختيني، التي يصبح فيها المكان (المقهى) هو البعد الرابع للزمان (الليل)، كما يصبح الزمان (الليل الذي يموت المقهى دونه وبدونه) هو البعد الرابع للمكان بعرضيته وتراكب دلالاته معا، ويحيلنا إلى أهمية تلك الزمكانية للبنية والعالم معا.

فإذا ما تجاوزنا هاتين العتبتين إلى العتبة التالية وهي المقتطفات الاستهلالية: وأولاها «القبلة هي النقطة التي توضع فوق حرف الباء في كلمة الغرام» المحذوفة هي وبائها معا. سندرك أننا بإزاء كتابة واعية بآليات الحذف والإضمار التي تترك في الاستهلال مساحات من البياض كي يملأها القارئ بمخيلته. وأننا في عالم حذفت منه القبلة وغابت عن أفقه كل أنواع الحب والغرام. ودور القارئ مهم في هذا النوع من الكتابة، لأن آخر إشارات الاستهلال بعد سطور كثيرة من البياض تلفت نظر القارئ إلى هذا الأمر، وهي تؤكد له أن «أبواب الرواية: بعضها أبواب مدينة تونس، بعضها أبوابك أو أبوابها». وهي تخاطب القارئ مباشرة بضمير المخاطب، ثم تردفه بهذه «الأبوابها» الملغزة، التي لا نعرف على من يعود الضمير فيها. فتردنا من جديد إلى أهمية الأبواب، الواقعية منها والخيالية والمتخيلة، باعتبارها مداخل متنوعة لهذا العالم الليلي الذي تميط الرواية اللثام عنه. بعد هذه العتبات الموفقة تبدأ الرواية بـ«باب البنات» وتلك العبارة «كل شيء يحدث في الحمام» وهي نفسها العبارة التي تنهي بها الكلمات الأخيرة في الرواية، وكأنها تردنا إلى البداية من جديد. هكذا ينبهنا النص منذ أن فتح الباب على البنات في المقهى، ولعبة الحمام فيه إلى بنيته الدائرية التي لا فكاك منها كبهمة الليل الدامسة التي تحيط بكل شيء كالقيد.

وقد ذكّرني عبء الليل في هذه الرواية بوصف يحيى حقي البديع العميق لثقل ليل الصعيد في (البوسطجي) «ليل في ظلمة العمى، تلفع به الكون مرغما. هبط على الفضاء حملا ثقيلا، أحاط بالأرض كالقيد، غطى الحقول كالكفن، ولفّ القرى كالضماد. وانحدر – ولا حد لاتساعه – إلى الشقوق فاحتواها. ثم تلفت يبحث عن مداخل النفوس التي يعلم أنها تستقبله وتتشربه، فاحتلها يتمطى فيها».(2) ومع أن تونس ومقاهيها العامرة بالأنوار والغناء والغواية توشك أن تكون النقيض الكامل لعتمة ليل الصعيد، فإن ليلها الذي جعلته الرواية باب الدخول إلى عوالمها، يبحث هو الآخر عن مداخل النفوس التي يعلم أنها تستقبله وتتشربه، فيحتلها ويتمطى فيها. لأن بداية الرواية فيه ونهايتها به، وبما يحدث أو لا يحدث في الحمام، تقودنا إلى قراءة الرواية من جديد، لا للتعرف على ما يجري فيها من أحداث، أو ما تمور به من شخصيات، تتخبط في شباك مواجدها الليلية، وانكساراتها الروحية، وهي تعاقر أوجاع التحقق الوهمي الذي لا يتيح الأفق المسدود سواه، ولكن للكشف عما تنطوي عليه هذه البنية الدائرية من استعارة شفيفة للواقع العربي المهزوم الذي تتخبط كل شخصياته في شباك هذا الأفق المسدود في «باب الليل» الذي لا يطلع عليه نهار.

ولا يقل المكان أهمية في هذا العمل عن الزمن السردي الذي وعي زمكانيته واستخدمها بمهارة. حيث تعزز طبيعة تناول الرواية للزمن السردي عرضية المكان وثباته معا، وتفتحه على آفاق تأويلية خصبة. فبالرغم من أن الرواية كتبت في سبع مقاه تونسية، ومقهى مصري، إلا أن فضاء الرواية يدغم هذه المقاهي المختلفة في مقهى فني واحد «مقهى لمة الأحباب». تتربع عليه «للّا درّة» التي لا نلج بابها الحقيقي ونكتشف أنها لا تقل هزيمة عن بقية رواد مقهاها إلا في نهاية النص. وجمع كل تلك المقاهي/ الفضاءات العربية المختلفة أو دمجها في مكان واحد وفي زمن ليلي واحد هو الذي يكشف لنا عن طبيعة تناول الرواية للزمن، وهو ما يعزز زمكانية المكان ويدعم طبيعته الاستعارية. فالزمن السردي في هذه الرواية ليس زمنا تعاقبيا بالمعنى الدقيق للكلمة، أي الزمن الكرونومتري الذي يحسب بالساعات والأيام. فقد غابت عنه الذاكرة الزمنية التاريخية التي تمكننا إشاراتها العابرة من موضعه الأحداث في سياقات تاريخية بعينها، وتتبع تطورها عبر الزمن. أللهم إلا المناخ العام لزمن زين العابدين بن علي، وزمن ما بعد خروج الفلسطينيين من تونس عقب التوقيع على اتفاق أوسلو المشؤوم. ولكنه زمن يتشح بغلالة مما يدعوه والتر بنيامين بالزمن السرمدي الذي يتسم بقدر كبير من الديمومة التي تدور في فلكها الأشياء، وكأنها تجري في مجرّتها الكونية الخاصة. زمن يسيطر عليه التكرار، وتعود فيه النهايات إلى البدايات من جديد، ويتكرس فيه الثبات، وتغيب من أفقه احتمالات التغيير، أو وعود التطور أو المستقبل الأفضل. صحيح أن الأحداث تتقدم ببطء في هذا الزمن الثابت ببطء صوب الحدث المرهص بالزلزال المرتقب، تهنئة «الرئيس بعيد الخريف» (ص221)، لكنه يظل زمنا راكدا.

فهذا الزمن السرمدي هو أنسب الأزمنة لزمكانية النص، حيث المقهى/ الزمن السرمدي، أو العرضي/ الدائم المستمر والمتكرر، يوشك أن يكون مقهى حقيقيا واستعاريا في آن. «المقهى في شارع جانبي متفرع من شارع المقاهي الذي ينتفخ بنحو ستين مقهى آخر»(3) وكأن النص اختار موضعته في شارع جانبي، كي يكون موقعا استعاريا لواقع عربي لا مكان له إلا في الشوارع الجانبية لعالم يمضي ويتركه وراءه. ومع هذا الموقع الجانبي، تدخلنا الرواية في سراديب عالم ليلي بامتياز، يتيح لها الغوص إلى قيعان النفس البشرية العربية، خاصة في زمن ركود ما قبل انفجار دمدمات الربيع العربي، دون أن تقع في شراك التبشير به أو التنبؤ بما ستسفر عنه متغيراته، وتكتب هذا الزمن كتابة فيها رشاقة وخفة تهكمية شفيفة، وسلاسة لغوية وأسلوب شعري. كتابة تنتح من التجربة الحسية العميقة بما تكتب عنه من أحداث أو ما تجسده من شخصيات. وتتسم بعمق يمكنها من أن تحيل المقهى، وهو مكان عارض ودائم معا، إلى استعارة لعرضية الحياة ذاتها، ولعبء استمرار خفتها التي لا تحتمل في آن.

وقد اختارت الرواية أن تدلف إلى عالمها الروائي في هذا الزمكان العرضي السرمدي معا عبر أبواب لا فصول. حرصت على أن تؤكد للقارئ في مفتتحها أن «بعضها أبواب مدينة تونس» أي حقيقي وواقعي، فلا مدخل روائي حقيقي لأي عالم مهما كانت رمزيته أو استعاريته إلا من أبواب الواقع، وأشهر ما تشتهر به تونس العاصمة هو أبوابها. لا الأبواب التاريخية وحدها، وهي كثيرة وتشاركها فيها مدن عربية قديمة أخرى، ولكن حتى أبواب الدور التي تعتز بجمالياتها المتفردة. والتي تفتح الرواية هنا لا على الفضاءات الداخلية وأسرار البيت التونسي فحسب، وإنما على قيعان الروح ومواجدها وأسرارها كذلك. لذلك كانت إشارة المفتتح الدالة «بعضها أبوابك أو أبوابها» والتي تسعى إلى توسيع معنى الباب، وكأن هذا أحد أدوات فتح كوة في بهمة الليل والأفق المسدود فيه. لأن الرواية حرصت وهي تدخل إلى زمكانها العربي الثري على أن تضفر بين المنفى والوطن، فقد استحال الزمكان العربي، في الفترة التي تكتبها الرواية فيه، إلى منفى ووطن معا، نجد فيه أن الكثير من الشخصيات التونسية نفسها تشعر بالغربة في وطنها، وتحلم بمغادرته.

