في دراسته يستبين الباحث والقاص المغربي التقنيات التي وظفها إدريس لتعمير منجزه القصصي، ويرى أنه استعان بتقنيات اللقطة، صيغة التقديم، العرض، النظرة، التشريح، المفاجأة التي تقود القارئ، تشريح الحالة والدوافع المضمرة فيها، من اللفتة الاجتماعية، التعبير بالصرخة، التحول الأرسطي، إلى المفاجأة، ووضوح القول.

لوازم القص عند يوسف إدريس

مجموعة «لغة الآي آي» نموذجاً

محمد أنقار

مـدخل
الألم الإنساني رُتب ودرجات مثلما هو أشكال وألوان. ومن عموميات القول إن الآداب والفنون تنـزع إلى تصوير مختلف الرُّتب والأشكال المجسِّدة لذلك الألم ولباقي الأحاسيس والأفكار. يقابل هذا التعميمَ الخصوصياتُ التي تميز كل أديب، بل حتى كل نص من نصوصه.

ولكن لماذا الألم بالذات دون غيره من أحاسيس السعادة أو الشقاء؟ الجواب شخصي جداً وذاتي جداً. فمنذ زمن الشباب رسخت في أعماقي عبارة "الآي آي" من حيث هي كناية عن الألم والمعاناة، ثم مع توالي السنين غدت علامة أدبية تميز كل التجارب الإبداعية ليوسف إدريس بما فيها من مجاميع قصصية، وروايات، ومسرحيات، ومذكرات، ومقالات صحافية. تلك هي الخصوصية التي يتفرد بها الإبداع القصصي لهذا الأديب حسب وجهة نظري. وأفترض بعد هذا أن الخوض في تفاصيل بلاغة تلك الخصوصية من شأنه أن يزيدنا إدراكاً للجهد الجمالي الكبير الذي أنجزه يوسف إدريس، مثلما يمكنه كذلك أن يفيدنا نحن الذين نمارس كتابة القصة القصيرة يومياً، ونتطلع باستمرار إلى تطوير أساليب كتابتها.

وما من شك في أن تجربة يوسف إدريس القصصية شاسعة وعريضة بدليل الكم الغزير من القصص والمجاميع التي نشرها. بيد أننا سنكتفي في هذا المقام بمجموعته "لغة الآي آي" نظراً إلى ما لها من صلة بالزاوية النقدية التي اخترناها، وكذا بالدلالات الفكرية والتأويلية التي تستثيرها لدي.

في سنة 1965 صدرت بالقاهرة مجموعة "لغة الآي آي" ضمن سلسلة الكتاب الذهبي ذات الصيت الشعبي. ومن خلال القراءة المتأنية استصفينا من تلك المجموعة القصصية جملة من اللوازم السردية افترضنا أنها يمكن أن تستثير اهتمام كل "قارئ ناقد". هي لوازم عديدة ما في ذلك من شك، لكننا سنركز على أبرزها. ونقصد بـ"اللازمة" تلك الرُّتبة الجمالية التي تحضر في جلّ القصص وتتكرر. هي شبيهة باللازمة في الأغنية والقطع الموسيقية Motif. كما هي شبيهة "بالوحدة الوظيفية" التي احتفى بها النقد السردي في الحكايات العجيبة والغريبة والشعبيّة والأساطير ومطلق القص الخارق. بيد أن اللازمة ليست شكلاً فقط أو مضموناً فقط، وإنما هي جمع بينهما. وفي هذه الحال يمكن أن تختلف عن مفهوم "الوحدة اللفظية" التي قد ترشح دلالتها بالأبعاد اللغوية والشكلية لدى النقاد.

1. قصة اللقطة
يُحسب يوسف إدريس على مبدعي القصة القصيرة القائمة على اللقطة. وفي ذلك يكمن جانب من عبقريته. قد نقول إن الغالب على قصص نجيب محفوظ النـزوع نحو التفلسف خاصة في مرحلته الإبداعية الأخيرة، وعلى قصص بهاء طاهر التأمل، وعلى قصص جميل عطية إبراهيم المفارقة، وعلى قصص إبراهيم أصلان التشظية. في حين يظل يوسف إدريس من رواد قصة اللقطة في السرد العربي.

