في رواية " عروة الزمان الباهي " يبين الناقد المصري الكيفية التي استطاع بها النص الكشف عن العلاقة المعقدة بين الوجود الشخصي للسياسي المغربي "محمد الباهي" وتحولاته الطيفية الجمالية في النص، دون أن يفقد النص طابعه التسجيلي، وما يحويه من شهادات حول حياة الباهي، ومسيرته الواقعية، وأثره في الذاكرة.

الصيرورة الإبداعية والإنسانية لشخصية المثقف

في (عروة الزمان الباهي) لعبد الرحمن منيف

محمد سمير عبدالسلام

لا يخلو العمل الفني الوثائقي من جماليات الكشف عن وقائع، أو أحداث تتسم بالتفرد، والاستثنائية من جهة، ومدى تجددها في المنظور، والرؤى الفلسفية، والفنية للكاتب؛ ومن ثم الراوي في العمل الروائي من جهة أخرى؛ فلحظة التشكيل للنص، أو العمل تتميز بكونها حدوثا آخر نسبيا وقابلا للتجدد في عالم القارئ، أو الناقد.

ويؤكد الروائي الراحل الكبير عبد الرحمن منيف فكرة التناول الجمالي للشخصية، وعوالمها الفكرية، والثقافية، والطبيعية / الإبداعية الفريدة، وكذلك الكشف عن أصالة الصوت الإنساني المبدع، وأصالة الأماكن، والمدن، والقيم الرفيعة الكامنة فيما وراء التغيرات الثقافية، والسياسية في جيل، أو حقبة زمنية يمكن تجديدها، وإعادة تأويلها من خلال فعل الكتابة، وما يمثله من شهادة ممزوجة بإبداع الوعي في مواجهة المحو، والعدم، وتبدو هذه الرؤى الفنية بوضوح في نصه الروائي المتعلق بسيرة الكاتب، والمثقف السياسي الموريتاني (محمد الباهي)؛ وهو (عروة الزمان الباهي) الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات، والنشر ببيروت، والمركز الثقافي العربي بالمغرب – طبعة ثانية سنة 2007؛ فمنيف يراوح بين عوالم الباهي، وأفكاره، وخصوصيته الإبداعية، ودفاعه عن الحرية، والاستقلال، وما تركه من أثر جمالي يكشف عنه الراوي من خلال تفاعل الشخصية مع الأبنية الاجتماعية، والثقافية للعصر، وروح الأماكن، وما تتضمنه من أصوات جمالية خفية تكمن في امتداد صورة الباهي الفنية في الواقع؛ وهو ما يمنح النص القدرة على كشف العلاقة المعقدة بين الوجود الشخصي، وتحولاته الطيفية الجمالية في النص، دون أن يفقد النص طابعه التسجيلي، وما يحويه من شهادات صادقة حول حياة الباهي، ومسيرته الواقعية، وأثره في الذاكرة.

يفتتح منيف نصه بمقدمة تجسد التناقض الإبداعي بين الغياب، والكتابة كمقاومة مستمرة للمحو، أو كمدلول لاتصال الذاكرة بالمستقبل، وإعادة إنتاج الصور الجمالية الكثيفة، والمتجددة لذلك الماضي الممتد في زمن الكتابة الخاص، ودائريتها. وبصدد العتبات النصية، وعلاقتها بقارئ الرواية يرى الناقد، والروائي البريطاني (ديفيد لودج) أن قارئ النص الروائي يبحث عن عالم النص من خلال اكتشاف عتباته الدالة، وبداياته التي تقدم مدخلا لعوالمه، ودلالاته، كما يكشف عن تنوع العتبات باختلاف الكتاب؛ فثمة بدايات تعكس التفكير الفلسفي؛ مثل عبارة تعيد النظر إلى الماضي كوطن أجنبي، لأن الشخصيات تتصرف فيه بطريقة مختلفة في رواية (The Go-Between) ل (L.P.Hartley)، والمقدمة الذاتية اللافتة "اتصل بي يا إسماعيل" في (موبي ديك) لميلفل، وكذلك البدء من المنتصف، وتعدد البدايات في (يقظة فينيجان) لجيمس جويس؛ إذ تتشابه دائرية المعنى في القراءة فيها بدائرية الماء في البيئة الطبيعية (Read / David Lodge / The Art of Fiction / Penguin Books / New York / 2011 / p. 7, 8).