شراك الغواية واستحالة التحقق:
والواقع أن البنية الدائرية المحكمة التي تحيط بعالم هذه الرواية كالقيد، تبدو هي الأخرى كالعنوان تناقضية لأنها تبدأ بالبحث عن المتعة والتحقق وعقد الصفقات في الحمام، وتنتهي من حيث بدأت وقد أسفر البحث عن خواء وقبض الريح. خواء يرتد بنا إلى جملة المفتتح من جديد، كي نكتشف ألا شيء يحدث حقيقة في الحمام، وأن البحث المخفق عن التحقق ما هو إلا مسيرة كشف الشخصيات وتعريتها حتى النخاع، كي نرى كيف تتخبط جميعها في شباك هزائمها وانكساراتها، وكيف يتسلل الليل إلى مداخل النفوس التي يعلم أنها تستقبله وتتشربه كل شقوقها. وكيف تشتبك مصائر ها بشراك الغواية التي يعززها الليل كزمن سردي وسرمدي معا. فغواية الصيد وتبادل أرقام التليفونات والصفقات سواء أجرت في المقهى أو في الحمام، تعيدنا في هذه الرواية إلى تعريف المفكر الفرنسي جان بودريار Jean Baudrillard  (1929 – 2007) أحد أبرز منظري ما بعد الحداثة لهذا المصطلح. لأننا حقيقية بإزاء غواية مابعد حداثية بامتياز. يقول بودريار في كتابه (الغواية Seduction) الذي صدر بالفرنسية عام 1979 «إن مجال الغواية هو أفق المظاهر المقدس حيث يتآمر الظاهري أو المظهري على المعنى لاقتلاعه وزعزعته، سواء تعمد ذلك أم لم يتعمده، ويحوله إلى لعبة game فيها شيء من الخداع والاستغفال، لأنها تعد بأكثر مما تستطيع أن تنجزه أو تحققه ... لعبة قانونها الأساسي هو التواطؤ، لأنه لا غواية إلا بوجود طرفين على الأقل. ومع التواطؤ تبدأ عملية فقدان الذات، وكأن الغواية تدفع طرفيها إلى المتاهة الطوعية، المتاهة المشتهاة، لأن من يتصور في لعبة الغواية أنه قد سيطر على اللعبة، سرعان ما يصبح أول ضحايا استراتيجيات أسطورتها المأساوية».(4) ذلك لأن في الغواية شيء من «التبادل الرمزي للموت» وهو عنوان كتاب بودريار السابق على كتاب (الغواية).

فالغواية عنده هي نمط من التبادل الرمزي الذي يتسم بالسرية والطقسية معا، فهي نوع من المبادرة الفورية التي تضع شروطها الخاصة ضمن لعبة اقتصاديات شبقية مراوغة، سرعان ما يتحول فيها أي تعاقد جنسي أو عاطفي مضمر إلى دوامة حلزونية مدوّخة من الاستجابات والاستجابات المضادة.(5) ذلك لأن ما يغوينا أو يفتننا عنده، هو ما لانستطيع أن نحسه أو نسبر أغواره أو نقبض على معناه. لأن آليات الغواية تمكن المصطنع والمتوهم والعبثي من أن يحجب العقلي والمنطقي ويتغلب عليهما، متحديا مواضعات توليد المعنى الطبيعية، وحتمية تعزيزها للقيم الاجتماعية وعلاقات القوة(6). لذلك ظلت غواية الصيد، لا الصيد نفسه، كجري وراء ما لا نستطيع أن نقبض على معناه، هي محرك كل شخصيات الرواية، بما فيها كل من محمد شهريار وباربي، اللذين يبدوان وكأنهما أكثر الشخصيات معرفة لما يريدان تحقيقه، وأنجحهما فيه. لكنهما مع ذلك غير متحققين، لأن الغواية نفسها سراب. كما ظلت غواية السفر ، سواء إلى أوروبا والعبور إلى الشاطئ الآخر للمتوسط بالنسبة لجل الشخصيات التونسية التي تتوهم خلاصها فيه، أو إلى اللامكان كما هو الحال بالنسبة للشخصيات الفلسطينية بعد أن انكسر الحلم في الرجوع إلى المكان الوحيد المترع بالمعنى: فلسطين.

وتبدو الرواية كما تؤكد عبارة البداية والنهاية فيها، مشغولة بالغواية الشبقية، غواية الصيد والتحقق الجسدي في عالم انسدت فيه كل أبواب التحقق الأخرى. هنا نجد أن تمييز بودريار في كتابه ذاك بين نمطين من الغواية يحكم الكثير من اقتصاديات ممارساتها وطبيعة تبادلاتها في النص: نمط الغواية الأنثوي وهو رمزي واصطناعي معا، يعتمد على الغزل، والكلمات ذات المعاني المزدوجة، والنظرات الخفية الماكرة، والهمسات المترعة بالوعود، وكلها ممارسات تؤجل الفعل الجنسي، وتنطوي على التلاعب بالعلامات من المكياج إلى الموضة والملابس المثيرة إلى الحركات المغرية ودغدغة المشاعر من أجل السيطرة على النسق الرمزي للتواصل. أما نمط الغواية الذكوري فإنه يتمحور حول القضيب بمباشرته وطبيعيته والذي يسعى إلى السيطرة على النسق الفعلي أو العملي للتواصل وليس النسق الرمزي له من أجل تحقيق الفعل الجنسي لا تأجيله كما هو الحال في النمط الأنثوي.(7) وسوف نجد عددا من تجليات النمطين معا في الرواية. فـ«للّا درّة» توشك أن تكون التجسيد الكامل لنمط الغواية الأنثوي والقدرة على استخدامه في السيطرة على أنساق التواصل الرمزية المختلفة التي تستهدف تأجيل الفعل لا تحقيقه. لأنها كلما تأجل الفعل كلما بدت لنفسها وللآخرين عصيّة ومرغوبة معا. ويظل منطق الغواية الأنثوي ذاك يحكم كل تصرفات نساء الرواية،وإن تفاوت حظ بقيتهن من تجسيداتهن المختلفة له. حيث يزيد حظ «ألفة» و«حبيبة» منه برغم تفاوت منطلقيهما، عن حظ «نعيمة» أو «حلومة».

وتظل «باربي» ظاهريا على الأقل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. إذ توشك لمن لا يسبر أعماق غوايتها أن تكون تجسيدا لنوع أنثوي من الغواية القضيبية الذكورية المشغولة بالفعل لا النسق الرمزي للتواصل المفضي دوما إلى تأجيل هذا الفعل. لكن الفعل الذي تشتهيه أقرب ما يكون إلى الفعل المستحيل، أي إلى الغواية ذاتها بألف لام التعريف. لأنه الفعل من المنطق الغائب عن العقل الذكوري، الفعل كما تريده الأنثى، الفعل المثالي الذي يتحقق عبره كل الجسد الأنثوي. العفل الذي يبدو غائبا عن أفق التحقق، برغم كثرة ما اصطادت من ذكور. وبرغم انتقائها الدقيق لذكورها وفق معايير الجسد الخالصة وروائحه، وتدريبها الأدق لهم. لذلك فإنها بقدر ما تستمتع بغواية الصيد، تستمتع بتدريب الذكر على أن يقوم بما تشتهي الأنثى: «في سيارتها، في منتصف الطريق إلى دارها، تشحذ كل أسلحتها، وبدلال وافر مغلف ببعض حزم، تتسحب يدها على ساقه وتلقي عليه بيانها الافتتاحي: فرصتك جاءتك لحد عندك، خذها كاملة، لا تتعجل! خذني براحتك، على مهلك، على أقل من مهلك! لا تترك قطعة في جسدي إلا بعد أن تلين وتشير لك أنها استوت. ... اجعل المقدمة الموسيقية طويلة قدر ما تستطيع، كانوا يسهرون مع أم كلثوم للصباح .. حذار أن تترك قطعة فيّ تعتب عليك، أو تغار من جيرانها. أيقظ الغيرة بينهن، أوقدها! دعها تشعل قلب الذي ينتظر وتولع قلب الذي انتهى دوره ... غص إلى الأعماق كبحار محترف يفتش بلوعة عن لؤلؤة نادرة. تمعن وبنفس عميق طويل شمّ روائحي. الرجال الذين لايعرفون الروائح لا تُسجَل أسماؤهم على لائحة الخلود في معابد النساء ... زُر الأركان التي يخافها المرتعبون، لا تترك ركنا يلعنك ... افعل كل ما حلمت به، كل ما حكى لك عنه أصحابك صدقا أو كذبا، بالذات كذبا، ما رأيته خلسة من أفلام، ما طاف بخيالك وما لم يطف.»(ص 108 – 111)

ويكشف لنا هذا البيان الافتتاحي الطويل والذي اختصرته كثيرا هنا لأنه يمتد في الرواية لأربع صفحات عن أننا لسنا حقيقة بإزاء فعل ينطبق عليه النمط الذكوري للغواية، ولكننا بإزاء غواية فعل مشتهى، يوشك أن يكون سرابيا هو الآخر. وإلا لما عادت «باربي» في اليوم التالي إلى المقهى تبحث عن صيد جديد. ولما واصلت عدّ الشباب على أصابعها البضة. لذلك كتبت الرواية ببراعة تلك الغواية في بيان «باربي» الافتتاحي في أربع صفحات، ولم تشر ولو حتى بجملة واحدة إلى ما جرى بعدما تصل بشبانها الصغار إلى دارها. لم تتحدث حتى مرة واحدة عن بلاء أحدهم في كل ساحات بيانها الافتتاحي. ولكنها تحرص على أن تورد لنا بيانها الختامي، وهو لدلالة المفارقة بلا كلمات، فالكلمات كلها للغواية وللبيان الافتتاحي، وللفعل المستحيل المشتهى معا والتي تواصل البحث عنه، لأنه يصبح له بالتالي غوايته التي تدفعها إلى استهلاك شباب الذكور بالتتالي دون أن تخفت غوايته. «لايفوتها أن تلقي بيانها الختامي دون كلمات. تربت بيدها بضحكة طفولية وعشر دينارات للشاب المأسوف عليه، ليعود وحده بالتاكسي. وعلبة سجائر وكارت شحن لهاتفه، وقبلة على الخد. وتلويحة قوية سريعة بقبضة يدها، كأنها ترمي منشفة لملاكم في أرض الحلبة، إيذانا بالانسحاب من المباراة قبل أن يقتله الملاكم الآخر.» (ص113)