في جميع قصص "لغة الآي آي" تحضر اللقطة من حيث هي منظور يهتدي الراوي من خلاله إلى أعماق الشخصيات والوقائع. وحتى في قصة "اللعبة" ذات الطابع الحلمي أو الكابوسي اللامعقول تحضر اللقطة. و"الزوار" هي قصة اللقطة شأنها كشأن قصة "حالة تلبس" التي يضبِط خلالها عميد الكلية طالبة تدخن في الفناء. اللقطة هي زاوية النظر. هي لازمة وسبيل آخر من سبيل الولوج إلى بلاغة الآي آي؛ بلاغة الألم. هي النافذة التي تتعاضد مع "التقديم" الذي تبدأ به القصة وتفسح المجال واسعاً أمام الراوي من أجل ممارسة التشريح النفسي.

بيد أن راوي "لغة الآي آي" لا يقدم لقطاته بصيغ شاعرية مكثفة كما قد نتوهم، وإنما يحلو له أن يمطط المشهد ويستطرد إلى تفاصيله إلى درجة قد تصل في بعض الأحيان إلى الإملال. غير أن ذلك قلما يحدث. وفي المقابل يظل الراوي ممسكاً بخيوط اللقطة؛ يوزع تفاصيلها هنا وهناك بانسجام وتوازن مدروسين. وقد تطول اللقطة حتى تكاد تشمل القصة بكاملها. ففي قصة"حالة تلبس" ليست اللقطة بؤرة مركزة، إنما هي النص بكامله على الرغم من أن الوقائع تحدث في دقائق معدودة. يمكن أن نعطي حكماً شبيهاً بذلك عن قصة "هذه المرة" التي يشرّح الراوي خلالها شكوك الغيرة التي راودت سجيناً إثر زيارة زوجته له.

2. صيغة التقديم
تبدأ كل قصص المجموعة بمقدمة أبرز سماتها الغموض. هو غموض مقصود، يقف وراءه وعي جمالي عميق ما في ذلك من شك. بل إن هذا الوعي يمكن أن يتضمن حتى قدراً من الفلسفة التي تجعل الراوي يبدأ الحكي بصيغة فيها نصيب من التلغيز. كأن تلك الفلسفة تُستلهم من بعض أنماط الحكي الشعبي بما فيها حكايات الألغاز والأحاجي.

قد تطول مقدمة القصة فيمتد بذلك غموضها الذي يبدأ في الانقشاع رويداً رويداً، مثلما تذيب أشعةُ الشمس القوية كثافةَ الضباب ولونه الرمادي. هذا الطول قد يمتد حتى يختلط بلازمة أخرى يمكن أن نسميها "عرْضَ المشكلة الرئيسة للقصة". ففي مقدمة قصة "الأورطي" حديث تجريدي غامض عن الجري والترقب والخوف، يختلط بعد أسطر عديدة بالمشكلة الأساس المتمثلة في عبده حرامي القروش الهاربِ دوماً، والكاذب دوماً، والباكي دوماً:

ومن البدهي أن غموض التقديم ينقشع إلى حد بعيد حينما نعود إليه بعد أن ننهي قراءة القصة كاملة. أقول إلى حد بعيد لأن دلالات التقديم لا تنجلي كلها نظراً إلى طبيعة العبارات المبهمة التي ينتقيها الراوي فيترك بذلك الباب مشرعاً لتأويلات شتى. يحصل ذلك حتى في قصة "الأورطي" نفسها. وربما كان في ذلك نصيب من الفلسفة المشار إليها سابقاً.

3. المشكلـة وعرضها
في كل قصة مشكلة. ذاك تخريج نقدي عام ينطبق على يوسف إدريس وعلى غيره. لكن التمايز يحصل في اختلاف صيغ التصوير. قد نسمي تلك المشكلة موضوعاً لولا أن الراوي يقدمه في موقف صعب متوتر، فيضفي عليه بذلك صفة الإشكال. وتُضمَّن بعضُ سمات المشكلة في مقدمة القصة، لكنها تكون حينذاك جزئية، تجريدية وغير مشكَّلة بعد في صورة كاملة. ومع توالي أسطر المقدمة تتشكل "المشكلة" بالتدريج كما لو كانت في البداية نطفة، ثم تغدو علقة، فجنيناً.

طبيعة المشكلات في "لغة الآي آي" كئيبة، أليمة، لكنها مستمدة جميعها من الواقع اليومي ذي السمات المصرية. قد تكون مع ذلك عربية، وحتى مشكلات كونية. لذا يغدو وسمها بمصطلح الواقعية وسماً قاصراً.

