هل يمكن أن ندعي أن هناك اقتصاداً افتراضياً للثقافة، وأنها تملك القدرة على تأمين برامج للتخطيط والتنسيق والتسويق والاسناد والعمالة وقياس الجدوى؟ وهل يمكن ان نقترح قراءة للكشف عن أهمية وجود منظومات استراتجية تعمل بنوع من التنظيم المؤسسي تحت إشراف عدد من مخططي الاقتصاديات الدقيقة، لكي يضعوا للثقافة ميزانيات وبرامج للانتاج والتسويق والعلاقات العامة.
فضلاً عما يرسمون لها من خطط استراتيجية خمسية وعشرية قابلة للتنفيذ أولاً، ولها علاقة واضحة واستعمالية بالاقتصاد الحر، ومنظومات الاستثمار؟ وهل ثمة من يفكر بشكل جدي لتأمين فرص مناسبة وحقيقية لما يمكن ان نسميه بـ(الاستثمار الاقتصادي) الذي يدعو أصحاب رؤوس الأموال للاستثمار، ولتوظيف أموالهم في المجالات الثقافية المتعددة وتحرير السوق الثقافي من الهيمنة التاريخية للسلطة والأيديولوجيا ومصادر القوة التقليدية في مجتمعنا، التي دأبت على فرض موجهاتها على البيئة الثقافية في الشارع والمدرسة والجامعة والشارع وغيرها؟
هذه الاسئلة لا تبدو غريبة في مجتمعاتنا التقليدية التي لا تؤمن بجدوى الصناعات الثقافية، والتي تضعها في خانة الجهد التكميلي أو الاستعراضي أو الإعلاني في أحسن الأحوال، والتي لم تتصور أنماط حاكمياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الدينية. إن الثقافة في سياقها كفعاليات اجتماعية ومعرفية وتعليمية يمكن أن تكون قوة إجرائية محركة للرأي العام، وقريبة الشبه من سمات ما يروّج له في خطابات الاقتصاد التجاري والأمن والبيئة والبنية الاجتماعية والسياسية، وأن لها حاجة مماثلة للتراكم والتنمية والتواصل، مثلما هي حاجة الملفات الأخرى من استحقاقات وامتيازات، مادامت العملية كلها تدخل في إطار صناعة وتسويق بضاعة إلى جمهور مستهدف أولاً، وجمهور تدخل الثقافة عنصرا مهما في وظائف التغيير الأيجابي لعاداته وأنماط معيشته وإنتاجه، التي يدخل فيها الوعي والمزاج والذوق العام مصادر مهمة في إنتاجها والترويج لها، والتي تهدف بالضرورة إلى تأمين أشكال مؤثرة من الوفرة الثقافية التي تدخل في تحسين الأداء الاجتماعي وفي تخليق الكثير من الفعاليات الاجتماعية التي يمكن أن تقبل بدون حساسية او إكراهات الحوار مع الاخرين والشراكة معهم في إنتاج وتبادل المنافع الثقافية واللغوية والجمالية.
مفهوم الاقتصاد الثقافي يمكن أن يكون مفهوماً رائجاً في الكثير من الأدبيات الإنسانية، خاصة على مستوى تصميم الأسواق الثقافية، وتحريك اقتصادياتها، وإتاحة المجال لفرص استثمارية في مجال طبع الكتب وإصدار الدوريات والتنسيق مع الجامعات لتعزيز فعاليات البرامج المعلوماتية وتكنولوجيا المعلومات، أي إيجاد (سوق معلومات) و(سوق إحصائيات) تعزز الدور الواسع والعملياتي للمظاهر المدنية واللوجستية للثقافة، وتحررها من عقدة المهيمنات الخارجية بما فيها مهيمنات السلطة ومهيمنات المقدس، والسعي للدخول في سياق برامج وشركات مع المنظمات الدولية المتخصصة وفي برامجها المدعومة من البنوك والمؤسسات المجتمعية الاخرى، فضلاً عن أن الحديث عنها لم يعد مثيراً للاستغراب والعجب من منظور الحساسيات الحضارية المعاصرة، إذ تعد هذه الحساسيات الفاعلية الثقافية جزءا من فاعليات بناء الدولة، وبناء المجتمع، وبما يدعم دورها لأن تكون جزءا من سيرورات ومصادر تنمية الوعي الجمعي والفردي، وإيجاد توصيفات جديدة للقوة الأخلاقية والمادية للمعرفة والعلم والأدب والفن من منطلق تعميق البنيات الحضارية في تمظهراتها المعرفية والمادية وعبر بناها المؤسساتية، وفي سياق تطوير حلقات اكثر شمولية لمفهوم الثقافة الإنسانية التي تسهم في برمجة انتظام الخدمات العامة الصحية والبيئية والبلدية والتعليمية بوصفها أشكالاً متطورة للخدمات الثقافية للإنسان والمجتمع والعائلة بمستوياتها الواسعة.
