إذا كان هناك انفجار معلوماتي وتدفقٌ هائلٌ لا ينقطع، من الكتابات والصور والتسجيلات، في أوصال الشبكة العنكبوتية، وتوسّعٌ وتمدد غير محدودين في جغرافيا الفضاء الافتراضي، فهناك في المقابل تغلّبٌ للكثرة على القلّة، وانتصارٌ، من ثمّ، للكمّ على النوع. بنقرة واحدة على مفاتيح الحاسوب، أو لمسةٍ لشاشة الهاتف المحمول، تنفجر في وجوهنا آلاف، بل عشرات الآلاف، وربما ملايين الصفحات، التي تضمّ شيئاً مما طلبناه أو ما يتصل، في صورة من الصور، بما طلبناه. لكن هذه المادة غير المنظَّمة، والتي تحتاج إلى تصنيف وتدقيق وغربلة، غيرُ متساوية في الأهميّة أو الدقة أو الاقتراب من المادة المعرفيّة أو المعلوماتيّة أو الترفيهيّة التي نطلب. إن الكمّ هو سيّد الموقف، لأن برامج البحث قادرةٌ على توجيه أنظارنا إلى ما تستطيع العثور عليه مما تخزنّه الشبكة ويسبح على الشاشات في كلّ مكان من الكرة الأرضيّة. صحيحٌ أن بعض محركات البحث مصممةٌ لكي تبحث وتصنّف وتختار، كما هو الحالُ في محركات البحث المتخصصة في العثور على رؤوس موضوعات ومحتويات علميّة أو معرفيّة محددة، لكن هذا لا ينفي أن ما ينسكب على الشاشات يفتقر، في معظمه، إلى التصنيف والتدقيق والتأشير إلى ما هو نوعيٌّ ومتخصصٌ ومتصّلٌ بالموضوع الذي نبحث عنه.
عصر الكثرة
لقد أدّى التطوّر الهائل في وسائل الاتصال، والتوسّعُ غير المسبوق في علم تكنولوجيا المعلومات، وفي قدرة الحواسيب والهواتف الخلويّة ومخزّنات المعلومات، وإمكانات الشبكات الناقلة ومحركات البحث، إلى جلب العالم ووضعه تحت أنظارنا وأسماعنا. لكن هذا النهر الدافق من المعلومات، من الحروف والصور والأصوات (وربما الروائح في الأيام المقبلة)، جرفَ معه قدرةَ البشر على الاختيار والتصنيف والتدقيق، وأحياناً، القدرةَ على الحكم والتمييز حسب معايير معرفية أو علميّة، أو حتى ذوقيّة، كانت توجّه اختياراتنا في الماضي القريب. أما الآن فإن كثرة المعروض، أو على الأصحّ الموجود والمنشور والمُحمَّل على الشبكة العنكبوتيّة (أو المعلّق في الفضاء الافتراضيّ)، تمارس نوعاً من المحو والطمس وتشويه المعايير، وحتى تعطيل ملكات الحكم والتقويم والتمييز بين الغثّ والسمين، الضارّ والنافع، الغنيّ أو الفقير معرفيّاً، أو على الأقلّ بين ما هو أساسيّ وما هو نافلٌ لا ضرورة ولا صحّة له.