وأرى أن مقدمة منيف توحي بمنظور جمالي – فلسفي حول علاقة الشخصية الاستثنائية بالموت، والاستمرارية في فعل الكتابة المقاوم للمحو، والذي يبدو كشاهد وثائقي لذلك الحضور الواقعي الذي يشبه النص، ويمتد في تحولات طبيعته الطيفية، واستعاراته المشبعة بطاقة الماضي المادية. ويمكننا رصد أربع تيمات رئيسية في النص هي؛ المثقف بين التأملات الفكرية، والاتحاد المباشر بالعناصر الكونية، والأصالة الثقافية، والإنسانية، واكتشاف روح المكان، وآثاره الإبداعية، والغياب، والبهجة.

أولا: المثقف بين التأملات الفكرية، والاتحاد المباشر بالعناصر الكونية:
يراوح منيف – في سرده – بين رصد تأملات الباهي الفكرية التي تعكس أصالته الثقافية، والإنسانية، واندماجه الأدائي الإبداعي، والفطري بعناصر الكون، والطبيعة، وما يحمله ذلك الاندماج من حالة توحد، واتساع روحي، وغرق جمالي في صيرورة الحياة، وامتدادها خارج مجال التفكير الفلسفي؛ فالرافد الفطري الذي يقترن بالتناغم، والانسجام يزدوج بتأثير ثقافة المكان، وأصالة السؤال الفلسفي في عالمه الداخلي في آن.

و أرى أن ما يميز تأملات الباهي في نص منيف هو ذلك التداخل الأصلي بين حالة تفاعل الأنا، والعناصر الكونية ، والطبيعية بصورة إيجابية، وكذلك طرح السؤال الفلسفي المولد من حالة التفاعل نفسها؛ وكأن منيف يعكس دلالة اكتمال معلقة في وعي الشخصية، أو شكلا من الاختلاف البنائي الداخلي، أو ما يمكن وصفه بتأجيل الصورة، أو عدم تجليها بوضوح إلا من خلال ما يعكسه ذلك السؤال من فجوات معرفية نسبية تنتظر الإجابة.

يورد منيف تأمل الباهي حول عداء الإنسان لنفسه بعد أن استطاع ترويض الحيوان، والطبيعة؛ وكأنه مصر على الانتحار، أو قتل الآخرين مجانا.

ولفكرة الباهي جذور ثقافية في أولية معرفة الشر، وسيادة الانفصال بين الأنا، والآخر في المجال السياسي عقب حربين عالميتين، ودرجة من التعارض الداخلي في بلاد التحرر الوطني في الخمسينيات؛ فهو يعكس الإعلاء من قيمة التواصل الإنساني، والارتقاء الروحي في مواجهة لغة التعارضات، ولغة العداء غير المفهومة في السياق الإنساني نفسه؛ إذ يفترض تاريخ كفاحه الحضاري الرغبة في التوافق، وتجاوز الانهيار الداخلي.

و يمزج منيف بين تأمل الباهي، وسخريته من العنف الإنساني حين كان في مقبرة الكلاب بباريس؛ فقد طلب من امرأة فرنسية تصطحب كلبين أحدهما عدواني أن تقطع نسل الكلب القوي المتجبر، وأن تبقي على الآخر، فسألته: لماذا تريد الكلب أفضل من الإنسان؟، فأجابها بأنه لو كان يتصور أن البشر أحسن ما جاء إلى هنا.

إن تأمل الباهي ينبع من الحالة الطبيعية نفسها للكلبين، ويضع المتلقي أمام صدمة ممزوجة بسخرية أدبية من ذلك الواقع المملوء بالصراعات، والحروب العبثية، دون أن يكون التحليل الفلسفي هو المهيمن على شخصيته كمثقف. وقد تجلى التوتر بين الأصالة، والخروج في عالم الباهي في تأملاته عن هجرة الأسماك، والطيور؛ فهي تثير الدهشه، والسؤال، والبحث، وتتعمق الأصالة في مشهد الارتباط بين سمك السلمون، ورائحة التراب التي صاحبت عناقه الأول للحياة.