في "حالة تلبس" ثمة مشكل غير معلن بين عميد الكلية وإحدى الطالبات. وفي قصة "الزوار" لا يزور أحدٌ المريضةَ سكينة في المستشفى العمومي. وفي "معاهدة سيناء" لا يحصل الاتفاق على من سيركّب آلة الغيار. وفي "قصة ذي الصوت النحيل" يشكو رجل شديد الحساسية الجيران والمجتمع. وفي "الورقة بعشرة" هناك الخلافات الأزلية بين الزوج والزوجة. وفي قصة "هذه المرة" يشك السجين في زوجته سهير. وفي "لغة الآي آي" يضطر عالم الكيمياء الشهير إلى تحمّل صديقه المريض. وفي قصة "اللعبة" تحار الشخصية الرئيسة بين ضرب اللعبة وضرب اللكمات. وفي قصة" "لأن القيامة لا تقوم" يعجز صبي عن التصدي لأمه الزانية. وفي قصة "الأورطي" يصوَّر عبده حرامياً بكاءاً كذاباً. أما مشكل عم حسن العجوز في قصة "صاحب مصر" فيكمن في طيبوبته الشديدة النادرة.

لا تُعرض مشاكل المجموعة طفرة واحدة، وإنما تجزأ في كل قصة ويتم تفريعها. ذاك تخريج جمالي بدهي. ثم إن لكل مشكلة وجوهاً عدة؛ هناك تفاصيل وسمات تزيد في تعميق المشكلة، وهناك أخرى تسهم في التفريج. ثمة الإيجابي والسلبي. المنغصات وطيف الأمل. كذلك شأن إبراهيم في قصة "لأن القيامة لا تقوم" حيث يتعذب جراء خيانة أمه الأرملة، لكنه يبحث مع ذلك عن التعلات لكي لا يثور فيُـبقي بذلك الوضعَ الشائن على ما هو عليه.

أخيراً أسجل أن معظم مشكلات المجموعة ذات طابع نفسي. كأنها عقد جوانية مصاغة في قوالب قصصية.

4. الألـم
يعد الألم أو المعاناة جوهر موضوعات المجموعة ولب مشاكلها. والألم رتب كما سبقت الإشارة، تبدأ بآي آي فهمي المصاب بمرض خبيث في قصة "لغة الآي آي"، وتنتهي بعذاب عم حسن العجوز جراء طيبوبته المفرطة التي تجعله يضحي في سبيل الآخرين بنكران ذاتي قل نظيره في قصة "صاحب مصر"، مروراً بتباريح الرجل المعذب صاحب "قصة ذي الصوت النحيل".

يهيمن على المجموعة العذاب والشقاء والشكوك والعزلة والخيانة والغضب. صحيح أن عديداً من نهايات القصص تُصوَّر مفعمة بسمات الأمل والانتصار وتحقيق البعد الإنساني. كما أن الحكمة العامة في المجموعة متفائلة وملتزمة. لكن قبل الوصول إلى تلك النهايات لا بد من أن يتعذب القارئ ويعاني آلام الشخصيات ومحنها.

يجمع راوي المجموعة بين نمطين من الألم؛ العضوي والنفسي. وحتى في القصة التي يدور موضوعها حول المرض العضوي كما في "لغة الآي آي" يجنح الراوي إلى ترجيح كفة الألم النفسي. في هذا السياق لا يستطرد وراء سمات الألم العضوي من منظور الطب أو العلم، وإنما يتقصى في مقابل ذلك وبتفصيل السمات الدالة على الألم النفسي.

ويوجد الألم حتى في القصة التي تبدو في ظاهرها خالية من المعاناة. في "حالة تلبس" القائمة على أساس اللقطة يتغلغل الألم النفسي وإن طفت أحياناً على سطح النص بعض سماته العضوية )عرق، نبضات القلب، سخونة، التهاب الدماء في العروق(. وفي "قصة ذي الصوت النحيل" يكمن المشكل السياسي وراء المعاناة النفسية للشخصية الرئيسة. إن الرمز السياسي واضح في هذه القصة بدليل الإشارتين إلى التأميم والملكة فريدة. هذا الموقف السياسي الجديد أسهم، حسب القصة، في بروز أنماط أخرى من الألم في المجتمع المصري. والظاهر أن الراوي من أولائك الذين سحقتهم الثورة فبات يطالب بعودة الفلاحين إلى قراهم كي يتركوه يعيش وأمثاله في المدينة. هي إذن رُتبة أخرى من رتب الألم والعذاب يقف وراءها الموضوع السياسي. هي "آي" أخرى مكيفة بسمات سردية مباينة.

