I. في الحاجة المعرفية إلى نقد النقد
يكشف خطاب نقد النقد الحاجة المعرفية للنقد إلى وعي ذاته،من خلال اعتماد استراتيجية خطابية تفكر في اختياراته المنهجية وآلياته المعرفية، وتعيد النظر في مسلماته التصورية والنظرية. وتمكن هذه العملية التفكيكية الذاتية الخطاب النقدي من استكشاف العوائق الابستيمولوجية التي تحول دون انتظامه في نسق معرفي منتظم، وهذا ما يسمح له بإنتاج معرفة تحقق درجة مقبولة من المعقولية والملاءمة. بحكم هذه الاستراتيجية التفكيكية نعتقد أن خطاب نقد النقد يرتقي إلى أن يكون ابستيمولوجية نوعية موضوعها الخطاب النقدي، لأنه ينهض بدور تشييدي للمعرفة، من خلال نقد النصوص واقتراح البدائل، وبذلك فهو يتوخى إنتاج معرفة بديلة ومغايرة لما هو قائم في الواقع الثقافي من حساسيات ورؤى واتجاهات.
تفسر هذه الوظيفة التشييدية عمليات التفكيك والتأويل وإعادة التأويل في استراتيجية نقد النقد،لأن الخطاب النقدي في سيرورة تشكله واشتغاله مطالب بمساءلة مفاهيمه ووظائفه، وإعادة النظر في مسلماته وتصوراته، أي إعادة النظر "فيما ينتج تعاليه"(1). إذ بسبب هذا التعالي تتحول فرضياته ومسلماته إلى حقائق طبيعية naturalized غير قابلة للتعديل، تنتهي من المنظور التفكيكي إلى إرساء مركز يقوم بوظيفة احتوائية تتمثل في إنتاج بؤرة تسمح للمعرفة بأن تنتظم حول حقيقة تقدم نفسها كنموذج مطلق، من خلاله تكرس المقاربات النقدية تأويلات نهائية وأحادية، وهذا ما يفضي إلى إسدال الستار على أي تأويلات محتملة في المستقبل(2).
بفعل هذا التعالي الذي يحول التصورات والمرجعيات إلى حقائق طبيعية، تنتج المعرفة نظام تصديق ذاتي تخضع لإكراهاته، حيث يتم تقييم الخطابات والمتون استنادا إلى المعايير التي يشرعنها هذا النظام الاستدلالي الذاتي؛ وبسبب ذلك لا ينتبه الخطاب النقدي إلى هذه الطرائق التي تنتج التعالي. وهذا ما يجعل المفاهيم والمسلمات تتحول إلى عائق ابستيمولوجي أمام تطوير المعرفة. النقد إذن مطالب بتجاوز هذا العائق المعرفي بتفعيل استراتيجية التفكيك وإعادة النظر في أدواته ومساراته المنهجية وآلياته المعرفية. وإذا كان النقد قد اهتم بلغة النص الأدبي موضوع خطابه، فإنه مطالب بإعادة النظر في خطابه والتفكير في لغته الواصفة.
ضمن هذا الرهان المعرفي التشييدي يندرج كتاب (نقد النقد وتنظير النقد العربي المعاصر)(3) للدكتور محمد الدغمومي. فهو يطمح إلى صياغة نموذج معرفي لخطاب نقد النقد ومتن التنظير يكون قادرا على استقراء معطياته واختبار نتائجه؛ ولتحقيق هذا الرهان العلمي يعتمد المنهاجية النسقية وما تفرضه من اشتراطات المقبولية والمعقولية والملاءمة كمعيار لتقييم فعالية كل ممارسة خطابية. يعين هذا الانشغال بنسقية الخطاب النقدي مسارا مهما لهذا النموذج المعرفي، هو التركيز على البعد الابستيمولوجي لنقد النقد الذي يتمثل في تمحيص الإجراءات المنهجية ومساءلة المرجعيات النظرية، واختبار درجة استجابتها لشروط النسقية، وبذلك يؤسس هذا النموذج هويته المعرفية في صورة ابستيمولوجية نوعية موضوعها الخطاب النقدي. فالنقد في هذا النموذج ليس مجرد تعليقات على النصوص، بل يشكل نسقا معرفيا، أي مجالا لتشييد المعرفة. وبالتالي يتحدد المظهر الابستيمولوجي لنقد النقد في البحث في شروط إنتاج النقد للأنساق المعرفية وتشكيل البنيات الذهنية.
إن المتأمل للمشهد النقدي والفكري العربي يدرك وجود أكثر من حاجة معرفية ملحة، تفرض تفعيل خطاب نقد النقد، لرسم مساراته المنهجية وصياغة خرائطه المقولاتية. وتكمن هذه الضرورة المعرفية في المعطيات التالية:
التراكم الحاصل في المنجز النقدي، مما يستدعي قراءة ما أنجز من مشاريع نقدية وإعادة تنظيمها، لتقييم فعاليتها ومعرفة حدودها، حتى نتمكن من تنظيم مسار هذا التراكم واستكشاف تحولاته وعوائقه. وتكمن أهمية هذه القراءة في كونها تخدم تواصل المعرفة في سيرورة انتقالاتها، وتساهم في تشكيل وعي ابستيمولوجي وتاريخي بالخطاب النقدي.
التحول الحاصل في مفهوم النقد، فلم يعد مجرد تعليقات وشروح تساعد القارئ على فهم المتون، بل أصبح يشكل نسقا معرفيا يمارس دورا ثقافيا فعالا يتمثل في إنتاج التصورات وصياغة الذهنيات، لذلك ينبغي تفكيك الآليات المعرفية التي تمكنه من إنجاز هذه الوظيفة التشييدية في إطار الشروط الممكنة لإنتاج المعرفة.
التأثير الجوهري للمثاقفة في الخطاب النقدي العربي المعاصر. فهي تمثل عنصرا تكوينيا في بنية هذا الخطاب سواء من حيث المفاهيم أو المناهج، بل انتقلت أحيانا إلى التأثير في الرؤية التي تحكم هذا الخطاب وتحدد علاقة الذات بالعالم. كل هذه التداعيات تفرض إعادة النظر في دور هذه المثاقفة وأساليب تلقيها، وتقييم حصيلة التفاعل، بوضع آليات تضبط إواليات المثاقفة وعملية انتقال المفاهيم والنظريات، من أجل صياغة تفاعل إيجابي يشارك في الإنتاج ولا يكتفي بالتلقي السلبي.
الوظيفة التشييدية للمفاهيم، فهي تمثل الأداة المعرفية الرئيسة في صناعة الأنساق والنماذج، وهي أساس التواصل العلمي. وغالبا ما يحدث التشويش على تداول المعارف والخطابات بسبب اضطراب المفاهيم والتباس مدلولاتها، لذلك "يحتل الاهتمام بالمفاهيم مركزا هاما في الأبحاث العلمية والاجتماعية والإنسانية لما لها من دور في ضبط التعامل في الحياة العلمية والعملية، وفي بناء النظريات والمناهج والنماذج في الحياة العلمية"(4).
في هذا السياق الثقافي تظهر قيمة كتاب (نقد النقد وتنظير النقد العربي المعاصر)، لأنه يضع ضمن أهدافه الاستراتيجية هذه الرهانات المعرفية، حيث يحدد مهمته في المقاربة الابستيمولوجية للقواعد المنهجية والآليات المعرفية التي يعتمدها خطاب نقد النقد والتنظير، وكيفية استثماره للمفاهيم والمرجعيات. وتتجلى أهمية هذا الاختيار المنهجي إذا عرفنا أن السؤال الإيديولوجي قد ظل لفترة طويلة يتحكم في وظائف خطاب نقد النقد، وهذا ما جعله ينحرف عن وظيفته المعرفية والفكرية ويسقط في فخ السجالات والصراعات الإيديولوجية. وبسبب هذا الانحراف ظل الجدل القائم في نقد النقد جدلا إيديولوجيا وذاتيا، يتخذ مظاهر لاعقلانية تتمثل في الإقصاء والعنف والهدم، ويتوسل أساليب المغالطة والادعاء والمبالغة. والنتيجة الدراماتيكية التي ترتبت عن هذا السياق الملتبس هي عجز خطاب نقد النقد عن تأصيل المقولات والمفاهيم والمرجعيات من منظور معرفي وعلمي، وتشوش الممارسة النقدية بالمفاهيم المختلة والتصورات المضطربة.
على خلاف ذلك، يسعى الباحث محمد الدغمومي في نموذجه البديل إلى تفعيل السؤال المعرفي في خطاب نقد النقد، وذلك بتبئير مركز الاهتمام على تفكيك التشكيل الخطابي لبنياته، وتشريح آلياته المعرفية. هكذا يمكن أن نختزل رهانه المعرفي في الأسئلة التالية: كيف يشيد الخطاب النقدي العربي استراتيجيته الخطابية؟ كيف يبني أنساقه ونماذجه؟ ما هي شروط إنتاجه للمعرفة؟ ما هي درجة استجابته لاشتراطات النسقية والمقبولية؟
II. نقد النقد بوصفه ابستيمولوجيا
أشرنا سابقا إلى أن الباحث يتبنى نموذجا ابستيمولوجيا في تفكيك الخطاب النقدي العربي، وقد عبر عن هذا الاختيار المنهجي صراحة في تمهيد الكتاب "ومعنى ذلك أن البحث في مسألة التنظير يفضي بالضرورة إلى مجال فلسفة العلوم أو نظرية المعرفة أو ما يمكن أن نسميه اختصارا بالابستيمولوجيا، مما ينتج عنه خطاب نظري من درجة ثانية يصطلح عليه بالخطاب الماوراء ـ نظري أو المابعد نظري meta-theorique أي نقد النقد metacritique (ص15). لقد فرض هذا الاختيار المعرفي على المؤلف الارتهان إلى شبكة مبادئ علمية وتصنيفية تنظم شتات المتن النقدي في أنساق خطابية، وتستنبط مرجعياتها وتستقرئ مفاهيمها، مما أتاح له تعيين الحدود النظرية والتصورية الفاصلة بينها، التي تجعل كل خطاب يتميز بوظيفته واستراتيجيته ومرجعيته عن الخطاب الآخر.وأهم هذه المبادئ :البناء، الاستراتيجية، الإنتاجية، الملاءمة، الاستدلال.
تكمن الوظيفة الإجرائية لهذه المفاهيم في كونها تشتغل في سيرورة البحث باعتبارها مبادئ تنظيم وتشاكل تمكن المؤلف من اختبار درجة المعقولية والنسقية في الخطاب النقدي، ذلك أن كل ممارسة خطابية تطمح إلى إنتاج معرفة مقبولة ينبغي أن تحقق مستوى معقولا من الانتظام النسقي.
وبحكم هذا الرهان المعرفي، يحدد المؤلف هدفا تشييديا لعمله يتمثل في بناء نموذج معرفي ملائم لمقاربة الخطاب النقدي: "إن هدف هذا العمل يبدأ من هنا، أي من اقتراح نموذج للتفكير في النقد: نموذج صالح لما نسميه "نقد النقد" ونموذج صالح لما نعتبره تنظيرا للنقد"(ص10).
ولتحقيق شرط الملاءمة مع موضوعه، يطمح هذا النموذج إلى أن يؤسس كيانه المعرفي في صورة ابستيمولوجية نوعية يتحدد مجال اشتغالها في موضوع النقد ومتن نقد النقد والتنظير:
لا يشكل متن نقد النقد والتنظير خطابين منفصلين كليا، لأنهما معا ينطلقان من خطاب مشترك هو خطاب النقد، وهذا ما يفسر وجود علاقة تبادلية بينهما interdependent relationship(5). وتوضح الخطاطة أنواع هذه العلاقات التبادلية. إلا أن هذه العلاقة لا تعني أن خطاب نقد النقد وخطاب التنظير يشكلان نموذجا واحدا، لأن كل خطاب يتميز عن الآخر من حيث هدفه واستراتيجيته المنهجية، وبالتالي فهما غير متطابقين "فخطاب نقد النقد ينكب على النقد من أجل إنجاز عمل على عمل موجود، وخطاب التنظير ينكب على النقد من أجل اقتراح بديل جديد، وبين إنجاز العمل والاقتراح يكون الحاصل أحيانا متشابها، وأحيانا يقرب خطاب نقد النقد إلى خطاب التنظير بحيث يمارس هذا بعض اختصاصات الآخر" (ص11).
يتحدد الفرق المنهجي والخطابي بينهما في كون خطاب نقد النقد يؤسس وجوده وهويته المعرفية كممارسة practice تنصب على قراءة عمل فردي، بالمقابل يؤسس خطاب التنظير كيانه المعرفي كمشروع نظري theory يطمح إلى اقتراح البدائل النظرية، لذلك فإن ما يشغل التنظير ليس النص في ذاته أو العمل المفرد، بل تتحدد مهمته في صورنة formalization الخطابات، أي البحث عن القوانين الكلية التي تنتظم كل النصوص والممارسات بهدف صياغة الأنساق الشاملة. نلاحظ أن المسوغات النظرية والأهداف المعرفية والاستراتيجيات مختلفة في الخطابين. فإذا كان الرهان المعرفي لنقد النقد يتمثل في قراءة وتأويل عمل مفرد من أجل فهمه وتقويمه، فإن هدف التنظير يتجاوز هذا المستوى الإنجازي من أجل إنتاج معرفة جديدة لها طابع كلي ونسقي تكون بديلا لما هو سائد من نظريات وتصورات في الواقع الثقافي. يبدو الأمر وكأنه يتعلق بمشروعين متعارضين: النظرية في مقابل الممارسة.
