(في باطن الجحيم) أخر نتاج صدر للروائي العراقي المغترب سلام إبراهيم والذي يشتمل على تداخل بين السياسي والاجتماعي والنفسي والإعلان عن مدى التأثير والتأثر فيما بين تلك الموضوعات بشكل سرد روائي ينطوي على عدّة خصائص فنية، جاء الموضوع (عن حملة الأنفال من 1987ـ 1988م) ،فعرض الروائي الإحداث بشكل تفصيلي كي يتيح للقارئ معاينة الممارسة الدكتاتورية بصورة واضحة تتجاوب مع ما كان عليه الواقع العراقي في تلك الفترة بالتحديد،إضافة إلى ذلك تنطوي الرواية على تقنيات أدائية،حيث يتم السرد تارة بشكل لقطة خاطفة تستحوذ على مخيلة القارئ وتجعله يتشوق لتمثلات أخرى في النص وخصوصاً ما يتعلق بالإثارة الشعورية ببعديها العاطفي والغرائزي،وتارة بشكل تقريري يعتمد البناء المتتابع ،وهو في كل هذا يعمد ـ سلام إبراهيم ـ الى تجسيد المشهد الدرامي بصورة حية ومتحركة بحركة الشخصيات المندمجة في الرواية.
قد تضمنت الرواية طابع الحوار من خلال إشراك عدّة شخصيات في تقرير الحدث والإبانة عن ملابساته الخفية، إذ يعمد الروائي من خلاله إلى (تطوير الخط الدرامي كي يقلل من رتابة السرد وشد القارئ)،حينها يتمظهر الحوار بأشكال عدّة وبين أطراف متنوعة،فتارة يكون الحوار مباشراً مشتركاً بين الراوي و الشخصيات سواء أكانت محورية أو ثانوية هذا من جانب،ومن جانب آخر يتمظهر بين الذات وما تحمله من هواجس وتساؤلات،وهنا يتخذ الحوار صورة المونولوج الذاتي،وتارة حوار مروي غير مباشر يتم السرد فيه دون ان يكون الراوي جزءاً من الحوار فيؤتى به لتأكيد موقف ما، ولجعل القارئ يواكب حركة الأحداث من نقطة لأخرى،مما يسهم في تبلور الرؤية لدى القارئ دون ان يبقى جانب خفي..
بناءً على ما تقدم سيتعرض المقال لتلك الخصائص إجرائيا،حيث تبدأ الرواية من لحظة (محاكمة صدام حسين في قضية الأنفال) وما آل إليه الدكتاتور من دهشة وامتعاض،فيؤثث سلام إبراهيم فضاء روايته بثنائية الانتصار،(ننصت أنا والطاغية..هو في دهشة وامتعاض وأنا في نشوة وطرب..هو في قفص وأنا في فضاء) ليسترجع بعد ذلك دواعي الطرب والنشوة بشكل تفصيلي منتقياً ابرز مراحل حياته التي عاشها في العراق وما أعقبها من اسفار الى ان استقر في منفاه الأخير (الدنمارك)..
في خضم تلك التفاصيل نجد سلام إبراهيم يرمم ما تبقى من وجع الذاكرة بلقطات خاطفة من حبه الأثير تعد بمثابة استراحات تشويقية للقارئ كي يتابع بعدها الأحداث (كنا نلعب كرة القدم في الساحة الصغيرة التي رتبناها على فسحة حقل زراعي أمام غرف وقاعات القاعدة المحاذية لحواف سفوح وسط الحوض.كنت العب عندما نادتني حبيبتي ورفيقتي ـ ناهدة جابر جاسم ـ التي كان اسمها ـ بهار ـ كي اذهب الى الحمام .قالت انها سخنت قدر الماء وجهزت كل شيء وذكرتني بقرب وجبة العشاء .تركت الساحة مقتربا منها،حامداً في سري خالق الكون على وجود هذه المرأة الحانية الساخنة جواري في وسطٍ موحشٍ ،صعبٍ، يعج بالمخاطر.صرت جوارها،وغرت في عينيها الواسعتين الضاحكتين قبل أن تستدير أمامي وتخطو نحو الحمام.كنت أتأمل قامتها الرامحة النشطة شاعراً بغبطة سريةٍ تجعلني اسير خلفها شبه سكران.)