عموماً إن الألم هو الوجه الآخر لمشاكل الإنسان في "لغة الآي آي". ومع ذلك هناك حكمة التفاؤل ومبدأ الالتزام اللذان يستنير بهما راوي المجموعة استلهاماً من رؤية كاتبها.

5. التـشـريح
نقصد به وظيفة تشريح العواطف والحالات النفسية والأفكار من لدن الراوي. في "لغة الآي آي" ثمة عُقد الهستيريا والشيزوفرينيا والاكتئاب والغيرة والشك وشدة الحساسية والخجل والكذب والعدوانية والجنون. والحقيقة أن القائمة أطول. ومع ذلك أفترض أن يوسف إدريس قد استفاد من مصدرين أساسين من أجل تعميق تشريحاته النفسية:

1. تجاربه الشخصية من حيث هو إنسان أوتي طاقة الانتباه إلى تفاصيل الأحاسيس وتحليل دقائقها، وامتلاك القدرة على تحقيق المشاركة الوجدانية مع الآخرين؛ مع آمالهم وآلامهم.

2. كُتب التحليل النفسي وتجربته بوصفه طبيباً نفسانياً.

وتكمن الخطة التشريحية لراوي المجموعة في تتبع العقدة أو الحالة بالوصف والتفريع، مع الاستعانة الكبيرة بسماتها. ويمكن أن نتناول على سبيل المثال قصة "حالة تلبس" من أجل المزيد من التوضيح. فقد اعتمد الراوي على مجموعة من السمات لتصوير معاناة عميد الكلية وتشخيصها أمام عيني القارئ. وفي هذا السياق يمكن أن نقوم بعملية إحصائية لكل السمات الواصفة لتلك الحالة النفسية التي تميزت بالتدرج التصاعدي.. ثم هبطت.. ثم عادت من جديد إلى الصعود في نهاية القصة. وإذا كان الراوي قد كشف الطبيعة النفسية للتدرج التصاعدي الأول فإنه لم يفعل ذلك مع التصعيد النهائي قبيل خاتمة القصة، وتركه مفتوحاً موحياً باحتمالات شتى. وأفترض أن هذه النهاية المفتوحة أسهمت في إثراء دلالات القصة وترسيخ التشويق في نسغ تكوينها.

بيد أن تشريح الحالة قد يتخذ في بعض النصوص صيغة المقال إن أنت نزعت منه، بمجهود طفيف، سماته القصصية كما في قصة "صاحب مصر".

6. النـظـرة
هي السبيل الواصل بين طرفي المشكلة أو الحالة النفسية المرصودة للتشريح في القصة. ولا تخلو أية قصة من المجموعة من إشارة لغوية إلى النظرة، أو العين، أو أفعال الرؤية. وتنبني قصة "حالة تلبس" بكاملها على النظرة. والصبي إبراهيم في قصة "لأن القيامة لا تقوم" لا يستطيع إطالة النظر في عيني أمه الخائنة. والشخصية الرئيسة في "قصة ذي الصوت النحيل" تتأذى كثيراً من نظرات الآخرين:

«أنا حاولت كثيراً أتجنبهم وقعدت على طول في البيت عشان ما أقابلشي حد فيهم طالع السلم واللا في الأسانسير. أصل لما حد منهم كان يبص لي كنت بحس أني بغرق وغرقان لشوشتي في نار سوده جوه عينين ثابتة زي عينين الميتين» (ص36(.

وفي أكثر من قصة من قصص المجموعة يستعمل الراوي العبارة الشعبية "عيني عينك" كناية عن وضوح الإحساس أو السمة، كما في قصة "الأورطي". وفي قصة "هذه المرة" يتسرب شكُّ إمام في زوجته سهير من خلال النظرة: «وكلما التقينا كانت تحدث هذه الالتماعة، في عينيها وفي عينيه، حتى لكأن شرارة تحدث»)ص72(. ومن عيني الطفل فهمي في "لغة الآي آي" كان يطل «الذكاء النفاذ والقدرة المعجزة على الإدراك» بينما أضحى اليوم وقد أصيب بالمرض الخبيث الرجلَ "المنطفئ العينين")ص90(.