ما يميّز هذا العصر هو الكثرة، في كلّ شيء، فيما يغيب في الآن نفسه التركيزُ على النوعيّة. يصدقُ هذا على عالم السلع الاستهلاكية، كما يصدق على عالم المعلومات والمعرفة. لقد تحوّلت السلعة، في أزمنة الاستهلاك إلى صنمٍ يُتعبّد له، إلى موضوعٍ للرغبة، كما تحوّلت المعلومة، أو المادة المعرفيّة، بغض النظر عن صحتها أو دقتها أو أهليّتها أو قدرتها على الإضافة وتطوير المجال المعرفيّ الذي تخصّه، إلى غايةٍ في حدّ ذاتها، إلى نوعٍ من الهوس والجوع الذي لا يمكن سدّه أو إشباعه. يتحكّم هذا الجنون المعلوماتي ـ المعرفيّ (!)، والرغبةُ في الحصول على المعلومة، بغضّ النظر عن مصدرها، أصادقاً كان أم كاذباً، في سلوك بشر القرن الحادي والعشرين الذين يفتشون الشبكة لكي يرووا غليلهم فيما يخصّ الموضوعات أو المعلومات أو الأخبار أو الصور التي يبحثون عنها. ولا شكّ أنهم يعثرون على الكثير، على سيل دافق من المعلومات والمعارف، وشبه المعارف، على الأغلب. لكن صحّة ما يحصلون عليه ودقته أمران معلقّان يحتاجان إلى العارفين والمختصين لكي يصدروا حكماً بشأنه. المأساة، بل الكارثة، أن ملايين، وربما مليارات من البشر، يعتقدون، مخطئين (دون أيّ شك)، أن ما يعثرون عليه في فضاء الشبكة العنكبوتيّة يتسم بالصحّة أو الأهلية.
المركزيّة الغربيّة للمعرفة
تهدف فكرة الشبكة العنكبوتية، في الأساس، إلى تعميم المعرفة وإيصالها إلى قطاعات واسعة من الراغبين فيها ممن لا يستطيعون الحصول على هذه المعرفة التي كانت فيما مضى باهظة الثمن لا يمتلكها إلا من يقدر على دفع ثمنها. لقد كانت المعرفة الحديثة مُركَّزةً في الغرب، في أوروبا، ومن ثمّ في أمريكا، أي في البلدان التي تتركّز فيها الثروة والتجارب والمختبرات العلميّة، والمصانع المتطوّرة، والقدرة على الصرف غير المحدود على التجارب العلميّة واختبار صحّة النتائج التي تتوصّل إليها تلك التجارب. ولا شكّ أن التجربة الاستعمارية، والاستكشافات الجغرافية، والامتداد الكولونيالي لأوروبا، والغرب عامّةً، ساعدت المركزيّة الغربية لترسيخ جذورها، وكذلك الاستحواذ على المعرفة وإنتاجها والتحكّم في توزيعها في ضربةٍ واحدة. حدث ذلك بسبب الثورات الصناعيّة والعلميّة التي اجتاحت الغرب بدءاً من القرن السابع عشر، وشيوع روح الاستكشاف والبحث عن مصادر جديدة للطاقة، وكذلك البحث عن أسواق جديدة للمنتجات الجديدة التي فاضت عن حاجات البلدان المنتجة.
لكن التطورات العلميّة والتقنيّة الهائلة التي ميّزت القرن العشرين، وخصوصاً تطوّر قطاع الاتصالات، وبزوغ فكرة التشبيك والتواصل، ومن ثمّ إنشاء الشبكات الداخلية الخاصّة، وتعميم هذه الشبكات لتضمّ أعداداً أكبر من المتواصلين والمستفيدين من المواد المتاحة على شبكة الإنترنت، أدّت، من ضمن ما أدت إليه، إلى توسّع فكرة عموميّة المعرفة، وأحقيّة الجميع في الحصول عليها، وكذلك حقّ المشاركة فيها. تصطدم هذه الفكرة الطوباويّة، في الحقيقة، بصخرة البحث العلمي وإنتاج المعرفة، ومركزيّة العلم والمعرفة التي ترتبط باحتكار الغرب للإنتاج العلمي، وكون هذا الغرب منتجاً للأفكار، لا للسلع والمنتجات الصناعيّة فقط. صحيحٌ أن الانفجارَ المعلوماتيّ غير المسبوق، والتطورَ المذهل في شبكات التواصل الاجتماعيّ، وكذلك التنامي غير المحدود لقدرة مُخزَّنات المعلومات، وتمدّدَ شبكة