بعدها يعود الروائي ليكمل سرد التفاصيل الموجعة بشكل تقريري ،فتنصهر ملامح النشوة ،ويتبدل الموقف إلى رعب وقلق شديدين جرّاء ما يحدث ،وهو في هذا يعمد إلى الغاء المسافة بين أفق الحدث الخارجي وأفق النص،كي تتمثل اللحظة التأريخية المنصرمة أمام القارئ بشكل درامي حي (كنت غارقا في تلك المتعة عندما اقتحم ضجيج طائرات تنقض قريبة،وكأنها ستمس سطح الحمام الواطئ.ضجيج مثل جدارٍ اخترق جسدي،وجعلني أقفز مذعوراً من التخت الخشبي حتى ضرب رأسي السقف،لأندفع غريزيا ما ان لمست قدميّ الأرض فاتحاً الباب وراكضاً بجسدي العاري المصوبون بالرغوة صوب اقرب ملجأ شقي،لأقفز الى جوفه.هبطت على لحمٍ حارٍ ينبض كان ممتلئا فلم يخفِ سوى نصفي الأسفل.جلستُ فوق الأجساد مفزوعاً مجبراً على التحديق نحو الوادي المواجه للملجأ..) ،ثم يأتي الحوار ليطور الطابع الدرامي ،و يعزز مجسات التلقي حين الغور في سبر النص ،ومتابعة حركة الشخصيات بصورة دقيقة، ولذا نجد الحوار في الرواية يتحول من شكل الى اخر مع ما يتجاوب و تنوع ماهية الحدث وسعة أفقه،فالحوار المباشر عادة يتأسس داخل اطار الحدث الطويل والذي يتجلى بين الشخصيات الأساسية،أما الحوار المروي (غير المباشر) فيتأسس على الحدث القصير أو الثانوي،وفي بعض الأحيان يتداخل المونولوج الذاتي مع الحوار المباشر المشترك ..(لا ادري كم بقيت هكذا اصارع بصمت الحريق الذي شب في كل قطعة من جسدي ..بدأت بالانين الخافت .. اقوم .. اخطو خطوتين .. اقعد .. استلقي .. اقوم من جديد ..احاول فتح عيني،فتهب عليّ ابواب جهنم .كنت أقول مع نفسي:
ـ متى تعودين يا بهار؟!..متى؟!
صارت زوجتي مثل حلم في بحر الألم الذي ضعت فيه.تصورت وقتها ان مجيئها وحده سيسكن آلامي.وبينما كنت أدور في تلك اللجة دفعت الباب وصرخت:
ـ أش بيك حبيبي؟!
وراحت تتلمس جسدي،فكنت اصرخ من ملمس أصابعها.راحت تتوسل وتناديني باسمي الحقيقي:
ـ افتح عينيك حبيبي سلام!..أرجوك افتح عينيك!.
كنت اردد من بين أنيني:
ـ ما اقدر..ما اقدر نار بعيوني!.
ـ حاول حبيبي ..حاول..أرجوك ..أرجوك!.)
انطوى هذا النص على حوار متداخل ،يؤشر أعلى مستويات الوجع الذي تعرض له الروائي جرّاء خوضه في الصراع مع الدكتاتور،كي يوثق رحلة ذات رافضة قد أشرفت على النهايات في ظل ظروف حرجة ،ما استدعى ان يتداخل الحوار الذاتي مع الحوار المشترك بغية ان يتلمس القارئ ما بينهما من تعالقات،فجاءت مفردات الحوار مشفوعة بإيقاع صوتي صاخب تدلل على وقع الألم وشدته(صرخت/اصرخ)،ومما يلاحظ في الرواية أن الحوار الذاتي (المونولوج) حينما يأتي مستقلاً يسعى لتوثيق غربة الروائي ووحدته لانه يعد اقرب الصيغ لمنظور الحالة الشخصية وما تتحسسه الذات من معاناة داخلية،وهذا ما استخدمه الروائي ضمن ثيمات متنوعة تنتشر على جسد النص بشكل ملفت للنظر..(صرخت مع نفسي/ قلت مع نفسي/اهتف مع نفسي).
أردف الروائي حواره الموجع،بعد أن قص التفاصيل،بحوار مروي،وهو يجثم بين النوم واليقظة،كي يضع المشهد كاملاً أمام القارئ(استيقظت من كوابيس الألم على صوتها وهي تتحاور مع احدهم،عرفته على الفور حالما سمعت جوابه كان يدعى "ملازم رائد":
ـ لا رفيقة..حالته صعبة دعي الرفاق يعتنون به!.
كنت أنصت للحوار المتصاعد إلى أن انفجرت صارخة:
ـ لا راح اخذه هسه..وما لي علاقة بأي قرار!.)
وفي كل هذا يمزج سلام إبراهيم بين اللغة الفصحى واللغة العامية العراقية أو الكردية ـ إن كان الحوار يقتضي ذلك مع وضع ترجمة لتلك المفردات ـ كي يمد جسور التواصل بين القارئ و النص ويثير متعة القراءة.