أصبح مهرجان أفينيون المسرحي، الذي ينعقد كل عام في شهر يوليو/ تموز في هذه المدينة التاريخية العريقة، وبحق أهم مهرجانات أوروبا المسرحية السنوية. لأنه باستمراره ـ فدورة هذا العام هي دورته السابعة والستين حيث ولد عقب الحرب العالمية الثانية مباشرة ـ وتراكم خبراته، وتطوير طموحاته، وارتياده المستمر لأصقاع جديدة من التجريب الفني وبرمجة الأنشطة الثقافية، تحول إلى مهرجان أوروبي بل وعالمي بلا منازع. تفد إليه، أو بالأحرى تدعى إليه فالاختيار الدقيق من أسرار نجاح المهرجانات، أهم الفرق المسرحية الأوروبية، وأهم المغامرات المسرحية الجديدة في أوروبا في المحل الأول. فضلا عن اهتمامه بأبرز إنجازات المسرح المتميزة في الكثير من الثقافات غير الأوروبية، بما في ذلك الثقافة العربية بالطبع، وإن على نطاق ضيق.
ففي المرجان الرسمي هذا العام 41 عملا مسرحيا يعرض كل منها لأكثر من مرة، وأحيانا لأكثر من عشر مرات في أسابيع المهرجان الثلاثة، و21 مسرحيا من مختلف بقاع العالم في قسم «فنانون ليوم في المهرجان Des Artists un Jour au Festival» يقدم كل منهم لقاءًا أو ورشة عمل، وعملا ممثلا لمنهجه الإخراجي ولتصوره لجماليات العرض المسرحي، يعرض لمرة واحدة، في نوع من تجسيد الرؤى النظرية في التطبيق. فضلا عن اللقاءات المفتوحة مع عدد من ضيوف المهرجان، ومع مخرجيه المشاركين. ثم هناك أيضا برنامج «مسرح الأفكار Le Théâtre des Idées» الذي يستضيف هذا العام تسعة من أعلام الفكر المعاصر في مجالات الفلسفة والتاريخ وعلم الجمال وعلم الاجتماع يناقش كل منهم ضمن ندوة أو لقاء مفتوح، مع محاور متخصص أولا، ثم مع الجمهور، أحد القضايا المهمة في الوقت الراهن. فهناك ندوة بعنوان «كيف نخرج من الأزمة الراهنة» يشارك فيها المنظّر الأدبي إيف سيتون، والمتخصص في فلسفة الفن جورج ديدي هوبرمان، تتناول كيفية الخروج من خطاب التدهور السائد، والبحث عن منطق في شتات فكر الشباب ورؤاهم، وعن جماليات آداب القرن الجديد وفنونه التي تتبلور وسط هذا الشتات. وأخرى بعنوان «أفريقيا ومستقبل العالم» يشارك فيها الأنثرولولجي جان فرانسوا بايارت والمؤرخ آخيل ممبا والفيلسوف جوزيف توندا، عن الإرث الأوروبي الفادح في أفريقيا وأثره على حاضرها الاجتماعي والسياسي ومستقبلها. وثالثة عما «ستؤول إليه أزمة الضواحي الفرنسية» والتي تشهد على عمق الفجوة الاجتماعية والثقافية المنذرة بالخطر في قلب المركز الرأسمالي ذاته، يشارك فيها عالما الاجتماع ميشيل كوكوروف وديدي لابيروني. ورابعة عن «أي مقاومة ثقافية» يشارك فيها الفليسوفان فابيان بروجير وبولين كولونا داستريا، تتناول الفكر الرديكالي الجديد في استشرافه لنظام دولي مغاير، وتأكيده لمفاهيمه الجديدة حول دور المثقف في صياغة خريطة التفكير الجديدة في متغيرات العالم، وبلورة خطابها النقدي. بالإضافة لحوار بعنوان «كيف نفكر في الخلل الجديد في النظام العالمي» مع المؤرخ الأفريقي آخيل ممبا عن كيفية مواجهة فكر ما بعد الاستعمار للخلل البنيوي في نظام العولمة الراهن.
أفريقيا: قضاياها وإطلالة على مسرحها:
والواقع أن وجود ندوتين في «مسرح الأفكار» عن أفريقيا يتسق مع تركيز مهرجان هذا العام على المسرح في أفريقيا، وعلى قضاياها المختلفة. حيث يستضيف المهرجان كل عام مخرجين يدعوهما بالمخرجين المشاركين Associate Directorsويتيح لكل منهما تقديم أكثر من عمل، يكون أهمها في أفضل فضاءات المهرجان، حيث يتقاسمان عادة فضاء المهرجان الأكبر وهو«ساحة الشرف في القصرالبابوي» التي تتسع لأكثر من ألفي متفرج. فيقدم كل منهما عمله فيها لعشرة أيام. وكان مخرجا هذا العام هما الفرنسي ستانيسلاس نوردي Stanislas Nordey الذي سأتناول عرضه الرئيسي بعد قليل؛ والكونجولي (من الكونغو برازافيل) دييدونيه (عطية الله) نيانجونا Dieudonné Niangouna. وقدم أولهما عرضه في ساحة الشرف، بينما آثر الثاني أن يقدم عمله الكبير في «محجر بولبون» الشهير الذي كرسه المخرج الانجليزي الكبير بيتر بروك صاحب كتاب (المساحة الخالية) الشهير كفضاء مسرحي متميز، قبل أكثر من ربع قرن، حينما أصر عام 1985 على عرض عمله المسرحي الكبير عن الملحمة الهندية (المهابهاراتا The Mahabharata) فيه والذي استغرق عرضه به نحو تسع ساعات.
وهو فضاء مسرحي يتسع لما يربو قليلا على ألف مشاهد، ويعد الفضاء الثاني بعد ساحة الشرف من حيث مكانته في تراتبات فضاءات العرض في أفينيون. قدم فيه نيانجونا وهو كاتب ومخرج مسرحي كون فرقته الخاصة في برازافيل عام 1997، عمله الرئيسي (شيدا Shéda) وهو عمل شبه ملحمي استغرق عرضه أكثر من أربع ساعات، وكان من أوائل العروض التي شاهدتها في مهرجان هذا العام. عمل يقطّر فيه نيانجونا خبرته المسرحية في معالجة الحياة اليومية المحيطة به في الكونغو، والقبض على إيقاعاتها التحتية الخاصة، واستخدامها لخلق جماليات مسرحية جديدة. تختلف عن تلك التي كرستها الحركة المسرحية في بلده منذ الاستقلال، والتي تعد كما هو الحال في جل البلدان الأفريقية استمرارا لتقاليد المسرح الغربي الذي أرساه المستعمر الفرنسي بإخلاصه للمبالغات التمثيلية، والإلقاء التهويلي المفخم الذي يذكرنا في مصر مثلا بطريقة يوسف وهبي في التمثيل. وواصلت الحركة المسرحية الكنجولية الإخلاص له بعد استقلالها. إذ انطلقت تجربة نيانجونا من تحدي تقاليد هذا المسرح بالقطيعة معها، وبلورة لغة وأجرومية مسرح مابعد الاستعمار الكنجولي الذي يسعى لصياغة لغته المسرحية المغايرة التي تستخدم الفرنسية، وتطعّمها في الوقت نفسه ليس فقط بمفردات من اللغة الإيارية Iari وهي أبرز لغات الكونجو الشفهية، ولغة المخرج الأصلية، ولكن أيضا بالكثير من الأقنعة الإقريقية واستراتيجيات فنون العرض والفرجة الأفريقية الكونغولية. مما يذكر القارئ العربي بشيء مما حاول أن يفعله يوسف إدريس في (الفرافير)، وسعد الله ونوس في استلهاماته لمسرح الحكواتي بعده.
وتتجسد الكثير من هذه التقنيات والجماليات المسرحية في عرضه الجديد الذي يقول أنه ظل يجتر مشاهد منه طوال 11 عاما، وظل يعمل على تركيب صوره التي ظلت تخايله بين الفينة والأخرى طوال تلك المدة، وظل يكتب مقاطع منها، ويبحث عن ماضي ما يخايله فيها من مشاهد وصور، كي يفهم ما جرى له، وما جرى لبلده. لأن المسرحية في مستوى من مستويات تلقيها هي مجموعة من الحكايات المتجاورة والمتداخلة والمتقاطعة التي يمتزج فيها العنف بالحب، والحيرة باليقين، واليأس بالأمل، والحكمة بالجنون، والواقع بالخيال، والماضي بالحاضر؛ وتتكون من فسيفسائها ومواقفها المتجاورة والمتحاورة حكاية هذا العمل الملحمية، ومواجهاته الدامية بين الشخصيات. أو بالأحرى حكاية الكونجو مع القهر والحروب الأهلية منذ الاستعمار وحتى اليوم. وهي في الوقت نفسه ملحمة الحياة في الغابة الاستوائية الأفريقية وبحث إنسانها المستمر عن الماء في عالم يجثم عليه الجفاف المادي منه والمعنوي على السواء. ويرزح تحت ثقل الماضي وما اقترفه الأسلاف من أخطاء، لابد أن يدفع الأخلاف/ الأبناء ثمنها الفادح.