الإنترنت، على الصعيدن الفيزيائي والافتراضي (فهي تكاد تبلغ كلّ بيت يمتلك حاسوباً، كما أنها قادرةٌ على تغطية الكرة الأرضية من خلال برنامج غوغل إيرث، على سبيل المثال)، أدّى في مجموعه إلى تعميم المعرفة ونشرها في كلّ بقاع الأرض. لكن المشكلة تتمثل في كون مراكز إنتاج المعرفة موجودةً في الغرب، بصورة أساسية، وما يوجد منها خارج أوروبا وأمريكا يدور في الحقيقة في فلك تلك المراكز الغربية. الأهمُّ من ذلك أن المُخزّنات الضخمة للمعلومات، وكذلك شبكات التواصل الاجتماعي الكبيرة، وقبل ذلك كلّه شركات تطوير البرامج الحاسوبيّة، موجودةٌ في الغرب في الأساس. ثمّة عولمةٌ للمعرفة، لكنّ هذه المعرفة غربية. إنها موجهّةٌ ومسيطرٌ عليها ومتحكّمٌ في توزيعها. ويمكن لنا أن نفهم، انطلاقاً من واقع سيطرة الغرب على إنتاج المعرفة والتحكّم في توزيعها وإتاحة ما يراد إتاحته من هذه المعرفة، الجنونَ الذي أصاب أمريكا بعد إقدام جوليان أسانج على نشر كمًّ هائل من الوثائق على شبكة الإنترنت فيما يدعى بفضيحة الويكليكس، وكذلك في السُعار الذي انتاب القوةَ العظمى الوحيدة في العالم (!) بعد أن أفشى إدوارد سنودن سرّ تجسس أجهزة المخابرات الأمريكية على الدول والجماعات والأفراد؛ على اتصالات الناس وما يكتبونه في إيميلاتهم الشخصية وعلى حساباتهم على الفيسبوك وغيره من شبكات التواصل الاجتماعي، وكذلك في تجسسها على المكالمات التي يجريها زعماء خمس وثلاثين دولة مستخدمين هواتفهم النقّالة، بمن فيهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وزعماء الاتحاد الأوروبي. ففي هذا الفضاء العولميّ الممتد الواسع، ولكن الكئيب في الوقت نفسه، يبدو الإنسان عارياً تماماً، بلا أية خصوصيّة. إنه يبدو خارجاً كلّه، بلا داخل، ودون أعماق.
المراقبة الكونيّة الحثيثة
إن أمريكا تراقب، عن بعد، سكنات البشر وحركاتهم؛ بل هي تُحصي عليهم أنفاسهم. ولهذا فإن فضح ما يدور خلف الأبواب المغلقة، وفي الأحاديث السريّة، وفيما يحاك من مؤامرات، يهدد مركزيّة المعرفة وحصريّة المعلومة، واحتكار السيطرة والهيمنة. إنه يكسر طوق الإمبريالية الجديدة التي ترتكز إلى قدرة غير مسبوقة في المراقبة، لا من خلال الأقمار الصناعية، بل من خلال الآلات التي نجلس أمامها ساعات طويلة كلّ يوم، أو أننا نحملها معنا إلى كلّ مكان نذهب إليه. إن إنسان هذا العصر، الذي تجري مراقبتُه والتلصصُ على أفعاله، والإصغاءُ إلى حواره الداخليّ مع نفسه أو لتجاذبه أطرافَ الحديث مع أصدقائه وأحبّائه، يبدو عارياً تماماً من الداخل والخارج. إنه لا يمتلك أيّة خصوصيّة، ولا ينطوي على أيّ سرّ. يتعرّض الإنسان، في الانفجار والتمدد المعلوماتيّين في هذا الزمان، إلى انتهاك لأشدّ خصوصياته وشؤونه الداخليّة وأسراره، وكلّ ما هو حميمٌ لديه، بحيث تحوّلت التكنولوجيا إلى نقمة بدلاً من أن تكون نعمة. لقد تطوّر نظام المراقبة إلى الحدّ الذي يكشف فيه عمّا يجري في الأماكن القصيّة البعيدة في اللحظة نفسها. هكذا تنكشف الدولُ والجماعاتُ والأسرُ والأفراد أمام نظام المراقبة العملاق الذي تمتلكه الدول والأنظمة والمؤسسات التي تقوم بتشغيل أنظمة المعلومات ومخزّناتها وبرامجها، بما في ذلك البرامج التي تستطيع فكّ شفرات تلك البرامج فتمكّن أجهزة الاستخبارات من الدخول إلى حسابات الدول والمؤسسات والأفراد.