صناعة الثقافة لم تعد صناعة مهملة، أو كاسدة بالمعنى التجاري التقليدي الذي أسهم في عزل الثقافة عن سياسات رأس المال الخائف أصلاً، بل إن هذه الصناعة أخذت تستدعي الكثير من الدراسات العلمية، وفعاليات مراكز البحوث، التي تخطط وترسم وتسوّق، لتمكين هذه الصناعة من أن تكون جزءا من اقتصاد حيوي يسهم في تعظيم فعاليات الثقافة وأدوارها وسياستها وآليات تسويق بضاعاتها، فضلاً عن تنظيم فعاليات عمالتها والسيطرة على ظاهرة بطالتها التي تعدّ أشهر بطالة عالمياً، إذ يمكن تأمين الإجراءات الفاعلة والمكفولة لإنضاج فعاليات هذه الثقافة عبر وجود منتجين ومستهلكين، مع وجود بضاعة وسوق وإعلان ثقافي وعلاقات عامة، تلك التي تدخل فيها خدمات الكتاب والطبع والمعارض، مثلما دخلت في صناعة السينما وإنتاجها وتسويقها والمشاركة في المهرجانات العربية والدولية، خاصة أن أسواق السينما تمثل أغلى الأسواق في اوروبا وامريكا، والتي بدت بعض مظاهرها تدخل في الدول التي يعمل نظامها الاقتصادي على أساس الاستثمارات والخدمات البنكية، كما في دول الخليج، فضلاً عن العمل في مجالات جمالية ومعرفية أقل تسويقاً في البلاد العربية كالفنون والآداب الاخرى، مثل المسرح والموسيقى والتشكيل وغيرها.
مشاريع تنمية الاقتصاد الثقافي تحتاج بالضرورة إلى برامج وتخطيط واسعين، إذ لم يعد تبني الإنتاج الثقافي بمعناه الواسع مناطاً بجهود محدودة وهامشية كالتي كنا نتلمس وقائعها ونتائجها ونحن نرى الكثير من مظاهر الفاعلية الثقافية لا تخرج عن كونها انعكاساً للعديد من الفاعليات السياسية أو نوعاً من الدعاية لخطابها الايديولوجي، أو بعض التوجهات الدينية بمعناها المحدود، التي كثيراً ما تضع الخطاب الثقافي أمام مظاهر و(استعمالات) مشبوهة للمرجعيات المالية الداعمة لمثل هذه البرامج الثقافية التي تنطلق في عملها من هذه المرجعيات، والتي هي الأقرب إلى ما يمكن تسميته بـ(مخصصات دعاية) إلى هذه الجهة أو تلك.