وقد استخدم نيانجونا فضاء المحجر الشهير بطريقة خلاقة. فقد سبق أن شاهدت أكثر من عمل في هذا المحجر، كان آخرها ثلاثية «نساء سوفوكليس» التي قدمها المخرج اللبناني الكندي الموهوب وجدي معوّض فيه قبل عامين. ولكن نيانجونا أحال الكثير من صور لغته الأم المتوهجة بالألوان والحركة إلى مشاهد تنبجس من قلب هذا الفضاء المهيب الذي تحيط بخشبته عن بعد جدران المحجر التي قدّت من الصخر، وتركت عليها معاول الإنسان وعذاباته في التحجير بصماتها، فتتحول الأحجار تحت وقع اللعب بالإضاءة وتقنيات الفيديو الجديد إلى صور وأشباح طالعة من أدغال افريقيا وجبالها. وتتداعى في فضائه الرحب أصداء أصوات الأسلاف وأشباحهم طالعة من بين ثنايا الجروف الحجرية، وقد دبت فيها الحياة، حين تخطر على بال الشخصيات التي تعتقد في وجودها وقواهاالسحرية من ناحية، أو تظهر خيالاتها في أحلامهم التي تستشرف عبرها المستقبل من ناحية أخرى، حتى ولو اتخذت تلك الأحلام طابعا كابوسيا كما هو الحال في أكثر من جانب في المسرحية.
وكان لنيانجونا في مهرجان هذا العام، فضلا عن هذا العمل المدهش بصريا وحركيا، خمسة أعمال أخرى في فضاءات متعددة، أحدها مع المخرج المشارك الآخر ستانسيسلاس نوردي، لأن أحد أهداف المهرجان هو اتاحة الفرصة لمخرجيه للمثاقفة وتلاقح الخبرات؛ وآخر مع المخرج الفرنسي جان بول ديلور، وعملان عن نصين له، ثم عمل أخير كان عملا من الرقص الحديث. في نوع من تقديم كل إمكانياته في الكتابة والإخراج وتصميم الرقصات لجمهور المهرجان. حيث يستضيف المهرجان المخرج الأجنبي المشارك لمدة عام، ويتيح له في نوع من المثاقفة الفعالة أن يعمل مع أقرانه من المخرجين، الفرنسيين خاصة، في نوع من تلاقح التجارب وحوار الخبرات، التي تثري المسرح الأوربي وتفتح أمامه آفاق جديدة، بقدر ما تثري تجربة المخرج المستضاف.
لكن نيانجونا لم يكن المسرحي الأفريقي الوحيد، فقد دعا المهرجان، مسرحيا كنجوليا آخر، سبق له أن كان مخرجا مشاركا فيه قبل عامين، ولكنه هذه المرة من الكونغو كينشاسا أو زائير: وهو فوستين لينيكولا Faustin Linyekula. قدم في باحة «دير السيليستين»، وهي أحب فضاءات أفينيون المسرحية لي، ليس فقط لعراقة الدير وبساطة مبناه، ولكن أيضا لأن في باحته المفتوحة التي ينصب فيها المسرح شجرتين معمرتين مهيبتين تضفيان على الفضاء المسرحي جوا سحريا، وتجلبان بعمرهما المديد ومهابة المبنى العتيق وطأة الزمن على كل ما يدور فيه، عرضا جميلا من الرقص الحديث بعنوان (طبول وحفْر Drums and Digging) سعى فيه إلى خلق لغة جسدية وحركية قادرة على استيعاب رحلته من الصبا، حيث شاهد أولى الرقصات الأفريقية المحرمة، وحتى النضج وبناء عالمه الخاص وفرقته المسرحية، والبحث عن لغة تعبيرية جديدة، وعن كيان وهوية فنية معا. وقد استطاع العرض أن يطوع استراتيجاته الحركية والمرئية معا لجماليات الفضاء الذي يعرض فيه، وأن يلجأ للبساطة والاعتماد على غناء الراقصين وتطويع أجسادهم للغة الرقص الحديث الجديدة التي بلور لينيكولا أجروميته الخاصة فيها، والقادرة على الانتقال بنا من سيولة الحركة في الغابة والتعامل بعفوية وتلقائية مع الطبيعة، إلى انضباط التشكيلات والتكوينات الحركية والجسدية التي تفرضها المدينة بقوانينها الصارمة على كل من يفد إليها. ومن سلاسة الحركة أثناء زمن السلم، إلى توترها وعنفها إبان اندلاع الحروب الأهلية التي مزقت بلده.
ويقدم عمل لينيكولا تنويعه الخاص على مسرح مابعد الاستعمار، بنزعته إلى تأسيس لغة مسرحية مغايرة للغة مسرح المستعمر القديم من ناحية، وتفكيك تجربة ما بعد الاستعمار، وكيف تتغلغل جل استراتيجيات الاستعمار المراوغة في واقع ما بعد التحرر منه. إذ استطاع لينيكولا أن يخلق في هذا العمل الجديد نوعا من التزاوج بين لغة الرقص الحديث واستراتيجيات المسرح التعبيري والتمثيل الإيمائي التقليدي في موروثات الفرجة الشعبية ليقدم لنا دراما الكونغو/ زائير التي دمرتها الحروب، ولم تعرف حقيقة استقلالها الحقيقي عن المستعمر إلا في فترة لومومبا القصيرة، والتي سرعان ما انقلب عليها عملاء الاستعمار البلجيكي القديم فيها. وكيف أن الجيل الذي ينتمي إليه والذي عاش فيها عبر العقود الأربعة الأخيرة لم يعرف حقيقة الراحة أو التحقق. لأن زائير ظلت واقعة في قبضة الاستعمار القديم/ الجديد، والذي تمثله دمية صغيرة لعجوز أوروبي في حجم صبي في السابعة من العمر، تظل جالسة على الدكة التي بدأ منها العرض في أقصى يسار الفضاء المسرحي، بصورة تبدو معها هامشية ولا قيمة لها، ولكن إحدى الشخصيات تلفت مع الإضاءة وبها نظرنا لها أكثر من مرة أثناء العرض. وكأنها الراعي غير المنظور للاضطرابات والحروب الأهلية بين الفينة والأخرى، والتي تتغيا أن تبقي الكونغو زائير متخلفة وتابعة. مما وسم العمل بقدر من الدائرية، التي لا تتيح لإنسان زائير أن يتخلص من العنف، إلا ليسقط في دوامته من جديد.
ومن أغرب مفارقات العرض وأكثرها دلالة على واقع ما بعد الاستعمار وتناقضاته المرّة، أن أحد أفراد الفرقة، ومغنيتها الرئيسية، تنتمي لعائلة موبوتو، ويشير البرنامج إليها باعتبار أنها من نبلاء الكونغو برغم كل ما نعرفه عن فساد نظامه وتبعيته ومصدر ثرواته الحرام. لكن المهم أن لينيكولا استطاع أن يخلق معادلا حركيا لرحلة فرقته/ التي يحيلها العرض إلى استعارة لرحلة بلده/ مع التحقق من خلال التعاون مع مصمم المناظر الألماني باربل موللر الذي صمم حزمة بسيطة من الخشب، توشك أن تكون معادلا جماليا حديثا لحطب الغابة، استخدم بعض أجزائها الراقص الرئيسي في التعبير عن العبء الذي ينوء تحته، ولكنها سرعان ما تحولت حينما ركب الراقصون أجزاءها، وربطوا بينها بمسامير كبيرة إلى هيكل رمزي للفرقة التي بنوها، أو لأي بناء أو مشروع بنته الكونغو عبر مسيرتها المتعثرة منذ الاستقلال، واستطاعت عبره أن تحقق ما تصبو إليه من أصاله. لأن العرض الذي دار طوال الوقت بملابس سوداء بسيطة، ينفض تلك الملابس عن أجساد راقصيه، ويلبسهم ملابس أفريقية جميلة ومزركشة لأول مرة، بعد بناء هذا الهيكل الرمزي. ولكنه سرعان ما يخلع عنهم هذه الملابس ويلقيها في داخل بنيانه الرمزي، ثم يرتد بهم من جديد لمزيج من العري والملابس السوداء، رمز العودة من جديد للصراعات والحروب. وقد تمكن هذا العرض بحق من أن يحكي لنا من خلال كلمات بالغة الكثافة والتركيز، وبقليل من الأغنيات، وقدر محسوب بعناية من إيقاع الحركة وتشكيلات المشهد الحركي البصري، قصة مسيرة الكونغو المتعثرة صوب التحقق.
وبالإضافة إلى هذين المخرجين، كانت هناك عدة عروض أفريقية أخرى لفرقة ثانية من الكونغو برازافيل هي فرقة ديلا فاليه بيديفونو Dela Vallet Bidiefono التي قدمت عرض (فيما وراء Au-Delá) الراقص في دير السيليستين أيضا، وفرقة نيجيرية يقودها المسرحي ومصصم الرقصات كودوس أونيكيكو Qudus Onikeku قدمت عرضا بعنوان (قادش Qaddish). وثالثة من بوركينا فاسو بقيادة أستريد تارناجدا Astride Tarnagda قدمت عملا بعنوان مثير (وإذا ما قتلتهم جميعا سيدتي Et si je tuais tous Madame?). لكن أكثر تلك العروض الأفريقية اثارة للتفكير، ومغامرة مع لغة العرض المسرحي كان العرض المسمى (ملائكة لاجوس من رجال الأعمال Lagos Business Angels) وهو العرض الذي قدمته فرقة ريميني بروتوكول Rimini Protokoll الألمانية التي تتكون من ثلاثة مسرحيين عملوا معا منذ تخرجهم من معهد المسرح الألماني في جيسين Giessen على خلق مسرح تجريبي جديد يعمد إلى محو الخيط الفاصل بين الواقعي والفني، وبين الوثائقي والمخترع، وبين التمثيل والمشاركة في التجربة المسرحية.