تأكّدت هذه التخوّفات بعد الكشف عن تورّط وكالة الأمن القومي الأميركية ومكتب الاتصالات الحكومية البريطانية في التجسس على الحسابات الشخصيّة للأفراد في كبريات الشركات المزوّدة للمعلومات؛ كلُّ خصوصيات المشتركين أصبحت مفضوحةً ومتاحةً لهذه المؤسسات الاستخبارية: ملفاتُ المرض، والحساباتُ البنكيّة، والصفقاتُ التجارية، والمراسلاتُ الشخصيّة. كلُّ ما نهمس به تسمعه هذه المؤسسات الاستخبارية وتسجّله. المرعبُ أن هذه الفضيحة التي نشرتها صحيفتا الغارديان البريطانية ونيويورك تايمز الأميركية، من بين مؤسسات إعلاميّة أخرى، تشير إلى شبهة تورّط الشركات الأربع الكبرى التي تزودنا بخدمات الإنترنت والمعلومات: غوغل، وياهو، وهوتميل، وفيسبوك، مع المؤسسات الاستخبارية في أمريكا وبريطانيا، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، على نحوٍ مقصود أو غير مقصود. وقد سرّب إدوارد سنودن، العميلُ المتعاقد السابق مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية، والمنشق الهارب واللاجئ إلى روسيا الآن، هذه المعلومات للغارديان ونيويورك تايمز، ووسائل إعلاميّة أخرى، كاشفاً عن الطرق والوسائل التي تتجسس فيها الوكالات الاستخبارية على كلّ شيء في هذا العالم. إن شركات صناعة البرامج تتيح بعض عناصر الضعف في ما تصنعه لتمكّن لتلك الوكالات من فكّ الشفرة والدخول على حسابات المشتركين، والتعرّف على كلّ المعلومات المتاحة في هذه الحسابات. كما أن هذه الوكالات الاستخبارية تعمل على فكّ شفرات هذه الحسابات بالقوّة، كذلك، للحصول على معلومات المشتركين، بحيث تتمكّن من استخدام هذه المعلومات في أزمنة السلم والحرب، وتَتّبع الأنشطة الإرهابيّة للأفراد والجماعات، والخطط الاقتصاديّة للدول والشركات، والبرامج العلميّة والتقنيّة، ما يسمح لأمريكا وحلفائها بالحفاظ على تفوقها العلميّ والاقتصادي والعسكري.
المشكلةُ الأساسية التي يولّدها هذا الشكل من أشكال التجسس المعلوماتيّ هو الحصول على كمٍّ هائل من المعلومات التي يستعصي على الأفراد أن يحللوها بأنفسهم، فيضطرون، من ثمّ، إلى الآلات (إلى الحواسيب مرةً أخرى) التي مكّنتهم من الحصول على تلك البيانات والمعلومات. وهنا الطامّةُ الكبرى، فالحواسيب تشتغل حسب أنظمة تشفير وفكٍّ للشفرات وآليات تأويل محددة، ما يجعلها ترتكب أخطاء قاتلة لا تُحمد عقباها، وقد يؤدي ذلك إلى كوارث كبرى. أهونُ الأمور أن هذه الآلات، والبشر العاملين على توجيهها، الفرحين بما تَجمَّع لديهم من معلومات لا تحصى، قد يصمون الناسَ بما ليس فيهم فيفسّرون بيانات حصلوا عليها من حسابات هؤلاء الناس بأنها تدلّ على ضلوعهم في الإرهاب، وهم في الحقيقة أبرياء مما وُصموا به. في هذا السياق من التلصص المعاصر؛ من وضع الكوكب الأرضي تحت عدسة مكبّرة قادرة على تبيّن كل تفاصيله، يصبح العالم مكشوفاً تماماً، ويتجلّى في كامل عريه وضعفه.