وإذا ما انتقلنا إلى نمط الغواية الذكوري الذي يتمحور حول القضيب بمباشرته وطبيعيته سنجد أن الرواية تواجهنا به منذ فصلها الأول، وتكشف لنا عن أنها مجرد غواية لا أكثر، غواية عاطلة عن الفعل يجسدها لنا قنّاص الفواتير «مجيد» اللبناني الذي يحب «أن تذهب معه اثنتان، واحدة لا تكفيه ... يشير من طرف عين وهو يبتسم ساخرا إلى عضوه، وبصوت مرتبع تخالطه النشوة: أبوجميل يسلم عليكم! تذهبان معه ... يقدم لهما العشاء كأميرتين. يأكلون ويشربون، وحين ترتفع الأدمغة يسخنون ويخلعون ... وحين لا تجدان جميلا ولا أباه، لا تختلف المسألة! شربتا وقبضتا، ولا تختلف عنده أيضا! شرب ودفع.» (ص11) أما «محمد كازانوفا» الذي يعتبر أن «مجيد» «بهيم وساقط»، (ص117) فإنه على العكس تماما منه، يجسد لنا الجانب الآخر من النمط الذكوري للغواية. الصياد الماهر الذي يستدعي للنص الأنماط الذكورية البدئية أو الأسطورية من شهريار إلى كازانوفا. بالصورة التي يوشك معها أن يكون الطبعة الذكورية من «باربي» والتي تسجل هي الأخرى افتقار الغواية للمعنى، سواء تحقق الفعل أو خاب. لذلك تكتسب قصته مع تلك التي طاردها طويلا حتى وقعت بشروطها «وحدي ... وحدي وحدي، ولا واحدة أخرى معي» (ص119) دلالات مهمة على وعي الرواية بآليات الغواية البوردريارية. لأن من يتصور أنه قد سيطر على متاهة الغواية الطوعية، سرعان ما يصبح ضحية آلياتها الأسطورية. لذلك فأن تلك التي أرادت أن تكون وحدها في ملعبه نبذته حينما أخل بالتعاقد المبرم بينهما، نبذ الكلاب. وظل يحاول استردادها بعد أن ضيعها دون جدوى. بينما تعرض عليه «باربي» وهي تحدس بأنه قد يكون وحده القادر على أن يحقق لها الفعل المشتهى وفق القواعد الأنثوية، أن تكون له وحده «لك وحدك» (ص122) فلا يجيب.

السفر إلى أوروبا وغواية وهم قديم:
أما السفر فإن غوايته تظل تداعب خيالات كثير من الشخصيات، لأن غواية السفر هي أداة الرواية لتجسيد مدى انسداد الأفق في وجه كل شخصياتها، التونسية منها والعربية على السواء. لذلك يظل السفر إلى أوروبا أشبه بالعلامة الفارغة التي تغوي من لا يستطيع سبر أغوارها أو القبض على معناها، وما أن تتحقق كما هو الحال مع «ألفة» حتى تستشعر حقيقة خواءها، أو تكتشف حقا مدى خلوها من أي معنى. إذ تبدأ الرواية منذ فصلها الثاني «باب الفتح» وهي تقدم لنا «نعيمة»، واحدة من أغنى شخصياتها وأكثرها دلالة على طبيعة الواقع التونسي وأفقه المسدود، في طرح السفر إلى أوروبا أو بالأحرى غواية أوروبا، باعتباره الملاذ والخلاص. فقد جاءت «نعيمة» إلى العاصمة من أقصى الشمال التونسي الفقير، «بشهادة متوسطة لا تستطيع أن تمنحها عملا ولا شربة ماء في مدينة يتسكع فيها حاصلون على شهادات أعلى»(ص27) عملت في المقهى، وعلّمت أختها في الجامعة، «كان عليها أن تساعد أختها، تعطيها ما حرمت منه»(ص28)، وحاولت حتى أن تساعد أخاها، الذي رفض أن يعيش عالة على أخته ونزل للبحث عن عمل. بينما واصلت «نعيمة» تعليم أختها، والعمل في المقاهي حتى جاءتها فرصتها أخيرا في شكل «إيطالي طيب في منتصف الخمسينيات وهي في أول الثلاثينيات ... فرصة يجب أن تطبق عليها بما منحتها الطبيعة كي تستطيع أن تطفو على سطح الدنيا. بلاد جميلة غير هذه البلاد البليدة، وفلوس ومعاش للعمر وتأمين للمستقبل والصحة، حتى ولو استمر سنة واحدة. الدنيا هنا مقفولة» (ص29).

لكن المثير في هذه القصة أن أختها التي ضحت من أجلها، وعملت من أجل أن تمنحها فرصة التعليم العالي الذي حرمت هي منه، هي التي حرمتها من فرصتها في السفر مع الإيطالي الذي أغرم بها إلى أوروبا، وخطفته منها. وظل الإحساس بالغدر «يخرج لها من تحت وسادتها قبل النوم» (ص33) فيقض مضجعها وينهش روحها من الداخل، يوزع تصرفاتها بين الانتقام من الأجانب بعد أن غدر أحدهم بها، وبين تعزية النفس «أختك وأخذته، أحسن من أن يذهب لواحدة غريبة!» (ص32). هكذا افتتحت الرواية بخيانة الأخت لأختها أولى خياناتها، ففي الرواية كتالوج كامل من الخيانات الشخصية منها والوطنية. لكنها تسكت تماما عما جرى للأخت المترعة بالشباب بعد أن طارت مع الإيطالي العجوز. فما يهمها هنا هو كيف أن غواية السفر، حتى مع كهل في منتصف الخمسينيات من العمر تدفع شابة في العشرينيات إلى خيانة أختها، كما تدفع الكثير من الشبان إلى المغامرة بالهرب سرا عبر البحر والتي تؤدي غالبا للموت. فموت قصة الأخت في الرواية هي الرديف الفني لموت الكثيرين من الهاربين من الأفق المسدود وراء سراب غواية الخلاص بأوروبا.

لكن غواية السفر برغم ما تنطوي عليه من موت وأخطار، تظل مستحوذة على الكثيرين والكثيرات في هذه الرواية، لأن في الغواية قدر من التبادل الرمزي للموت كما يخبرنا بودريار. تستحوذ على أكثر من امرأة من نساء الرواية، ولا تحققه فيها إلا واحدة «ألفة»، كرة النار في الرواية، والتي تقدمها لنا في «باب النار». لذلك تتأنى الرواية في وصفها حتى تحيلها إلى التجسيد الحي للجمال والشر والغواية معا. فعندها كما قال السوداني العابر وقد دوّخه جمالها فأعياه عن الوصف «عندها حاجات، عندها حاجات ... حاجات» (ص175) ولا غرو فهي «متيمة بروحها، عندها حق. وحطبها ونارها تكاد تسمع أصوات طرقعتها، حضور ليس أشبه بموسيقى ناعمة، أقرب إلى إيقاع طبلة صاخب» (ص175) ولا شيء يعزز الحضور ويؤلقه قدر التتيم بالذات. ومع أن «ألفة» تلعب بشروطها في الملعب التونسي الواسع، وتحقق فيه كل ما ترجوه لنفسها، فإنها لا تستطيع أن تقاوم غواية السفر إلى أوروبا، والتي تخايل أكثر بنات هذه الرواية.

وتتكرر معها قصة «نعيمة» مع أوروبي خمسيني قادم من ألمانيا هذه المرة. لكن «ألفة» برغم أنها فعلت ما فعلته «نعيمة» وأضاع منها الإيطالي، تنجح بعد عام من تعليم اللغة الألمانية، في السفر لألمانيا وفي الليلة الثانية تزوجته. «في ألمانيا وجدت نفسها في بلد نظيف» ولكن «مخ التونسي هكذا!» (ص181) كما تقول نعيمة بمرارة. لكن «ألفة» لا تعرف المرارة التي لاتزال «نعيمة» تتقلب في جمرها. عبت مما وفرته لها ألمانيا حتى الثمالة، وتمرغت بين أحضان ذويها وغيرهم من المهاجرين الذين يحلمون باللحم الأبيض، كي يدكوا لها كل قلاعها التي لم يتمكن الألمان من فتحها. ثم عادت إلى قواعدها التونسية سالمة. تواسي «نعيمة» قائلة «خدي نفسك يا نعيمة واهدائي! أخذت لك بثارك من الأجانب ... رأيت أخاك في ألمانيا ... البنت التي خلفتها تشبهه ... أنا متأكدة أنها ابنته، اللبن الخائف لا ينجب غير البنات» (ص190) لكن هل استطاعت حقا أن تأخذ لها بثأرها؟ أم أنها أصبحت هي الأخرى إحدى ضحايا الغواية في الوقت الذي تتوهم فيه أنها سيطرت على لعبتها؟ لأن عجز «ألفة» عن توفر لنفسها حياة نظيفة في ألمانيا، يكشف لنا عن آليات الوهم القديم وكمون الموت في ثؤر غواياته.

وتعود «ألفة» إلى المقهى من جديد. فدائرية الحركة السردية في هذه الرواية لا تعتمد حركة الشخصيات فيها برغم دائريتها على الدوران، على نفس المستوى، أو على نفس المنوال وأن بدا وكأنها تفعل ذلك كثيران السواقي المعماة؛ ولا حتى على تكرار الدورة على مستوى آخر في نوع من الحركة الحلزونية الواعدة بشيء من التغيير، وإنما على الصعود والهبوط الذي تضرب حركته الشخصيات بين آمال التحقق وأوجاع التردي والضياع. وكأن الدوران فيها أقرب إلى حركة التخبط في شباك محكمة وإن بدا أنها غير مرئية إلى حد يغرى الشخصيات لا بالحلم وحده، وإنما بوهم الحرية برغم وقوعها في أمراس عبودية طوعية تتضافر فيها العوامل الاجتماعية مع عوالم قدرية وميتافيزيقية خانقة.