وتسعى تلك الفرقة لتقديم مسرح يرهف وعي المشاهد بما يدور في هوامش العالم من حوله خلال المشاركة فيما يقدمون له على الخشبة، بعيدا عن تقوقعه على مركزيته الأوروبية. وقد سبق لي أن شاهدت لهذه الفرقة التي جاءت بعرضين مختلفين لمهرجان هذا العام، عرضا سابقا في أفينيون بعنوان (الأذان بالراديو Radio Muezzin) عام 2009 استقدمت فيه خمسة مؤذنين محترفين من مختلف أنحاء مصر ليعرضوا علينا قصتهم مع الآذان أولا، ومع اقتراح وزير الأوقاف وقتها توحيد الأذان وإذاعته من الراديو في ميكروفونات المساجد المختلفة، كي يجهز على التلوث الضجيجي والقبح الصوتي الذي تحدثه الكثير من أصوات الآذان المنفرة. لكن الإسلامجية أفشلوا مشروعه وقتها. وقد حكى كل منهم تجربته بلغته على خشبة المسرح، وكيف تعتمد حياته على الآذان، وكيف احترفه، وكيف أن توحيد الأذان سيدمر حياته المستقرة إلى حد ما. بينما حكى الأخير الذي كان من الحفنة القليلة التي نجحت في اختبارات الصوت للأذان في الراديو تجربته المختلفة، التي وفرها له تعليمه وجمال صوته معا.
وقد انطلق عرضهم الأفريقي ـ فلم أشاهدهم عرضهم الآخر في مهرجان هذا العام والمسمى بـ(أفينيون النائية Remote Avignon) الذي يجوبون فيه بالجمهور مناطق متعددة من المدينة يعيدون معهم اكتشافها ورؤيتها بعيون بكر ـ هذا العام من تنبؤ بسيط أعلنت فيه مؤسسة الائتمان الدولية الأمركية الشهيرة «جولدمان ساكس» أن نيجيريا ستصبح واحدة من أقوى عشر اقتصادات في العالم بحلول عام 2050. فذهبت الفرقة إلى نيجيريا للبحث عن الحقيقة الكامنة وراء هذا التنبؤ، والتعرف على طبيعة الفرص الاقتصادية المتاحة فيها، والتي ستؤهلها لأن تكون بحق أحد العشرة الكبار بعد ثلاثة عقود من الزمان. وجلبت لنا سبعة من رجال الأعمال النيجيريين أو من العاملين في المجالات الاقتصادية المتنامية، وثلاثة من الأجانب الذين يستثمرون في نيجيريا أو يعتمد نشاطهم الاقتصادي على سوقها. وعلى العكس من عرض (الأذان بالراديو) الذي دار كله أمامنا على خشبة المسرح في نوع من الأصوات المتقاطعة والمتجاورة التي تتشكل عبرها أجزاء الصورة وتتخلق الدراما، فإن عرض (ملائكة لاجوس) طوّر تقنيات العرض، وعزز درجة مشاركة الجمهور فيه، وحوله إلى عمل بالغ السيولة.
لأن الجمهور احتجز خارج المبنى الذي يدور فيه العرض في طابور طويل لم يفتح له بابه إلا قبيل العرض بدقائق معدودات، سمح فيها بدخول كل عشرين متفرج على دفعات، وكان هناك مرشد/ة يمنح كل منهم لتلك المجموعة الصغيرة من المشاهدين شارات بلون محدد ويقودها لموقع من المواقع التسعة التي يدور فيها العرض، حيث تلتقي فيه بأحد «ملائكة لاجوس» الذي يقدم نفسه للجمهور ويحكي لهم قصته، ويقدم لهم بطاقته الشخصية كي يتصلوا به إذا ما أرادوا الاستثمار في المجال الذي عرضه عليهم، أو لكي يشتروا منه بعض ما ينتج من بضائع أو ما يبيع من عقارات. بصورة جعلت كل مجموعة من تلك المجموعات تشاهد عرضا مختلفا، من حيث تركيب مكوناته وتتابعها، عن ذلك الذي شاهدته المجموعات الأخرى. بل هو مختلف أيضا في تكوين وحداته، بسبب عملية الارتجال ومشاركة الجمهور التي تتفاوت من مجموعة لأخرى. كما أن اعتماد بعض المواقع على مشاركة الجمهور أكثر من الأخرى عزز من سيولة العرض، وجعلنا أمام عرض متغير على الدوام، ولكنه يدور في إطار عام واحد، يبدأ فيه الجمهور معا خارج المسرح، وينتهون معا في القسم الأخير منه فقط. بينما، كما هو الحال في الحياة ذاتها، يعيش كل منهم تجربته الفريدة فيه. فحتى في المجموعة الواحدة، فإننا نجد من استمتع بالحوار مع الممثلين ومن عزف عن المشاركة فيه. ناهيك عن أن تباين المرشدين، واختلاف قدرات كل منهم على الترجمة يعني أن لكل مجموعة خبرتها المختلفة بالموقع الواحد. لأن العرض يدور بالإنجليزية وبعضه بالألمانية، ويترجم المرشد/ة للمشاهدين، وهي ترجمة تتفاوت بحسب قدرة كل منهم، لأن أغلبهم من شباب طلاب الجامعة أو دارسي المسرح الذين يعملون في المهرجان في فترة أجازتهم الصيفية.
ويحكي النيجيريون للمشاهدين عن تجاربهم وعوالمهم باللغة الانجليزية، فلكثرة اللغات الأفريقية في نيجيريا تمكن المستعمر من فرض لغته التي أصبحت اللغة القومية بعد رحيله، بينما يترجم المرشد/ة ما يحكيه للجمهور بالفرنسية. وكان هناك مستثمر ألماني قدم مغامرته في نيجيريا بالألمانية، وحكى لنا كيف حقق فيها مكاسبه الضخمة سواء في مجال التنقيب عن النفط أو تأسيس جامعة تكنولوجية فيها، وكانت معه بالطبع مترجمة تترجم ما يقوله للفرنسية. وقد كشف اختيار هذا الألماني للمشاركة في العرض عن الدور الذي لايزال الغرب يلعبه في المستعمرات القديمة بعد الاستقلال من ناحية، وكيف أنه حرص على أن يراقب ما يتيحه من معارفه وخبراته لأبناء الهامش كي يتعلموه في الجامعة التكنولوجية التي يسيطر على ما يدرّس فيها من ناحية أخرى. وكأننا بإزاء نوع من تفكيك التجربة مابعد الاستعمارية ونقدها في آن.
ولا يستغرق العرض في كل موقع أكثر من عشر دقائق وأحيانا أقل، ينتقل بعدها الجمهور لموقع آخر بقيادة المرشد/ة: من مستشارة للأعمال؛ إلى مصرفي يحلل الأوضاع المالية للشركات؛ إلى رجل أعمال صغير يتاجر في الببغاوات الممنوعة والأسماك الملونة، إلى هندية نيجيرية انشأت مصنعا للتطريز الأفريقي في سويسرا لتصدير كل منتجاته لنيجيريا مسوقة معها عقدة ولع الجنوب وتباهيه بأنه يستخدم منتجات سويسرية وخاصة في المناسبات العامة مثل الأفراح (حيث يتكلف فرح الزواج النيجيري خمسين ألف يورو، بينما يتكلف نظيره الفرنسي خمسة آلاف)، إلى قس ساهم في اعتناق المئات للمسيحية ويسعى لأن ينمي كنيسته كي تصبح كاتدرائية، إلى تاجر أراضي ومطور عقارات .. وهكذا دواليك حتى يجتمع الجمهور كله في نهاية العرض في مسرح يقدم فيه العشرة خلاصات تجاربهم بطريقة غنائية تلخص واقع الحياة في نيجيريا وآفاق التطور فيها.
وقد وجدت عند مشاهدتي لهذا العرض أنني بإزاء عرض تعليمي لا درامي، يقدم للمشاهد كأي عمل فني جيد ومن خلال نماذج محسوسة ما يغنيه عن قراءة الكثير من كتب التاريخ وعلم الاجتماع والاقتصاد عن نيجيريا، وعن عادات أهلها وقيمهم ومعتقداتهم (فدفن النيجيري مثلا في القرية التي ولد فيها بعد موته، وتوفيره لقبر له فيها مهم لهم إلى حد كبير، أهم عنده من امتلاكه لمسكنه) ومن مقاييس النجاح والفشل في مجتمعهم (قدرة الشخص على امتلاك مسكنه التي تأتي مباشرة بعد امتلاكه لمدفنه). ويفكك في الوقت نفسه بعض ملامح الإرث الاستعماري فيها، ويكشف فداحة ترسباته على مستقبلها، وقدرة الغرب على التحكم في بقاء الهوامش التي كانت مستعمرة تابعة له من ناحية، ونزح ثرواتها والتحكم في مساراتها الاقتصادية من ناحية أخرى. فنحن بإزاء عرض يسعى إلى إثارة المشاهد للمشاركة فيما يقدم له، ويطلب منه طرح الأسئلة، أو ربط ما يحكى له بخبرته الشخصية، أو الإجابة على بعض تساؤلات النيجيريين عما يتصوره عنهم. صحيح أننا هنا بإزاء مسرح يمزج بين الواقعي والدرامي، ويكشف للمشاهد الكثير من حقائق الحياة في هذا البلد الأفريقي الذي لا يعرف الكثيرون عنه غير القشور، لكننا نظل بإزاء عرض تعليمي. فقد بدأ القسم الجماعي في نهاية العرض بسؤال الجمهور عن أن يرفع من زار نيجيريا منهم يده، فلم يتعدَ الأمر حفنة قليلة منهم، لخصها الممثل/ القس بأن أكثر من 90% منهم لم يزُرها، وأنه قد آن الآوان ليتغير ذلك الأمر.