لكن الراوي لا يعتبر النظرة سبيلاً حاسماً لتحقيق المشاركة الوجدانية الكاملة ولا العين قادرة وحدها على سبر الأغوار الإنسانية. ولنا أن نتذكر في هذا المقام إشارة الراوي في "قصة ذي الصوت النحيل" إلى أن «شكسبير في روايته بيقول العين ترى كل شئ ولا ترى نفسها». لكن الراوي إذ يقر بقصور نظرة العين يعلي من اللازمة القصصية الأخرى المسماة بـ"التفاهم بالإحساس" التي سنعرض لها لاحقاً.

7. التفاهم بالإحساس
إذن النظرة وحدها ليست كافية لتحقيق التواصل الإنساني التام بين الشخصيات. في مقابل ذلك اعتمد الراوي لازمة "التفاهم بالإحساس" في بسط وتفسير عديد من عقد ومشاكل قصصه. منها "حالة تلبس" و"فوق حدود العقل"، و"الورقة بعشرة"، و"معاهدة سيناء"، و"قصة ذي الصوت النحيل"، و"الزوار"، و"هذه المرة" و"صاحب مصر".

في قصة "هذه المرة" يعرّف الراوي "التفاهم بالإحساس" بقوله:

هو «ذاك الالتحام الشامل الذي ـ يجعلك تفهم الآخر وتحسه ربما قبل أن تفهم نفسك أو تحسها، تفاهُم بالإحساس يتم بالتأكيد قبل أن يتم التفاهم بأي لغة أخرى حتى لو كانت لغة العين والنظر، إنه تشابك الأفرع والأغصان والأوراق وتداخلها في شجرة إحساس واحد مسيطر، حالة لا يزيدها البعد إلا حدة، والحرمان إلا شحذاً ومقدرة، وكلما ازداد الطرفان بعداً، اقتربا وأصبحا أكثر تشابكاً.. فانفصال أيهما عن الآخر في الزمن أو المسافة لا يُبعد ولا يَعزل ولكنه يقرب يكثف ويربط»)ص77-78(.

يتم التفاهم بالإحساس بين طرفين يكونان على حافة الاختلاف أو التباين؛ إما على مستوى العمر، أو المنصب، أو المزاج، أو الجنس، أو القرابة، أو الأمة: العميد والطالبة، المريضة التي تزار وتلك التي لا تزار، الروسي والأمريكي، رجل العهد القديم والمجتمع الجديد، زوجة وزوجها، الأخ وأخوه، السجين والطليقة، المريض والسليم، الصبي البريء والأم الخائنة، الكذاب وضحاياه، الطيب القلب والشخصيات المهدِّدة.

هي إذن ثنائيات يعمل الراوي على تجاوزها في نهايات القصص بواسطة لازمة "التحول".

8. الصرخة
لا تخلو "لغة الآي آي" من الصرخات ومرادفاتها. صرخة الغضب. الصرخة المكتومة. صرخة الكبت الطويل. عواءات الغيرة، وعويلها. ثمة حتى زعيق الماضي وعواؤه كما في قصة "صاحب مصر". وهناك أيضاً "الصوت الحاد واللافح" وصراخ الليل الذي يوقظ الجيران. بيد أن الصراخ الرهيب هو ذاك الذي هيمن في قصة "لغة الآي آي" وجعل الدكتور الحديدي يقف حائراً ممزقاً بين صرخات المريض الخطير وصرخات الزوجة الرافضة للموقف برمته. ها هو المريض يصرخ: «آي، آي، آي، آي طويلة وقصيرة، ممدودة ومبتورة، عالية بكل قواه يرفعها، منخفضة بجماع إرادته يخسفها، مجروحة دانية، لاسعة كالنار في العين، كاوية كصبغة اليود في الحلق. حارقة كآثار الحامض المركز»(ص86-87(.