فتح المدينة على العالم والسياسة:
وتقدم لنا الرواية كل شخصياتها وهي تتعثر في شباك عوالمها الليلية والأفق المسدود في الزمن العربي الرديء الذي سيطر على جل عالما العربي لأمد غير قصير. تقدمها بحب ومعرفة حقيقية بالعالم الذي تخلقه وبكل شخصية فيه. فنحن بإزاء كتابة صادرة عن خبرة بالشخصيات التي تقدمها والمواقف التي تكتبها، والزمن الذي تجسد لنا وقعه الثقيل على الجميع. تكتب لنا الرواية حفنة من الشخصيات التونسية والفلسطينية تتماثل مصائرها ولكنها لا تتقاطع أو تتشابك، وإنما تتجاور في هذا الفضاء التونسي /العربي بامتياز/ لأنه يسع الليبي واللبناني والسوري والسوداني والمصري/ في مناخ أمني يُعَهِر الجميع، أو يستل الحياة الصحية الصحيحة من أفقهم. شخصيات تحركها أشواقها للتحرر من أسر هذا الواقع المثقل بالهزيمة والقهر معا، ولكنها تصطدم بقسوة هذا الزمن الرديء وصلابته وتماسك الفساد فيه من ناحية، وبمحدودية إمكانياتها ومعرفتها به من ناحية أخرى.

فبالرغم من أن الرواية تبدو وكأنها لا تهتم بالسياسة، ولا يشغل شخصياتها جميعا إلا البحث عن المتع الحسية الموقوتة، وتوفير المال لأحلام تبدو دائما مؤجلة، إلا أنها تكشف بحق عن مسؤولية السياسة عن كل ما يجري لشخصياتها. لا السياسة في المجتمع التونسي المحدود زمن قبضة نظام بن علي الحديدية فحسب، وإنما في المجتمع العربي الأوسع. فنحن بإزاء رواية مشغولة حتى النخاع بالهم العربي المقيم: الهم الفلسطيني. فهي في واقع الأمر واحدة من أهم الروايات المصرية التي انشغلت بالهم الفلسطيني، انشغال مصر العميق به، وانشغلت معه بالهم العربي العام فكتبت تنويعاتها التونسية عليه. رواية تكتب مدينة أخرى غير مدينة كاتبها، بإقناع ومهارة. فنحن بإزاء كاتب مصري يكتب لنا مدينة تونس، بصورة لم يكتب بها كاتب مصري مدينة أخرى بهذا العشق ولا بهذا العمق. فقد كتب توفيق الحكيم عن باريس في (عصفور من الشرق) وكتب يحيى حقي عن لندن في (قنديل أم هاشم) وكتب صنع الله إبراهيم عن بيروت، في (بيروت بيروت) ولكن لم يكتب أي منهم عن مدينته بهذا العشق والعمق.

وهي تكتب مدينة تونس بعدما تركها الفلسطينيون بعد أوسلو، وتركوا وراءهم من رفضت دولة الاستيطان الصهيوني التصريح لهم بالعودة مع المنظمة .. لأنهم مناضلون حقيقيون تلوثت أيدهم بدم الصهاينة، أما المناضلون المزيفون فقد عادوا جميعا ليواصلوا دورهم في «حبف» حركة بيع فلسطين، وفي التخلي عن القضية وخيانتها. والخيانة لحن أساسي من ألحان هذه الرواية تسري فيها كنغمة القرار في المعزوفات الموسيقية الكبيرة، منذ افتتاح الرواية، في «باب الفتح» بخيانة اخت «نعيمة» لها واختطافها فرصتها منها، وحتى إنهائها بخيانات رجال الأمن «للّا درّة» ولمقهاها، مرورا بالقطع بعشرات الخيانات الصغيرة الأخرى، وبالخيانة الكبرى للقضية الفلسطينية التي ترك أصحابها من وهبوا لها العمر بإخلاص وتفانٍ وراءهم. لأن فلسطيني الرواية منسيون يتخبطون في شباك الفقر والهزيمة. إذ تقيم الرواية توازنا حساسا بين الخيط الفلسطيني والخيط التونسي فيها، وتضفرهما معا عبر جماليات التجاور وانعكاسات بعض الشخصيات في قاعات مراياها الروائية على مرايا شخصيات أخرى بمهارة وحنكة، فيتخلق من تضافر الخيطين نسيج العالم المترع بالهزيمة وعبء الأفق المسدود.

البنية الدائرية والحركة «محلك سر»:
وحتى نعرف حقيقة العالم وكثافة ما تنطوي عليه الشخصيات من رؤى ومواجد، علينا التريث عند ما دعوته بمحتوى الشكل فيها. فإذا كانت رواية وحيد الطويلة تنتهي بتكرار نفس الجملة التي بدأت بها: «كل شيء يحدث في الحمام» لتنبه القارئ إلى بنيتها الدائرية من ناحية، وإلى الحمام كاستعارة مقلوبة للمقهى، الذي هو بدوره استعارة لعرضية الحياة والعالم من ناحية أخرى، فإن بدايتها بـ«باب البنات» ونهايتها بـ«باب للّا درة» ست البنات المهزومات وأشدهن هزيمة، لأنها الهزيمة التي لا تبدو على الإطلاق وكأنها هزيمة، وإنما تتبدى لنا وللجميع وكأنها العكس تماما، تؤكد هذه الدائرية مرة أخرى لمن فاتته جملة البداية/ النهاية. فدائرية البنية الروائية ليست مجرد حيلة شكلية بأي حال من الأحوال في هذه الرواية، ولكنها أكثر الأشكال ملاءمة لما تطرحه الرواية من رؤى وما تقدمه من عالم يموج بالهزائم والانكسارات على المستوى الشخصي والعام على السواء. وهي هزائم يسفر بعضها عن وجهه بوضوح، ولكن بعضها الآخر يموه على نفسه بأنه ليس مهزوما، كتمويه الواقع العربي العريض على هزائمه التي يدعوها على الدوام بالانتصارات. فالبنية الدائرية على العكس من البنية الخطية التي تسجل الحركة والتقدم، بنية تكشف عن أن كل حركة ما هي إلا وهم حركة، لأنها تعود بنا إلى نقطة البداية، وهي هنا نقطة المحاولة «في الحمام» على أمل لقاء أو تحقق. وأن أي وهم بالحركة ليس إلا تعبيرا عن الرغبة الملتاعة في التملص من قيود الركود الرازح الذي يحكم قبضته على الجميع، ويشل حركتهم الحرة في التقدم أو تحقيق أحلامهم العصية البسيطة في هذا العالم. عالم مقهى «لمة الأحباب» باسمه التناقضي، كعنوان الرواية ذاته، حيث ليس ثمة لمة بالمعنى الحقيقي أللهم إلا اللمة العارضة، التي يؤكد تكرارها إلحاح البنية الدائرية وعرضيتها. فهي لمة مقهى يحضر فيه من يحضر ويغيب من يغيب، بصورة يستوي فيها الحضور والغياب. وليس ثمة أحباب بحق، أو حب من النوع الذي يستغرق الإنسان وينقذه من الهزيمة والانكسار، وإنما عالم مليء بشخصيات جائعة للحب وللتحقق معا. لا يطل على أفقه الحب إلا لماما، وبطريقة أقرب للشفقة أو العطف أو التشبث بقشة درءًا للغرق منها بالحب الحقيقي.

فالدوران في المكان والتردد عليه والوقوع في فلك بنيته الدائرية هو سبيل الرواية للكشف عن حقيقة الأفق المسدود الذي سيطر على الواقع العربي لعقود، لا في تونس وحدها حيث تدور الرواية، وإنما في العالم العربي من حولها. لأننا في هذه الرواية بإزاء «لمة» عربية بحق. سداها تونس، ولكن لحمتها من فلسطين وليبيا ومصر وسوريا ولبنان والسودان، وهي كالعالم العربي نفسه، «لمة» مفتوحة على البحر الأبيض المتوسط، تتوق شخصياتها للهرب إلى عالم أفضل/ وهم أفضل على ضفته الأوربية الأخرى. والدوران أيضا هو أداة الرواية لتعرية عجز شخصياتها عن الفعل أو التحقق واشتباكها بأليات عالمها الكابوسي الذي لا تفلح حركتها للتملص منه، إلا في إيقاعها في قلب شبكته الصارمة. لأن حركة معظم الشخصيات في هذا المقهى هي من نوع «محلك سر»، لا تقترب بأي منها نحو تحقيق حلمها، باستثناء نهاية حلم المغنية «حبيبة» التي أبقتها الرواية مفتوحة أو معلقة. لا نعرف إذا ما كانت ستؤدي التذكرة التي حصلت عليها في نهاية الرواية للتحقق فعلا، أم أنها مجرد أمل كاذب، أو سراب خادع، يحكم قبضة الكابوس على الجميع.

أفلم تتمكن «ألفة» من السفر الى أوروبا الذي أخفقت «نعيمة» في تحقيقه، وتكشف سفرها عن خواء؟ وقد عمدت الرواية إلى تجسيد هذا الكابوس بشكل حسي وكأننا بإزاء كابوس هنري ميلر المكيف الهواء. لأنه كابوس يتسم بالعرامة التي يسكن الخواء في ثؤر روحها، عرامة الوعود بالمباهج الحسية، واستعار الشهوة في الأبدان، وتلامس الأجساد واستداراتها خلف الملابس المغوية، والغناء والرقص، وكل ما يبدو أنه وهم تحقق واستمتاع. فبين الأجساد العارمة المترعة بالرغبة وحب الحياة، والأرواح المكسورة التي تعاني من الهزائم الصغيرة منها والكبيرة يمتد الوتر المشدود الذي تدور عليه كل أحداث الرواية. لأن الرواية تعي في كتابتها للجسد كيف يدفع بالشبق عن نفسه غوائل التردي والانكسار. وكيف أنه كلما توالت عليه الإحباطات وانسد في وجهه الأفق، كلما ازدادت رغبته في أن يبرهن لنفسه أنه لايزال على قيد الحياة. يدرا بالفعل، أو حتى بوهم الفعل كما هو الحال مع مجيد، عن نفسه الموت الذي تنتشر كوابيسه في الهواء.