لكن أكثر العروض التي تتعلق بأفريقيا غنى وإثارة عندي هو عرض ألماني/ سويسري لأحد تلاميذ عالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيير بورديو، وهو ميلو راو Milo Rau بعنوان (راديو الكراهية Hate Radio) عن مأساة رواندا. كتبه ميلو وأخرجه لفرقته التي تحمل اسما بالغ الغرابة والدلالة معا: وهو المعهد الدولي للقتل السياسي International Institute of Political Murder. لأن المسرح الحديث يتوجه للعقل والعاطفة معا، ويعتمد على البحث والتوثيق كأي معهد دولي للأبحاث، ولكنه على العكس من معاهد الأبحاث يحرص على أن تكون له رسالة وهدف كما سنرى من تناولنا لهذا العرض. وهو عرض جدير بتلميذ نجيب لعالم الاجتماع الكبير بيير بورديو الذي كرس قسما كبيرا من أبحاثة المهمة لتفكيك مؤسسات الثقافة المختلفة، وتقنين حراكها. لأنه يقوم هو الآخر في هذا العمل الشيق بتفكيك الخطاب الإعلامي، ودور الكلمات في المعارك السياسية، أو بالأحرى في تبرير القتل السياسي، والكشف عن أنه لا يقل خطورة عن دور العنف والطلقات، بل إنه الأساس الذي ينطلق منه هذا العنف والوقود الذي يؤجج نيرانه.
إذ ينطلق من سؤال بسيط: هل تستطيع الكلمات القتل؟ وما هو دور الكلمة في شيطنة الآخر والتحريض على الكراهية والعنف والعنصرية البغيضة؟ وقد أحسست وأنا أشاهد تفكيكه المسرحي البارع لمحطة من محطات الراديو في كيجالي عاصمة رواندا إبان مذابح التوتسي فيها، هي راديو RTLM ودورها في تزييف الواقع والتحريض على القتل، ومسؤوليتها عن المذابح التي راح ضحيتها ما يقرب من مليون رواندي ينتمون إلى أقلية «التوتسي» الأكثر تعليما وتحضرا فيها عام 1994، أنني بإزاء معالجة استعارية ودرامية معا لما تقدمه تلك الفضائيات المسماة بالدينية في مصر خاصة، وفي عالمنا العربي عامة. وكيف تقتات على خطاب يعتمد على الكذب والتزييف والكراهية، ويتلفّح في الوقت نفسه برداء ديني زائف وشائه، والدين منه براء. وكيف أن تحريضها المستمر على العنف والكراهية وشيطنة الآخر هو الذي مهد للعنف الذي اندلع بعد عزل الشعب لمحمد مرسي، ويبرر استمراره حتى اليوم.
وحينما تدخل المسرح، تجد من يطلب منك أن تتسلم جهازا صغيرا وسماعات كما هو الحال في أجهزة الترجمة الفورية. لكن السماعات التي توزع على المشاهدين، ليست من النوع الحديث الصغير، وإنما سماعات ضخمة كتلك التي تستخدم في ستوديوهات الإذاعة، ولا يبدأ العرض إلا بعد أن يطلب من المشاهدين استخدام الجهاز، ووضع السماعات على رؤوسهم، كي يستمعوا لما يدور فيه. وسوف نكتشف بعد الدخول في العرض أن هذه الحيلة الدرامية لها وظيفة دلالية مهمة هي إدخال المشاهد في قلب العرض، أي في قلب الاستوديو الذي ينطلق منه هذا الخطاب التحريضي الكريه من ناحية، وإبراز مسؤولية المشاهد كمشارك متواطئ فيما يدرو فيه من ناحية أخرى. وكأنه يطالب المشاهد من خلال هذا التماهي الشكلي بينه وبين المتورطين في خطاب التحريض والكراهية، أن يطرح على نفسه أسئلته المدببة. لأن العرض حرص على وجود شخص واحد فيه، داخل استوديو الإذاعة التحريضية التهييجية المحمومة، لا يلبس هذه السماعات الثقيلة، ولا يرقص على إيقاع سعار العنف فيها.
لكن دعنا لا نستبق العرض بالتحليل، وندخل القارئ معنا في أحداثه، التي اختار المؤلف/ المخرج أن يضعها وسط المشاهدين. وأن يعيد تشكيل الفضاء المسرحي، فقد دار العرض في نفس المكان الذي دار فيه عرض (ملائكة لاجوس)، بوضع المسرح أو استوديو الإذاعة بجدرانه الزجاجية الشفافة في وسط الفضاء، بينما يجلس المشاهدين أمامه من الناحيتين، وهي أيضا مسألة لها دلالاتها التي لابد ألا تفوت المشاهد. فكل ما سيعرضه علينا مهما كان مستهجنا ورديئا دار بيننا في وسطنا، وليس بعيدا عنا، كمشاهدين/ مواطنين في العالم المعاصر. ويبدأ العرض بشهادات متعددة عن المذبحة، وتحليل لأحداثها بعدها يقدمها العمل من خلال تقنية التكبير والفيديو، وهي عملية مهمة فيما أدعوه بمحتوى الشكل الدرامي. لأن تسجيل الشهادات الافتتاحية المختلفة: من شهادة المواطن الذي عاش وقائع ما دار وبشاعته، والآخر الذي غاب عما جرى حينما تركت أسرته رواندا قبل وقوعها، والصحفية التي تحرص على إخبارنا بأنها من أصول هجينة: أوروبية/ أفريقية وكأنها تمثل بقية العالم بأصوله المتداخلة، والمواطنة التي فقدت معظم أفراد أسرتها فيها، احتاج إلى عنصريّ التبعيد البريختي، والتكبير التوضيحي، اللذين تبيحهما تقنيات الفيديو معا، كي يخلق لدى المشاهد آليات التلقي المطلوبة، وضرورة تأمل ما جرى، وإعمال العقل قبل الدخول فيما أدعوه بالجانب التجسيدي في العرض، والذي سيضع المشاهدين في قلب الكابوس برمته.
فبعد هذه المقدمة ترفع الستائر المعدنية الحديثة عن جدران الاستوديو الزجاجي لمحطة راديو RTLM وغرفة المراقبة المجاورة لها، والتي يديرها رواندي يطعم الخطاب بالموسيقى والإغنيات المهيجة في طقس تهييجي ينوّم العقل، ويطلق أبشع الغرائز الإنسانية من عقالها. ويعيد العرض تجسيد حلقة كاملة من حلقات هذا الراديو اليومية أمامنا، وهي تذاع على الهواء مباشرة. حيث نرى في الاستوديو ثلاث مذيعين: رجل أروربي أبيض من أصل إيطالي يتحدث بالفرنسة، ورواندي من «الهوتو» يتحدث معظم الوقت باللغة الكينيارواندية Kinyarwanda وأحيانا بفرنسية بدائية، ومذيعة من «الهوتو» أيضا تتحدث الفرنسية بطلاقة مع الكينيارواندية، وتستخدم فيهما الكثير من الإحالات التوراتية والإنجيلية. وبنفس الأسلوب الملتوي الذي يستخدمه أدعياء المحطات الدينية، في مصر خاصة ومنذ الثورة والذين يطلقون على أنفسهم لقب الدعاة. ويحمل كل من المذيع والمذيعة السود مسدسا بينما لا يحمل الأبيض أي سلاح، وإن كانت لغته المترعة بالكراهية والتحريض على القتل هي أمضى أسلحته في التهييج وإثارة العنف. ويرتدي الثلاثة سماعات كتلك التي قدمت لنا عند بداية العرض، بينما هناك رواندي آخر في الغرفة يقوم بدور ساعي المكتب أو الخادم فيه، لا يضع مثل تلك السماعات على رأسه. يصب الجعة في أكواب المذيعين الثلاثة الذين ينتشون على خطابهم التحريضي بقدر ما ينتشون بشربها، فلا تعرف إن كانت بشاعة خطابهم نتيجة لسماديرها، أم أنها بنت خيالات وأيديولوجيات مريضة أشد فتكا من سمادير الخمر. بينما لا يشرب هو غير الماء، وكلما هاج المذيع الأفريقي وقام للرقص على انغام بعض المقطوعات، قد يصاحبه الإيطالي لكن يظل الساعي الرواندي ساكنا لا يريم، وكأنه يرفض بشكل ملحوظ، فقد تكرر أكثر من مرة، الرقص على موسيقى التحريض الكريهة تلك.
وليس هنا المجال لسرد كل ما يدور في تلك الحلقة التي تمتد لأكثر من ساعة وتشكل مركز الثقل الدرامي في العرض، ولا لتناول طبيعة خطاباتها التي يمتزج فيها الكذب بالتلفيق، والإحالات الدينية بالتحريض على القتل، لأن القارئ العربي يعرف الكثير من عينات خطابات التحريض والكراهية المقتية التي تمتلئ بها القنوات المساة بالدينية. ولكن لابد من العودة إلى بنية العرض الذي يرتد بنا بعد نهاية الحلقة اليومية من خطاب الكراهية، إلى الشهادات الأربعة التي بدأ بها العرض من جديد. وقد لخص لنا ما جرى لأبطال تلك الحلقة الثلاثة بعد المذابح حيث حكم على المذيعان الأسودان بالسجن، بينما استطاع الإيطالي الهرب، ثم انتهى به الأمر إلى اعتناق الإسلام وتغيير اسمه لمرارة المفارقة إلى «عمر»، والانتقال إلى باكستان للعمل فيما يبدو من المجاهدين الأفغان وقد اختار اسمه الإسلامي تيمنا باسم زعيمهم. وهو أمر يردنا من جديد إلى الوعي بأن العمل الفني الجيد يرد متلقيه إلى التفكير من جديد فيما يدور في عالمه، وضرورة الربط بين التأسلم السياسي وخطاب الكراهية الذي نعاني منه، والتفكير في ضرورة البحث عن مخرج. فمع أن هذه المسرحية الجميلة تناولت حالة أفريقية خالصة، إلا أنها استطاعت أن تفتحها على واقع أنساني أعرض.