إن التطورات المعرفية في الفلسفة والفكر أظهرت أن النماذج النظرية التي تقدم نفسها في صورة مشاريع نسقية كبرى، ينبغي ألا تحجب عنا دينامية الظواهر الشاذة والمعقدة التي غالبا ما يتم إقصاؤها في هذه المشاريع الكبرى من أجل الحفاظ على اطراد القوانين وصياغتها في نظريات مجردة. وبسبب هذا التهميش الذي لحق الظواهر اللامنتظمة في تاريخ سيادة النظرية أعاد "دريدا " الاعتبار لمفاهيم الاختلاف والتغايرheterogeneity والملحق، وأعاد النظر في مسألة الصورنة والنسقية من منظور الإشكال الابستيمولوجي للعلاقة بين العام generality باعتباره موضوع العلم، والخاص باعتباره موضوع التأويل particularity، وبين البنيوية والتفكيك. ففي الوقت الذي تؤسس البنيوية نفسها كعلم، يشيد التفكيك هويته كممارسة نقدية لا ترى في الطموحات العلمية للبنيوية سوى "أحلاما مستحيلة"(6)، لأنه يكشف قدرة الخطابات والنصوص على خرق منطق الأنساق وانتهاك حدود النظريات، ويثبت استحالة قيام علم للخطاب، لذلك يعود بالبحث النقدي إلى وظيفة التأويل والممارسة، حيث يتركز الاهتمام على تأجيج مقاومة الخطابات لمنطق الأنساق والذهاب بالتصدعات والفجوات إلى أقصى حد لاكتشاف شروط وآليات التغاير والاختلاف في الظواهر.
لقد ترتب على هذا التحول في الهدف الفلسفي للمعرفة استبدال نموذج التنظير والصورنة باستراتيجية النقد والتأويل والممارسة، وتفكيك الانسجام الظاهر للأنساق بحثا عما تحجبه من تصدعات وتجاذبات، لذلك لم يعد ممكنا الاحتفاظ بتلك التراتبية بين النظرية والممارسة التي يتم بموجبها منح التنظير سلطة المركز واختزال البحث النقدي إلى مجرد هامش تابع للنظرية. في نفس هذا المسار التفكيكي لمفاهيم الانسجام والتجانس والنسقية أعادت نظرية العماء chaos اكتشاف الطبيعة المعقدة للظواهر. فما يبدو أحيانا من نظام ظاهر قد لا يعبر سوى عن رؤية مثالية للإنسان تسعى إلى إضفاء الانسجام والوضوح على الظواهر.
ولتجاوز هذا التعارض بين التنظير والممارسة ينبغي صياغة نموذج متوازن ومتحرر من وهم المعيار، يجمع بين طموح المشاريع النسقية الكبرى إلى القوانين الكبرى، وبين إنجازات الممارسة النقدية التي تظهر اختلاف العمل الفردي وقدرته على خرق الأنساق وانتهاك القوانين. وسيتيح هذا الوعي المزدوج لهذا النموذج المركب إعادة النظر في طريقة صياغته للقوانين والأنساق، مما يمكنه من إدماج التحولات والانزياحات التي تحدثها الأعمال الفردية في مشروعه التنظيري،بحيث لا يهمل في مغامرة بحثه عن الوحدة والنظام والنسق ظواهر العماء والتحول والتعقيد التي تبدو من منظور المنهاجية النسقية ملتبسة وشاذة.
هكذا تحل نظرة دينامية محل النظرة الصورية المثالية للتنظير التي تفهم القوانين والأنساق على أنها صياغات تجريدية متعالية على شروط إنتاج الخطاب وسياقات تلقيه، في حين هي نتاج نشاط تفاعلي بين القانون والمصادفة، بين الانتظام والعماء، بين القاعدة والانزياح.وستحول هذه النظرة الدينامية دون اختزال التنظير إلى وظيفة احتوائية تشكلن الخطابات في نماذج ونظريات كبرى، لكنها تستبعد التصدعات والفجوات التي تشكل دينامية الخطاب، وفي أفضل الأحوال تنظر إليها نظرة معيارية وتراتبية.
III. مواصفات النموذج:
سبق أن وضحنا أن الهدف الاستراتيجي للمؤلف هو تشييد نموذج ابستيمولوجي لمتن نقد النقد والتنظير، فما هي مواصفاته؟
1- إنه نموذج نسقي، يعتمد المنهاجية النسقية في مقاربة الخطاب النقدي، حيث يتحدد موضوعه في رصد ترابط الخطاب النقدي ووصف علائقه المنطقية وتماسك موضوعاته وملاءمة وظائفه ومفاهيمه. والغاية العلمية لهذه المنهاجية هي الاهتداء إلى كشف نظام المتن النقدي، ورصد العوائق المعرفية التي تحول دون انتظامه. فهو لا يكتفي بوصف عناصر التنسيق والترابط، بل يختبر درجة التماسك المعرفي والمنهجي الموجود بين هذه العناصر الذي يمكن النقد من أن يشكل كيانه في صورة نسق معرفي تترابط عناصره منطقيا وتتماسك علائقيا. وتتمثل أهم مبادئ وشروط النسق في التماسك والترابط والانسجام. وكما يؤكد أحد الباحثين فإننا "نسمي شيئا ما نسقا حينما نريد أن نعبر عن أن الشيء يدرك باعتباره مكونا من مجموعة من العناصر أو مجموعة من الأجزاء يترابط بعضها ببعض حسب مبدأ مميز"(7).
من هذا التعريف يتضح أن أهمية المنهاجية النسقية تكمن في النظر إلى الظواهر والخطابات في كليتها وترابطها، لا في جزئيتها وانفصالها، لأنها تمكن الباحث من تصنيف الظواهر إلى أنساق، وتحليل كل نسق على حدة لرصد بنياته وعناصره وآلياته، ثم البحث عن مبادئ الانتظام والتنسيق والترابط، ومن ثمة فإن "التحليل النسقي يسمح بأن يؤخذ في الاعتبار مجموعة مهمة من العناصر ويستطيع أن يعتبرها مجتمعة ومنفصلة، فالمحلل لا يضيع في ركام التفاصيل ولا يتيه في معالجة كتلة من العناصر المتنافرة معتقدا أن ليس بينها علاقة، أو يحلل بدون إبدال معين (كما أن) دراسة كل العناصر، ودراسة علائقها وتعالقها ودراسة تنظيمها تجعل التعميمات ممكنة، هذه التعميمات التي يمكن تأكيدها (و نفيها) في الحال"(8).
هذه الإيجابيات لا ينبغي أن تحجب عن المحلل النسقي جانبا سلبيا في المنهاجية النسقية، يتمثل في استبعادها الظواهر الشاذة غير المطردة،وهذا ما يجعلها عاجزة عن تفسير ما ينتهك حدود النسق ويشوش على منطق ترابط عناصره، خاصة وأن هذه الصيرورات الطارئة تنتهي إلى توليد ديناميات جديدة تتحرك على هامش النسق، لكنها تؤثر فيه وتغير من تراتبية علائقه. ويكشف كوهنKuhn أهمية الظواهر الشاذة في تغيير النماذج النظرية وتعديل المعايير المهيمنة والقوانين السائدة، والدفع بالبحث المعرفي إلى اكتشاف بدائل جديدة، لتفادي كل نزعة انغلاقية تكرس جمود القوانين وتحجر المرجعيات. بالنسبة لـ"كوهن: "إن القوة الدينامية في تحول النموذج هي اقتحام الظواهر الشاذة التي تكون مستقلة عن أنساق المعقولية المهيمنة"(9).
إن هذه الظواهر الشاذة التي تعتبر ظواهر غير معقولة من منظور النموذج المهيمن، مع خضوعها لمنطق التراكم يترتب عنها تغير الجشطالت gestalt shift في النسق المهيمن(10)، بمعنى تغير منظومة العلاقات والأنظمة والقواعد التي تضمن وحدة وكلية النسق المهيمن وتشكل داخله نظاما للحقيقة يحدد ما هو صواب وما هو خطأ، أي ما ينتمي إلى النسق وما يوجد خارجه. وهكذا فإن دينامية الظواهر الشاذة بما تولده من تصدعات إبداعية تحول دون انغلاق النسق وتصلب قوانينه وعناصر انتظامه.
بالمقابل تنظر المنهاجية النسقية إلى هذه الظواهر اللاخطية نظرة سلبية، إذ تعتبرها ظواهر شاذة وملتبسة لا تستجيب لمعايير النسقية والمعقولية intelligibility. ولتجاوز هذا العائق المعرفي في التحليل النسقي تقترح نظرية العماء مفاهيم الدينامية والتشعب والانشطار والتوتر لتفسير ما يقع من طفرات وتغيرات مفاجئة في الأنساق المفتوحة. وكما يؤكد كوهن فإن النظرية تكون فعالة عندما تستطيع تفسير الظواهر الشاذة التي تباغت النموذج المهيمن على غير توقع(11).
2- إنه نموذج كانطي kantian (نسبة إلى الفيلسوف كانط) من حيث أنه يبحث في "شروط استحالة وامكانية النسقية" systematicy (12) ويتوسل شبكة من المفاهيم الملائمة والمبادئ الاستدلالية التي بامكانها اختبار درجة تحقيق الخطاب النقدي لشروط النسقية التي تتمثل في إنتاج معرفة معقولة ومقبولة بالقياس إلى المعايير الابستيمولوجية: "إنها مفاهيم عمل تحقق، من جهة المعقولية بمعنى ممارسة فعل له تركيب مقبول في ضوء قواعد ومبادئ يحصل بسببها إنتاج معرفة قابلة للفهم والإدراك؛ وتحقق المقبولية عندما تستطيع المعرفة المنتجة الصمود أمام الاختبار ولو في حدود نسبية"(ص12). يستمد هذا النموذج المعرفي، إذن، جهازه الاستدلالي من قواعد ومبادئ المعرفة العلمية باعتبارها تمثل ضمانة ضد "اللايقين الافتراضي"(13). لذلك يمكن أن نستنتج بأن الابستيمولوجية تشكل المرجعية التي يستقي منها هذا النموذج معاييره في الوصف والاستدلال والتقييم. هكذا نجد الباحث يوظف أهم مفهوم في الابستيمولوجيا هو مفهوم الاختبار، ويتخذ مبادئ المعرفة العلمية نموذجا لاختبار قدرة الخطاب النقدي على إنتاج معرفة معقولة ومقبولة، تسمح له أن يقف على عتبة العلم.
استنادا إلى هذه المرجعية العلمية والنظرية، يحدد المؤلف الشروط الممكنة لإنتاج معرفة مقبولة في خطاب نقد النقد والتنظير. وتتمثل في خاصيات الانسجام والانتظام والوعي، وانتظام المفاهيم في نسق ملائم، واكتساب قوة استدلالية محققة للمعقولية قادرة على الصمود أمام محك الاختبار. وتكمن أهمية هذه المنهجية الابستيمولوجية في أنها تتجاوز الطرح الإيديولوجي القائم على البحث في النوايا والأفكار، إلى تفكيك ومساءلة أدوات التفكير وآليات الإنتاج: "هكذا إذ يتشخص لنا موضوع الطموح والاقتحام لم يكن بد من البحث عن مبادئ عمل، وإجراءات كفيلة بتوصيف الخطابات، لا بتفسيرها، أو جعلها علامات على نوايا أو خلفيات أو مجرد أفكار، إذ نحن أمام خطابات تبحث عن انتظام داخل المعرفة وعلى عتبة العلم"(ص12). بحكم هذا التناول الابستيمولوجي لا يهتم هذا النموذج بالطروحات والمذاهب والإيديولوجيات، بل يفحص آليات "الخطاب النقدي" وطريقة تفكيره في موضوعه، ويفكك إوالياته في إنتاج المعرفة وكيفية انتظام خطاباته، حيث يهتم المؤلف بإعادة تنظيم شتات المتن النقدي وتركيبه بطريقة منتظمة تكشف أنساقه ومرجعياته، وترسم الحدود النظرية الفاصلة بين خطاباته.
3- إنه نموذج معرفي تشييدي constructive، يقدم نفسه كابستيمولوجية نوعية تبحث في شروط المعرفة المعقولة. لذلك يتخذ مفهوم النقد في هذا النموذج وضعا معرفيا. إنه يشكل نسقا معرفيا، وليس مجرد تعليقات على النصوص أو إجراءات وأساليب وقواعد مفصولة عن سياقاتها الابستيمولوجية والاجتماعية، يكتفي الناقد باستعارتها واستعمالها وتطبيقها على النصوص دون تمثل منهجي ومعرفي لخلفياتها العلمية والفلسفية. على نقيض هذا التصور الاستعمالي، يتخذ النقد في هذا النموذج وضعا معرفيا يرتقي به إلى مستوى النسق المعرفي الذي تتحدد وظيفته في تشييد الأنساق الفكرية والبنيات والرؤى الذهنية.
4- إنه نموذج تقويمي، لأنه لا يكتفي بوصف استراتيجيات الخطابات النقدية، بل يقوم هذه الاستراتيجيات في ضوء معايير الابستيمولوجيا وشروط المنهاجية النسقية. وإذا كان إجراء الوصف يسمح له بالتعرف على وظائف الخطاب النقدي واستكشاف مسالكه المنهجية، فإن إجراء التقويم يسمح له بتمحيص إنجازاته المعرفية وتقويم حصيلتها ونتائجها. إن فعل الاختبار يسمح لهذا النموذج بممارسة فعل التقويم، حيث يتم تقويم آليات إنتاج المعرفة في الخطاب النقدي(النظرية، المنهج، المفاهيم، المرجعيات) في ضوء قواعد إنتاج المعرفة العلمية، كما تقررها معايير الابستيمولوجيا "خصوصاً حين تظهر صورة/ الموضوع في مقابل نموذج أو أصل أو حقيقة دالة على الخطأ أو الصواب، التمام أو النقصان والسلب أو الإيجاب"(ص57)
يظهرـ إذن أن فعل التقويم هو نتيجة طبيعية في المنهاجية النسقية،لأن استكشاف انتظامات الخطاب النقدي يتضمن بالضرورة اختبار هذا النموذج المعرفي لموضوعه (النقد، النظرية، المنهج، المفاهيم). والاختبار يفضي إلى عرض هذا الموضوع على معايير المعرفة العلمية وقياس درجة ملاءمته لاشتراطات النسقية والانتظام.