الاستلاب المعاصر ومقاومته
انطلاقاً من وضعية الانكشاف التي يعاني منها الإنسان المعاصر، وحالِ المراقبة الحثيثة التي تسلّطها عليه القوى الكبرى، والدول والمؤسسات والجماعات والشركات، المُمَكَّنة معرفيّاً وتكنولوجيّاً، قد يضطر هذا الإنسان إلى الانسحاب شيئاً فشيئاً إلى عالمه الداخليّ؛ إلى قوقعة الذات الحصينة، أو التي يظنّها حصينةً غيرَ مرئيّة، أو أنها قادرةٌ، على الأقلّ، على الإفلات من رقابة العين التكنولوجيّة المفتوحة على مدار الساعة. لكنّ الحقيقة أن الإنسان المعاصر، على الرغم من معرفته اليقينيّة بكونه يخضع لنظام مراقبة دقيقة من "الأخ الاكبر" أشدّ من ذلك النظام الذي تحدّث عنه الكاتب والروائي البريطاني جورج أورويل في روايته "1984" (التي كتبها سنة 1948)، مستلبٌ تجاه الآلات التي ما تفتأ تتطوّر وتزداد تعقيداً، وتمكِّنُ أجهزةَ المراقبة من تطوير عملها وتحسين شروط تلصصها. إنه يلاحقُ الأجيالَ الجديدة من الحواسيب والكومبيوترات اللوحيّة والهواتف المحمولة والآلات، التي تسهّل حياته ولكنها تربطه، في الوقت نفسه، بهذا النظام الجهنّميّ من أنظمة المراقبة الحثيثة. إنه مربوطٌ بكرسيّ الاعتراف شبه القدريّ، وموثقٌ إليه بحبال إلكترونيّة خفيّة.
لكن هذا الاستسلام، الذي يبدو طوعيّاً في الظاهر، ليس قدريّاً في الحقيقة. إن الإنسان يطوّر، عبر تاريخه، أشكالاً من المقاومة التي تمكّنه من الاعتراض؛ من قول لا لمن يرغبون في التحكّم به وقَولَبته والسيطرة عليه، لتعميم نموذجٍ عولميٍّ مُوحّد لا يسمح بالتعدد والاختلاف. ويمكن أن نفهم في هذا السياق الأفعالَ الرمزيّةَ التي قام بها أشخاصٌ مثل المجنّد الأمريكي تشيلسي ماننغ الذي سرّب وثائق ويكيليكس للصحفي السويدي جوليان أسانج، وأسانج نفسُه الذي قام بنشر تلك الوثائق، والأمريكي إدوارد سنودن الذي فضح، على رؤوس الأشهاد، نظامَ المراقبة الأخطبوطيّ الذي يحصي علينا أنفاسنا ويتجسس على صحونا ونومنا، وربما يحاول في المستقبل التلصص على أحلامنا.
يكتب الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك، في مقالة نشرتها صحيفة الغارديان البريطانية في عددها الصادر في 3 أيلول 2013، أن البشر يعرفون، أو على الأقلّ أنهم يشكّون في كونهم مراقبين وخاضعين لعمليّة التحكّم والسيطرة. إن ما فعله سنودن هو أنه وفّر لنا فقط برهاناً على صدق شكوكنا. "نحن لم نتعلّم من سنودن (أو ماننغ) أيّ شيء كنّا نفترض مسبقاً أنه حقيقةٌ واقعة. لكن هناك فرقاً واضحاً بين أن يكون لدينا معرفةٌ عامّة [بما يحدث] وأن تكون لدينا معلوماتٌ ملموسةٌ موثّقة." ومن هنا يستنتج جيجيك، مستفيداً مما يقوله كارل ماركس عن فضح الأنظمة القديمة في مخطوطات 1844، أن عمليّة الفضح هي فعلٌ من أفعال المقاومة. إن علينا، وحسب ماركس الشاب مرّة أخرى، أن نُلحق العارَ بمن هم في السلطة، " فالضغط الحقيقيّ ينبغي أن يكون أكثر قوةً وتأثيراً من خلال توفير عنصر الوعي بهذا الضغط، وجعل العار أكثر ثقلاً من خلال نشره وإذاعته بين العموم." وهذا بالضبط هو حالُنا اليوم، فنحن نواجه، حسب جيجيك، "الشعور الكلبيَّ المنافق، الذي لا يُحسّ بأيّ نوعٍ من الخجل، لممثّلي النظام العالميّ الحاليّ، الذين يُهيّأ لهم فقط أنهم يؤمنون بأفكارهم ومُثُلهم عن الديموقراطيّة، وحقوق الإنسان، إلخ. فما حدث في تسريب وثائق ويكليكس، هو أن العار ـ عارَهم، وعارَنا لأننا احتملنا أن ترزح سلطتُهم فوق صدورنا ـ أصبح مخجلاً أكثر بعد نشره وشيوعه بين الناس."