شيء من القضايا العربية في مهرجان آفينيون:
أحرص كلما جئت إلى مهرجان أفينيون المسرحي الكبير على مشاهدة ما يعرض فيه من أعمال عربية أو عروض تتناول الهموم العربية من قريب أو بعيد. صحيح أنه من النادر أن تنجح فرقة عربية في أن يقبل المهرجان برمجة عمل لها في برنامجه الرسمي، لأن للمهرجان معايير اختياره الصارمة، والتي تتطلب مستوى فنيا راقيا، وحرفية مسرحية متميزة حتى تقبلها لجنة المشاهدة في المهرجان. فعلى مد أكثر من عشر سنوات من ترددي على المهرجان لم تنجح سوى فرقة عربية واحدة، وأنا أعني هنا فرقة عربية تعمل وتقيم في بلد عربي، وتقدم أعمالها أساسا فيه وبلغته، هي فرقة (فاميليا) التونسية التي يقودها فاضل الجعايبي وجليلة بكار. صحيح أنني شاهدت على مر السنين كثيرا من المبادرات والتجارب المسرحية التي يمتزج فيها الجهد العربي، بعد تمريره بمرشح غربي، بجهود أوروبية ينتج عنها عمل مشترك، يقدم في المهرجان عادة على أنه انتاج أوروبي، أو انتاج لأوروبيين من أصول عربية، مهما كان دور الجهد العربي فيه. كما أنني سبق وكتبت عن فرقة المبدع المسرحي اللبناني المتميز وجدي معوض الذي شارك بأعماله أكثر من مرة، بل كان ضيف المهرجان المتميز لعامين، باعتباره ممثلا للمسرح الكندي الناطق بالفرنسية، وليس للمسرح اللبناني الناطق بالعربية. فكل الأعمال المسرحية التي عرضها في أفينيون بدأت حياتها الفنية في كندا، وليس في لبنان.
وحين أتحدث عن مشاركات المسرح العربي، فإنني بالطبع أتحدث عن ظهورها في المهرجان الرسمي، واستثني من ذلك الأعمال العديدة التي يقدمها مسرحيون فرنسيون من أصول عربية، مغاربية أساسا وباللغة الفرنسية، والتي يعج بها المهرجان الهامشي، وينجح قليل منها في عبور اختبارات الجودة بين الحين والآخر والظهور في المهرجان الرسمي. وتتناول معظم هذه الأعمال هموم الجالية العربية في فرنسا، ومشكلاتها مع المجتمع الفرنسي، وكان هناك واحد من هذه الأعمال في مهرجان هذا العام الرسمي لمسرحي من أصول جزائرية يدعى الأزهر Lazare بعنوان مثير للتأمل، وهو (أسفل حائط لا باب فيه Au Pied du Mur sans Porte). كما أن لغة العرض فيها تكون أساسا هي اللغة الفرنسية في تنويعاتها الخاصة، التي يتكلمها مجتمع العرب الفرنسيين كما يدعونهم. بينما شاركت فرقة (فاميليا) حينما جاءت للمهرجان بعروض كانت بالطبع باللغة العربية، وهي هنا الدارجة التونسية. ولاقت عروضها (جنون) مرة، و(يحيى يعش) أخرى استحسانا من جمهور هذا المهرجان الذي اعتاد على الأنواع الراقية من المسرح. وليس هذا الأمر بغريب على المسرح التونسي الذي يعد من أكثر المسارح العربية في حدود معرفتي بالمسرح العربي تطورا ورقيا من الناحية الفنية والحرفية.
وقد كان في المهرجان الرسمي هذا العام ثلاث أعمال لا أقول عربية بالمعنى الذي عنيته عند الإشارة إلى المسرح التونسي، وإنما لها علاقة بالواقع العربي، سواء هذا الذي نعيشه في عالمنا العربي في علاقته بالعالم الخارجي والأوروبي منه خاصة، أو بواقع العرب أو بالأحرى الفرنسيين من أصول عربية والذي يتجاوز عددهم في فرنسا وحدها الستة ملايين، ويشعرون كما تكشف لنا مسرحية الأزهر الجزائري التي عرضها مهرجان هذا العام، والتي سنتناولها بشيء من التفصيل بعد قليل، بانسداد الأفق أمامهم، وبأنهم محصورون داخل قفص زجاجي يحد من طموحاتهم ويعوق انطلاقهم. ولكن دعنا نبدأ بأكثر الأعمال الثلاثة التصاقا باللحظة العربية الراهنة، وهو عمل مريم المرزوقي، ابنة الرئيس التونسي المنصف المرزوقي، والتي نشأت في فرنسا بسبب سنوات المنفى الطويلة التي عاشها أبوها فيها، وقدمت لنا عملا يمزج بين حرفية المسرح الفرنسي وجماليات المسرح التونسي، وخاصة لدى مبدعه الكبير توفيق الجبالي، وإن كان عملا بالفرنسية لغة وانتاجا وتمثيلا.
والواقع أن مريم المرزوقي، برغم حساسيتها التونسية فإنها في نهاية المطاف بنت/ نتاج المسرح الفرنسي. درست في معهد المسرح الوطني الفرنسي في شايو، وكونت فرقتها (فرقة الليلة الأخيرة Compagnie du Dernier Soir) بفرنسا عام 2004 وعملت منذ ذلك الوقت على تجنب «الريبرتوار» المسرحي التقليدي، وخلق تجاربها المسرحية الخاصة التي تعتمد على مسرحة نصوص تتعلق بالقضايا السياسية الراهنة. فهي مهتمة بالمسرح السياسي كما يخبرنا سجل أعمالها السابقةK واهتمامها بعدد من قضايا السياسة الأوروبية المعاصرة. وتسعى في عملها الجديد (بداية شيء ماLe Début de Quelque Chose ) والذي شاهدته في مهرجان هذا العام على استقصاء العلاقة بين أوروبا والعالم القابع على شاطئها الآخر، وخاصة تونس، إبان الثورة التونسية التي فاجأت الأوروبيين وأقلقتهم معا، كما توحي لنا المسرحية. فأوروبا بترفها الاقتصادي وحرصها على الاستمتاع بحياتها واستغراقها في متعها لا تعبأ بما يدور بالقرب من حدودها، حتى عندما يقرع ما يدور في تلك البلدان المجاورة أبوابها بقوة ويهدد راحتها ومتعها.
ويعتمد العرض الذي مسرحته وأخرجته مريم المرزوقي على نص غير مسرحي للكاتب الفرنسي هوج جالون Hugues Jallon بعنوان (بداية شيء ما) يطرح قضية السياحة الأوروبية، وخاصة تلك التي برع فيها الفرنسيون والمعروفة بنادي المتوسط Club Med، والتي اشتهرت تونس أيضا بتوفيرها لهم. حيث يدلف السائح إلى فقاعة وهمية للاسترخاء الكامل، تاركا مشاغل العالم الخارجي وراء ظهره، وقد تعهد النادي بتوفير كل حاجاته اليومية، وتهيئة مناخ من الراحة الكاملة له، والعناية الشاملة به، جسديا وترفيهيا. وقد ترك كل هموم العالم الخارجي وراءه في المطار عند المغادرة، ووصل إلى عالم حلمي، إلى مناطق تتسم بالجمال والبساطة، مياه البحر الصافية الزرقاء، والرمال النقية الممتدة من ورائها، والبيئة الهادئة المرحبة، والتي تعد السائح بنسيان كل شيء وراءه، بما في ذلك ما يدور في البلد التي يتمتعون بمياهه وشواطئه. ويبدأ العرض بمشهد تلك المياه الطبيعية الخلابة وقد بدأ عرضها على شاشات في خلفية المسرح، وقد استخدمت المخرجة بمهارة جماليات الفضاء المفتوح، واللون الأبيض الذي يغمر كل شيء، الأرضية والكراسي وأسرة الاستجمام والمناضد، لون النقاء ولكنه سرعان ما يتحول بالتدريج وأثناء تفتح العرض إلى لون التعقيم أو المصحة النفسية. حيث يصل السائحون ويسترخون في ملابس التريض البيضاء البسيطة، ويتمتعون بالبحر والطعام والسباحة والشراب، ويتولى صاحب المنتجع السياحي ومعاونه توفير برنامج من النشاط المريح لهم.