لكن أي تأمل فيما تنطوي عليه هذه البنية من خريطة علاقات التماثل والتضاد بين الشخصيات العديدة التي يعج بها هذا المقهى سيكشف لنا عن أننا في عالم تتحكم فيه الصورة (صورة بن علي، الرئيس الذي ليس في واقع الأمر إلا صورة للرئيس الحقيقي الذي أصابه الخرف) وكل مسوخها من رجال الأمن الذين يمارسون السلطة على كل من فيه، برغم غيابهم الفعلي عنه. والذين تستمد منهم صاحبة المقهى «لالّة درة» سلطتها وسيطرتها الشكلية، وتتشكل بهم هزيمتها معا، بخضوعها لشروط هذا العالم الممسوخ وإملاءاته. وقد سبق وأن أشرت إلى تحليل بودريار للغواية وتأكيده على أن «آليات الغواية تمكن المصطنع والمتوهم والعبثي من أن يحجب العقلي والمنطقي ويتغلب عليهما، متحديا مواضعات توليد المعنى الطبيعية، وحتمية تعزيزها للقيم الاجتماعية وعلاقات القوة».

السيميولاكرا .. وسطوة الصورة الزائفة:
وحتى يكتمل فهمنا لمدى ما يعيشه عالمنا العربي من تدهور تكشف لنا عنه هذه الرواية الجميلة علينا التريث قليلا عند مفهوم آخر لبوردريار استقاه من عمل قصصي بالغ القصر والعمق معا، وهو ما دعاه بالسميولاكرا
Simulacra أي الصورة الزائفة. وقد استمد هذا المفهوم من قصة قصيرة للكاتب الأرجنتيني الأشهر خورجي لويس بورخيز Jorge Luis Borges وهي بعنوان (عن التماثل المضبوط في العلم On Exactitude in Science) وهي قصة تتكون من فقرة واحدة ولكنها بالغة العمق والجمال، لذلك أورد ترجمتها كاملة هنا:

«في تلك الإمبراطورية بلغ فن رسم الخرائط أوج الدقة والضبط والكمال. إلى الحد الذي شغلت فيه خريطة مقاطعة مدينة بأكملها، وخريطة الإمبراطورية مقاطعة برمتها. وفي وقت لم تعد فيها هذه الخرائط المفرطة في دقتها وضخامتها قادرة على إشباع طموح رسامي الخرائط، عمد اتحاد رسامي الخرائط إلى عمل خريطة للإمبراطورية بحجم الإمبراطورية نفسها. يناظر فيها كل جزء من الإمبراطورية تجسيده على الخريطة. لكن الأجيال التالية، والتي لم تكن مغرمة بدراسة فن رسم الخرائط كشغف أسلافهم بها، رأت أن هذه الخريطة الضخمة لا جدوى منها ولا نفع فيها، وأنها تنطوي على قدر من الغلظة، فتركتها نهبا لقسوة الشمس وعوامل التعرية في الشتاءات المتعاقبة. وفي الصحارى الغربية لاتزال هناك حتى اليوم بقايا مزق هذه الخريطة، وقد سكنها الشحاذون وأقامت في ثناياها الحيوانات. ولم يعد في البلاد كلها أي أثر لفن رسم الخرائط».(8)

من هذه القصة البديعة استوحى بودريار مفهومه عن غلظة الحياة وخوائها وقسوتها في صحارى مجتمع ما بعد الحداثة، الذي أصبحت فيه خريطة بورخيز بمقياس رسم 1 – 1 وبعد أن مزقتها عوامل التعرية المناخية المختلفة هي المعادل الحقيقي للمجتمع الحديث، أو بالأحرى ما بعد الحداثي، وقد تحول فيه كل شيء إلى مجموعة من المسوخ المشوهة في بقايا تلك الخريطة البالية والملقاة في صحراء الواقع/ الحقيقي الافتراضي معا. فقد ضيع هذا المجتمع الأصل، بعدما اندثرت الإمبراطورية ولم تبق له إلا بقايا تلك الخريطة التي تعمرها حسب بودريار السميولاكرا Simulacra، أي الصورة الزائفة، وهو مصطلح يعود إلى أفلاطون، لكنه اكتسب حياة فكرية وفلسفية جديدة تحت وقع معالجة بودريار الذكية له. والسيميولاكرا حسب تعريف بودريار لها هي الصورة التي تطمح أن تكون أصلا، أو تزعم أنها تنوب عن أصل لا وجود له في نهاية الأمر، بالطريقة التي تنوب فيها حقا عن خواء مدقع، دون أن تكف أبدا عن الادعاء، بل اليقين بأنها تنوب عن شيء حقيقي. فينتهي بها الأمر لا هي أصل (حيث لا وجود له) ولا هي حتى صورة لهذا الأصل المبتغى الذي يبدو هو الآخر، وكأنه أصل مزعوم، لأن الأصل الذي تطمح الصورة أن تكونه سرعان ما يصبح مع ترسخ الصورة وسطوتها لا ضرورة له، بل يتحول إلى عائق يحول دون تناميها وفاعليتها. (ألم يكن مجرد وجود بورقيبة في تونس العاصمة عائقا أمام تحول بن علي إلى سيمولاكرا له، فكان لابد من نفيه إلى المنستير، كي تتحقق الصورة، وتحيل بتحققها السلطة نفسها إلى مسخ وفساد).

لذلك فإن السميولاكرا ليست بأي حال من الأحوال ما يخفي الحقيقة، وإنما هي الحقيقة التي تخفي حقيقة أنه ليست هناك حقيقة.(9) فهي الخواء الذي يزعم أنه الواقع، ويعلن بقوه عن زيفه، بحيث تبدو دائما وكأنها أقرب إلى التعبير العامي «فالصو» لا تخطئ العين زيفها. فهي مسخ زائف يعلن عن امتساخه وزيفه بكل فخر ودونما خجل. وهي ككل ما هو «فالصو» لا أمل لها أبدا في أن تكون حقيقية، ويرتبط أملها بالفاعلية والاستمرار في تحولها إلى نسق ونظام من العلامات الخاوية التي لا تشير إلى واقع حقيقي، أو أصول من أي نوع. فالسيمولاكرا عند بودريار ليست قاصرة على الصورة وحدها، ولكنها تمتد إلى أنساق كاملة من العمليات أو الأنظمة التي تزعم أنها تحاكي عمليات وأنظمة سياسية أو اجتماعية حقيقية، ثم تتحول إلى اليقين بأن ما تفعله ليس تقليدا أو مسخا لعمليات وأنظمة، ولكنه هو النظام الذي يستحق أن يتبع، وأن يبقى وأن يترسخ. وأن كل ما عداه هو الاستثناء الذي لابد من الإجهاز عليه، كي لا تطرح أي أسئلة حقيقية عن الحقيقة. بالصورة التي تسم عنده السيمولاكرا الوضع ما بعد الحداثي كله، وسيطرة الصورة على عوالمه الافتراضية والواقعية على السواء. حيث ثمة أنظمة حكم تزعم أنها أنظمة حكم وهي في حقيقية الأمر سميولاكرات خاوية، تحكم بشرا يتحولون هم أيضا إلى سميولاكرات لبشر، يعيشون أغلبهم في مناطق عشوائية ليست إلا سيمولاكرات لمدن .. وهكذا.

مسوخ زائفة في صحارى الواقع الرديء:
وتنطوي الرواية، بوعي من الكاتب، أو عبر حدوسه الروائية المبدعة، على لعبتها الخلاقة على المفهوم البودرياري ما بعد الحداثي عن الشخصية/ النظام السياسي/ المسوخ الزائفة، التي تتخلق في واقع تحكمه أنظمة زائفة هي في حقيقة الأمر سميولاكرات لأنظمة. حيث تبدو «لالة درة» أصلا بالنسبة للكثيرات من بنات الرواية، يطمحن في الوصول إلى تحقيق شيء منه، بينما هي نفسها – بالرغم من أنها ملكة النحل التي تستحلب كل الذكور، وتمتص رحيق كل الشغالات – ليست أكثر من صورة زائفة، سيمولاكرا لصورة أكثر منها زيفا، وإن بقيت في عالمها حقيقة، وفي لاوعي الرواية غائبة هي ليلى بن علي/ الحلاقة التي وجدت نفسها سيدة القصر والمصر بأكمله، أو السيمولاكرا الكبرى التي تسعى كل الصور الزائفة الصغرى للحاق بها. هي (للّا درة) قطعا سميولاكرا الملكة ففي «باب العسل» نعرف أنها كالأخريات، حيث يقول أبو شندي عنها «هي عاهرة يا أبا شندي في ثوب ملكة، عاهرة ولو بالحبر السري .. لأنها لم تعشق أبدا كما قالت. العشق يوسع في الروح والبدن طريقا آخر.»(ص 97) «هي عاهرة بالمعنى الحرفي بالتمام والكمال، بالذكاء والفتنة» (ص 220) هذه هي حقيقتها الكاشفة عن انكسارها الداخلي بالرغم من أنها تبدو وكأنها «الملكة»، «الدرة» كما يقول اسمها، ولكنها ملكة على مملكة النحل التي لا يبقى فيها سواها، تمتص رحيق كل البنات/ الشغالات البائسات المسحوقات، وتجهز على كل الذكور المهزومين، ولكنها تكتشف أنها ليست ملكة حينما يقول لها شيخ الأمن «ولكنك نسيت السيدة الأولى» (ص238) أو بالأحرى السميولاكرا الأولى، فندرك أننا في عالم مابعد حداثي بامتياز عالم الصور الزائفة لصور أشد منها زيفا. وتكشف لنا نهاية الرواية عن أن كل ممارساتها، ومواقفها، وعلاقاتها برجال السلطة، ليست إلا قناعا زائفا لمرارتها منهم جميعا، ولضيقها بسطوة الزيف والسيميولاكرا، وحتى بنفسها. «تقع عيناها على صور السيد الرئيس في مكانها من الحمام. لبرهة تنظر إليها، تستدير لتخرج. تغير اتجاهها نحوها مرة ثانية. فجأة تركلها بقدمها، تسّاقط مبعثرة على أرضية الحمام، تحملها بأطراف أصابعها إلى سلة القمامة.»(ص246)