اهتزاز منظومة القيم
لقد أحدثت عملية الفضح التي قام بها إدوارد سنودن لعملية التنصّت والتجسس على المعلومات الخاصّة بعملاء شركات التكنولوجيا الأميركية، وعلى المواطنين الأميركيين والفرنسيين، وكلّ البشر (كما يبدو)، وكذلك على المؤسسات والجماعات والدول، الحليفة وغير الحليفة، عاصفةً مستمرة في الإعلام وكذلك ضمن الدوائر الاستخباريّة ومؤسسات صناعة القرار في دول عديدة في العالم. والأهمُّ من ذلك أنها وضعت شركات التكنولوجيا، والمؤسسات التي تزوّد المستخدمين بالمعلومات، في موقف لا تُحسد عليه؛ فقد جعلت مصداقيّة تلك الشركات محلَّ تساؤل، وعرّضتها لخسارة مليارات الدولارات بسبب شكوك العملاء وإمكانية تراجعهم عن شراء برامج حماية المعلومات التي تنتجها تلك الشركات لأن برنامج "بريزم" Prism يتكفّل بفك شفرات الحماية وقراءة المعلومات الواردة على مواقع الشركات والمؤسسات والأفراد. وزادَ الطينَ بلّةً ما صرّح به سنودن عن أن وكالة الأمن القومي الأميركي تقوم بتمرير المعلومات الاستخباريّة، التي تقرصنها من مواقع الإنترنت وشركات الاتصالات، إلى إسرائيل، دون تدقيق، تاركةً المعلومات الخاصّة بالمواطنين الأميركيين تتسرّب إلى المؤسسات الاستخبارية الإسرائيلية، في إشارة خطيرة إلى كون الحكومة الأميركيّة غيرَ حريصة على أمن مواطنيها كما تدّعي في القانون والتصريحات السياسية والإعلام!
تواطؤ شركات تكنولوجيا المعلومات؟
الشيء اللافت في هذا السياق أن جامعة جون هوبكنز الأميركية الشهيرة، والتي تُعدّ واحدةً من أكثر الجامعات في العالم اهتماماً بالبحث العلمي، ومن ضمنه تطويرُ قطاع الاتصالات وعلم المعلومات، طلبت من واحدٍ من علمائها وأساتذتها أن يزيل من صفحات مدوّنته الشخصيّة ما كتبه بخصوص عدوان وكالة الأمن القومي الأميركيّة على الحريّة الشخصيّة للأفراد والمؤسسات. لقد استهجن البروفسور ماثيو غرين Matthew Green، وهو أستاذٌ في قسم علوم الحاسوب ومتخصصٌ في علم الشفرات، أن تقوم وكالة الأمن القومي بكسر الشفرات من خلال برنامج "بريزم"، ومن ثمّ، بتدمير عمل العلماء الذين يقومون بتطوير برامج الحماية التي توفّر الخصوصيّة والإحساس بالسريّة والأمان لمستعملي الحواسيب والهواتف النقّالة وشبكة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. وقد استنتج غرين أن ذلك يدلّ على أن الوكالة والحكومة الأميركيتين تسعيان إلى إسكات الجامعات وتقييد حريّة العلم والعلماء والأساتذة، في سابقة خطيرة في الجامعات والمؤسسات الأكاديميّة الأميركية.