وها هي الزوجة تصرخ أو تستعد له: «فتحت الزوجة فمها تصرخ في هوس من تأكد قولها، وانتظرت أن تنتهي الصرخة لتطلق صرختها هي، ولكن انتظارها طال، وبدأت رغماً عنها تسمع، ومن الذهول استمر فمها مفتوحاً وأذناها بأمر قوة قاهرة تصغيان، ثم بدأت ترتجف وتقترب من زوجها وتمسك بيده لتوقف الرجفة، ونفس اللحظة التي كانت قد قررت فيها أن تطلق لفزعها العنان وتستغيث صارخة، انتهت الصرخة فجأة وكأنما انكسر الجهاز الذي يُصدرها»)ص87(.

عندما ننهي قراءة مجموعة "لغة الآي آي" تظل تطن في آذاننا أصداء الصرخات وسورات الغضب. ذاك هو مجتمعنا.. مجتمع الصرخات لا مجتمع الهمسات. وقد تظل صرخات المجموعة تضج في أذنيك طوال العمر مثلما ظلت بالنسبة إليّ.

9. التـحـول
هو لازمة قصصية شبيهة بتلك التي رصدها أرسطو في نظرية التراجيديا. والتحول عنده ناتج عن التعرف ومصاحب له. والمقصود به ذاك التحول الذي يطرأ على الشخصية جراء احتكاكها بالطرف الآخر في المشكلة أو تفاعلها معه إن سلباً أو إيجاباً. ويعول راوي "لغة الآي آي" على التحول في تكوين القصة، ويرجئه إلى ما قبل نهايتها حسبما هو منتظر منطقياً. ويكون التحول في مطلق الحالات نفسياً، وخلاله تتحقق لازمة "التفاهم بالإحساس".

وقد سبقت الإشارة إلى المصدرين اللذين يُحتمل أن يكون يوسف إدريس قد استلهمهما في تعميق تشريحاته النفسية، وجمعناهما في كتب التحليل النفسي وتجربة المؤلف بوصفه طبيباً نفسانياً. ومن المعروف في سياق هذا المصدر الأخير أن الكاتب أو الطبيب المختص يقترح على المرضى حلولاً عملية وعلاجاً للأمراض انطلاقاً من طبيعة المرض ذاته. بمعنى أنه يشحن المريض وينبهه إلى أن حل عقدته أو مشكلته النفسية يكمن في "تحويل" المرض إلى قوة، وتبديل الفكر الإيجابي بالسلبي، والانغماس في عوالم الآخرين وعدم الفرار منهم والتقوقع في العزلة؛ اعتماداً على الإيحاء الذاتي.

في قصة "صاحب مصر" يشخص الراوي تفاصيل العلة قبل أن يحصل "التحول": «لم يفكر أبداً في الحط من شأنك حتى بينه وبين نفسه لكي يثبت لها مثلما يحلو للبعض أن يفعل أنه أحسن منك، أنه لشيء رائع ومحير ومثير للخوف أن تدرك أن كل هذه الصغائر التي يقضي بعضنا تسعة أعشار أعمارهم يلوكونها في عقولهم ويقيدون بها قدراتهم.. ويلوثون بها ضمائرهم، وطبيعتهم الإنسانية التي تخلق نظيفة حساسة، هذه الصغائر كلها لا محل لها في عقل عم حسن العجوز»(ص158).

يحصل التحول في قصص "لغة الآي آي" فجأة، لكن قبل أن يكون الراوي قد قدم مجموعة من التفصيلات والاعتبارات الدقيقة الضرورية من أجل التكوين القصصي المقنع. حصل ذلك في قصة "حالة تلبس" حيث انقلبت أعماق العميد من حال إلى حال بتأثير عناصر إنسانية معقدة. كما حصل بنفس الخطة في قصص "الزوار"، و"هذه المرة" و"لغة الآي آي"، و"فوق حدود العقل" وغيرها.

يمكن إذن أن نتحدث، في سياق بلاغة المجموعة، عن اللمحة الإنسانية الدالة والعميقة التي تكون وراء "التحول" الذي يطرأ على الشخصية الرئيسة أو الحدث الرئيس.

10. المفاجـأة
هي لازمة معروفة في القص الشعبي، ومعتمدة في الكتابة القصصية العربية عموماً وسائر القصص الكوني. ولا نستبعد أن نعثر في المجموعة على مثل هذه العبارة ذات الصلة بشخصية صلاح في قصة "ورقة بعشرة":

«مرت الأيام وهو دائب الإحساس إنه يذوب ويذوب، ويفقد ذاته ونفسه، حتى فوجئ ذات يوم بشيء استغرب له جداً»(ص42).