5- إنه نموذج معياري، لأنه يؤسس ابستيمولوجيته النوعية في ضوء معايير الابستيمولوجيا، أي من خلال انتسابه إلى العلم باعتباره نموذجا معيارا للمعرفة المعقولة والمقبولة: "أما نقد النقد، فهو "يتموضع" في مكان آخر يجعله ابستمولوجية نوعية خاصة بموضوع معرفي هو النقد الأدبي، ويقف على عتبة (العلم)، ويبني نفسه على أساس نموذج من نماذج العلم مثله مثل خطاب التنظير النقدي"(ص10).
وبدافع هذا الانتساب يستقي هذا النموذج جهازه الاستدلالي ومعاييره الوصفية من مبادئ وقواعد المعرفة العلمية، خصوصا تلك التي تسمح له بإخضاع موضوعه للاختبار ولو في حدود نسبية.
IV. حدود الابستيمولوجيا النسقية
كما سبق أن وضحنا يتشخص نموذج نقد النقد الذي يقترحه المؤلف في صورة ابستيمولوجية نوعية موضوعها النقد الأدبي. ويفرض هذا الطابع النوعي أن تكون معايير ومبادئ هذه الابستيمولوجية ملائمة ومناسبة لطبيعة موضوعها. فما هي طبيعة النقد الأدبي؟ تتشخص طبيعة النقد الأدبي في صورة إشكالية معقدة. وهذا الإشكال ناتج عن مفهوم النقد الأدبي وموضوعه وعلاقاته. فمن حيث المفهوم يتميز النقد الأدبي بطبيعة غير محددة، تمنع صياغة تعريف أحادي ونهائي له، لأنه يقع في وضع مزدوج ومفارق. فهو من جهة أولى يتطلع إلى وضع العلم من حيث إجراءاته وأدواته وطموحه إلى إنتاج معرفة معقولة، ومن جهة ثانية يشتغل على موضوع أدبي يظهر في صورة مفارقة للعلم.
إن هذا الجدل المتوتر بين وضع العلم ووضع الأدب هو الذي يفسر الوضع المفارق والإشكالي للنقد الأدبي. وبسبب ذلك تتأثر طبيعة النقد الأدبي بشبكة التعالقات الفكرية والتقاطعات المعرفية التي يظل عرضة لها في مسار تفاعلاته مع العلوم والمناهج والنظريات الفلسفية، الشيء الذي يمنع شكلنته وانتظامه في نسق خطابي مغلق. إنه دائما في حالة صيرورة من حيث تعديله لأدواته وتطويره لمناهجه وإعادة النظر في تصوراته ومرجعياته. والنتيجة المباشرة لهذا الجدل الدينامي أن النقد يرفض الإقامة في هوية ثابتة تمنحه متعة الإحساس بسعادة الاستقلال والاستقرار والتجانس. ومعنى ذلك أن مجال أو نسق النقد الأدبي يظل متغايرا وغير متجانس، لأنه يتحدد في الأوضاع المعرفية التالية(14):
1- الخطاب النقدي ممارسة معرفية تتوخى إنتاج بنيات معرفية وأنساق تصورية. إنه البعد الخطابي discursive dimension.
2- لا يوجد الخطاب النقدي في ذاته، بل يتشكل في شبكة علاقات مع الخطابات الأخرى. إنه بعد التداخل الخطابي interdiscursive dimension.
3- يرتبط الخطاب النقدي بفاعلين يمارسون أدوارا في المؤسسة ( الجامعة، الحزب، الجمعيات، الاتحادات والجماعات الأدبية…) لذلك فإن وظائفه واستراتيجياته تتأثر بالسياقات الخارجية ومصالح هذه القوى، مثل المؤسسات والبنيات والعمليات الاجتماعية. إنه البعد خارج خطابيexstradiscursive dimension.
تكشف هذه الأبعاد المعرفية تغاير العناصر وتعقد السياقات المحددة للتشكيل الخطابي للنقد. وهذا ما يجعله يوجد في وضع أنطولوجي علائقي ودينامي، يظل في حالة صيرورة وتحول.
لقد قمنا بتشريح هذا الوضع الإشكالي للنقد لنؤكد على أن أي نموذج يطرح نفسه في صورة ابستيمولوجيا لمقاربة الخطاب النقدي، ينبغي أن يضع في الاعتبار الطبيعة المركبة والدينامية للنقد حتى لا يتحول البحث في انتظام ونسقية الخطاب النقدي، إلى بحث في الوحدة والمشابهة والتجانس يلغي الشروط المتغايرة لبنيته الخطابية.
وإذا كانت الابستيمولوجيا تبحث في شروط الانتظام والدقة والموضوعية بحكم طبيعة الموضوع العلمي الذي يتميز بقابليته للاختبار والقياس، فلن يكون من الوجاهة العلمية تطبيق معايير هذه الابستيمولوجيا على النقد الأدبي. وسيكون المخرج هو تشييد ابستيمولوجيا نوعية من داخل مجال وشروط النقد الأدبي، تتلاءم مع طبيعته غير المستقرة التي توجد في وضع بين العلم والأدب. هكذا يوجد النقد في ( موقع وسيط بين موقعين أصليين، منفصلين، ويتميز عنهما في البنية والوظيفة(15). إنه وضع المابين L entre deux، فلا هو موضوع علمي بحث، ولا هو محض موضوع أدبي. إنه يتوسط الخطاب العلمي والخطاب الأدبي ويفصل بينهما، وهذا ما يجعله يختلف عنهما. إلا أن هذا الاختلاف لا يمنع النقد من أن يحتفظ ببعض الخصائص والعلاقات التي تربطه بهذين الخطابين. فكلما اقترب النقد من خصائص الخطاب العلمي اكتسب نزعة علمية، وكلما اقترب من خصائص الخطاب الأدبي اكتسب نزعة أدبية وفنية. وفي كل الأحوال، يؤشر الخطاب النقدي على وضع مغاير لوضع العلم ووضع الأدب، ومع ذلك فهو لا يلغيهما بل يضمهما في إستراتيجيته. وهذا ما يفسر تجاذب وضع النقد وتوتره، ويشيد ديناميته، وهويته المتحولة.
ولكي تكون هذه الابستيمولوجيا النوعية ملائمة لخصوصية موضوعها، ينبغي أن تؤسس نفسها -من الوجهة المعرفية- في صورة ابستيمولوجيا جهوية تستفيد من معطيات الابستيمولوجيا، ولكنها بالأساس تكيفها مع طبيعة النقد الأدبي، وهذا لن يتأتى لها إلا بالتخلص من "التعالي العلمي"transcendental scientificity(16)، أي من إغراء النموذج العلمي، وصياغة معاييرها من داخل مجال النقد الأدبي.
IV. جهوية النقد الأدبي
يمثل النقد الأدبي مجالا واسعا يتضمن اختصاصات متنوعة: النظرية الأدبية، الدراسة الأدبية، تاريخ الأدب، ويؤثر هذا التنوع في معمارية أي ابستيمولوجيا للنقد الأدبي، لأنها لن تتكون من موضوع واحد ومتجانس، كما هو شأن الابستيمولوجيا الطبيعية. وفي أبسط صورة تتكون ابستيمولوجيا النقد الأدبي على الأقل من جهويتين: النقد والأدب. لذلك لا تماثل جهوية النقد الأدبي الجهويات العلمية مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء. فإذا كانت الجهويات العلمية مستقلة بذاتها، لأنها استطاعت أن تستقل بموضوعها ومنهجها وأدواتها وترسم لكيانها المعرفي حدودا نظرية واضحة، فإن جهوية النقد الأدبي غير مستقلة بأدواتها ومنهجها وحدودها، ولكنها جهوية منفتحة بسبب تفاعلاتها وتقاطعاتها مع العلوم الطبيعية والإنسانية والنظريات الفلسفية. وهي أيضا جهوية دينامية، لأن النقد كموضوع يعبر عن مفهوم غير محدد يتشكل ويكتسب محتواه في سياق تطور المعرفة والنظريات، ومن ثمة يظل في حالة صيرورة دينامية من التحولات والانتقالات. وهي أيضا جهوية متعددة، لأن النقد كما سبقت الإشارة مجال واسع يتضمن اختصاصات متعددة : النظرية الأدبية، الدراسة الأدبية، تاريخ الأدب.
إن كل اختصاص من هذه الاختصاصات عندما يراكم تجاربه ومعطياته في سياق تطوره، يمكن أن يشكل جهوية فرعية داخل مجال النقد. هكذا تتشعب وتتعدد جهوية النقد الأدبي أفقيا وعموديا بتعدد اختصاصاتها. إضافة إلى ذلك، حصلت تطورات معرفية مفصلية في مجال الابستيمولوجيا الطبيعية غيرت النظرة الكلاسيكية لوظيفتها ومعاييرها، خاصة إذا أدركنا أن التداخل حاصل بين الجهويات في العلوم الطبيعية. وهذا ما جعل "ميشيل سير" يرفض فكرة المرجعية التي قامت عليها الابستيمولوجيا الكلاسيكية في القرن التاسع عشر لأن ( كل جهوية تتداخل وتتفاعل مع الجهوية الأخرى، بل إن اجتماع جهويتين أو أكثر يمكن أن يؤدي إلى نشوء جهوية علمية جديدة تختلف عنهما من حيث الموضوع، وربما من حيث المنهج(17). إن هذا التفاعل بين الجهويات العلمية هو الذي يؤدي إلى نفي فكرة المرجعية واستبدالها بفكرة التفاعل بين النظريات.
إذا كانت هذه التحولات المعرفية حاصلة في فلسفة العلوم الدقيقة، فإن أي ابستيمولوجيا للنقد أجدر بها أن تتحرر من فكرة المرجعية، أي من اتخاذ العلم نموذجا معيارا للحقيقة والنسقية، بحكم دينامية موضوعها وانفتاح جهويتها وتعددها، وأن تؤسس نفسها كابستيمولوجيا جهوية تنظم موضوعها (النقد) وتنحت معاييرها وفق نسق الحقيقة الذي ينتظم موضوعها وعلاقاته، وكما يؤكد ميشيل سير: "إن كل مجال علمي في نسقيته الخاصة ليدير نوعا مستقلا من الحقيقة، ومن ثم فإن له فلسفة لعلاقات هذه الحقيقة بالنسق"(18). وكما أوضحنا سابقا، تتحدد طبيعة النقد في صيرورة دينامية تتجاذبها مفاهيم التفاعل واللاتحديد والحوارية والتعددية والتحول، حيث تمثل سمات أساسية للعلاقات القائمة بين الخطاب النقدي والعلوم والنظريات، وتشكل خصائص محايثة لموضوع النقد، أي الأدب، كما أنها تميز مجالاته المتعددة: النظرية الأدبية، الدراسة الأدبية، تاريخ الأدب.. فالمفاهيم والمناهج قابلة لأن تترحل وتنتقل بين هذه الاختصاصات. وبالتالي فإن فكرة النسقية وما تستلزمه من وضع الحدود النظرية ومعايير الانتظام والتصنيف، لا ينبغي أن تسقط في المعيارية على مرجعية خارج جهوية النقد.
وإذا أخذنا نموذج رولان بارث، فإن النقد البارثي يبدو عصيا على الانتظام والتصنيف في خطاب واحد بحكم صيرورة التحولات المحايثة لممارسته النقدية "لأن بارث نفسه قد تقلب بين الوجودية والماركسية والبنيوية وعلم اللغة والنقد النصي، وجمع ما بين علم الاجتماع والنقد الأدبي. ولكنه ظل دائما يفضح زيف كل حقيقة نقبلها على علاتها، ويستحث فكره -لتجاوز حدوده السابقة-، ويزوغ من تصنيفات الحدود المعرفية… فهو يظل أقرب إلى اللغز...، إذ يظل بارت مزيجا ملغزا يعاند التصنيف"(19). إن الممارسة النقدية عند نقاد من أمثال رولان بارث، وسارتر، وموريس بلانشو تطرح كما لاحظ تودوروف تحديات على المنهاجية النسقية، لأن كل نموذج من هؤلاء يرفض أي تصنيف يحصره في نسق بعينه، وتتأبى تجربته النقدية على الانتظام في خطاب واحد. وقد اصطدم تودوروف بهذا التحدي وهو يدرس مؤلفات سارتر النقدية عن بودلير، وجون جينيه، وفلوبير، حيث تردد في إدراجها في نوع "النقد"، كما شعر باستحالة إخضاع محتوى الخطاب النقدي عند موريس بلانشو إلى مبادئ المنهاجية النسقية "تبدو كل محاولة لتأويل بلانشو في لغة غير لغته محكوما عليها بمنع غير معلن"(20).
إن تطبيق معايير المنهاجية النسقية على مثل هذه التجارب المنفلتة يكون دون جدوى، لأنها لا ترى فيها سوى مجموعة ألغاز وتحولات ملتبسة تفتقر لعناصر الانتظام النسقي وشروط المعرفة العلمية، ولا تحترم الحدود الابستيمولوجية الفاصلة بين الخطابات والمرجعيات. بالمقابل فإن المنهاجية التفاعلية الدينامية بامكانها أن تستوعب هذه الظواهر الشاذة والمنفلتة. من هذا المنظور يكشف تودوروف أهمية النقد البارتي في زعزعة خطاب الاختصاص وتفكيك مفاهيم الحقيقة والذات والهوية. إن تجربة رولان بارت تعكس بتعبير جيل دولوز وضعاً استعارياً مفارقاً هو وضع "الذات الرحالة، بما هي ذات متحركة، مترددة. استناداً إلى هذا الموقع يمكن أن تكتسب هويات مختلفة"(21).