وإذا ما واصلنا تأمل هذا المفهوم البودرياري في الرواية سنجد أننا بإزاء رواية معمورة بشخصيات مابعد حداثية بامتياز. كل منهم Simulacra أي صورة زائفة تتغيا أن تكون حقيقة، لآخر/ لشخص/ لصورة أخرى/ لفكرة / لوهم راسخ ورازح معا. وسنجد بها ثنائيات شيقة من الشخصيات التي يحكمها هذا المفهوم، وتنويعات ثرية على موضوع الانكسار والهزيمة. فكل شخصية سواء أكانت رجالية أو نسائية يحكمها هذا المفهوم ويعزز اغترابها عن ذاتها الحقيقية، وتأكيدها لزيف واقعها، وشوقها الذي يبلغ حد الاستحواذ في أن تكون شيئا عصيا آخر غير ذاتها الحقيقية. سواء أقبع ذلك الشيء في الماضي، كما هو الحال مع جل الشخصيات الفلسطينية، أو ظل خيالا لا أمل إلى الهبوط به من فراديس الخيال إلى كوابيس الواقع كما هو حال الكثير من الشخصيات التونسية والعربية الأخرى. وثنائيات الشخصيات كثيرة: محمد شهريار وباربي/ مجيد وغسان/ نعيمة وألفة/ حلومة ورحمة/ سفيان ومهدي. فمحمد شهريار أو محمد كازانوفا ليس إلا سميولاكرا لكل من الأصلين الغائبين والمستحيلين معا: شهريار وكازانوفا/ وحينما يقابل حلمه الحقيقي لا تلبث دودة الزيف الكامنة في قلب الثمرة أن تجهز علي تحققه بغير رجعة. ومثيلته باربي، أو شهريار الأنثوي المقلوب، هي الأخرى تجري وراء تحقق سرابي زائف تزعم أنها تسيطر عليه، ولكن دودة الزيف تدب في قلب ثمرة تحققها الكاذب ذاك، عندما يعرض كازانوفا عنها، وإن ظل على الدوام أمامها يخايلها، وكأنه يختال بهزيمته عليها.

فلسطين .. أوجاع الهزيمة واستحالة التحقق:
تظل قضية فلسطين هي الوجع العربي الأكبر، وهي التحدي الأكبر الذي يواجه العربي كلما توهم أن باستطاعته التحقق وهي ضائعة. وقد ظلت هذه القضية شارة على ما يواجهه أي مشروع نهضوي عربي منذ زُرِع هذا الكيان الصهيوني الهجين خنجرا مسموما في خاصرة العالم العربي، وفي قلب الإنسان العربي، سواء وعي بنزفه المستمر أم لم يعه. وقد ظلت مصر أكثر البلدان العربية وعيا بأهمية هذا الهم الفلسطيني، وكأنه هم مصري خالص. أو بالأحرى لأنه هم مصري خالص، يلح على العقل المصري وعلى المشاعر الوطنية المصرية على الدوام، مهما حاول الأعداء تنحيته عنهما. ولا أدل على ذلك من اهتمام الرواية المصرية بفلسطين منذ النكبة ورواية يوسف السباعي الباكرة عنها (طريق العودة) وحتى الآن. وفي السنوات الأخيرة وبعد كتابة بهاء طاهر الجميلة لمجزرة صبرا وشاتيلا في (الحب في المنفى) كهم فلسطيني وعربي مقيم، كرست رضوى عاشور روايتها الأخيرة (الطنطورية) بكاملها لها. وكتبت عبرها كيف صمدت فلسطين في وجه المحو، وطرحت نفسها وبلورت هويتها بقدرة الموقف الأخلاقي الأعلى.

وها هو وحيد الطويلة في روايته الجديدة تلك يقدم لنا تنويعاته الخصبة على الوجع الفلسطيني من ناحية، وعلى تسلح هذا الوجع بالموقف الأخلاقي الأعلى أيضا من ناحية أخرى. ليكتب عبر الشخصيات الفلسطينية الثرية في روايته حقيقة الهزيمة التي يعيشها الواقع العربي برمته، ولا يفلت منها حتى أكثر من يتوهمون أنهم أبعد ما يكونون عنها، كما الحال في مجتمع كالمجتمع التونسي الذي تفصله آلاف الكيلومترات عن حدود فسطين المستباحة. وليجعل لحضور هزيمتهم في بقية شخصيات الرواية التي تتوهم عبر سيميولاكرات صورها الزائفة عن نفسها أنها بعيدة عنها، تجسيدا روائيا ملموسا، لتجذر فلسطين فينا، حينما يحولهم إلى مرايا قادرة على الإحساس بأدق تفاصيل الهزائم في البشر. لأن الانكسار أو الهزيمة هو نغمة القرار التي تتخلل الرواية كلها، وهي موضوعها الرئيسي في قراءتي لها.

فـ(باب الليل) رواية سياسية بالمعنى الحقيقي والعميق للرواية السياسية، حيث لا تطفو فيها السياسة على السطح، وإنما تظل أبدا ثاوية في العمق، تتجلى من خلال علاقات الهيمنة المختفية منها والظاهرة. تظل «غاطسة» في قاع العمل تتحكم فيه دون أن تبدو أنها تفعل ذلك على الإطلاق وفق مفهوم الهيمنة الجرامشي العميق. إذ يبدو على السطح أن كثيرا من شخصياتها النسائية التونسية، خاصة «للّا درّة» و«باربي» و«ألفة»، أو حتى الرجالية التونسية مثل «محمد كازانوفا» و«سفيان» و«زوج درّة»، شخصيات متحققة تستمتع بما وفرته الحياة في تونس من حرية، لكن علاقات التجاور والتفاعل بين هذه الشخصيات كلها وبين حفنة الشخصيات الفلسطينية تكشف لنا عن هزيمتها، وعن أنها مجرد صور زائفة لأصول مهزومة أو ممسوخة. ذلك لأن شخصيات النص الفلسطينية هي التي تجسد لنا الهزيمة في كامل صورتها. حيث تعيش كل منها هزيمتها الخاصة بجلد ونبل واضحين، بالصورة التي تكشف لنا بها الرواية كيف تتسلل الهزيمة إلى أدق تفاصيل الحياة الشخصية الخاصة لكل من يستسلم لها، أو يقاومها على السواء.

فالهزائم كالانتصارات، لها تأثيرها الشامل والكاسح على الجميع، لأنهما من الأمور العامة التي يشمل تأثيرها الأمة كلها، ولا يستطيع الفرد التملص كلية من تأثيرهما مهما حاول. وإذا كنت، يا قارئي العزيز، قد عشت سنوات طويلة مثلي بين أمم منتصرة، مثل بريطانيا أو أمريكا، فإنك ستدرك أن الانتصار يعم، تماما كالهزيمة التي تجرعها جيلي الذي عاش هزيمة 1967، ولم تنطل عليه دعايات حرب أكتوبر والعبور أو انتصاراته التي أفضت إلى ما دعاه محمد عفيفي مطر «انتصار الهزيمة»، وانتهت برفع علم العدو الصهيوني في أكبر عاصمة عربية، وبتحرير سيناء المنقوص الذي لازلنا نعاني منه حتى اليوم. بل ستدرك أن إنسان الأمم المنتصرة يختلف عن بشر الأمم المهزومة، لأن الإجابة الوحيدة على الهزيمة هي الانتصار كما قال ونستون تشرشل. وأنه بقدر ما تنعش الانتصارات الروح فإن الهزائم تنهشها وتلوب فيها تدميرا من الداخل. وقد كتب لنا وحيد الطويلة تآكل الروح وضمورها بطريقة تكشف عن أنه لا أمل في أن تنتعش الروح العربية، طالما استمر الجرح الفلسطيني في النزيف.

فتونس التي تبدو أبعد ما تكون عن خط المواجهة مع العدو الصهيوني، نالت هي الأخرى نصيبها مما ألحقه هذا العدو البغيض بالأمة العربية من هزائم. حيث تتجلى الهزيمة في كثير من شخصياتها الحاضرة والغائبة على السواء .. ومن تلك الشخصيات الغائبة زوجة أبي شندي التونسية التي خلعته، والتي لا تقل هزيمة عن «نعيمة» التي آثرته. ناهيك عن أسرة أبي جعفر المهزوم التي أضاعها عند هربه عقب احتلال العراق، «ولا يدري أين أهله، وما إذا كان يكلم أشباحا أم جثثا».(ص213) وأسرة شادي التي تطاردها حماقة تعبير ابنها الصبي عن رغبته في أن يصبح رئيسا حينما يكبر، لأنه لم يعرف بعد أن الرئيس ليس في حقيقة الأمر إلا سميولاكرا رئيس.