إن الذين تعودوا على النظر إلى الثقافة بوصفها الحداثي وما بعد الحداثي بأنها لعبة للفرجة فقط، وإباحة المتع المجانية وإشباع غرائز المشاهدة الفيتشية، لم يعد لهم وجود كبير في ظل الحاجة إلى دور خطير للثقافة في الحراك الاجتماعي والسياسي، ومواجهة تحديات حضارية ومعلوماتية أكثر خطورة، لأن الحاجة إلى شروط جديدة ومغايرة للصناعة الثقافية ولاستحقاقات مرحلة ما بعد (الثورات الشعبية) يعني الحاجة إلى وعي ثقافي وإلى قرار ثقافي، باتجاه تبني مشاريع حقيقية لبناء ثقافي رصين وحقيقي يلامس الحاجات الأساسية لمعطى هذه التحولات، ولمواجهة سيرورات البناء الحضاري للإنسان والمجتمع الجديدين، إذ أن التشوقات القديمة والساذجة التي اقترنت بتزجية الوقت، والترفية عن السلطان السياسي والديكتاتور واصحاب صناديق المال والقوة الغاشمة، التي تدخل في حسابات الدعاية والاعلان لم تعد مبررة في الواقع الجديد، ولا حتى تكرار اسباب انتاج خطابها، رغم وجود انماط (من الاشكال الثقافية) ذات النزعة الدعائية والاعلانية، او ثقافات الاحزاب والايديولوجيات وانماط الثقافات الشعبية باتجاهاتها المعروفة، لان الثقافة بمعناها الفاعل المحرك والمنظم لفاعليات البناء الاجتماعي والتربوي والتعليمي تحتاج كمعطى معاصر ذي تأثير خطير ونافذ إلى مخططين استراتيجيين يدركون الحاجة إلى الجدّة والمسؤولية في التعاطي مع الاشكال والاطر الاكثر تطورا ومغايرة للانتاج الثقافي، تلك التي تدخل في مجالات التنمية الثقافية وفي صناعة رأي عام عبر تنمية البناء المؤسساتي الاعلامي، وعبر تشريع القوانين التي تسند وتكفل الحريات العامة، بما فيها حرية الاعلام والرأي والحقوق وتشكيل منظمات حقيقية وفاعلة للمجتمع المدني، فضلا عن الحاجة إلى تبدلات جديدة للفعالية الثقافية، من خلال تأمين ثقافات ذات ادوار عملياتية وذات فضاء واسع تقترن بتطوير النظام الاجتماعي والسياسي والتعليمي واستهداف اوسع حلقات من الجمهور العربي المغيب والمنهك تحت ضواغط الحرمان والجهل والتخلف، والسعي البرامجي والمخطط له لأنسنة توجهاته العامة التي تعزز قيم الاشباع والتنمية، مثلما تعزز قيم الوعي والحرية والديمقراطية والحقوق والسلم الاهلي والعدالة وغيرها من الاسس البنائية التي يحتاجها الإنسان في التعرّف الايجابي للحضارة والحداثة والعولمة، لان ادرك القيم الجمالية والمعرفية والإنسانية للثقافة يعني ادراك الوجه العميق للحضارة، وادراك صورتها المجسدة في العمران والبناء والسلوك والعلاقات والخدمات والبناء الدولتي الحاضن لمجتمع تتفاعل مكوناته وتتكامل بعضها مع البعض الاخر بنوع من العلاقة التي تقوم على فكرة المواطنة والحقوق والمساواة والعدالة، وهذه في جوهرها قيم ثقافية وتحتاج بالضرورة إلى اشكال عميقة من اجراءات وخطط التنمية الثقافية التي تعزز جهود تعلمها وتوصيفها وتحويلها من قيم ثقافية عامة إلى قيم مكرسة ونامية في حياة الناس وممارساتهم ووعيهم الحقوقي والمواطني والإنساني.
وطبعا فان أي جهد تنموي يحتاج إلى تخطيط واسع وإلى ميزانيات وإلى آليات عمل تسندها تشريعات الدولة التي ينبغي ان تخصص في موازنتها العامة ما يناسبها، ناهيك عن التشريعات القانونية التي تخص تطوير الجهد الاستثماري في مجال توسيع حلقات البناء الثقافي، والاستفادة من الجهد الدولي ومنظماته الإنسانية وبرامجها الواسعة في تعضيد مسار هذا الاتجاه.
هذا الاقتصاد يحتاج إلى استعدادات واسعة وإلى خبرات مدربة وفاعلة لكي يدخل في إطار صناعة الاسس العملياتية للتنمية، أي تنمية البيئة الاقتصادية العامة، فضلا عن تنمية العوامل المساعدة لتعزيز الوعي الإنساني ورفده بكل إمكانات التطور والتواصل مع العالم. وأحسب ان خصوصية هذا الاقتصاد تحتاج بالضرورة إلى مسؤولية استثنائية من اصحاب القرار السياسي والتشريعي، لان تاريخ الاقتصادات الوطنية ارتبط بشكل تاريخي بانماط السياسات، وهذا ما يدعو إلى ضرورة تأمين الفرص التشجيعية لكي تتضح ملامح هذا الاقتصاد ويقوى عوده.