في مقابل مفهوم النسق المغلق، تطرح تجربة "رولان بارت" مفهوم الصيرورة Devenir الذي يرفض الامتثال لأي نموذج أو نسق. إن الصيرورة باعتبارها ترحالا في المعرفة وتنقلا بين الأنساق وتجديدا في الرؤى والتصورات، تجعل الخطاب ينتهك حدود التصنيفات النسقية والمنطقية، ويحطم كل معيارية ترجعه إلى مرجعية ثابتة. وإذا كانت المنهاجية النسقية قد ظلت تهتم بظواهر النسق والنظام والانسجام، فإن نظرية العماء كشفت أهمية الظواهر اللاخطية في تشييد المعرفة، وأعادت الاعتبار لمفاهيم المصادفة والفوضى والتعقيد واللاحتمية والتحول في بناء الأنساق. وخلصت إلى أن الظواهر "الشاذة" anomalous تملك بنيات عميقة من نظام محايث لها، وهذا ما ينفي وجود تعارض بين النظام والفوضى، بل يؤكد وجود تفاعل دينامي بينهما ووجود تكامل "بين العماء والانتظام والفوضى والنظام والخطية واللاخطية والتنبؤ واللاتنبؤ والتشابه والاختلاف واليقين واللايقين"(22).
إذا سلمنا بهذا التفاعل فإن أي ابستيمولوجيا تبحث في شروط انتظام الخطاب تحتاج إلى الجمع بين المنهاجية النسقية والمنهاجية العمائية، حتى تتمكن من صياغة معايير تصنيف متوازنة ومتكاملة قادرة على وصف انتظام الظواهر الخطية وعلى كشف البنيات العميقة المنتظمة المختفية في لاتنبئية ولاحتمية الأنساق العمائية. أي في ما هو غير مطرد، ومتحول من حالة إلى أخرى لا تتم وفق شروط الانتقال الخطي والطبيعي، بل من خلال صيرورة انقطاعات وطفرات حاسمة وكارثية.
V. انتظام النقد العربي
كيف ينتظم المتن النقدي في هذا النموذج ؟ ما هي درجات تحقيقه لاشتراطات النسقية والمقبولية؟
يشمل المنجز النقدي العربي موضوع التقصي والبحث في هذا النموذج متنا واسعا يتوزع بين ممارسات نقدية متنوعة ومتباينة لا يجمع بينها سوى انتسابها إلى النقد: "إنها مبادئ مكنتنا أيضا من الاهتمام بخطابات كثيرة دون تقويم مسبق أو تصنيف جاهز، ومكنتنا فعلا من قراءة متن واسع نفسه،…هكذا يكون المتن حصيلة إنجازات لها مظاهر مختلفة (كتب، مقالات، مقدمات كتب)"(ص13).
بسبب هذه المظاهر المختلفة للمتن النقدي الواسع، يبدو النقد نشاطا غير متجانس يحتوي ممارسات نقدية مختلفة في استراتيجياتها وخطاباتها وأهدافها. وهذا ما فرض على الباحث استحضار شبكة من المعايير الابستيمولوجية والمبادئ التصنيفية التي تمكنه من تأطير هذه المادة النقدية المشتتة والواسعة داخل خطابات متميزة بانتظامات منهجية وتصورية ومرجعيات نظرية: "هكذا يكون المتن حصيلة إنجازات لها مظاهر مختلفة (كتب، مقالات، مقدمات كتب) قد تعمدنا قراءة كل ما وصل منها إلي أيدينا، واستحضرنا ما توجب استحضاره استجابة للمبادئ المتحكمة في هذا العمل، والتي جعلت المادة المكونة لنقد النقد والتنظير قابلة لأن تنتظم وتمارس الإنتاجية والجدل والحوار مع النقد خصوصا، ومع المعرفة والعلم بصفة أخص"(ص13).
يستثمر الباحث مفهوم الخطاب كمبدأ تنظيمي وتصنيفي، حيث يعمد إلى تفكيك المتن النقدي إلى عناصره وآلياته الداخلية التي تحكم عملية إنتاج الخطاب وتداوله. الشيء الذي مكنه من تصنيف هذا المتن حسب بنياته المحايثة إلى أربعة خطابات: خطاب التعليم، خطاب التأريخ، خطاب التحقيق، خطاب التنظير. كيف ينتظم – إذن - كل خطاب؟ وما هي استراتيجيته الخطابية؟
1- خطاب التعليم: يشتغل هذا الخطاب وفق شروط وآليات تفرضها معايير المؤسسة التعليمية مثل المدرسة والجامعة. وبسبب ذلك تتحكم الوظيفة التوجيهية التداولية في استراتيجيته التي تتمثل في نشر معرفة بالنقد تزود المتعلم بمعلومات وخبرات تساعده في عملية الفهم والقراءة. وبحكم تفاوت مستويات المتعلمين، يشتغل الخطاب التعليمي في سياقات متباينة، ذلك أن موسوعة إدراك وفهم المتلقي الجامعي تختلف عن موسوعة إدراك المتلقي العادي أو المتلقي الذي يرغب في ممارسة النقد. ويؤثر هذا التفاوت المعرفي والثقافي في بنية الخطاب التعليمي، حيث تتجاذبها وظائف متعددة، مهنية وتخصصية وأخرى ثقافية وتربوية.
وفي كل الأحوال، تظل الآلية المهيمنة في الخطاب التعليمي هي البرغماتية التربوية التي تتمثل في إفادة المتلقي بالخبرة النقدية المتحصلة لدى الناقد. هكذا يتحدد مفهوم النقد في هذا الخطاب في الصورة التالية: "1. معرفة مقررة ومسلما بأهميتها ودورها؛
2. مهارة ينبغي امتلاكها؛
3. معرفة ومهارة ذات فائدة لتخصص "الطالب" وللحياة الأدبية العامة؛
4. موضوع خبرة وعلم للمؤلف"(ص62).
توضح عناصر هذه الصورة أن مفهوم النقد في الخطاب التعليمي عام، وموضوع جاهز ومسلم به. فهو عبارة عن مادة جاهزة يمتلكها الناقد، ولا يحتاج إلى تشييد نظري يتطلب شكلنة مفهوم النقد داخل نسق معرفي منتظم، يكون بإمكانه تحديد موضوع النقد بدقة، وصياغة مرجعياته وآلياته الملائمة بما يضمن له إنتاج معرفة مقبولة. بسبب ذلك لا يستجيب النقد في الخطاب التعليمي لمعايير النسقية لأن "موضوع (النقد) في خطاب التعليم ليس موضوع علم أبدا، لأنه لا يتعامل معه بصفته موضوع اكتشاف أو تحقيق أو بناء، إنما هو موضوع جاهز من قبل ولا يمثل مشكلة ما إلا مشكلة القارئ الموصوف هنا بالنقص في المعرفة"(ص63). لذلك تظل استراتيجية الخطاب التعليمي محكومة بإفادة المتعلم بشتى الوسائل الممكنة، باعتماد مهارات وأساليب تربوية مثل التلخيص والانتقاء والتعميم والشرح والتبسيط. وهذه الإجراءات كلها لا ترقى إلى مستوى المفاهيم التشييدية. أي اللغة الاصطلاحية الدقيقة التي تتطلبها الصناعة التنظيرية.
وعلى صعيد الوضع الأنطلوجي يوجد الخطاب التعليمي في وضع خطابي متداخل وعلائقي، إذ تتسرب إليه بعض عناصر الخطاب التنظيري، إلا أنها -كما رأينا- لا ترقى إلى مستوى الصناعة التنظيرية الملائمة لمعايير النسقية والمعقولية، لأن توظيف الناقد التعليمي للمفاهيم النظرية لا يصدر عن موقف نظري ولا يتأطر ضمن منهج أو مرجعية، بل يستعمل مفاهيم "النظرية"، و"المنهج"، و"المفهوم" لأغراض تعليمية، وبالتالي لا يهمه مدى استجابة هذا الاستعمال لاشتراطات النسقية والانتظام المعرفي، لأنه معني فقط بوظيفتها التعليمية وليس بانسجامها النظري. فالأمر يتعلق باستعمال utilisation (23) المفاهيم والنظريات من منظور برغماتي وانتقائي، وليس بتأويلها وإعادة إنتاجها في سياقات جديدة تتطلب تسويغها معرفيا لتحقيق شرط الملاءمة والمقبولية.
2 ـ خطاب التأريخ : يطرح هذا المتن إشكالا أجناسيا فيما يخص انتماءه لمتن نقد النقد والتنظير، لأنه لا يشتمل على مقومات واضحة تسوغ انتظامه داخل هذا المتن، وإنما تحضر فيه عناصر من نقد النقد بدرجات متفاوتة. إنه "حصيلة من الخطابات التي تعاملت مع النقد بما هو أفكار وإنتاج أو وقائع مرتبة بحسب منطق توالي الزمن، وأرادت أن تفهم أو تنظم هذا النقد بحسب ذلك المنطق، فأخضعت الأفكار والمؤلفات والأشخاص له"(ص68). وتتمثل الاستراتيجية المتحكمة في خطاب التأريخ في "التحقيب الزمني وتفسير المادة النقدية بالأحداث العامة السياسية والاجتماعية"(ص68) ويتحدد هدفه من تحقيب النقد في تقديم معرفة تاريخية بالنقد العربي توضح سياق نشأته وتفسر تطوره وتعرض آثاره وتبرر قيمته في مقابل النقد الغربي الحديث.غير أن هذه الأهداف العامة تختلط أحيانا بأهداف الخطاب التعليمي، حين يتوخى الناقد المؤرخ ممارسة التحقيب من أجل توجيه القراء والأدباء، وتعريف القراء والطلبة بآثار النقد العربي القديم، كما أنها تختلط أحيانا بأهداف الخطاب التنظيري، عندما يبرر الناقد المؤرخ اهتمامه بالنقد العربي بالرغبة في صياغة بديل نظري لما هو سائد في الواقع النقدي والثقافي، أو طرح اقتراحات جديدة لتعديله وتطويره.
إن هذا الاختلاط في الأهداف هو الذي يفسر الإشكال الأجناسي للخطاب التأريخي، حيث يجمع في استراتيجيته بين أهداف تأريخية وأهداف تعليمية وأهداف تنظيرية، وهذا ما يجعل الحدود الابستيمولوجية بين هذه الخطابات الثلاثة تتلاشى. بسبب هذا الاختلاط في الاسراتيجيات يتخذ مفهوم النقد في الخطاب التأريخي وضعا عاما وملتبسا، ذلك أن موضوع النقد لا يؤرخ له من حيث مادته ومقوماته الداخلية وسيرورته الخاصة، وإنما من خلال إدراجه في سيرورة التاريخ العام الذي يضع الأحداث السياسية والاجتماعية في صدارة التصنيف. وبسبب هذه التبعية يستعمل مفهوم النقد في مجال واسع وغير محدد لا يستجيب لاشتراطات النسقية والانتظام المعرفي، لأنه يتسع لمجالات وحقول غير متجانسة "فيشمل مؤلفات ونقادا وقضايا"(ص72) ويلحق بمهام متعددة ونشاطات مختلطة: "فمفهوم النقد هنا ملتبس يقرن النقد بغيره، وخصوصا حين يهتم باللغويين والبلاغيين والفلاسفة والمفسرين، ويترك الأسئلة معلقة: هل النقد هو مجموعة ما يقال عن الأدب، أو أحكام أو تقعيد للغة الأدبية، أو (تنظير) لقضية لها صلة بالشعر؟ ويكفي أن ننظر إلى عمل واحد من خطاب التأريخ حتى نرى تجاور أمثال عبد القاهر الجرجاني وابن جني والصولي. إن تجاور مثل هذه الأسماء دال على اتساع مفهوم النقد والتباسه ووجوده في مرحلة ما قبل التنظير، وعند عتبة "وضع" ما قبل العلم، أي بصفته معرفة مشتتة"(ص74).
بالإضافة إلى هذا الالتباس النسقي الذي يطبع موضوع النقد في الخطاب التأريخي والذي يتمثل في اتساع مجالات استعماله وتعدد حقول مواضيعه واختلاط أهدافه، يتسم بخاصية التوتر بسبب ظاهرة التثاقف، التي كرست التصورات والأحكام الغربية في تأريخ النقد العربي. و"تبدأ علامات هذه المثاقفة من فعل (تأريخ النقد) الذي لم يتحقق ـ بما هو فعل معرفي ـ إلا بصفته مظهرا من مظاهر المثاقفة، وتحديدا بالأدب الفرنسي الذي منح المؤرخ العربي نموذجا (لتأريخ الأدب) وجعل تاريخ النقد امتدادا لهذا التأريخ الأدبي. وكثيرا ما اختلط به"(ص74).
3- خطاب التحقيق: على مستوى الوضع الأنطلوجي يلتبس خطاب التحقيق بالخطاب التأريخي، حين يهتم بدراسة أعمال ومتون سابقة. ويلتبس أحيانا بالخطاب التنظيري، حين يطمح إلى صياغة بديل نقدي لما هو سائد في الواقع النقدي والثقافي، أو اقتراح مبادئ ومقولات لتنظيم النقد العربي الحديث. وإذا كانت استراتيجية خطاب التحقيق يتقاطع فيها التأريخي والتنظيري، فإنه يتميز عنهما بكونه "فعل لا يؤرخ للنقد ولا ينظر له، وإنما هو فعل" تحقيق" هدفه الوصول إلى "فهم" يغاير كل فهم سابق للموضوعات والنصوص النقدية، مستعينا في ذلك بآليات التحقيق المعروفة. وبهذا يتميز عن غيره بخاصية تجعله أكثر تمثيلا لنقد النقد، ألا وهي البعد الابستيمولوجي"(ص76). بسبب هذا المظهر الابستيمولوجي تتحدد استراتيجية خطاب التحقيق في تفكيك موضوع النقد وفحص أبعاده من أجل صياغة بديل له. وتتحكم في هذه الاستراتيجية الخطابية آليات الاستقراء والمقارنة والتشريح وإعادة التركيب.