لقد اندمج الباهي بصيرورة العناصر،و هجرتها المقترنة بحب الحياة، والموطن الأول، وكأن صيرورة السمك تجسد نغمات ارتباط الباهي بوطنه، وارتباطه بقضاياه السياسية، والإنسانية في فرنسا.

تتضاعف – إذا – نغمات الحضور، والأصالة، والتجاوز معا في مستويات الواقع، والكون، والنص السردي في آن.

ثانيا: الأصالة الثقافية، والإنسانية:
يشير منيف إلى جمع الباهي بين تجسيد عادات أهل الصحراء، والتسامح الإنساني الذي يبدو واضحا في الخبرات الحسية المتنوعة التي يوردها الراوي في علاقة الباهي بالكتب ، والمدن والمقاهي، وتفاعله الإيجابي مع روحها الخفية، وبخاصة المقاهي الثقافية، أو البسيطة.

هل يكمن التجاوز في الأصالة الإنسانية، وجذورها المحلية الخصيبة؟

لقد اكتشف الباهي وفرة الحياة، والعناصر الكونية، والمعارف؛ ومن ثم اكتسب حكمة تفاعل الثقافات، وتجاوز المركزيات المغلقة من خلال علاقته بروائح المقاهي، وبحثه عن الكتب، وميله للكتابة العقلانية، وإمكانية تأويل الوثائق، والأحداث، وتجنب التطرف في الحكم عليها.

لقد كان الإبداع هو محور الاتصال بين الشرق، والغرب في شخصية الباهي كما رسمها منيف؛ فحالة الاتحاد الروحي بالمعارف، والشوارع، والأماكن، والمزج بينها في تناغم جمالي فردي داخلي، تتجاوز بحد ذاتها الأبنية المغلقة، وتؤسس لعالم آخر متحرر من قيود القوة، والاستغلال، وتتحول فيه الأنماط المحلية الفريدة إلى علامات مؤثرة، ومتجددة في سياق إنساني.

يميز منيف صفات الباهي الملازمة لأهل الصحراء؛ مثل الثقافة الشفوية، والحذر، وبساطة الأكل، والمظهر، والصبر، والصراحة، والوفاء، ثم يوضح موقفه الإنساني إزاء الصراعات السياسية في المشرق، والمغرب؛ فهو يعين موقعه دون قطيعة، ويتصف بالعقلانية، وحول علاقته بالآخر نراه في باريس يعانق الخطوط العالمية في الكتب، ويبحث عن مقاه زارها كتاب، وفنانون؛ مثل أراغون، وجان جينيه، ودالي، وبيكاسو، ويستقصي أخبارهم من الجرسون.

إن عالم الشخصية كما يصفه منيف يجسد الجدل المفتوح بين المحلي، وصوره المتجددة التي تصل الماضي بالمستقبل عن طريق الخبرات الحسية الإبداعية المباشرة من جهة، وتأكيد الصوت الإنساني الذي يجمع بين أصالة البدايات، والاختلاط بالأثر الجمالي الطيفي للمكان، وتحولاته من جهة أخرى.

ثالثا: اكتشاف روح المكان، وآثاره الإبداعية:
للمكان حياة روحية خاصة في عالم منيف الروائي، وفي الصوت الداخلي للباهي كما يصفه الراوي؛ إذ يتشكل بصورة إبداعية في الأصوات، والروائح، وما ارتبط به من قيم ثقافية، وفنية؛ مثل تأكيد فكرة التحرر للشعوب، والأفكار، والآراء في القاهرة، والاختلاف الإبداعي في بيروت، وتجدد النزعة الإنسانية العالمية في باريس؛ وهي الأماكن التي عايشها الباهي؛ ليشكل هويته الإنسانية الإبداعية، ويعزز من قضية التحرر الوطني، وبناء المستقبل فيما بعد الحرب العالمية الثانية، والاستعمار.

المكان هنا يشبه موجات البحر المتغيرة في لحظات الزمان، وأصواته النسبية؛ فصور الماضي، وأطيافه تتضاعف في بنيته رأسيا، بينما يولد صوت نقي من داخل مجاله الإبداعي؛ هو مزيج من الطاقة الملازمة لتكوينه الجمالي، والحضور المؤقت، والممتد لشخصياته الفريدة؛ مثل الباهي، ومنيف.