في كل قصة من قصص "لغة الآي آي" تحضر لفظة المفاجأة أو أحد مشتقاتها، بل إنها قد تحضر ثلاث مرات في سطر واحد: «وفوجئ حين وجدها تنخرط فجأة!!. لا ليس فجأة»(ص46).

مثلما وردت ست مرات في صفحة 146.

والمفاجأة قصصياً ليست هي المصادفة وإن كانت لها بها صلة سردية. إن المفاجآت قد تتضمن قدراً من تبرير الحدث أو تعليله عكس المصادفة التي يندر حضورها اللفظي في مجموعة يوسف إدريس. ونفترض أن التعليل الذي يعتمده راوي "لغة الآي آي" في مفاجآته يكمن في التشريح الدقيق لنفوس الشخصيات واستحضار السمات الواصفة بغزارة شديدة شبيهة بما يرد في المقالات العلمية. وهو إذ يتصدى بذلك إلى إيراد قدر بيّن من مواصفاتها الطبّية يسد في الوقت ذاته الثغرات الفنية التي قد تتسرب إلى التكوين السردي. لذلك تَفْـقد "مفاجأةُ" المجموعة قدراً كبيراً من فجائيتها وتُنقذ بذلك قصصها من الإسفاف الجمالي.

المفاجأة في "لغة الآي آي" لا تعني الانقلاب المادي الجذري وإنما قد تكون تحولاً نفسياً بسيطاً في ظاهره لكنه خطير في تبعاته الدلالية والإنسانية.

وقد تجتمع لازمتا المفاجأة والتحول قبيل نهاية القصة كما في "الزوار": «في ومضة مفاجأة اكتشفت مصمص أن سكينة لا يأتيها زوار ولا ينتظر أن يأتيها أحد». لذلك تراجعت عن توبيخها(ص24).

تسري روح المفاجأة في العبارة القصصية ليوسف إدريس. هي بعضٌ من بلاغته أو حتى فلسفته في السرد. وليس من الضروري أن تحمل هذه اللازمة القصصية دلالات درامية. وإنما قد تعني السمةَ الإنسانية التي تباغتك من دون أن ترجك رجاً ومن دون أن تجعلك تعيد النظر الكلي في الشخصية التي يكون الراوي بصدد تشريحها أمام عينيك. في قصة "الأورطي" يقول عن عبده البكاء الكذاب الحراميّ: «فجأة تجده أمامك يذوب ويختفي وتلتهب غيظاً».

بذلك تكون المفاجأة سمة منغرسة في عبارات يوسف إدريس مثلما هي منغرسة في التكوين الإنساني للشخصية القصصية ذاتها.

11. الحـكـمـة
هي خلاصات فكرية مصاغة في جمل قد تقصر أو تطول حتى تتخذ شكل الفقرة التي تنبع في المجموعة من بين ثنايا التشريح النفسي والأحاسيس المصورَّة. والحكمة في مجموعة يوسف إدريس ليست كثيفة الأسلوب أو شاعرية بالضرورة، لكنها في مقابل ذلك يمكن استشرافها بسهولة في وسط سهول السرد والتشريح كأنها جزر معزولة، أو كأنها واحات يتوقف الراوي إزاءها لكي يسترد بعض أنفاسه بوقار ورزانة ملحوظين. انظر إليه يزاول مثل ذلك بين مشاهد العذاب في "لغة الآي آي": «إن الإنسان جُهز بتركيبه وأحاسيسه لحياة خاصة تسمى الحياة الجديرة بالإنسان، وهو لا يستطيع أن يخرج عليها ويحياه حياة من صنعه هو ومن ابتكاره إلا وهو يتألم وآلامه تتضاعف، ولقد قسا العمر كله على طبيعته وكتم نداءات الأعماق المطالبة بمتع الحياة الصغيرة العادية التي تعطيها طعم الحياة. قسا عليها ليجبرها أن تحيا بمفردها»(ص102-103).