ولإنجاز هذه المهمة التفكيكية يحتاج خطاب التحقيق إلى اختبار المنجز النقدي استنادا إلى معايير مرجعية محددة وواضحة: "هذا البعد الابستيمولوجي الذي يطبع خطاب التحقيق يفرض بالضرورة مواجهة النقد باختيار استراتيجية كبرى هي: اختبار النقد في ضوء مرجع ما، قد يكون مذهبا نقديا أو فلسفة أو منهجا أو نظرية أو فرضية"(ص76). لذلك يتلون خطاب التحقيق بنوع المرجعية التي يستلهم مبادئها. وبما أن المرجعيات والتيارات الفكرية تتعدد وتتغير في سيرورة تحولها، سيتخذ خطاب التحقيق شكل قراءات متعددة للنقد العربي القديم والحديث، مثل القراءة الفلسفية والقراءة النفسية والقراءة التاريخية والقراءة السوسيولوجية والقراءة اللسانية.وفي هذا السياق المعرفي تبدو آثار المثاقفة واضحة في استعارة النماذج والمرجعيات وتطبيقها على وضع النقد العربي.
4- خطاب التنظير: في عرضنا لاستراتيجيات ومقومات الخطاب التعليمي والخطاب التأريخي وخطاب التحقيق، أشرنا إلى وجود مادة "نظرية" متخللة داخلها. وهذا ما يؤكد وجود تقاطعات خطابية بينها. غير أن ما يميز الخطاب التنظيري عن الخطابات السابقة "أنه خطاب ميت نظري يفكر في(النقد) بما هو شكل معرفي، ويقترب إليه من خلال المستوى النظري والمفاهيمي والمنهجي، ويعمل من أجل وضع ممكن في مقابل ما هو سائد"(ص81). ويكشف المسار التكويني والتطوري للخطاب التنظيري أنه يرتبط في سيرورته الخاصة بسياق المثاقفة مع الآخر. وهذا ما جعله ينشأ ويتطور في وضع متوتر ومتقلب. فما يحدث من تحولات معرفية وكشوفات نقدية في الغرب، تنتقل إلى الثقافة العربية في سياق علاقات تبادلية متوترة ومضطربة، غير محكومة ببنيات تبادلية مؤسساتية تضبط مسار هذا التبادل المعرفي بحسب حاجيات المجتمع، وإنما يظل من إنجاز أفراد يترجمون ما يتفق مع تصوراتهم الفكرية والإيديولوجية. لذلك يحدث أن تتجاور وتتعايش في الحقل النقدي العربي نظريات ومناهج لا يجمع بينها أي نسق معرفي، غير كونها تعبيرا عن أهواء ورغبات المترجمين.
في هذا السياق الثقافي المتوتر والمضطرب ليس غريبا أن يتحكم الدافع السيكولوجي الفردي في إنتاج الخطاب التنظيري. فبحسب المؤلف تحكمت ثلاث إواليات في إنتاجه هي:
- التأسيس: حين يدعي منظر النقد بأن الهدف من مشروعه النظري هو تأسيس نظرية جديدة أو منهج بديل لما هو سائد. وهذا الادعاء ليس في نظر المؤلف سوى وهما، لأنه في الحقيقة عبارة عن اقتراح لتصورات ومفاهيم مأخوذة من نظريات جاهزة. "فهو تأسيس نظري في غير محله، واقتراح تلفيقي لا صلة له بالتأسيس، وإن ادعى اعتقاد ذلك"(ص83)، والحصيلة أنه عبارة عن إعادة تركيب لعناصر جاهزة وموجودة من قبل.
- الفهم: حين يتواضع الناقد المنظر أمام شعوره بصعوبة تأسيس نظرية، ويستبدل وهم التأسيس بفعل الفهم الذي يشترطه مشروع التنظير. ويتم هذا الفهم بتدشين حوار مع النموذج الغربي، من أجل تشريح الوضع النقدي السائد. ومعنى ذلك أن المنظر ينطلق من منهج جاهز ويقدمه على أنه المنهج الملائم للواقع النقدي. وفي هذه الحالة أيضا لا يمكن لهذا الفهم أن يؤدي إلى إنتاج البديل النقدي، لأن التنظيرـ بحسب المؤلف ـ ينبغي أن يتولد من الممارسة النقدية السائدة وقضاياها، ولا يمكن أن يكون مجرد انتقاء واستعمال لمنهج بعد مراجعته وفهمه.
- التوفيق: في مقابل الموقفين السابقين اللذين ينطلقان من نموذج جاهز هو النقد الغربي، يحاول هذا الموقف تجاوز سطوة وهيمنة الآخر بصياغة برنامج توفيقي يقوم على ربط النقد العربي بجذوره وأصوله المنسية في إطار مشروع الخصوصية، وفي نفس الوقت على تحديثه بعناصر ملائمة من النقد الغربي "بإدماجها في جسد النقد العربي أو بمحاولة تطويع "علم" ما باقتناص أسس عامة لمناسبتها للنقد العربي"(ص85).
ينتظم إذن المنجز النقدي من حيث استراتيجياته وموضوعاته ووظائفه في هذه الخطابات الأربعة. وكل خطاب منها يشيد مفهوما للنقد ووضعه يطبعه الالتباس والتوتر والتشوش. إضافة إلى ذلك، تتداخل الحدود بين هذه الخطابات، وتتسرب العناصر والمكونات من خطاب إلى آخر. وعلى مستوى المرجعية الابستيمولوجية ينتظم المنجز النقدي في مرجعيات وأنساق معرفية متعددة يحصرها الباحث في المرجعيات التالية: المرجع الفلسفي، المرجع الجمالي، المرجع النفسي، المرجع السوسيولوجي والمرجع اللغوي. تقوم هذه المرجعيات المعرفية بدور المعرفة ـ المعيار التي يستند إليها الخطاب النقدي في استعارة المفاهيم والمناهج والنظريات. فالخطاب النقدي بحكم ديناميته وانفتاحه المعرفي يستمد عناصره ومفاهيمه من هذه المرجعيات المعرفية "بوصفها (أنساقا) أو قريبة من النسق، تحدد طبيعة المناهج والنظريات وتفصل بين الممارسة المعرفية وتعين الحدود التي تقوم بينها، بل وداخل المرجعية الواحدة"(ص89).
إن هذه المرجعيات هي التي تمنح الخطاب النقدي شرعية اكتساب صفة المعرفة العلمية، أو على الأقل الاقتراب من حدودها الممكنة: "عندما نتحدث عن (المرجعية) فنحن نتحدث عن (كيانات) معرفية مؤطرة تمنح الخطاب انتسابه إلى المعرفة وتخصص موقعه فيها وقدرته على توظيفها"(ص89). ومثلما تتداخل هذه الخطابات الأربعة، فإن هذه المرجعيات تتداخل في الخطاب النقدي الواحد، بحيث يستند الناقد في خطابه إلى مرجعيات متعددة، نفسية واجتماعية وتاريخية يؤول من خلالها العمل الأدبي، خاصة وأن النص الأدبي بحكم تعدد بنياته، يتيح هذا التعدد في المرجعيات والمناهج والمفاهيم.
يعتمد الباحث كما لاحظنا ـ مفهوم الخطاب لتنظيم شتات المتن النقدي ورسم خرائطه النظرية وتعيين مرجعياته المعرفية. والخطاب كما يعرفه فوكو (24) منظومة من العبارات تنتمي إلى نفس التشكيل الخطابي discursive formation، وتنتظم داخل الممارسة الخطابية. وهي منظومة تسمح ببناء مواضيع المعرفة وسجل المفاهيم،وتحديد ما هو مسموح بالتعبير عنه استنادا نظامها في الحقيقة الذي يعين ما هو صواب وما هو خطأ. وتكون هذه القواعد في مجموعها قوانين تشكيل الخطاب.
واستكمالا لمنهجية التصنيف يعتمد الباحث مفهوم الوظيفة للتمييز بين استراتيجيات الخطابات النقدية وكشف قواعد تشكلاتها. فالخطاب التعليمي تتحكم فيه الوظيفة التعليمية والخطاب التأريخي تتحكم فيه الوظيفة التحقيبية، والخطاب التنظيري تتحكم فيه الوظيفة النظرية وبناء النسق، وخطاب التحقيق تتحكم فيه وظيفة الفهم.
غير أن الأمر ليس بهذا الفصل المثالي. فالحدود بين هذه الخطابات ـ كما رأينا ـ تتداخل. وهذا ما يطرح إشكالا نظريا معقدا يتمثل في صعوبة ترسيم جغرافية مجالاتها وموضوعاتها وأهدافها بشكل قاطع يؤسس لعلاقة الفصل والقطيعة بينها. ويترتب عن ذلك أن هذه الوظائف المتعددة تتداخل في بنية الخطاب الواحد. ففي الخطاب التأريخي ـ مثلا ـ تتداخل الوظيفة التحقيبية بالوظيفة النظرية والوظيفة التعليمية ووظيفة الفهم. وينتظم هذا التداخل وفق علاقة تراتبية، تشكل بموجبها الوظيفة التحقيبية في الخطاب التأريخي الوظيفة المعيار، بينما تمثل الوظيفة النظرية والتعليمية ووظيفة الفهم وظائف لواحق، أي وظائف مساعدة ومتممة تأتي في سياق خدمة الوظيفة المعيار:
الوظائف |
الخطاب |
||
الوظائف ـ اللواحق |
الوظيفة ـ المعيار |
||
الوظيفة النظرية الوظيفة التحقيبية |
الوظيفة التعليمية |
الخطاب التعليمي |
|
الوظيفة التعليمية الوظيفة النظرية وظيفة الفهم |
الوظيفة التحقيبية |
الخطاب التأريخي |
|
الوظيفة النظرية |
وظيفة الفهم |
خطاب التحقيق |
|
|
الوظيفة النظرية وبناء النسق |
الخطاب التنظيري |
|
في كل خطاب تظل الوظيفة المعيار هي المهيمنة، بينما تمثل الوظائف المستمدة من الخطابات الأخرى وظائف لواحق تقع في الهامش من هذه التراتبية. وهذا ما يستدعي فهم العلاقة بين هذه الوظائف في إطار ثنائية المركز والهامش. وقد بين " دريدا " فعالية الملحق supplement، إذ من شأنه أن يقلب نظام المركز، وأن يحل محله أحياناً(25).
كما يتبين من الجدول الواصف تتقاطع الوظائف في هذه الخطابات وتتداخل. ولعل هذا ما جعل الباحث يخلص إلى وجود "تقاطعات لا لأن هناك موضوعا مشتركا اسمه النقد فقط، ولكن لأن هناك أيضا حضورا لمفاهيم وإجراءات خطابية تقرب بين خطاب وخطاب"(ص81).
هذه التقاطعات الخطابية هي التي تبرر وجود علاقة تبادل في الوظائف. ويترتب على هذا التبادل تحول في تراتبية الوظائف. إذ يمكن للوظيفة المعيار في خطاب أن تصبح وظيفة لاحقة في خطاب آخر. لذلك فإن هذه التبادلات والتقاطعات تفرض فهم حدود هذه الخطابات في إطار النسق المفتوح وليس النسق المغلق. ولن يتأتى هذا الفهم إلا بإعادة النظر في مفاهيم التجانس والملاءمة والنسق، حتى لا يتحول البحث في المنهاجية النسقية إلى تكريس للأحادية والمشاكلة والمشابهة والمطابقة، والسقوط فيما يسميه " ليوتار" الأحادية monology والإجماع consensus كمظهرين لوحدة النظام والخطاب(26).
إن هذه الظواهر اللاخطية الجزئية التي تخرق وحدة الخطاب وتشوش على تجانسه، لا تقل أهمية عن الظواهر النسقية المنتظمة، وحتى يكتمل التحليل ينبغي البحث عن انتظاماتها خارج المنهاجية النسقية، ورصد امتداداتها لمعرفة آثارها على نسق كل خطاب. فلا يوجد خطاب متجانس وخالص pure. وهذا ما يفسر عملية انتقال المفاهيم والعناصر والمواد من خطاب إلى خطاب آخر، لأن هذه الخطابات ـ كما بينا ـ محكومة بعلاقات تبادل وتضمن. بل إن هذه العملية قد تحدث في الخطاب الواحد، حيث يمكن للخطاب أن تتولد داخله خطابات صغرى، كما هو الشأن في خطاب التحقيق الذي يميز داخله الباحث بين أربعة أصناف، هي:
- صنف يحقق في المفاهيم.
- صنف يحقق في النظرية.
- صنف يحقق في المنهج.
- صنف يتوخى بناء النسق، يسميه الباحث بصنف القراءة.
هذه التوليدات تكشف دينامية ظاهرة التبادلات والتضمينات بين هذه الخطابات، إذ يمكن لتقاطع خطابين أن يؤدي إلى نشوء خطاب جديد، خاصة وأن هذه الخطابات تقوم بعملية الاقتراض والاستعارة والنقل في المفاهيم والاستراتيجيات.فخطاب التحقيق ـ مثلا ـ يحتاج إلى استعارة مادة نظرية من الخطاب التنظيري. والخطاب التأريخي يحتاج إلى منهج في التحقيب، غالبا ما يستمده من الخطاب التنظيري. وهكذا لا يمكن أن نفسر هذه التقاطعات والتمفصلات بين هذه الخطابات بالقول بأن هذه الخطابات تعاني من" التباس" في حدودها الابستيمولوجية، يمثل مظهرا سلبيا من منظور المنهاجية النسقية، لأن مثل هذه الظواهر الدينامية التي تخرق وحدة النسق وتهجن تجانس الخطاب، ينبغي البحث لها عن انتظامات خارج معايير الابستيمولوجيا الطبيعية ومبادئ المنهاجية النسقية. وفي هذا الاتجاه تقدم نظرية العماء بدائل نظرية لفهم وتفسير انتظام هذه الظواهر.