ومن هنا نجد اهمية رسم سياسات فاعلة للثقافة، وضرورة اقترانها بسياسات اجرائية يدخل فيها الجانب المادي بشكل فعال ومؤثر، من خلال تأمين مصادر انعاشها الاولي، ومن خلال دعم الموازنة الوطنية، رغم ان مثل هذه الموازنات الوطنية تبقى مرهونة بظروف وتعقيدات السياسة العامة، وبطبيعة المدخلات الاقتصادية وعوامل التضخم والقدرة المالية، أي انها ترتبط دائما بالازمات كثيرا، التي تصنع لها دائما الكثير من الضحايا تأكل من جرف استحقاقاتهم على اساس الاولويات والحاجات.
وازاء هذا المعطى يثار السؤال التالي، من هو المسؤول عن رسم هذه السياسات وتقدير تلك الحاجات؟ وهل ثمة وجهة نظر حقيقية يمكن تبنيها للفعاليات الثقافية في بناء مشروع الدولة الجديدة؟
هذه الاسئلة الثانوية هي قياس لمدى قدرة القوى الجديدة في الدولة الوطنية على تجاوز عقدة الازمة التي تعانيها المؤسسات الثقافية، وعقدة تهميش دور المثقف في مواجهة ازمات معقدة يغيب عنها الدور (الثقافي) دائما، لان تاريخ هذه الازمات هو تاريخ صراعي، وتاريخ يرتبط بصراعات اثنية وأيديولوجية وطائفية، لم تجترح لها الدولة الوطنية منذ تأسيسها معالجات ثقافية وتعليمية، باستثناء المعالجات الامنية، التي اسهمت طوال عقود في تعظيم قوة الخطاب الامني، وقوة السلطة التي تحتكر الامن والثروة. وأحسب ان غياب المعالجة الثقافية أي اعطاء دور للخطاب الثقافي اسهم في جانب اخر في عزل الثقافة داخل غيتوات الأيديولوجيات او ضمن السرديات الثانوية للطوائف والقبائل، وحتى الثقافة الجامعية ظلت هي الاخرى خاضعة إلى قياسات الدرس المدرسي التقليدي بمناهجه التعليمية المحدودة التأثير وفعالياته الثقافية التقليدية والرافضة لتقبل افكار التجديد والمغايرة، وتوسيع حلقات المشاركة الاكاديمية في التنميات الثقافية، وفي تعزيز وظائف وادوار مراكز البحوث العلمية في الجامعات، التي يمكن اعتبارها مصدرا مهما من مصادر تسويق المعلومات والبرامج إلى الجهات المستفيدة، أي ان البضاعة الثقافية كمعلومات وبرامج واستشارات، يمكن ان تكون اساسا لما يمكن تسميته بـ(الاستثمار الثقافي).
التهميش والعطالة الثقافية
تاريخ العزل الثقافي، وتهميش دور المثقف النقدي والعضوي، وضعف استقلالية المؤسسات الثقافية اسهم في صنع مناطق هشة في البيئات الاجتماعية العربية، التي انعكست على خلق مظاهر لعطالة واقعية ازاء أي دور حقيقي لأيجاد تنميات قابلة للتنفيذ والاستخدام في مجال الصناعة الثقافية، بدءا من أيجاد ظاهرة السوق الثقافية التي تشمل صناعة وتسويق الكتاب، إلى صناعة وتسويق الدراما والسينما وغيرها، وانتهاء بأيجاد قوة ضغط اجتماعي واقتصادي يمكن ان تضبط مسار الفعاليات الثقافية ضمن برامج حقيقية للتنظيم والتنسيق والدعم التي تقوم بها بعض المنظمات الدولية في مجال دعم الثقافة، بوصفها اشكالا للتحصين الاجتماعي والإنساني ضد امراض الفقر والامية وسوء التعامل مع قيم الحضارة ومنتجاتها، علما ان هذه المنظمات الدولية تخصص سنويا ملايين الدولارات لدعم برامج التربية والصحة والمرأة والطفولة وغيرها.