يميز منيف روح القاهرة في ذلك الوقت بالتموج، والحركة، وتأكيد حرية الصحافة، والعروبة، وتعدد المشارب الثقافية، والشعر الجديد خاصة عند جيل حجازي.

وتبدو القاهرة هنا ككيان مدني حديث يجدد أصالة الماضي بلغة جديدة، وقوة ديناميكية تشكل المستقبل. ويصف منيف روح الاختلاف الإبداعي في مقهى الحمراء في بيروت؛ إذ يختلط فيها أثر البحر المشبع بالرطوبة، والملوحة بطاحونة الكلام، وأحاديث المثقفين، وأشعارهم؛ أما الأنكل سام فيجسد الضجيج، ورائحة الصحراء، والنضال ضد الديكتاتورية، وفيه نعاين صورة الماغوط، وعلي الجندي، ويبدو الباهي بشعر كث، وملبس بسيط.

للمقهى صوت يماثل الصوت الفريد للشخصية عند منيف؛ ومن ثم تتجدد خبراته الحسية، وروائحه في الواقع، والذاكرة، والنص، ويصير المثقف علامة، أو لونا، أو خطا عميقا في لوحاته الفنية المتضاعفة، بينما تطير أطيافه في الحكايات، والرؤى، واللحظات الزمنية المتعددة.

أما باريس فهي مدينة الغواية التي يضيع فيها الفرد، دون أن يشعر بالحصار، وقد كان الباهي يفضل مقاهي الزوايا المجهولة، ويستشرف منيف حزن هذه المقاهي حين تفتقد الباهي.

صورة باريس هنا فردية أنثوية، وعالمية في آن؛ إذ تمارس غواية مفتوحة، واستعارة ممزوجة بمادة المكان، ومشكلة لصوته الذي يجذب المثقف، ويتوحد بقيمة الجمال بداخله.

رابعا: بين الغياب، والبهجة:
يقاوم منيف مؤقتية الوجود، وسطوة الغياب من خلال التوثيق، والكتابة الجمالية معا؛ فالوجود يتحول – بفعل الكتابة – إلى صور، وطاقة داخلية متجددة في القراء المحتملين، وتبدو قيم التحرر الثقافي، والفردية المنتجة للفكر، والفن مستعيدة حضورها في ذلك الجيل، وفاعليته الخفية في اللحظات الحضارية المستقبلية. ويشير منيف إلى تأملات الباهي حول هجرة الطيور، وما تثيره من أسئلة تناظر هجرة البشر من شمال أفريقيا إلى اوربا، وما يقترن بها من أحاسيس الحزن، والشجن، والألم، والضياع الذي لا يصاحب هجرة الطيور.

تتجلى هنا أفكار الأصالة، والهجرة بوصفها بحثا عن عالم أفضل، وإعادة تشكيل الهوية بصورة آلية مبدعة، وطبيعية في وعي الباهي، وأرى أنه أراد أن يستكمل التناغم، والهارموني البشري، بينما يفتقده العالم، وتعلو حالة الانفصال؛ وهو ما يستدعي الحزن، والهجرة الروحية المستمرة للمبدع. ومثلما اتحد الباهي بحالة الهجرة في صورها الكونية، واستدعائها للحزن، والضياع في السياق البشري، نراه يزهر مع الشجرة القريبة من الحي اللاتيني في الربيع، ويتحدث عنها كأنها الشجرة الأولى.

إنه يعايش تعدد البدايات في هويته الإبداعية، ويقاوم الموت، والحدود المغلقة للتكوين؛ فالشجرة تجسد الوفرة، وإيقاع نغمات الخلود، والأصالة التي تسبق النشوء النسبي للصورة، أو الجسد.

هل هي نغمة تجاوز التوقف؟ هل تشبه شهادة منيف، وفاعليتها الأدبية الممتدة فيما وراء سيرة الباهي؟

إن نص منيف متعدد في طبقاته الفنية؛ إذ يجمع بين الحقائق التاريخية، والطبيعية، والسرد، والمنظور الجمالي للشخصية في اختلاطه الفني بالتوثيق، والعمق الفلسفي، وحالة الأداء التي تعكس اتحاد حدس الشخصية المباشر بعلامات العالم، والتراث الثقافي.

msameersster@gmail.com