ومن منظور المنهاجية الدينامية يمكن أن نستخلص انتظامات عميقة محايثة لهذه الظواهر الملتبسة، تتمثل في العلاقات التالية :
التضمين: ونعني به تضمن inclusion الخطاب لعناصر من خطاب آخر، ويتحقق ـ مثلا ـ عندما يتضمن الخطاب التعليمي عناصر نظرية مستمدة من الخطاب التنظيري. وكذلك الأمر عندما يستمد الخطاب التأريخي مواد نظرية من الخطاب التنظيري. والهدف من هذا التضمين هو خدمة استراتيجية الخطاب الذي انتقلت إليه هذه العناصر المتضمنة.
التبادل:ونعني به تبادل الوظائف بين هذه الخطابات، مع ما يستتبعه ذلك من تغيير وتحول في تراتبية هذه الوظائف، فقد تصبح الوظيفة المعيار في خطاب ما بحكم هذا التبادل وظيفة لاحقة في الخطاب الجديد الذي تنتقل إليه، مثلما هي حالة الوظيفة النظرية التي هي وظيفة معيار في الخطاب التنظيري، ولكنها تصبح وظيفة لاحقة في الخطاب التعليمي والخطاب التأريخي. ويؤشر هذا القلب في تراتبية هذه الوظائف، على أنها ليست وظائف قارة وثابتة، بل دينامية وعلائقية.
الانتظام الذاتي:ونعني به قدرة الخطاب على تنظيم مكوناته وعناصره التي تبدو متغايرة وغير متجانسة، بحيث يكون في مقدور الخطاب عندما تتكاثر عناصره وتتشعب موضوعاته توليد وإنشاء أصناف جهوية صغرى داخله تنظم هذه الكثرة،إذ يستقل كل صنف بموضوعه ومنهجه وحدوده، وبذلك يضمن الخطاب انسجامه وتماسكه. مثلما هي حالة خطاب التحقيق الذي تنتظم عناصره المتعددة والمتشعبة في أربعة أصناف مستقلة، كل صنف منها يتميز بموضوعه ومنهجه ووظيفته. إنه توليد متدرج يؤدي إلى نشوء أصناف صغرى داخل الخطاب الواحد،و يضمن تشاكل الخطاب واستمرار ديناميته.
VI- حصاد المنجز النقدي
بعد هذا التشريح الابستيمولوجي لخطابات المتن النقدي العربي، يتساءل الباحث عن درجة انتظام الخطاب النقدي، ومدى استجابته لاشتراطات النسقية. إن عناصر انتظام الخطاب النقدي تكشف عن وجود مظاهر اختلال وتوتر سلبية تتمثل في غياب التمثل المنهجي للموضوعات والمناهج والمفاهيم والمرجعيات.
فعلى مستوى الموضوع النقدي، لا تقدم لنا هذه الخطابات تحديدا دقيقا لمفهوم الموضوع، كما تستوجب معايير المعرفة العلمية، من حيث ضبط مجال الموضوع بدقة ووضوح، لضمان تجانسه وملاءمته. إذ يتسع الخطاب النقدي لموضوعات متعددة ومتباعدة، مثلما يحدث عندما يجمع الخطاب التعليمي بين موضوعات تنتمي إلى التراث النقدي العربي القديم وموضوعات تنتمي إلى النقد الغربي الحديث، أو عندما يخلط بين موضوعات تنتمي إلى البلاغة واللغة والنقد والعروض. ويترتب على هذا الاتساع أن الموضوع النقدي في هذه الخطابات لا يملك مفهوما دقيقا، ولا حدودا ابستيمولوجية واضحة.
وعلى مستوى المنهج، تنطلق هذه الخطابات من مفهوم للمنهج يتسم بالاتساع والمرونة وأحيانا بالابتذال، حيث يختزل الناقد مفهوم المنهج إلى مجرد أدوات وإجراءات يستعملها في قراءة النص. ومعنى ذلك أنه لا ينطلق من تصور منهجي ومعرفي يبرر اختياره المنهجي، ويعكس تمثله المعرفي لسياقاته الفلسفية والثقافية والإيديولوجية. وبسبب ذلك، فإن هذه المفاهيم والنظريات التي يستعيرها تظل على مستوى الممارسة النقدية مفصولة عن سياقاتها الثقافية ومرجعياتها المعرفية، وهذا يفسر ما يطبعها من اختزال وتجزيء وإسقاط، لأن الناقد لا يتلقاها في سياقها الكلي، بل يتلقاها بصورة مجزأة وانتقائية وملفقة.
تبعاً لهذا الاستعمال الاختزالي يعني المنهج كل أشكال التفكير وأساليب العمل التي يسلكها الناقد في ممارسته النقدية. وهو تصور استعمالي أداتي يفصل المنهج عن الرؤية الفلسفية والمعرفية التي تؤطر مسلماته وحقائقه. إن هذه الصورة الاختزالية للمنهج هي التي تفسر اضطراب المفاهيم في الخطاب النقدي، حيث يكتفي الناقد باستعمال هذه المفاهيم لغايات برغماتية، ولا يعيد إنتاجها وتأويلها داخل السياق الثقافي الذي يحكم رؤيته للعالم.
ويعتقد الباحث أن نقل شبكة من المفاهيم والنظريات والأدوات من مرجعيات مستعارة لا يصنع منهجا نقديا، لأن الناقد في هذه الحالة ينطلق من الجاهز الثقافي ولا يبدع منهجه من سياق ثقافته. وإذا سلمنا بهذا المنظور المعرفي والثقافي فإن "المنهج ليس مجموع مبادئ وثوابت وقواعد وإجراءات محددة بل هو تجسد الوعي كفعل إنتاج معرفي مشروط بالتمثل"(27). إن ما ينقص خطاب المنهج في المتن النقدي هو التمثل النظري والمعرفي للمناهج والمفاهيم والمقولات، الذي يكمن في الوعي بالشروط العلمية والسوسيولوجية التي تسمح بالتأويل الثقافي لانتقال المرجعيات والنظريات كفعل معرفي ضروري وحيوي لإنتاجها وإعادة صياغتها سياقيا recontextualisation في الثقافة العربية، بدل الاكتفاء باستعمالها بصورة مجردة عن سياقها الأصلي وسياقها الجديد الذي انتقلت إليه.
هكذا يخلص الباحث إلى أن هذه الاختلالات النسقية العلائقية هي السبب في عجز هذه الانتظامات والتشكيلات الخطابية عن تشييد خطاب نقدي نموذجي محكوم بمرجعية واحدة. والنتيجة أن الخطاب النقدي العربي أصبح يعاني من سطوة معيار مزدوج وطباقي، حيث تحيل خطابات نقد النقد والتنظير إلى خطاب سابق يوجد كأصل هو الخطاب التراثي، في أحيان قليلة. وتحيل في أكثر الأحيان إلى خطاب النقد الغربي على مستوى استعارة النظريات والمفاهيم والمناهج. "وبسبب ذلك، يمكن أن نقول إن خطاب النقد والتنظير في الثقافة العربية لا يملك قوة انتظامه الذاتية ولا يملك مرجعية، بل لا يملك فرضيات عمل نابعة من صميم الثقافة العربية ومن صميم الممارسة الإبداعية والفكرية الخاصة به"(ص295).
وفي الحالتين معا، ظل الخطاب النقدي العربي مجرد صدى لهذا الصوت: صوت الآخر تارة، وصوت التراث تارة أخرى. وأصبح من الناحية الأنطولوجية يعاني "حالة انشطار كبرى بين مرجعية سابقة تراثية نظر إليها بصفتها مرجعية منتهية مكتملة، ومرجعية قلقة متعددة متغيرة سريعة التحولات يصعب حتى على أصحابها الأصليين السيطرة عليها"(ص296).
وما يعمق حالة الانشطار هو وجود معوقات معرفية تشتغل داخل متن نقد النقد والتنظير في صورة تناقضات واختلالات تعيق بناء خطاب نقدي نسقي ينتظم داخل ثقافته وهويته، ويتكلم بصوت الذات وليس بصوت الآخر. وتأخذ هذه المعوقات مظهرين:
1 ـ مظهر خطابي: يتمثل في معوقات الخطاب، وهي نزوع التثاقف والتلفيق والتعميم والمقارنة والانتقائية.
2 ـ مظهر سلوكي: يتمثل في معوقات الذات، وهي الإقصاء والادعاء والاحتذاء والاعتذار والتحول.
وتكمن خطورة هذه المعوقات في أنها تخلق مظاهر توتر واختلال نسقية في التشكيل الخطابي الذي ينظم قواعد إنتاج الخطاب في متن نقد النقد والتنظير، حيث منعته من الانتظام داخل أنساق كلية ومبادئ ملائمة لسياقه الثقافي وخصوصية الإبداع العربي، لأنه في ممارسته النقدية والتنظيرية ظل محكوما بمرجعيات في التنظير مستخلصة من نماذج الأدب الغربي، بمعنى أنه لا يستخلص مبادئه ومعاييره من متن الأدب العربي، ولكنه يسقط عليه هذه المرجعيات المستعارة. الشيء الذي يعمق حالة تعاليه على النص العربي.
إذا تأملنا طبيعة هذه الاختلالات النسقية نلاحظ أنها لا توجد على مستوى خطابي واحد؛ منها ما ينتمي إلى بنية الخطاب النقدي، أي أنها ذات بعد خطابي، ومنها ما ينتمي إلى سياق الخطاب النقدي، أي أنها ذات بعد عبر خطابي ومؤسساتي. هذا الفرق المعرفي ينبغي الوعي بحدوده في عملية تشخيص هذه الاختلالات حتى نتمكن من فهم كل نوع منها في المنهاجية الملائمة له، ونتفادى اختلاط المنهاجيات.
فإذا كانت الاختلالات النسقية المتعلقة ببنية الخطاب النقدي ذات طبيعة عقلانية ومنطقية مجردة، أي شكلانية، ترجع إلى اختلالات في مبادئ التصنيف وآليات إنتاج المعرفة النقدية وقواعد الاستدلال، وبالتالي تبدو الابستيمولوجيا الطبيعية مؤهلة لمقاربة هذا النوع من الاختلالات، فإنها بالمقابل تبدو قاصرة في مقاربة الاختلالات والعوائق ذات الطبيعة عبر الخطابية والسياقية، لأن هذه الاختلالات هي نتاج وضع سوسيوثقافي "معاكس للخلق والإبداع"(28) بتعبير عبد الله العروي، محكوم بغياب قيمة الإنتاج وسيادة قيمة الاستهلاك.
إن المنهاجية الملائمة لمقاربة هذه الاختلالات السياقية هي الابستيمولوجيا الاجتماعية. ففي هذا المجال تبدو الابستيمولوجيا الطبيعية والمنهاجية النسقية قاصرتين، لأن مهمتهما تتحدد ـ أساسا ـ في كشف الشروط العقلانية والمنطقية المجردة والشكلانية المتحكمة في انتظام الخطاب النقدي، "فالمهم بالنسبة للعالم الطبيعي هو وصف العالم كما هو، بدقة متناهية"(29)، ويترتب على هذا التفسير العلمي المجرد أن "اهتمام الابستيمولوجيا المثالية بالأخلاق والأفكار والإيديولوجيا أمر ثانوي (وبالنسبة للأغلبية هو أمر منبوذ كليا"(30). وهذا ما يجعل الابستيمولوجيا الطبيعية لا تعير اهتماما لقضايا الأخلاق والإيديولوجيا والسياق الاجتماعي؛ بالمقابل يبدأ موضوع الابستيمولوجيا الاجتماعية من فحص الشروط الاجتماعية والثقافية والإيديولوجية التي تحيط بالظاهرة، وبموقع الذات ومصالحها المعرفية.
إن جملة من عوائق انتظام الخطاب النقدي مثل التثاقف والهوية وسلوكيات الذات الفاعلة، والترجمة، لا يمكن فهم آثارها وانعكاساتها إلا بموقعتها في سياقاتها الاجتماعية والإيديولوجية والتاريخية. فإذا أخذنا ظاهرة التثاقف التي شكلت عائقا أمام انتظام الخطاب النقدي ـ بنظر الباحث ـ، فإنه لا يمكننا إغفال الجوانب الإيجابية لفعل المثاقفة، حيث شكل في سياق تكون النقد العربي الحديث قوة دينامية دافعة لصيرورة تطوراته وتحولاته، برغم كل السلبيات المحيطة به لأن "الحياة الثقافية والفكرية عادة ما تتغذى من دورة الأفكار هذه، وتستمد منها أسباب الحياة، وسواء اتخذت حركة انتقال الأفكار والنظريات من مكان إلى آخر، شكل التأثير المعترف به أو اللاواعي، شكل الاقتباس الخلاق أو الاستيلاء الكلي، فإنها في كل الحالات تمثل حقيقة من حقائق الحياة، وشرطا مساعدا ومفيدا للنشاط الفكري"(31).). فالأمر لا يتعلق بمجرد رغبة ذاتية للناقد العربي في استعارة المناهج والنظريات من الآخر، بل يعكس حاجة مجتمعية وتاريخية تحكمت فيها شبكة من الإواليات الاجتماعية والحضارية والتاريخية تلخصها إشكالية الذات والآخر في الفكر العربي المعاصر.
وإذا قمنا بعملية استقراء لإواليات التلقي في فعل التثاقف وأشكاله وكيفياته في صيرورة النقد العربي، نلاحظ أنها لم تتم بصورة واحدة ونمطية. بل إن هذه الإواليات والأشكال كانت تتغير بتغير حاجات ورهانات المجتمع وتطور المعرفة ووسائل التقنية والاتصال ونقل المعلوميات. فطريقة تلقي" أحمد فارس الشدياق" للفكر الغربي في أواخر القرن التاسع عشر تختلف بالضرورة عن طريقة تلقي طه حسين، أو جابر عصفور. لذلك فإن الحكم بأن المثاقفة شكلت عائقا أمام انتظام الخطاب النقدي العربي، لا يخل من تعميم يلغي بعد المسافة الزمنية كشرط أساسي لبناء فهم منتج وإيجابي لظاهرة تطور فعل المثاقفة وأشكال تلقيها ومظاهر تأثيرها في الفكر العربي المعاصر.