التهميش الثقافي بمستوياته التعليمية والجمالية والنفسية والمعرفية كان سببا تاريخيا مهما في التأثير على الكثير من مظاهر الواقع الاجتماعي، وعلى اتساع ظاهرة الجهل المركب، الذي تحول في ما بعد إلى مصدر خطير من مصادر اشاعة سلوكيات العنف والارهاب والتكفير، لان هذه السلوكيات وجدت في بيئة الجهل والفقر والتخلف ونمطية الحياة التقليدية مجالا واسعا لتلقي قيم دونية، وبالتالي تحولت إلى قيم استعمالية تدميرية، وبدأت تبث سموم افكارها وتوجهاتها وعصاباتها في العديد من المناطق الاجتماعية الرخوة، دونما مواجهة حقيقية ورادعة تضع الوعي والتوجية وتحسين السلوك في مقدمة أسبابها وادواتها..
ولو أجرينا أية دراسة علمية لاستقراء المظاهر الاجتماعية القهرية داخل الحياة العراقية مثلاً لوجدنا أن أكثر مرجعيات هذا القهر الاجتماعي والخوف والعنف والاكراه تعود إلى أسباب ثقافية، عبر الإشاعة التقليدية والانفعالية لثقافات الأدلجة المشوهة، وثقافات الانفعال بالانتماء للجماعات وحساسياتها المفرطة، وعبر استمراء إباحة ثقافة العنف المحمول على فراغات ثقافية معرفية وجمالية ونفسية، باعتباره سلوكاً تعويضياً وإشباعياً.. فضلاً عن تكريس هذه الفراغات في الحياة والتربية وفي التعليم بنوع من الثقافات البسيطة غير القادرة على مواجهة أخطار الواقع وتحدياته، وهذا يعني إتاحة المجال لأيجاد الفرص والاستعدادات النفسية للتماهي والانجرار إلى اشكال من الهينمات العدوانية التي تسحق أي بادرة لتنوير الوعي والذات وتقبل الرسالة الأيجابية المحملة بخطاب السلم الأهلي والحوار والشراكة والتسامح، وبالتالي فان استشراء مثل ذلك العزل الثقافي يعني تهيئة الاجواء لخلق اجيال مشوهة في انتماءاتها وفي وطنيتها وفي وعيها لمسؤولياتها الاخلاقية والجمالية وتوازن سلوكها النفسي والواقعي..
إزاء كل هذه الازمات المقرونة بغياب المسؤولية الثقافية، يعطينا الاسباب الكافية للحديث عن الحاجة إلى تنمية ثقافية فاعلة تنهض بها القوى الجديدة، والتي تحتاج بالضرورة إلى بيئات ومجالات واسعة، ومنها البيئة الاقتصادية، أي بيئة السوق، فضلا عن ضرورة تجاوز عقدة تهميش الدور الثقافي من قبل المشرّع القانوني، والقائمين على تنظيم الموازنة الوطنية السنوية، واهمية أيلاء الخطط والبرامج الثقافية ما يناسبها في الموازنة العامة، تلك الموازنة التي يمكن ان تسهم في دعم وتنظيم (اقتصاد الثقافة) وادامة خططه وجهده وبرامجه عبر تأهيل العديد من القوى الاجتماعية للفاعليات الاجتماعية التربوية والتنموية المتوازنة. وما من شك فان تهيئة الاسس المادية والبرامجية للاقتصاد الثقافي يفترض وجود اصحاب القرار المؤمنين به، والقوى الفاعلة والقادرة على تعميم رسائله والتعريف بسياقات عمله وجدواه في توسيع قواعد التنمية الاخرى، لان نجاح الخطط الثقافية يعني توسيع القاعدة المادية لاجيال متعلمة مؤمنة مدربة بخبرات استثنائية، ليس في مجال العمل والانتاج فقط وانما في مجال الانتماء إلى العملية الوطنية ومساراتها المتعددة، ذلك الانتماء الذي يعمق وعي المواطن بوطنيته ومواطنته، وبما يسهم في تقليل الكثير من الانماط المغشوشة في المجتمع، انماط القوى المقنعة، انماط التنميات المغشوشة، انماط الفساد الاداري والاخلاقي والسياسي.