ولكن الأحداث ما تلبث أن تتصاعد، ليس فقط بالتوترات الصغيرة بينهم، فللراحة المطلقة مشاكلها هي الأخرى، ولكن أيضا بتهديد مبهم مما يدور في البلد الذي جرده المنتجع من أي هوية أو شخصية. فقد حرصت المسرحية على ألا تشير من قريب أو بعيد إلى اسم البلد الذي تدور فيه الأحداث، ولكن هناك أكثر من إشارة إلى أنه تونس، فحينما يعلو صوت راديو ما يذيع بالعربية، وباللهجة التونسية، اخبارا عن اضطرابات ومظاهرات، يغرق مدير المنتجع صوته في صخب الموسيقى وضجيجها. فقد لجأت المرزوقي طوال العرض إلى إغراق صوت الواقع الخارجي في ضجة الموسيقى الراقصة، فبينما كان السوّاح يرقصون، كان الراديو يتحدث عن الاضطرابات، وكان عليهم رفع صوت موسيقاهم الصاخبة لإغراق صوت الراديو، أو تغيير المحطة لتعزف محطة أخرى بديلة موسيقى راقصة عربية. ثم نعرف من حديث مدير المجتمع مع معاونه أنه قرر جمع نقوده والهرب بها قبل فوات الأوان.
ثم يأخذ الموقف في التعقد تدريجيا وبشكل متصاعد، بعدما هرب مدير المنتجع بالفعل بنقوده وإدارته معا. حينما نعرف أن فوجا جديدا من السياح قد وصل إلى المنتجع، بينما الفوج القديم لم يتمكن من السفر وليس ثمة مكان كافٍ للفوجين. ويبدأ الموقف كله في الخلل والاضطراب، حيث يلوم كل شخص الآخرين ويتصاعد التوتر بينهم. فقد انفجرت الفقاعة الوهمية فيما يبدو على صخرة الواقع. ولم يعد ثمة مهرب مما يدور، وليس في الوقت نفسه ثمة قدرة على مواجهته أو التعامل معه. فلم تزودنا المسرحية بأية تفاصيل عما يدور في هذا الواقع الخارجي، اللهم إلا أنه أخذ يُحدث خللا في نظام المنتجع، ويُقلق زبائنه من الأوروبيين. فحتى أوروبا التي توهمت أنها تستطيع الاستمتاع وحدها بهذا العالم، تجد نفسها تتخبط في شباكه، متورطة في مشاكله، وغير قادرة على فهم ما يدور فيه.
والواقع أن حرص مريم المرزوقي على تجريد عالمها المسرحي، والاهتمام بجمالياته أكثر من اهتمامها بدرامية أحداثه وبلورة دوافعها ومسبباتها، ولجوؤها إلى الإيحاء أو التلميح بدلا من التجسيد والتصريح، وسم العمل كله برغم جمالياته البصرية الراقية، بقدر كبير من الالتباس والإشكالية. وجعل بعض ما يدور فيه، وما يجرى لشخصياته، غير مبرر أو مفهوم لمن لا يعرف شيئا عن تفاصيل ما جرى في تونس أيام ثورتها. فلم يعرف كثير من المشاهدين (وقد شاهدت العمل مع عدد من الأصدقاء الفرنسيين) لماذا كان باستطاعة الفوج الجديد الوصول، بينما لم يتمكن القديم من المغادرة. لأن من لا يعرف بعض ما جرى إبان الثورة التونسية، وكيف كان عدد من الطيارين يمتنعون عن الإقلاع بطائراتهم، عندما يكون على الطائرة أحد حيتان الفساد أو أحد رموز العهد البائد، لا يفهم لماذا تعثرت مغادرة المغادرين. صحيح أننا نعرف أن الوفد الذي كان عليه المغادرة لإخلاء المنتجع للوفد الجديد لم يتمكن من ذلك، مما تسبب في كثير من المشاكل، وأن صاحب المنتجع هرب، لكن العمل لا يكشف أبدا لمشاهده عن أسباب ما جرى، ولولا هذا الصوت المشوش للإذاعة التونسية، والذي سرعان ما أغرقه العرض في صخب الموسيقى الراقصة، لما عرفنا أن الأمر كله يدور في العالم العربي، أو بالأحرى في بلد أولى ثورات هذا الربيع المغدور. لذلك بقي العمل محصورا في نقده لذلك النمط من السياحات ومنتجعات الهروب من الواقع، دون أن يتطرق إلى آثارها على البلدان التي تقع فيها، وإن أرانا شيئا من أثر ما يدور في تلك البلدان عليها.
المهمشون الفرنسيون العرب والأفق المسدود:
وإذا ما انتقلنا إلى العمل الثاني الذي تناول بشكل فني بارع واقع المهمشين في فرنسا، وأغلبهم من الفرنسيين العرب وسكان ما يسمى بالضواحي Banlieu وهي المناطق المحرومة في المدن الفرنسية الكبيرة، والتي تقارب مع فارق النقلة الحضارية بين فرنسا ومصر عشوائيات المدن المصرية. أو على الأقل هذا ما يشعر به سكانها بسبب اتساع الفجوة بينهم وبين بقية مواطنيهم. وإذا كان مسرح الأفكار قد قدم ندوتين عن أفريقيا بسبب استقدام المهرجان لعدد من العروض منها أو عنها، فإن ندوته عن «مشاكل الضواحي الفرنسية» ارتبطت هي الأخرى بعرضين عنها. أولهما له طبيعة عربية، بعنوان مثير للتأمل وهو (أسفل حائط لا باب فيه Au Pied du Mur sans Porte) عن نص كتبه مسرحي فرنسي من أصول جزائرية يدعى الأزهر Lazare وهو أيضا الذي قام بإخراجه والتمثيل فيه. يتناول فيه بصورة استعارية شفيفة حالة «الآخر» الفرنسي، وهو أقرب ما يكون إلى الذات منه هو الآخر، الذي كُتب عليه أن يعاني كل صنوف التمييز والتحيز والاغتراب في عالم مثقل بحتميات الأفق المسدود، كما يقول العنوان. حيث يترك قسما كبيرا من البشر فيه أسفل حائط صلد لا باب فيه. وهو عمل ألفه وأخرجه مسرحي من أصل جزائري يدعى «الأزهر»، عاش حياته كلها في فرنسا للمسرح وفي المسرح منذ أن كان يرتجل أعماله في الأماكن العامة مراهقا، وحتى دراسته للمسرح في معهد المسرح الوطني في بريتاني، وحتى تأسيسه لفرقته Vita Nova التي استمد اسمها من (الكوميديا الإلاهية) لدانتي عام 2006. ويعد عنوان مسرحيته (أسفل حائط لا باب فيه) استعارة شعرية دالة على ما يريد أن يطرحه من واقع هذه الشريحة الواسعة والمهمشة من المجتمع الفرنسي، وجلهم من ذوي الأصول العربية والمهاجرين. حيث يقبعون جميعا أسفل جدار ضخم من التحيز والتمييز لا باب فيه، ولا أمل في النفاذ إلى ما وراءه من عالم الامتيازات والحياة الرغيدة، أو حتى الطبيعية، التي يتمتع بها معظم سكان فرنسا ذوي الأصول البيضاء.
ويخبرنا برنامج المسرحية أنها العمل الثاني من ثلاثية مسرحية بدأها بعمل بعنوان (الماضي: لا أعرف أين ولا من عاد) استقى فكرتها من نصوص الشاعر البرتغالي الأشهر فرديناندو بيساوا (1888 – 1935). وتدور الثلاثية حول شخصية يدعوها بفرفور الماء «لي بللول»، ويبدو أن هذا هو اسمه في اللهجة الجزائرية، وتتناول حياتها من عمر السابعة وحتى السابعة عشرة، وسيتبعها بعمل ثالث تكتمل به الثلاثية بعنوان (تقرير رباح). وهي ثلاثية تتناول أسرة نمطية من أسر الضواحي ذات الأصول العربية، موزعة بين فرنسا والجزائر. أسرة فقيرة تعيش على الحلم بحياة أفضل، كحلم كل المهاجرين. ولا يشد أزرها إلا الأم القوية الحريصة على أبنائها، لأن الأب غائب في معظم الأحوال. ويقدم لنا العمل الذي شاهدته، وهو واسطة العقد في تلك الثلاثية التي لم تكتمل بعد، مجموعة من التجسيدات الدرامية الخلاقة، والصور البصرية والحركية المدهشة لحياة هذه الأسرة ولمختلف أشكال القهر المادي والمعنوي التي تعاني منها. والواقع أنه وبدون المعلومات التي يموضع بها البرنامج هذه المسرحية في سياق ثلاثية درامية، فإن من يشاهدها وحدها، كما فعلت، يستمتع بما تطرحه عليه من جماليات مسرحية، تستخدم الصوت والحركة والتشكيل البصري بمهارة. فنحن هنا بإزاء مسرح حداثي بامتياز، لا يعتمد على التتابع السببي للحبكة، ولا على تسلسلها المنطقي، وإنما على مزج الخيالي بالوثائقي، والواقعي بالمتوهم، وعلى التجاور والجدل بين الصور والإبيسودات، وعلى الاسكتشات الصغيرة التي ترسم صورها المتوهجة بالحركة، والتي تجسد حقا أزمة هذا الإنسان الوجودية: وقد وجد نفسه بحق أسفل حائط لا باب فيه، ومهما حاول أن يفتح فيه كوة للتحقق، يجد أن ثمة من يسارع لسدها من جديد.