لا يمكن إذن أن ننفي الدور الإيجابي للمثاقفة في تحديث الخطاب النقدي العربي على مستوى المرجعيات والنماذج والنظريات، بل إن هذا التغيير يمس مفهوم النقد ووظيفته. فقد تغيرت صورة النقد بشكل كبير في الفكر العربي وحققت جملة من التحولات والبدائل، سواء على مستوى مفهوم النقد ومفهوم الأدب ووظائفهما، حيث أصبح ينزع أكثر نحو العلمية، ويتجه إلى تشييد خطابه في صورة نسق معرفي، حتى ولو كان كما يؤكد الباحث يستعيد منطق تطور النقد الغربي، وبالتالي يتعالى على الإبداع العربي، ولا يعكس حركة المجتمع العربي الذي يستمد منه أسئلته وقضاياه.
على خلاف ذلك نعتقد أن النقد العربي منخرط في الدينامية الاجتماعية، لأنه يحترق بأسئلة التنوير والحداثة، ويهدف إلى التشييد الاجتماعي من منظور علمي ومعرفي، وإلى تجذير ثقافة السؤال والاختلاف والحوار والتعددية، حتى ولو كان يستمد بعض آليات خطابه من دينامية المثاقفة. فقد تداخل الفكر العربي بالفكر الغربي بصورة معقدة ومركبة. لذلك لا ينبغي أن ننظر إلى المثاقفة فقط من الجانب السلبي على أنها عائق، لأنها كما بينا تمثل شرطا من شروط دينامية الخطاب النقدي العربي، وليست مجرد عامل خارجي سلبي. والمطلوب هو "التحلي بوعي نقدي، أو بعبارة أخرى دعوة إلى تجاوز مستمر للوعي التلقائي بالذات. لقد تداخل المجتمعان، العربي والغربي، إلى درجة تجعل هذا الأمر شيئا واردا. ما نعني بالوعي النقدي هو استحضار متلازم لسيرورتين تاريخيتين، متحاشيا كل انكفاء وكل انغلاق لتجنب المواقف التبريئية والاستعراضية الرخيصة"(32).
يشكل هذا الوعي النقدي شرطا ضروريا كي يتمكن النقد العربي (والفكر العربي) من تخطي عتبة الاستهلاك والتلقي السلبي، واقتحام دائرة الإبداع والإنتاج، حتى لا تتحول المثاقفة إلى "خطاب تمويهي يمكن الوجدان العربي من تقبل وتضمين ما أنجزه غير العرب... بتعقب ما أنتجه الغير"(33). دون وعي نقدي مسلح بشروط التأويل الثقافي لانتقال النماذج والنظريات، وإعادة الصياغة السياقية لها في السيرورة الاجتماعية العربية. ولن يؤتي هذا الوعي النقدي ثماره إلا بمأسسة وسائل المثاقفة وبنياتها المعرفية المتخصصة التي تتحكم في تنظيم وتدبير عملية التبادل الثقافي حسب الرهانات المعرفية والحاجيات الاجتماعية.
VII- أخلاقيات النقد
يبدو هذا التقويم لحصاد النقد العربي مستفزا للنقاد، لأنه يرسم صورة سلبية لصيرورة النقد. والباحث واع بخطورة نتائجه وأثر وقعها على انتظارات الفاعلين النقاد "إن هذا العمل لا يطمح أكثر من أن يكون موضع جدل ونقاش؛ وما يقدمه من اقتراحات وآراء، وإن بدت متعسفة أحيانا، فلها الحق في أن تعبر عن نفسها في سياق قل فيه الحوار وفهم الاختلاف"(ص337). فهل يتعلق الأمر "بمدفن للنقد بدلا من الكلام عن متحف للنقد"(34). لا نعتقد ذلك، لأن الأمرـ كما وضحنا ـ يتعلق بتشريح ابستيمولوجي لمتن النقد، تبرره الحاجة المعرفية إلى ضرورة وعي النقد لذاته وخطابه "لأنه دفعه إلى التساؤل حول نفسه، أي حول مناهجه وأهدافه، والأهم من ذلك حول جوهره، والجوهر هو التساؤل الدائم، وبذلك فقط يستحق النقد الأدبي أن يقال عنه أنه في موضع التساؤل"(35).
وفي هذا الموقف الاختلافي الذي يتبناه الباحث تكمن القيمة المعرفية المضافة لهذا العمل العلمي، أي في جرأته غير المهادنة التي تتمثل في صراحته المستفزة ومكاشفته القاسية المتجردة من أوهام الذات. على الرغم من أن البعض قد يرى في هذا التشريح القاسي تحاملا وتعسفا مصادرة لمنجزات النقد العربي، خاصة في السياق الثقافي والفكري العربي الذي يقل فيه الحوار والاختلاف وتسود فيه "سياسة المجاملة" وتبادل الخدمات. ولكن الأهم في كل ذلك، أن هذا الموقف الاختلافي يكشف عن موقف جديد يكمل الموقف الابستيمولوجي لخطاب نقد النقد، هو الموقف الأخلاقي ethical الذي يربط الموقف الابستيمولوجي بالمسؤولية الأخلاقية، حيث يحمل الناقد مسؤولية القراءة أمام مجتمع القراء، أو مجتمع الثقافة بشكل عام. فالناقد تبعا لهذا الموقف الأخلاقي مسؤول عن تأويلاته وتفسيراته أمام القراء. ويشكل هذا الموقف الأخلاقي مطلبا حيويا للنقد العربي، كي يتخلص من شرنقة أوهامه وادعاءاته التمويهية.
إن ما يحدد أخلاقية النقد هو "أنه يمارس لمصلحة جماعة معينة"(36)، لأنه ـ كما بينا سابقا ـ يرتبط بمؤسسات وقوى اجتماعية (الجامعة، الأحزاب، الجمعيات، الصحافة، المنابر الثقافية، اتحادات الكتاب والأدباء). وهذا ما يجعل الخطاب النقدي متضمنا لمصالح وقيم هذه القوى والجماعات. فالناقد بحكم هذا الموقع مسؤول عن تأويلاته وأحكامه و(رأيه النقدي) أمام مجتمع القراء، لأنه لا يتكلم من فراغ أو موقع محايد، بل يتكلم من موقع محكوم أولا بقواعد الاختصاص المعرفي الذي يشتغل فيه، وثانيا من موقع الجماعة أو المؤسسة التي تشحن خطابه بمصالحها، وبالتالي فإن خطابه يكون مسكونا بهذه التناقضات الاجتماعية والتوترات الإيديولوجية، بوعي أو بدون وعي.
إن مهمة الناقد ليست ببساطة مهمة استيطيقية بالمعنى المجرد المثالي، الذي يجعل خطاب الناقد خطابا رومانسيا منفصلا عن توترات الممارسة الاجتماعية، بل على نقيض ذلك، إنه خطاب دنيوي صدامي، مشحون بقوى ومصالح الفهم الاجتماعي، يصدر عن ذات تتموضع في موقع اجتماعي وفي حقل أدبي بمفهوم "بيير بورديو"، لا تتحدد علاقاته ووظائفه في ارتباط بنظام المعرفة والأدب فقط، بل تشتغل ديناميته الاجتماعية من خلال ميزان القوى "بين فاعلين مهتمين بنوع معين من النشاطات؛ أو شكلا مبنيا من الصراعات التي تواجه فيها وحدات في تنافس من أجل رهانات، ومنافع نادرة، ويمكن أن تدخل في هذا التنافس مصادر خاصة أو أنواعا أخرى من رأس المال"(37).
هذا التنافس على المنافع والصراع من أجل انتزاع موقع داخل الحقل الأدبي والثقافي، هو الذي ينحرف بالخطاب النقدي عن مهمته المعرفية والمنهجية، ويسقط الناقد ـ في حالات معينة ـ في ممارسات سلبية لا أخلاقية، كأن يتوهم الناقد أن التنظير للأدب والنقد يمنحه شرعية اكتساب سلطة مزيفة في المجتمع وامتلاك سلطة وهمية في الحقل الأدبي والثقافي تخول له حق ممارسة الوصاية على الفاعلين فيه وتوزيع الأدوار والوظائف والخيرات والمنافع. أو حين يدعي الناقد التنظير لمشروع نقدي، فيما هو لا يقوم سوى بعرض وشرح لنظرية مستعارة من النموذج الغربي، وقد يذهب به هذا الوهم إلى حد اقتباس التصورات والحقائق ونسبتها إلى بنات أفكاره دون الإشارة إلى مصادرها الأصلية الأجنبية. وقد يعتقد الناقد أن مشروعه النقدي هو الوحيد الجدير بالأصالة والجدة، وما عداه من خطابات ومشاريع نقدية مجرد تلفيق وتمويه. ويمارس الناقد هذا الإقصاء للترويج لمنهج نقدي على حساب آخر، أو لخلاف إيديولوجي مع أصحابه بحيث "يعمد إلى تجاهل الكثير من الأسماء الحاضرة في الواقع النقدي عندما يؤرخ أو يصنف أو عندما يجادل ويناقش ويحقق"(ص317).
تكشف هذه الظواهر والسلوكيات بعض مظاهر الاختلالات اللاأخلاقية في الخطاب النقدي، وهي تبرر الحاجة المعرفية إلى أخلاقية النقد ونقد النقد والتنظير، لتصحيح علاقة الذات بحقل بحثها وعقلنة وشرعنة ممارستها لموضوعها حتى لا تتحكم المصالح الفردية والنوازع الذاتية في أساليب هذه الممارسة وأهدافها. فالخطاب النقدي باعتباره نشاطا ثقافيا تشارك فيه أطراف متعددة: الناقد والنص والقارئ، تقيده مبادئ المعقولية الثقافية والتزامات التعاقد الاجتماعي والمهني، "نعم إن مجال (الخطاب) مجال صراعات، ولكن المبدأ أن الخطاب مجال مفتوح ولا تقيده سوى التزامات الاختصاص، فهو مجال الحرية، ومجال الاختلاف، لكن لا يكفي ذلك. إذ أنه يحتاج إلى نوع من التعاقد إلى يضع كل خطاب مكانه، ويعين له تأثيره ووظيفته وشروط القيام بذلك حتى يعتبر خطابا جديرا بالموقع الذي يتبناه"(38).
هكذا، إذا كان الناقد يبرر لنفسه الحق في المحافظة على موقعه داخل الحقل الأدبي الذي يشتغل فيه والدفاع عنه من المنافسين والدخلاء الجدد، ويعتقد أن من حقه أن يأخذ حصته من خيرات ومنافع هذا الحقل، فإنه مطالب أخلاقيا باحترام "الميثاق الذي يلزم به نفسه ويجعل الآخرين يؤكدون معه هذا الميثاق ليصبح ميثاقا مشتركا"(39)، وتتحدد مبادئ والتزامات هذا الميثاق التعاقدي في العلاقات والحقوق التالية:
1. مبادئ التعاقد بين الناقد والنص: يمثل النص المادة التي يشتغل عليها الناقد. وهي ليس مجرد مادة جامدة يعزلها الناقد في مختبره ويشرحها بالأدوات التي يشاء دون مراعاة لطبيعة عناصرها. إن النص كائن حي يمثل شريكا استراتيجيا في مشروع القراءة، فهو الذي يدفع الناقد إلى البحث والتساؤل، لذلك يلزم الناقد باحترام حقوقه التي تتمثل في اعتماد أدوات ومرجعيات ملائمة في تأويله. فالناقد ليس حرا في أن يتأول النص وفق رغباته وأهوائه الذاتية، أو يستعمله لأغراض شخصية، لأن النص يفرض شروط تلقيه وحقوق تأويله، "فالنص ليس مجرد أداة تستعمل للتصديق على تأويل ما، بل هو موضوع يقوم التأويل ببنائه في مسار الجهد الدائري [الذي يبذله القارئ ] ويقود إلى التصديق على هذا التأويل انطلاقا مما تتم صياغته كنتيجة لهذا المسار"(40).
هذا التعاقد يلزم الناقد باحترام النص لذاته وليس لشخص كاتبه، فلا يحق له الترويج ـ مثلا ـ لنصوص هزيلة محاباة ومجاملة لأشخاصها، أو لتحقيق أغراض شخصية لا علاقة لها بأهداف المعرفة العلمية.
2. مبادئ التعاقد بين الناقد والقارئ: يمثل القارئ الطرف المستهلك الذي يتوجه الناقد إليه بخطابه ومنتوجه. وهذا ما يخول القارئ الحق في أن يشترط شروطا في تلقي واستهلاك هذا الخطاب أو الكتاب باعتباره منتوجا، لذلك فالناقد مطالب أخلاقيا باحترام حقوق القارئ المستهلك في الجودة والمعقولية وفرض القيم الحقيقية. فلا يحق للناقد ـ مثلاً "ترويج القيم الزائفة بفرض من لا قيمة له كقيمة مشتركة"(41)، أو استغفال القارئ بممارسة أساليب الادعاء والتعميم والمحاباة في المواقف النقدية والمحافل الثقافية، لذلك "يكون من حق "الآخرين" أي مجتمع القراء والباحثين والأدباء أن يمتعظوا حين تكتب "لهم" خطابات يرون فيها خيانة صريحة لمفهوم النقد ولمطالب الأدب"(42).
3. مبادئ التعاقد بين الناقد والمعرفة: وتتمثل في التقيد بالتزامات الملاءمة العلمية la pertinence scientifique،التي تتحدد بحسب "بوبر" من خلال ما يلي:
"نمط من البحث العلمي الذي يمكن أن يساهم في حل بعض القضايا العلمية. في علاقة هذا البحث مع أبحاث علمية أخرى في المجال نفسه. وفي علاقته، أيضا، مع أبحاث أخرى في مجالات أخرى"(43).