والواقع أنني لم أقرأ من قبل هزيمة الشخصية الفلسطينية بعد أوسلو في أي من الأعمال العربية الكثيرة التي جسدت وقع هزيمة فلسطين وما يجري فيها على الروح العربية بهذا القدر من النصاعة والعمق الذي تجسده لنا شخصيات (باب الليل) الفلسطينية. حيث نرى فيها كيف تتآكل الروح وتضمر، بل ويذوي معها الجسد نفسه كما ذوى جسد أبي جعفر المهزوم وظل «يبحث عن خياط يضيق له بذلاته» (136). ففي الرواية شخصيتان فلسطينيتان مهمتان، تجسدان لنا مدى وقع الهزيمة الفلسطينية المسماة باتفاق أوسلو على المناضلين الحقيقيين. لأنها اختارت أولهما «أبوشندي» ممن بقوا بعد رحيل الفلسطينيين من تونس إلى رام الله وغزة، فقد رفضت دولة الاستيطان الصهيوني التصريح له، لأن على يديه دم النضال الحقيقي ضد العدو، بدخول أرض فلسطين مع العائدين لها بعد أوسلو. وقد كان لأبي شندي باع طويل في النضال لعشرين عاما تحت راية الثورة الفلسطينية، حقق في ساحته انتصارات تألق معها الجسد وانتشت الروح. ولكن الضربة المصمية جاءته من القيادة الفلسطينية نفسها، بعد أن فتحت خطا مع الأمريكان، وتوهمت أنها وصلت خط النهاية. (ص44) أمرته أن يبيع كل شيء، ولم يعرف أن هذا البيع هو بداية الدمار، وبداية «حبف»، حركة بيع فلسطين معا.

لكنه برغم هزيمته، يظل بسبب سنوات النضال وتجربة الحب الحقيقي الرائعة في بيروت، وتجربة العشق الأكبر، فلسطين، أحد أقوى شخصيات الرواية وأشدها تماسكا. تشعر بذلك كرة النار المدعوة «ألفة» التي تدرك أنه «يملك شيئا ما داخله يظهر على وجهه يجعله في نظرها أقوى الرجال» (ص 185) هذا الشيء الداخلي هو عدم تفريطه كمن فرطوا في الموقف الأخلاقي الأعلى، موقف المقاوم الذي دافع عن قضيته ولم يساوم عليها أو يبعها. وموقف العاشق الذي عرف الحب الحقيقي مع تلك المسيحية اللبنانية التي تكتب الرواية عبر حكايته معها قصيدة حبها: «جمال العشق أنه يصبح هو الديانة، ينحي كل الديانات أو يجعلها تذوب فيه وتأخذ لونه وطقوسه وصلواته». (ص55) لكن تجربة العشق الاستثنائية تلك لم تدم! لم تدم لمرارة المفارقة ليس بسبب حربه مع العدو الصهيوني، ولكن بسبب الحروب العربية - العربية القميئة التي أطاحت بأجمل ما في حياته. لأن «أم زينة» وقد تعطلت سيارتها يوما، فطلبت من الخادمة أن تنزل لها بمفتاح سيارته، فدته بنفسها وراحت ضحية انفجار سيارته الذي كان مفروضا أن يجهز عليه. وظلت «أم زينة هي تجربتي الحلوة بالحياة، هي قسوتي بالدنيا» (ص60) وظلت هي وجعه المقيم، برغم انتقامه لها، حتى هبط عليه الوجع الأكبر مع تصاريف السَلَطة الفلسطينية التي ينطقها مفتوحة. ففي «باب الأقواس» نعرف مدى عشق الفلسطيني لبلده/ قضيته، وكيف أن عشقا كعشق أبي شندي لن ينهزم مهما تفشت تنظيمات «حبف» حركة بيع فلسطين الخائنة.

أما الشخصية الثانية التي تقدمها الرواية، لدلالة عنوان الفصل في «باب الوجع» الذي يتحول فيه وجع الهزيمة القومي إلى وجع شخصي يأكل الروح والجسد، فهي أبو جعفر المنصور، الذي كان حامي حمى الثورة الفلسطينية في العراق، حتى ضاع العراق الذي كان يلعب فيه دور البطل الثاني والحارس الأول للكفاح الفلسطيني. لذلك لا يصدق ما جرى بالرغم من أنه يدرك مع احتلال العراق أن «أميركا احتلتني وحدي، حبستني وحدي» (ص 129) وأنه أصبح بالفعل أبا جعفر المهزوم، وأن «الأمة انتهت بموت صدام ... ولم يعد هناك سوى تنظيم حبف .. أي حركة بيع فلسطين» (ص 131) فلم يبق له أي أمل بعدما ضاع العراق، وضاعت أسرته معه، أو توزعت في أربعة أرجاء الأرض كجسد الثورة الفلسطينية مقطع الأوصال، مما يجعل أبوشندي يدرك برغم ثقل مأساته مدى فداحة ما جرى له «لا يا أبوشندي، هم أبو جعفر أكبر من همك، على الأقل أنت تعرف أين بناتك، وهو لا يدري إين أهله، وما إذا كان يكلم أشباحا أم جثثا». (ص213) لذلك تجسد لنا الرواية كيف أخذ يذوي أمامنا ويتضاءل داخل بذلاته الأنيقة «وقد مات من الداخل تماما» (ص 209) وتحول إلى «مثال حي على ما جرى لهم  جميعا، تمثال من لحم». (ص212)

وبالرغم من أهمية هاتين الشخصيتين الفلسطينيتين، فإن الرواية لا تنسى البعد العربي للقضية الفلسطينية التي ناضل في صفوفها العرب جميعا. فتمد نطاق الهزيمة واستحالة التحقق، ليس فقط إلى من شارك في الثورة الفلسطينية التي كانت ثورة عربية شاملة شارك فيها المصري «فاروق جعفر» أو «فاروق أنجرام» والسوري «شادي» حيث تجرع كل منهما هزيمتها بطريقته. «شادي» الذي ناضل في الثورة وانتحل من أجلها عشرات الأسماء، وغنى للثورة وكان حاديها وشاديها، «كنت أحلم بدخول فلسطين مع الداخلين، مثلهم أغني لهم أنا الحادي، أدخل لأضع كوابيسي تحت وسادتي وأنام أو أموت سعيدا»(ص 217) اكتشف، بعد واقعة رغبة ابنه الصبي في أن يصبح رئيسا، أنه ينام في سرير واحد مع مخبر في صورة زوجة، لذلك فإنه يصرخ «خدعنا في الثورة، لا يجب أن نخدع في النساء!».(ص148). أما «فاروق انجرام» فإنه لم يستطع القبض على الجمر حتى النهاية وفضل القبض على النقود. «أولاده يتعلمون في أميركا على حساب المنظمة، زوجته فلسطينية، ربما أكثر فلسطينية من شادي، وحسابه في البنك منتفخ» (ص149) لكنها تجعلهم جميعا مرايا تكشف لنا مدى تغلغل الهزيمة في أدق تفاصيل الحياة الشخصية للمهزومين، ومدى استحالة أي تحقق في وجودها، سواء أكانت هزيمتهم مباشرة كهزيمة الفلسطينيين بعد أوسلو، أو غير مباشرة تتجلى في التردد بين باقات الأحلام ومغارات الكوابيس كما هو الحال مع بقية شخصيات الرواية والتونسية منها خاصة. ولا تنسى أيضا أن تربط كل هذه الهزائم بأصلها. فكما تربط الرواية هزيمة أبي شندي، بفتح الخط مع الأمريكان، وأبي جعفر المهزوم باحتلال الأمريكان للعراق، ربطها بين المشروع الصهيوني والأمريكي في المنطقة، فإنها تربط أيضا بين كل هذه الهزائم والخيانات والقضية الفلسطينية الأم. فتؤلف قرب نهايتها بين شخصياتها الثلاثة: «نعيمة» و«أبوشندي» و«أبو جعفر المهزوم»، وهي أكثر شخصيات الرواية ثراءا وتماسكا، وكأنها تؤلف بين القضية الفلسطينية وبعدها العربي التونسي برباط عضوي.

فتح طاقة الأمل في الأفق المسدود:
ولأن الرواية تصدر بعد أن حطم الربيع العربي كل السيمولاكرات الأصلية في واقعنا العربي في الزمن الرديء، وتنتهي بتحطيم «للّا درّة» صورة «بن علي» وإلقائها في مزبلة التاريخ. فإن هذا الفعل التمردي الذي يفتح طاقة للأمل فيها، ليس بأي حال من الأحوال مفروضا على الرواية من خارجها، ولكنه نابع من بنيتها، ومن نسق تتابع فصولها، أو بالأحرى أبوابها. وقد قلت إن دائرة الحركة في الرواية تعتمد على الصعود والهبوط، وكأننا بإزاء حركة حكمت عليها البنية بالسجن في الدائرة، ولكنها لا تني تتملص منها، تسعى للهروب من قدرها الغشوم فمازالت كل شخصياتها المهزومة تواقة للتحقق، لنصر مهما كان صغيرا فإنه قد ينتشلها من قاع الليل البهيم ذاك. فالرواية تتكون من خمسة عشر بابا، تبدأ بـ«باب البنات» وألاعيب البهجة الموقوتة والمأجورة معا، حيث تقدم لنا لعبة الغواية وطقوس الصيد في الحمام «لعبة الحمام» وتبادل أرقام التليفونات وتنظيم المواعيد، أو اقتناص فواتير الحساب لمن يريد أو بالأحرى يستطيع دفع ثمن أكثر من واحدة. ثم ندلف إلى عوالم شخصياتها من «باب الفتح» وقد انفتح على «نعيمة» و«أبي مجيد» اللبناني قناص الفواتير الموعود بمنصب كبير لا يجيء أبدا، والمكتفي بغزواته الليلية أو النهارية لا فرق، فكلها غزوات خائبة لأن أبا جميل إما عليه عفريت أو في إجازة. أما «نعيمة» فهي النموذج الحي لهزيمة البنات، وقد سرقت أختها فرصتها في النجاة إلى إيطاليا. وتركتها قعيدة المقهى وساقيته الدوّارة. وقبل أن تقفل الرواية «باب الفتح» لا تنسى أن تقدم لنا «مهدي» المسيحي الوحيد في المدينة، أو الذي اعتنق المسيحية متوهما أنها ستحرره من سوء حظه التونسي، الذي يدفع الآخرين إلى ألقاء أنفسهم في البحر، وستتيح له أن يعمل في «المارينز» ويكتسب الجنسية الأمريكية، جنسية الجنة الواعدة بأوهام التحقق.