فنحن بإزاء عرض استطاع فيه المخرج أن يطور لغة عرض مسرحية على درجة كبيرة من الغنى والخصوبة وتعدد الدلالات. تلعب فيها تقنيات توشك أن تكون مستقاة من فكرة «القرين» وتقنيات خيال الظل، أو تطويرا خلاقا لهما يستفيد من إمكانيات الإضاءة الجديدة وألاعيبها الخلاقة، دورا مهما في الكشف عن الازدواجية التي ينطوي عليها موضوع العمل، الأنا والآخر. فلكل «أنا» ظله و«آخره» الذي يحرص العرض على أن يعكسه بوضوح على جدران المسرح، والذي لو تأمله قليلا لوجد أنه لا يختلف عنه، بل إنه هو نفسه الإنسان في كل مكان. كما تلعب فيه عملية تطوير هذه التقنيات دورا خلاقا، من خلال مشهد الافتتاح الذي يضع فيه إحدى شخصياته في قفص زجاجي شفاف يحدد حركتها، ويوشك أن ينطبق عليها ويخنقها، ويعوق بالقطع انطلاقها. ولكنه لفرط شفافيته غير مرئي، كناية عن مراوغة التحيز والعنصرية والقهر التي يمكن الزعم بأنها غير موجودة. وأنه ليس ثمة ما يحد من حرية حركة الآخر، ولكنه هو غير القادر على الحركة، فليس ثمة ما يكبله، ولكن الواقع غير ذلك بالقطع، لأن القفص الزجاجي برغم شفافيته بالغ القسوة والتحديد. خاصة وأن المخرج عرض ظله أيضا على حائط المسرح، فبدت الحركة فيه مضخمة وبارزة لكل من له عينين.
وقد اختار العرض أن يجعل آخرية الآخر فيه ليست ناجمة عن أنه مختلف في اللون أو اللغة أو حتى الديانة عن الجميع، ولكنها آخرية مصاغة من التصور الجمعي له بأنه مختلف، وبالتالي فهو معوق دراسيا واجتماعيا قبل أي شيء آخر. ولكننا ما أن نشهد العرض حتى نجد أنفسنا نتساءل في نهايته: هل بطل العمل معوّق فعلا؟ أم أن هناك الكثير الذي يعوق حركته، ويبدد قدراته، ويمنعه من الانطلاق والتحقق؟ إننا بإزاء أهجية درامية وشاعرية شفيفة للمجتمع الفرنسي، ولتحيزاته ضد العرب والمهاجرين، وكل الشرائح المهمشة فيه. وهي أهجية مترعة بالصور التي يبقى بعضها عالقا في ذهن المشاهد بعد أن يغادر المسرح وتبقى معه، لأنها وجدت معادلا بصريا وجماليا لموضوعها. كحصر إحدى الشخصيات الطامحة للتغيير في صندوق زجاجي كالكفن، هو القفص غير المرئي الذي تسجنه التحيزات فيه.
أما آخر العروض التي اهتمت بشيء من القضايا العربية فكان عرضا بعنوان (عربات حرة Wagons Libres) للفرنسية ساندرا إيشا Sandra Ichéأعلنت أنه عرض يصدر من باريس وبيروت. فهو بالقطع ليس عرضا لبنانيا، وإن كنت لا أعرف إذا ما كانت صاحبته فرنسية ذات أصول لبنانية، أم هي مجرد فرنسية مهتمة بلبنان، وبقضية اغتيال الكاتب اللبناني سمير قصير، وبتصور اللبنانيين لبلدهم وهويتهم وعلاقتهم المعقدة بفرنسا. تسعى لاستخدام أدوات التعبير الفني من صور ومقابلات حية ووقائع تاريخية لمواجهة حقائق الوضع اللبناني والتعرف على بعض ملامحه الدفينة من خلال ما تدعوه بأرشيف المستقبل. فالعرض الذي يعتمد عليها أساسا كراوية له تقوم بالشرح والتحليل، ينهض على دراسة قامت بها عام 2000 في السنة الأخيرة من دراستها الأولى للعلوم السياسية لمجلة (قطار الشرق السريع L’Orient-Express) التي كانت تصدر بالفرنسية في تسعينيات القرن الماضي، والتي أسسها وحررها سمير قصير، وللدور السياسي الذي لعبته. وقد عادت مؤخرا إلى بيروت وأجرت عدة مقابلات مع عدد من المثقفين اللبنانيين الذين كتبوا فيها، أو كانوا على صلة ما بمشروعها مثل فواز طرابلسي، وأحمد بيضون، وحنان عبود، وكارمن أبوجودة، وملحم شاؤول، ونادين شحادة، وكلود إدّه، وجبور الدويهي، وجاد ثابت وغيرهم.
ويسعى العرض الذي يعتمد كثيرا على تلك المقابلات المسجلة بالفيديو لفهم السياق الذي أدى لاغتيال سمير قصير بسيارة مفخخة عام 2005 عبر البحث في مسيرته وفي مآلات من عملوا معه، أو شاركوه رؤيته حول الواقع اللبناني ومستقبله بعد اغتياله. ويستهدف العرض، استجابة لتصوراتها عن «أرشيف للمستقبل»، ليس تحليل ما جرى في الماضي، وإنما استشراف دور هذا الماضي في صياغة المستقبل. لكنه اتسم للأسف الشديد، ولبلادة تجريبيته، وافتقار صاحبته للخبرة الدرامية، وبطء الحركة فيه، بالمباشرة التي تجعله أقرب إلى محاضرة تستخدم الكثير من الأدوات التوضيحية الساذجة، أو في أحسن الأحوال البرنامج التليفزيوني الذي يعتمد على تقاطع أقوال مجموعة الشخصيات الذين أجرت معهم مقابلات حول الموضوع، تعرضها علينا وتربط بينهما بالتعليق تارة، وبالصور التوضحية أخرى، وبطرح شيء من تجاربها الخاصة في لبنان ثالثة. صحيح أنها استخدمت جماليات الشذرات المتناثرة والجزئيات المتجاورة في نوع من محاولة تخليق معادل بصري وسردي معا للفسيفساء اللبنانية المعقدة، واستخدمت تقنية تأطير تلك الشذرات في عدد مختلف من الأطر حتى نتمكن من رؤية موضوعها من زوايا مختلفة، إلى أن افتقاد العرض للبنية الدرامية القادرة على ربط هذا كله، نال من قدرته على طرح الأسئلة الجوهرية حول هوية لبنان وموقفها من عروبتها ومن الغرب معا، والتي يبدو أنه سعى لسبرها، ولكن مطامحه كانت أكبر فيما يبدو من قدرات منفذته.
المسرح كأداة للحوار الخلاق وتعزيز الوحدة الأوروبية:
لكن دعنا نعود بعد هذه الجولة السريعة في العروض الأفريقية والعربية، إلى المخرج الفرنسي المشارك في هذا المهرجان ستانيسلاس نوردي والعرض الجميل الذي قدمه لمسرحية بيتر هيندكه (تجوال في القرى)، كي نقدم معه الجانب الأهم في المهرجان، وهو المتعلق بمغامرات المسرح الأوروبي. فالمهرجان ليس مهرجانا عن المسرح الأفريقي أو العربي، ولكنه في المحل الأول عن المسرح الأوروبي، وعن التلاقح المستمر بين إنجازاته المختلفة. وقد لاحظت في السنوات الأخيرة من متابعتي لهذا المهرجان أن ثمة وعي داخلي مضمر لدى عدد كبير من المشاركين فيه من الأوربيين بأن عليهم أن يشاركوا بأعمالهم الدرامية في صياغة ثقافة أوروبا الجديدة، أو بالأحرى في تعميق عرى العلاقات بين ثقافاتها المختلفة. وهو أمر نحتاجه كثيرا في ثقافتنا العربية التي تتعمق بين تجلياتها المختلفة طوال العقود القليلة الماضية الحدود برغم وحدة اللغة، ووحدة الثقافة ووحدة الهم المشترك.
وقد عزز برنامج هذا العام هذه الملاحظة. فباستثناء عروض الرقص الحديث، أو أعمال المسرحي الشامل الذي يكتب نصه ويخرجه، بل ويمثل فيه أحيانا من أمثال الإيطالي روميو كاستيلوتشي Romeo Castellucci والإسبانية أنجيليكا ليدل Angelica Liddell وغيرهما، سنجد أن نوردي، وهو مخرج مسرحي فرنسي بارز لا يختار حينما يدعى لتقديم عمل رئيسي لهذا المهرجان عملا فرنسيا، بل عمل أوروبي لكاتب ألماني الثقافة نمساوي الأصل، وسلوفيني المحتد. كما أننا سنجد أنه باستثناء المخرج الفرنسي جان فرانسوا بيريه Jean François Peyret الذي اختار عملا لكاتب أمريكي هو هنري ثورو، فإن أبرز المخرجين الأوروبيين الذين دعوا للمشاركة فيه اختاروا أعمالا تنتمي لأصول أوروبية أخرى غير تلك التي ينحدرون منها. فقد اختار الفرنسي لودفيك لوجارد Ludovic Lagarde أن يقدم (الملك لير) لشكسبير، واختارت الانجليزية كيتي ميتشيل Katie Mitchell أن تقدم (قطار الليل Reise Durch die Nacht) عن نص للنمساوية فريدريكا مايروكر Friederike Mayrocker، واختار البولندي كريستوف فارليكوفسكي Krzysztof Warlikowski أن يقدم نصا لكاتب انجليزي معاصر هو جون فان دروتين John Van Druten، بينما اختار نيكولاس ستيمان أن يقدم مسرحية (فاوست) لجوته التي تعرض بجزئيها في عرض يستمر لأكثر من ثمانية ساعات في أحدث فضاءات المهرجان La Fabrica الذي يدشنه هذا العرض الماراثوني، الذي لم أتمكن من مشاهدته للأسف.