تتحقق الملاءمة العلمية، إذن، بالتزام الناقد (والباحث عامة) قواعد الاختصاص الذي يشتغل فيه، التي تتمثل في احترام معايير إنتاج المعرفة وشروط الممارسة العلمية. ويتحقق ذلك بتعيين موضوع الاختصاص بدقة، وملاءمة أدوات البحث لموضوع الاختصاص، والقدرة على المساهمة في حل بعض إشكالات هذا الاختصاص.
وتتدخل الملاءمة العلمية، أيضا، في تنظيم شكل العلاقة بين أبحاث الناقد وأبحاث النقاد الآخرين الذين يشتركون معه في الاختصاص نفسه، أو يشتغلون في اختصاصات مختلفة عنه. وتتحقق بقدرة الناقد على تشييد علاقات تفاعل وتعاون وتبادل الخبرات مع الفاعلين داخل الحقل المعرفي، حتى ولو اختلفوا معه في نوع الاختصاص والرؤية والمنهج والإيديولوجيا. فهو مطالب بتدبير هذا الاختلاف بأساليب الحوار والاعتراف بالآخر والإقرار بنسبية المعرفة، ولا يحق له أن يحول الاختلاف المعرفي إلى سجال إيديولوجي يشخصن الصراع، ويشرع لأساليب الإقصاء والتجاهل والتعالي والعنف، لأن الرهان العلمي هو تشييد معرفة موضوعية ومعقولة، مجردة إلى أقصى حد من النوازع الشخصية والمصالح الفردية.
هكذا، فإن ما نقصده بأخلاقية خطاب نقد النقد لا يتعلق ـ كما يرى ميلر "بلحظة أخلاقية ضرورية في فعل القراءة لذاته، لحظة ليست إدراكية ولا سياسية ولا اجتماعية، ولابيشخصية interpersonal، ولكنها أخلاقية على نحو خاص ومستقل"(44)، بل تمثل فعلا ثقافيا يحقق أخلاقيته من مشاركته في الممارسة الاجتماعية، ومن تعاقد أطراف متعددة على مبادئ وقواعد إنتاج هذا الخطاب.
بهذا المعنى التداولي لا تظل الأخلاقية مجرد نية مزعومة يرددها الناقد في سره أو في المحافل، أو لحظة قرائية مثالية، مفصولة عن سياقاتها الاجتماعية وتمظهراتها المشخصة في الممارسة الثقافية كما يعتقد ميلر،وإنما تطرح ضمن إشكالية الفعل الثقافي المعقد بأبعاده وعلائقه وأطرافه المتعددة التي تشارك في الاتفاق على مبادئ محددة للمعقولية. ففي كل سيرورة خطابية وثقافية هناك غايات معرفية تقوم بتأطير وتنظيم أشكال ممارستها، حيث تنتهي هذه السيرورة إلى إنتاج قواعد ومبادئ للمعقولية خاصة بهذه الممارسة، تشكل معايير للمقبولية والتصديق والاختيار. وبطبيعة الحال، لا يتعلق الأمر بقواعد فردية ومبادئ ثابتة غير قابلة للتعديل،لأنها نتاج هذه السيرورة التي تنظم الممارسة الخطابية، ووليدة الاتفاق بين أطراف متعاقدة على ميثاق مشترك،تمليه أهداف وغايات جماعة بشرية، في شروط تاريخية وسياقية معينة، وتكون النتيجة سن معايير اختيار تؤطر هذه الغايات وتنظم أشكال تحقيقها.
يتعلق الأمر،إذن، بمبادئ وقيم تتشكل داخل ما يسمى في الأبحاث المعرفية والتأويلية بالمجموعة العلمية والجماعة التأويلية والجماعة المتلقية، لذلك فإن "الفعل الأخلاقي ليس نتاج شرط أخلاقي، أو فعل خاص private يحدث داخل النفس psyche، إنه فعل عام public غير منفصل عن العلاقات التي يشارك فيها المرء. واستنادا إلى هذا المفهوم، الأخلاقية ليست شيئا يملكه الفرد داخله، إنها فعل يكتسب معناه الأخلاقي فقط من مجال محدد في المعقولية الثقافية"(45).
تكمن أهمية وقيمة هذا البعد الأخلاقي الجديد في أنه يفتح أمام خطاب نقد النقد ميدانا جديدا هو القيم الإنسانية، حيث لا تنغلق وظيفته على البحث الابستيمولوجي في الشروط القبلية للمعرفة بالمفهوم الكانطي، بل تنفتح على قيم الحياة الإنسانية،و في طليعتها الحرية، وتحرير الإنسان من "علاقات السيطرة.. باختراق " الممتنع الذاتي" للتحرر من سلطة الأفكار ذاتها. والحرية بهذا المعنى هي ممارسة نقدية فاعلة يتركز فيها الاهتمام على أدوات المعرفة وآليات إنتاج الحقيقة، كما ينصب على نمط التفكير وعلى طريقة التعامل مع الأفكار"(46).
إن ما يجعل هذه المهمة التنويرية لخطاب نقد النقد ضرورية وحيوية هو الوظيفة التشييدية الدينامية للقيم، حيث يؤكد النقد الثقافي على أن اشتغال المجموعات الاجتماعية يتحدد ويتطور بالقيم، لأنها تعبر عن جملة من الحاجات المؤثرة والموجهة للجماعة، وأيضا الممارسات التي تخترق بدرجات متفاوتة النشاطات الاجتماعية وتتحكم فيها:الاختيارات، الخطط، الأفكار، الأعراف والمؤسسات(47).إنها تغطي جميع مجالات الحياة المادية والرمزية،حيث "تشيد داخل المجتمعات سلاسل مادية متنوعة، توجد مثبتة في القانون والسياسات والفلسفة والتاريخ والأخلاق والدين والعلم والتربية والاقتصاد وآداب الضيافة والبنيات العائلية والجماليات(48). إذن، بقدر ما يهتم خطاب نقد النقد بالكشف عن الشروط الممكنة للمعرفة، واستقصاء عوائق انتظامها النسقي،فإنه يمثل استراتيجية لتحرير الديناميات الاجتماعية من أشكال الهيمنة الرمزية في المجال الأدبي والثقافي ومجال صناعة الرأي العام بوضع القيم موضع النقد والمساءلة على نحو يكشف ما تمارسه من زيف وتضليل وأوهام. ويجدر بنا هنا أن نتأمل مسار إدوارد سعيد،فهو يمثل نموذجا حيا لأخلاقية المعرفة(49). إنه ناقد أدبي متخصص،وباحث أكاديمي، لكنه يزعزع الخطاب المعرفي من برجه الأكاديمي المنغلق في تجريدات نظرية تعلق الخطاب النقدي في ميتافيزيقا الاختصاص التي تمارس إلغاء الواقع والقيم والإيديولوجيا والأخلاق بادعاء التجريد اللامحدود والموضوعية المثالية.
ويكشف مسار إدوارد سعيد المنخرط في قضايا الإنسان والحرية والعدالة بدءا بفضح الخطاب الاستشراقي ومؤسسات دعمه الاستعمارية ووصولا إلى تعرية أقنعة الثقافة الإمبريالية الجدل الحيوي بين الوظيفة التنظيرية المتخصصة للخطاب النقدي وبين المسؤولية الأخلاقية التي تربط الخطاب المعرفي بالمضمون التنويري للثقافة، وبذلك "ينتقد سعيد صنمية الاختصاص القائمة على ديالكتيك زائف قوامه رفع المعرفة وإلغاء العارف، إذ تبدو المعرفة حقلا مغلقا ومستقلا في انغلاقه، ويبدو العارف سيدا في حقله المستقل المغلق؛ أي يبدو مختصا بعلاقات الكتابة ومختصا باحترام قواعد الاختصاص كأن العارف نموذج إنساني من نوع خاص لا علاقة له بالنماذج البشرية الأخرى"(50).
في هذا الموقف الجدلي بين المعرفة والقيم تتضح أخلاقية الخطاب النقدي،أي في بعده القيمي التنويري،الذي يسمح له بنقد المسلمات السائدة وتفكيك الأحكام المسبقة وتفعيل قيم السؤال والحوار والاختلاف، من أجل خلق ثقافة نقدية تنويرية، وتحرير الإنسان من أشكال الهيمنة والتضليل والتمويه
الهوامش
(1) Horace L. Fairlamb, Critical Condition: Postmodernity and Question of Foundation, Cambridge University Press, 1994, p.86
(2) Roger Webster, Studying Literary Theory, London, Fontana Press, 1993.p.110
(3) محمد الدغمومي، نقد النقد وتنظير النقد العربي المعاصر، الطبعة الأولى، منشورات كلية الآداب، الرباط، 1999.
(4) محمد مفتاح، المفاهيم معالم: نحو تأويل واقعي، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، 1999، ص.5.
(5) Roger Webster, Studying Literary Theory, op. cit., p93
(6) Jonathan Culler, On Deconstruction, Theory and Criticism after Structuralism, Ithaca and New York, Cornell University Press, 1982, p.220.
(7) د. محمد مفتاح، التشابه والاختلاف: نحو منهاجية شمولية، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، 1996، ص.48.
(8) د. محمد مفتاح، النص: من القراءة إلى التنظير، الطبعة الأولى، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء، 2000، ص.49.
(9) Kenneth J. Gergen, Realities and Relationships, Harvard University Press, 1994, p.13.
(10) Kenneth J. Gergen, Realities and Relationships, p.13.
(11) Kenneth J. Gergen, Realities and Relationships, p.14.
(12) Horace L. Fairlamb, Critical Condition, op, cit., p.86.
(13) Horace L. Fairlamb, Critical Condition, op, cit., p :14.
(14) Mikko Lehton, The Cultural Analysis of Texts, London, SAGE Publications, 2000, p.43, 44.
(15) Francois Devaliere, Nord Sud: Une Alterite Questionee, Paris, et Montreal, Editions L Harmattan, 1997, p.152.
(16) Horace L. Fairlamb, Critical Condition, op, cit., p.95.
(17) د. يوسف تيبس، تاريخ وفلسفة العلوم عند ميشيل سير، مجلة عالم الفكر، العدد4، المجلد 30 أبريل/ يونيو 2000، ص.155.
(18) د. يوسف تيبس، تاريخ وفلسفة العلوم عند ميشيل سير، ص:165.
(19) إديث كيرزويل، عصر البنيوية، ترجمة جابر عصفور، الطبعة الثانية، عيون، الدار البيضاء، 1986، ص.178.
(20) تزفيتان تودوروف، نقد النقد، ترجمة سامي سويدان، الطبعة الأولى، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، 1986، ص.59.
(21) Mikko Lehton, The Cultural Analysis of Texts, op, cit., p.139.
(22) محمد مفتاح، المفاهيم معالم، مرجع مذكور، ص.103.
(23) Umberto Eco, Les Limites de L interpretation, Paris, Bernard Grasset, 1992, p.39
(24) Mikko Lehton, The Cultural Analysis of Text, op, cit., p.41
(25) جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، الطبع الأولى، دار توبقال، الدار البيضاء، 1988، ص.28.
(26) Horace L. Fairlamb, Critical Condition, op, cit., p.75.
(27) محمد الدغمومي، النقد والمنهج، ضمن كتاب جماعي النقد الأدبي في المغرب، الطبعة الأولى، منشورات رابطة أدباء المغرب، الرباط، 2002، ص.57، 58.
(28) عبد الله العروي، الايديولوجيا العربية المعاصرة، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، 1995، ص.248.
(29) 31 Kennet J. Gergen, Realities and Relationships, op, cit., p.130.
(30) Kennet J. Gergen, Realities and Relationships, op, cit., p.130.
(31) Edward W. Said, The World, The Text and the Critic, Harvard University Press, 1982, p.226.
(32) عبد الله العروي، الايديولوجيا العربية المعاصرة، مرجع مذكور، ص.254.
(33) عبد الله العروي، الايديولوجيا العربية المعاصرة، مرجع مذكور، ص.254.
(34) جماعي، النقد الأدبي، ترجمة هدى وصفي، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، 1989، ص.144.
(35) جماعي، النقد الأدبي، ترجمة هدى وصفي، ص:145.
(36) Vincent B. Leitch, Cultural Criticism, Literary Theory, Poststructuralism, New York, Columbia University Press, 1992, p.12.
(37) د.علي سالم، بيار بورديو، مجلة كتابات معاصرة، العدد 24، 1995، بيروت، ص.94.
(38) د. محمد الدغمومي، الواقع النقدي بين اللاأخلاقية والخلل، العلم الثقافي، 22 أبريل 2002، ص.12.
(39) د. محمد الدغمومي، الواقع النقدي بين اللاأخلاقية والخلل، ص:12.
(40) Umberto Eco, Interpretation et Surinterpretation, Paris, Edition Presses, Universitaires de France, 1996,p :59.
(41) د. محمد الدغمومي، الواقع النقدي بين اللاأخلاقية والخلل، مرجع مذكور، ص.12.
(42) د. محمد الدغمومي، الواقع النقدي بين اللاأخلاقية والخلل، مرجع مذكور، ص.12.
(43) نقلا عن سعيد يقطين، الكلام والخبر، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، 1997، ص.35.
(44) جي هيليس ميلر، أخلاقيات القراءة، ترجمة سهيل نجم، الطبعة الأولى، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 1997، ص.10.
(45) Kennet J. Gergen, Realities and Relationships, op, cit., p.103.
(46) علي حرب، الممنوع والممتنع: نقد الذات المفكرة، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، 1995، ص.164.
(47) Vincent B. Leitch, Cultural Criticism, Literary Theory, Poststructuralism, op, cit., p.12.
(48) Vincent B. Leitch, Cultural Criticism, Literary Theory, Poststructuralism, op, cit., p.12.
(49) د. فيصل دراج، ادوارد سعيد أو أخلاقية المعرفة، مجلة الآداب، العدد6/7، السنة45، 1995 بيروت، ص.30.
(50) المرجع نفسه. ص.31.