وبالرغم من أن «مهدي» شخصية ثانوية في تلك اللعبة، إلا أنها شديدة الدلالة على ما يدور في اللعبة الأكبر، لعبة الواقع العربي والأفق المسدود. لأنه في عز الشباب «بوجه أحمر مكتنز به وسامة ساذجة. وجسد يشبه جسد مصارع، مترهل قليلا، بقميص مفتوح على صدره العريض، يطل منه صليب كبير ... أنا مسيحي أنا حر»(ص35) هو مسيحي واحد في المدينة التي بها ستة قساوسة. ولكنه برغم عضلاته نصف المفتولة، فقد عمل من قابل حارسا للملاهي الليلية «لكنه لا يقترب من البنات، مدوش، دماغه في دنيا تانية» (ص122) يريد أ يهاجر إلى أميركا ويعمل في المارينز ويحصل على الجنسية. ويلعب مهدي، الذي يسكن النص كشبح لا فكاك منه من بدايته وحتى نهايته، دور المهرج الشكسبيري في التراجيديا التونسية. يجسد بعضلاته المفتولة طاقة شباب تونس المهدرة، وببطاقته الهوية المسحوبة ومنعه من العمل والسفر فقدان الهوية والكرامة، والمنع من الحلم بمستقبل أفضل تحكم آليات الأفق المسدود قبضتها عليه.

كما يجسد حلمه في الهجرة إلى أمريكا والعمل في المارينز – أقصر الطرق للحصول على الجنسية وأشدها مخاطرة في آن – أحلام الشباب التونسيين في الهجرة مهما كانت المخاطرة، حتى لو كانت بإلقاء أنفسهم في البحر، وهو هنا بحر الوهم الأمريكي البشع، واكتساب جنسية أخرى تفتح لهم طاقة نجاة من هذا الأفق المسدود. لذلك ليس غريبا أن يلخص حالته لكل من يحمل كومبيوتر فيطلب منه مساعدته في تقديم طلب للانضمام للمارينز هذا التلخيص الدال: «الحكومة تطاردني، والقساوسة يدعون لي ويمسحون على رأسي بالصبر وأحيانا بالخبز، وأنت، أنت ستساعدني» (ص 208) وكأنه يلخص بذلك أزمة شباب تونس كلهم، حيث تطاردهم حكومتهم الفاسدة، ولا يقدم لهم الدين سوى سلوى فارغة تتمثل في مسح القساوسة على رأسه، وكسرة خبز تقيم الأود بالكاد، كما هي الحال مع الإحسان والزكاة، ولكنها لا تفتح طاقة للكرامة أو الحرية أو التحقق!

لكنه يدرك بحدسه أن كل من معه كومبيوتر، أو من أتيحت له فرصة الاتصال بالعالم الأوسع عبر المعرفة والثقافة – ربما تكون هذه كناية عن مسؤولية المثقفين عن خلاصه – هم القادرون وحدهم على مساعدته. فيطلب من كل منهم مساعدته، بمن فيهم «حلومة» نظيره وصورته الأنثوية، التي تتفاوض هي الأخرى مع الأمل عبر ملفاتها التي تؤرشف فيها كوابيسها في الكومبيوتر، وتحلم بالخروج والخلاص. بين باقة الأحلام ومغارة الكوابيس تتخبط معها الشخصيات جميعا، فتصنع لهم «حلومة» في كومبيوترها ملفات يضمها جميعا «ملف الكوابيس» الذي تدون فيه جرائم «ألفه» و«مجيد» و«غسان»، ولا يني «مهدي» يطالبه بأن تفتح له ملفا للأمل، وتكتب لها طلبا للالتحاق بالمارينز. وحينما يواجهه أبوشندي بأنه لو عمل مع المارينز في العراق، فإنه سيقتل إخوته العرب في العراق، يكون رده مفحما «يقتلونني كل يوم، ولا أحد يدافع عني، ولا واحد! ولا آكل» (ص211).

وكما قدم «باب الفتح» حلم «مهدي» المستحيل بالخلاص، وخيانة أخت «نعيمة» لها، يعود بنا «باب الهوى» إلى بنات الهوى، ورحلة أبي شندي في النضال وماخوره في ألمانيا، الذي يكشف لنا عن أن عاهرات الليل أكثر شرفا من عاهري السياسة. ثم ينقلنا «باب الأقواس» إلى تجربة عشقه لأم زينة، وكيف قضت لا في حربه من الصهاينة الذين انتقم من كثير مما فعلوه بأهله، ولكن في حرب عبثية بين العرب والعرب. وما أن ندلف إلى «باب العسل» حتى نتعرف على ملكة حي النصر «لالّة درّة» وزوجها الضعيف. ثم تتكشف لنا بنية آليات الغواية في «باب النحل» صعودا إلى «باب الوجع» حتى نكتشف أن الرواية تصعد بنا من المواجد والصبوات الصغيرة حتى ذروة الوجع، وجع «أبي جعفر المهزوم» وأوجاع الهزيمة العربية الكبيرة التي تأكد بها ضياع فلسطين للأبد مع احتلال بلد عربي كبير هو العراق. فهو كما يقول له فلسطيني مهزوم آخر هو شندي «أكبر دليل على الهزيمة» (ص135).

من ذروة هذا الوجع ننحدر عبر أبواب الجسد والريح والنار والبحر والرجال وصولا إلى «باب للّا درّة» التي نكتشف أن هزيمتها من جنس هزائم الآخرين، وإن بدت بعيدة عنهم يحميها العسس ولعبة التعامل مع السلطة، والتي تنتهي بالمواجهة السافرة مع «شيخ الأمن» من ناحية وبركل الصورة وإلقائها في مزبلة التاريخ من ناحية أخرى. لكن الرواية وهي تكتب الهزيمة العربية بامتياز، تعي أن الهزائم الكبرى ترتد بنا إلى حالتنا البدئية، حيث تلعب العناصر الأربعة (الأرض والماء والنار والهواء) دورها في تشكيل العالم. ففي أرض المقهى التي تشكل المكان الراسخ، أو الأرض/ التراب التي جئنا منها وإليها نعود، نتعرف على أول العناصر الأربعة. «مقهى يحتضن الجميع، سره داخله، يطوي غرامه في أعمدته وأثدائه المنتصبة اللامعة المدوّرة، يسحب الأرواح قبل الأقدام» (ص244) فوق هذه الأرض تشرع الرواية أبوابها الثلاثة/ العناصر الثلاثة الباقية وعلى التتالي: باب الريح/ باب النار/ باب البحر.  لتكمل بالأبواب الثلاثة بنية العناصر الأربعة.

فليست صدفة أن باب الريح هو باب «حلومة» و«سفيان» وكل من خرج من التجربة المرّة التي بددت الروح والكرامة بقبض الريح، وباب النار هو باب «ألفة» كرة النار التي تلتهم كل شيء في الرواية حتى نفسها، حتى عندما تحجبت بعد غزوات ليبيا المتكررة التي أثقلت ذراعها بالأساور الذهبية، فإنه حجاب من نار أيضا، من النوع الذي تدعوه ساخرة «الحجاب كباب» (ص242). أما باب البحر فهو باب «غسان» الذي آثر أن يكون الماء فتبدد كلية، لا الماء الذي يروى العطش، ولكنه الماء الذي يغرق بالوشايات القذرة كل من يقترب منه في قيعانه، حتى غرق هو نفسه ولم يحقق شيئا من أحلامه التي سفح من أجلها ماء الوجه وماء الكرامة وماء الشرف، وكل المياه التي توفرت له أو لم تتوفر. لم يبق له إلا مقهى جديد استعار له مجاهدات «للّا درّة» القدامى (ص 242) ووضع في صدارته صور السد الرئيس التي انتهت في الحمام (ص 245) تهشمها ركلات «للّا درة» النهائية، كإشارة ختامية لنهاية الكابوس، بعد تحقق أول الأحلام، حلم «حبيبة» بجواز السفر وتذكرة الطائرة! وباستمرار الكابوس في الوقت نفسه في المقهى الجديد، مقهى «غسان». هكذا تكشف لنا البنية الدائرية للرواية، واستراتيجياتها النصية الكاشفة عما تنطوي عليه هذه الرواية من مستويات متعددة للمعنى، وشبكات متراكبة من الشخصيات الكاشفة عن ثقل الواقع العربي الرازح في الزمن الرديء الذي اختارت الرواية أن تجعله زمن السرد فيها، وأن تنتهي ببشارة نهايته.

 

هوامش:
(1) وحيد الطويلة (باب الليل)، الرباط، دار الأمان، 2013
(2) يحي حقي مجموعة دماء وطين، والاستشهاد من طبعة (مرايا يحيى حقي) الذي أعددته لكتاب (الدوحة) الذي وزع مع عدد 71، سبتمبر 2013، ص 65.
(3) وحيد الطويلة (باب الليل)، ص 13، وكل الإشارات للرواية بعد ذلك ستكتفي بذكر رقم الصفحة في متن النص.
(4) للمزيد من التفاصيل راجع Jean Baudrillard, Seduction, trans. Brian Singer (New York, St Martin’s Press, 1990) ، ص 98.
(5) راجع المرجع السابق ص 81 - 84.
(6) المرجع السابق ص 121.
(7) المرجع السابق، ص 102
(8) نص بورخيز هو ترجمتي له من الإنجليزية كما هو موجود في موقع نصوصه: http://www.sccs.swarthmore.edu/users/08/bblonder/phys120/docs/borges.pdf
(9) راجع Jean Baudrillard, Simulacra and Simulation, trans. Sheila Faria Glaser (University of Michegan Press, 1994), p. 3.