على خلفيّة هذه التطوّرات الخاصّة بتسريب المعلومات، وتيّقن الأفراد والجماعات، المؤسسات والشركات، الأحزاب والدول، أن فعل المراقبة أصبح شاملاً وكونيّاً، وقادراً على العثور كذلك على أشدّ التفاصيل سريّةً ودقّةً وحميميّةً، هرولت شركتا غوغل وياهو لرفع قضايا ضد وكالة الأمن القومي الأميركية لأنّها تسببت في تشويه سمعة هاتين الشركتين، وشركات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الأخرى، وهزّت ثقة عملائها بها، والأهمّ من ذلك أنها تعرّضها لخسارات هائلة، كما تزعزع أوضاعها الماليّة وتهزّ ثقة المستثمرين في هذه القطاعات في أسواق المال.
ما يهمّنا، في هذه الحرب المعلوماتيّة الدائرة، ليس صراعَ الدول الكبرى واستخدام روسيا، العائدة بقوّة إلى المشهد السياسيّ العالميّ، التسريبات التي يقوم به سنودن من أراضيها، ولا رعبَ شركات تكنولوجيا المعلومات من انهيار مبيعاتها وتضعضع أوضاعها الماليّة بسبب اهتزاز ثقة المستثمرين، بل انهيارُ منظومات القيم السياسيّة والاجتماعية والأخلاقيّة الكونيّة، واهتزازُ مفهوم حيادِ البحث العلميّ والمعرفة، وضرورةِ عدم اعتناق العالم والباحث أيّةَ أيديولوجيا في عمله العلمي، وهي قيمٌ وقناعاتٌ ادعى الغرب، منذ عصر التنوير، أنه يحوزها ويحافظ عليها ويسعى إلى نشرها في أصقاع الأرض كافّة. وقد ألهمت هذه القيمُ المدّعاة (!) الحملات الاستعماريّة في القرنين التاسع عشر والعشرين، وسعى الغربُ الأوروبيّ، ومن ثمّ الأمريكي، إلى التخفّي وراء قيم النزاهة والتحضّر هذه لتبرير احتلاله البلدانَ المستعمَرة، وتسويغِ استغلاله لبشرها وثرواتها. ومن الواضح أننا لم نغادر عصر الاستعمار بعد، لأن الاستعمار يعود زاحفاً بالجيوش، وبالتكنولوجيا العابرة للقارات، والقادرة، في الوقت نفسه، على النفاذ إلى دخائل الأفراد وأدّق خصوصياتهم.
القنبلة المعلوماتيّة والإمبرياليّة الجديدة
قد يظنّ البشر في زماننا، أو بعضُ هؤلاء البشر على الأقلّ، أنهم يحيون في عصر من الوفرة، والكثرة، والبحبوحة التكنولوجيّة التي تجعل حياتهم أكثر سهولةً ويُسراً؛ فما كان يعدّ في السابق أشبه بالخيال، أو التوهّم، أصبح حقيقة واقعة. كثيرٌ مما تخيّله كتّاب الخيال العلمي تجسّد واقعاً ملموساً. صارت المخلوقات المعدنيّة التي تخيّلها جول فيرن، وهربرت جورج ويلز، وإسحق أسيموف، وغيرهم من مؤلفي روايات الخيال العلمي، تسعى على الأرض وفي الفضاء. كأنّ الخيال هو الحقيقةُ المقلوبة، وهو يحتاج إلى نوعٍ من الإيمان الراسخ ليتحقق ويغادر عالمَ التوهّم ويدخل في عالم الحقيقة. وهذا هو بالضبط ما حدث على أيدي حالمين من طراز بيل غيتس وستيف جوبز ومارك زكربيرغ وغيرهم في عصر تكنولوجيا المعلومات. لقد جعلوا العالم أكثر قرباً، أكثر تواصلاً، أكثر سهولةً، لكنه، في الوقت نفسه، أكثر رعباً وانكشافاً من أيّ وقت مضى.