وحتى في عروض الرقص الحديث نجد أن الفرنسي ألان بلاتيل Alain Platelيهدي عرضه الجميل (خارج السياق Out of Context: For Pina) إلى بينا بوش Pina Bausch الألمانية (1940 -2009). وهي أبرز من بلور لغة حركية وجماليات تشكيلية جديدة بالغة الكثافة والبساطة والتعقيد للرقص المعاصر، ارتقت به إلى مستوى رقص الباليه الكلاسيكي. لأنه يطور فيه لغتها وأجروميتها ومفرداتها التعبيرية، ويواصل بعمله ذاك مسيرتها. وقد استمتعت كثيرا بهذا العرض الذي انبجس من بين الجمهور، وقد وزع راقصيه بينهم، وكأن أفرادا منه هم الذين اعتلوا الخشبة، ليقدموا عليها لوحة حركية مدهشة لحياة البشر العادية وأشواقهم ومطامحهم وإحباطاتهم. أو كأنه يحيل حياتهم اليومية المألوفة إلى عرض بالغ البساطة والثراء معا. بصورة بدا معها العرض وكأنه يموسق حياة الإنسان الأوروبي المعاصر العادية، ويحيلها إلى حركة تتسم بالليونة والجمال والتشكيلات المدهشة.
أما القسم الخاص بـ«فنانون ليوم واحد في المهرجان» فحدث عنه ولا حرج. فقد كان مهرجان هذا العام ثريا في تنوعه، فقد دعى إليه عددا من أبرز أعلام المسرح المعاصر وفي مقدمتهم بيتر بروك الانجليزي وابنه سايمون الذي عرض فيه فيلما عن مسيرة والده، ووجدي معوض اللبناني الكندي الذي كرس حضوره المتميز في المشهد المسرحي الدولي، وروميو كاستيلوتشي وبيبو ديلبونو الإيطاليين، وساشا ولتز وتوماس اوسترماير، وجوزيف ناديا الألمانيين، وكريستوف مارثاليه وآرثر نوزيسييل وآلان باتيل، وكلود ريجي، وأوليفييه كاديوه الفرنسيين، وجان فابر البلجيكي وهكذا. فنحن هنا بإزاء ثقافة تعي أن عليها أن تعزز وحدتها برغم تعدد لغاتها، وأن ترهف وعي مشاهديها بمدى ما في هذا التعدد من ثراء وقدرة على الإثراء معا.
ولكن دعنا نعود مرة أخرى إلى المخرج الفرنسي المشارك ستانيسلاس نوردي وعمله الجميل (التجوال في القرى Par les Villages) الذي شاهدته في ساحة الشرف في القصر البابوي العتيد. وتجربة مشاهدة عرض في هذا الفضاء الجميل الذي يستوعب أكثر من ألفي متفرج دائمة التجدد والإثارة. ويخبرنا نوردي أنه حينما طُلب منه أن يختار نصا يقدمه في هذا الفضاء الشهير اختار بلا تردد (التجوال في القرى Walk about the Villages)، لأنه يعدها أحد أهم النصوص المسرحية التي كتبت في نصف القرن الأخير من ناحية، ولأنهم حينما دعوه إلى المهرجان طلبوا منه أن يطلق العنان لخياله بلا كوابح. فقرر أن يعمل على نص معاصر، وليس على أي من الكلاسيكيات القديمة من أيسخيلوس حتى شكسبير. كما قرر أن يقدم مسرحا مغايرا لما اعتاد جمهور «ساحة الشرف» عليه، أو مناوئا لتواريخها، لا يعتمد على الإبهار الذي تغري به «ساحة الشرف» وعروضها الكبيرة، ولا على تقديم عتاة الأقوياء من الشخصيات الكبرى من الملوك والأبطال التاريخيين، وإنما يتيح الفرصة للصوت الآخر، الصوت المهمش الذي لم يسمع من قبل في أرجاء هذا الفضاء المهيب، صوت الإنسان الريفي البسيط في بلاغته المتناهية، وشعرية صوره القوية الطازجة التي تتميز بها عادة لغة البسطاء. ولهذا كان اختيار بيتر هاندكه Peter Handke .
وهاندكه الذي ولد عام 1942 شاعر وروائي ومسرحي غزير الانتاج، نمساوي الجنسية، أوروبي التوجه والنشأة والمشاعر، طليعي الحساسية الأدبية والفنية. يكتب مسرحا مغايرا للمسرح المألوف. مسرح يسعى كما يقول عنوان مسرحيته الأولى عام 1966 وهو لايزال في الرابعة والعشرين من عمره Offending the Audience إلى «صدمة المشاهدين» وإثارة غضبهم وإجهاض توقعاتهم. وقد اختار نوردي واحدة من أنضج مسرحياته وأكثرها شعرية، فقد كتبها وهو في أوج العطاء عام 1981. وتناول فيها تجربته أو شيئا من سيرته الذاتية بقدر من الدرامية والتحوير. لأنها تحكي عن أسرة من أصول ريفية اختفى الأب من حياتها في وقت مبكر، وكرست الأم طاقتها لتربية أبنائها وتعليم أكبرهم «هانز» الذي ترك القرية منذ سنوات. ولما ماتت الأم، كتب الأخ الأصغر «جريجور» لأخيه الأكبر، الذي غادر القرية من زمن وانطلق في العالم، يطالبه بالعودة كي يبيعا معا بيت العائلة، ويفتحون بثمنه متجرا لأختهما الوحيدة «نوفا»، يقيها غائلة البطالة والاعتماد على العمل غير المضمون في متاجر الآخرين. لكن عودة «هانز» بعد غيبة طويلة تزيح الغطاء عن التواريخ القديمة، فتتدفق دفعة واحدة كحمم البراكين. يكشف فيها «جريجور» عن كل ثاراته القديمة المكبوتة عند أخيه منذ الطفولة، وتكشف الجارة الجميلة «صوفي» عما خلفه تخليه عنها في بواكير الشباب فيها من جروح لم تندمل برغم مر السنين. وتكشف فيه الجماعة المكونة من أهل القرية من رفاق «جريجور» من العمال عن عدم استعدادها لاستيعابه في مجتمعها من جديد. وتطرح فيها المواجهة بين القرية والمدينة، بين عالم العمال وعالم المثقفين والطبقة الوسطى الحضرية، الكثير من قضايا عالمنا المعاصر. وهي تكتب ثارات القرية وعذابات البشر المهانين من بسطائها في عالمنا الحديث.
وهي مسرحية تعيد للكلمة دورها في المسرح، لأنها توشك أن تكون مصاغة من منولوجات طويلة تكشف عن خبايا الشخصيات، لا من حوارات قصيرة تنمي حدثا دراميا. فبعض هذه المنولوجات يستمر لعشر صفحات أو أكثر، فتتحول إلى مواجهات مع الشخصيات الأخرى، أو إفضاءات تتيح للشخصية أن تقول كل ما عندها. لأننا بإزاء مسرح يهتم بالغوص إلى أعماق الشخصيات، والتعرف على ما ترسب فيها من آثار الماضي وجراحه. وهو مسرح يهتم أيضا بالمكان أكثر من اهتمامه بالحدث، لأنه يعتقد أن المكان من الرواسي التي تشد الشخصيات إلى تواريخها القديمة. لذلك اهتم العرض بتوزيع الشخصيات في المكان الرحب المهيب، وقدرته على الكشف عن عزلة «هانز» الذي كانت تحيط به دوما مساحات ساشعة من الخلاء. إذ تسعى المسرحية لطرح العلاقة القديمة الجديدة دوما بين ما هو محلي مغرق في محليته، وبين النزعة المتنامية للسفر في العالم ومغادرة أماكن تواريخنا القديمة كي نتحلل من المسؤولية عن ماضينا، وعما اقترفته أيدينا فيه في الوقت نفسه.
أما مسرحية المخرجة الانجليزية الموهوبة كيتي ميتشل (قطار الليل) وهي مخرجة انجليزية موهوبة طورت لغة العرض المسرحي عندها، بتقنيات التكبير والتصغير، واستخدام الكاميرا الآنية أي التي تصور المشهد الذي يدور أمامنا على المسرح وتكبره على شاشة أو شاشات أعلاه. كي تخلق معدلا مرئيا تشكيليا وحركيا معا لدمدمات الوعي وما يدور في داخل الشخصيات عبر تكبير أدق خلجاتها. كما أنها مولعة بسبب شغفها بتيار الوعي بالنصوص التي تتملص من التقديم الخطي والتتابع المتسلسل للتجربة الإنسانية، لأنها تعتقد أن لهذا الشكل قيوده التي تحدد الرؤية أو تطمسها. وقد اختارت نص الكاتبة النمساوية (قطار الليل) الذي يسجل منولوج شخصيتها الرئيسية الداخلي وهي في رحلة قطار من فيينا إلى باريس لحضور جنازة أبيها، وقد سعت في تلك الرحلة التي تستعيد فيها علاقتها به أن تكتب الكلمة التي عليها أن تلقيها في جنازته. وقد أتاحت لها سيولة تيار الوعي في النص، والحركة السريعة فيه بين الأزمنة أن توظف تقنيات العرض البصري في المزج بين الحركتين: حركة القطار في المكان، وتنقلات البطلة في الزمان، بين ماضيها القديم وطفولتها المعذبة التي دمرتها المشاجرات المستمرة بين والديها، وبين حاضرها مع رفيق حياتها والذي يوشك أن يكون، في مستوى من مستويات رؤيته أو اكتشافه، تكرارا لقصة أبيها مع أمها. أن تقدم عرضا بصريا وحركيا مدهشا، استأثر باهتمام المشاهدين وإعجابهم، ولكنه استطاع في الوقت نفسه أن يكشف لنا الكثير عن طبيعة النفس البشرية من ناحية، وحياة المرأة الأوروبية المعاصرة من ناحية أخرى.