وانظر إليه بعد ذلك كيف يمزج في نفس القصة بين الأسلوب الحكيم وسمات الشخصيتين الأساسين دونما فصل فيما بينهما، منتقلاً من الشخصية إلى سماتها كأنما على سبيل بلاغة الالتفات: «الخطأ الفادح الذي يدركه الآن، وعلى الضوء الباهر الصادر من أعماق فهم إلى أعماقه يراه، أن الوصول لا قيمة له بالمرة إذا وصلت وحدك، أية قيمة أن تصبح ملكا متوجا أو عالما حاصلا على جائزة نوبل، وأنت محاط بصحراء جرداء، أية قيمة لأي شيء في الدنيا، للمتعة نفسها أن تحس بها وحدك؟»(ص105).

ولأسباب شخصية قبل أن تكون فنية لا أعتبر حِكم يوسف إدريس من قبيل الاستطراد نظراً إلى أنها نابعة من صدق الرؤيا، ودقة التفاصيل الإنسانية المشرحة، إضافة إلى حسن اختيار الزاوية التي "يلتقط" منها الراوي مشكلة قصته.

الحكمة إذن تينع وسط ذلك الحقل السردي المنسجم المتسق الأطراف. وإلا هل ثمة من سبيل لكي نسم الحكمةَ الآتية الواردة في قصة "حالة تلبس" بكونها استطراداً أو تصنعاً مقحماً: «المشاكل التي نخلقها حين نفتقر إلى التفاؤل والتفاؤل هو الإرادة، وبالإرادة القوية تصبح الحياة كالبساط الممهد، بساط الريح.. عش واضحك وامرح واطلب القمر يأتيك.. أرده إرادة قوية حقيقية يأتيك.. وكلّه.. كل ما في الحياة آت لا ريب فيه»(ص13).

هذا كلام الراوي عن عميد الكلية السوهاجي القديم الذي أنسته الدنيا والترقيات الإدارية نفسه، ثم استطاعت أن تعيده إليها طالبة تدخن في الفناء بكل حرية وانتشاء.

12. القصة تكاد تقول كل شيء
قَصُّ يوسف إدريس يعرّي، ويكشف، ويفضح دونما مواربات كثيرة ولا رموز مكثفة. لذلك اقترن اسمه في عقد الستينات من القرن الماضي بالأدب الواقعي الملتزم. وهو بهذا النهج التعبيري يختلف عن عديد من زملائه المصريين الرواد.

يراهن راوي مجموعة "لغة الآي آي" على الوضوح وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية. يسمي البلهارسيا بلهارسيا، والبرانويا برانويا، والاكتئاب اكتئابا،ً والهستيريا هستيريا، والجنون جنوناً. هي عُقد وعلل إنسانية مصورة في قوالب قصصية. عديد من دلالاتها يمكن رصده وحتى إحصاؤه وحبْسه في ترسيمات. لكن على الرغم من كل بلاغة الوضوح والتعرية يظل ثمة قدر من الدلالات المستعصية تنتظر الاستشراف وحتى الإدراك. ويبدو أن يوسف إدريس يراهن، عن وعي، على ذلك القدر الغائب من الدلالات المحتملة أكثر مما يراهن على الاحتمالات المباشرة المدونة على الورق، القابلة للتأويل الميسور. وتلك هي خطة التصوير الواقعي المضلل. إن وراء التشريح النفسي والتعرية في "لغة الآي آي" لازمة سماها الراوي "التفاهم بالإحساس". ونفترض أن ذاك هو بيت القصيد الذي تتطلع إليه المجموعة وكاتبها نفسه. في تلك اللازمة تكمن الدلالات الغائبة المحتملة التي يمكن أن تُحدس أو تستشرف بالمشاركة الوجدانية أكثر مما يمكن أن تدرك بالعقل. يقول راوي قصة "هذه المرة": «الكارثة في هذا الإحساس الذي لا يناقش، كالحـُكم الذي لا نقض له ولا راد، كالأمر الواقع، إحساس غير خاضع لمنطق أو فكر، لكن له قوة أعتى من المنطق والفكر»(ص81-82).

هناك تكمن بلاغة يوسف إدريس وسر إبداعه: المضيُّ الواقعي الواطئ عبر السبيل الميسور، بينما الغايةُ البعيدةُ تلك الدلالات المستعصية.

واضح أن جزءاً كبيراً من السرد المعاصر يبدأ بالمراهنة على الدلالات المستعصية ولا يكاد يلتفت أثناء القص إلى ذلك السبيل الميسور. من هناك ينبع الفرق الشاسع بين هذين النمطين من الكتابة القصصية اليوم؛ نمط يوسف إدريس ونمط ما بعد الحداثة.