يقول المفكر الفرنسي بول فيريليو في كتابه "القنبلة المعلوماتية" (1998) إن "الثورة التقنيّة المقبلة هي دون شك أكثر من مجرّد دراما. إنها تراجيديا المعرفة، فوضى المعرفة الفرديّة والجمعيّة التي تشبه بابل." (الترجمة الإنجليزية، ص: 107) ويضيف: "إن الإنترنت هي من أفضل الأشياء وأسوأها في الوقت نفسه. إنها تُطوّر نوعاً من أشكال الاتصال الأبديّ، أو على الأصحّ شكلاً غير مسبوق من الاتصالات التي لا حدود لها. لكنها سوف تتحوّل، في مرحلة من مراحل تطوّرها، إلى كارثة ـ إلى الاصطدام بجبل الجليد ـ ونحن نبحر في أوقيانوس الواقع الافتراضي العظيم." (ص: 107)
يلخّص الاقتباس السابق رعبَ العالم المعاصر. فبالإضافة إلى عدم القدرة على استيعاب هذا الكمّ الهائل من المعلومات والمعارف، وكذلك عدم التحكّم في هذه المعرفة السيّالة، التي تتدفق في بحر الإنترنت العميق الواسع، هناك أيضاً رعبُ إمكانيّة التحكّم في هذه المعرفة من قبل الأشخاص أو الشركات أو المؤسسات أو الدول المنتجة للمعرفة الجديدة للسيطرة والهيمنة على الأفراد والجماعات والمجتمعات والدول. ثمة إمبرياليّةٌ جديدة ناشئة لا يمكننا تصوّر حجم قدراتها وإمكاناتها. نحن لا نعرف، على وجه الحقيقة، ما يمكن أن تلحقه الجهات القادرة الممكّنة تكنولوجيا من ضرر بالبشر الآخرين وبالكوكب الأرضيّ المسكين الذي نعيش عليه جميعاً. فهل تنفجر "القنبلة المعلوماتيّة"، التي تحدّث عنها فيريليو قبل أكثر من عقد ونصف من الزمن (والتي تزداد حجماً وتأثيراً كلّ يوم، بل كلّ ساعة ودقيقة وثانية)، في وجوهنا لتدمّر لا الحضارة الإنسانيّة فقط، بل الكوكب الأرضيّ كذلك؟ إننا نعلم أن الحروب المقبلة ستكون حروباً إلكترونيّة في الأساس، وسوف يكون المتفوّق في مجال تكنولوجيا المعرفة هو الرابح على الأغلب. صحيحٌ أن هناك الكثير من الأسلحة الفتّاكة، بدءاً من السلاح النووي وليس انتهاءً بالأسلحة الكيماويّة، لكنّ التقدّم الهائل في تكنولوجيا المعلومات قادرٌ في المستقبل على تعطيل هذه الأسلحة التي تعتمد على حواسيب ضخمة وأنظمة تشغيل إلكترونيّة يجري التشويش على عملها من خلال الفيروسات أو إرسال غيوم إلكترونيّة تسبب شللاً في حواسيبها وأنظمة تشغيلها. المرعب بالفعل هو أن يتسبّب خطأ بشري، أو آلي على الأغلب، في تدمير كلّ ما بناه البشر في عشرات آلاف السنوات. وبدلاً من أن تدخل الكرةُ الأرضيّة، أو بعضُ أجزاء منها، في ما يسمّيه العلماء "الشتاء النووي"، سوف تصبح مغلَّفة بغيوم إلكترونيّة تعطّل عمل كلّ الآلات التي اخترعها البشر على مدى العصور، لنعود القهقرى إلى العصر الحجريّ.
هل هذا خيالٌ علميّ أم حقيقة تفرضها التطورات التكنولوجية الهائلة والقنبلة المعلوماتيّة التي قد تنفجر في وجوهنا؟ الله وحده يعلم.