تسعى الباحث المصري للتعرف على مختلف التحولات التي تنتاب النص الأدبي في تعبيره عن العنف حينما ينتقل إلى عالم السينما، وبعد أن أن يتعرف على طبيعة العنف، ثم طبيعة العلاقة بين الأدب والسينما والمناهج المختلفة في تحويل الأعمال الأدبية إلى أفلام، يتريث عند قصة محمد المنسي قنديل، وما جرى لها حينما تحولت إلى فيلم سينمائي.

العنف بين الأدب والسينما

بالتطبيق على قصة «الوداعة والرعب» لمحمد المنسى قنديل(1)

نــادر رفــاعى

تمهيد
«يخطىء من يظن أن العنف ظاهرة حديثة في تاريخ البشرية، فهو قديم قدم الوجود الإنسانى نفسة، ومسجل في قصص نشأة الكون وفي الخرافات والأساطير والملاحم، كأمر مرتبط بفجر التاريخ»(2). ويذكر خالد أحمد بهجت «أن السينما قد تناولت فكرة العنف منذ بدايتها مشيراً إلى قيام شركة (أديبسون) عام 1897 بإنتاج شريط سينمائى استغرق عرضه دقيقة ونصف الدقيقة، عن إعدام الملكة (مارى) ملكة إسكتلندا، وفي هذا الفيلم تخطو الملكة (مارى) إلى منصة الإعدام ثم ترتفع البطلة للتدحرج رأسها»(3).

والمتابع لعناوين الأفلام التى أنتجتها السينما المصرية يلاحظ وجود عدد من العناوين المرتبطة بظاهرة العنف، فثمة أفلام تحتوى عناوينها على كلمة (القتل) مثل «ليلة القتل» (إخراج: أشرف فهمى، 1994)، «القتل اللذيذ» (إخراج: أشرف فهمى، 1998)، وتحتوى عناوين أعمال أخرى على كلمة (جريمة) مثل «جريمة في الحى الهادى» (إخراج: حسام الدين مصطفى، 1967)، «جريمة في الأعماق» (إخراج: حسام الدين مصطفى، 1992)، وتضع أعمالاً أخرى كلمة (مجرم) في صدارة العنوان مثل «مجرم في أجازة» (إخراج: صلاح أبو سيف، 1958)، «مجرم مع مرتبة الشرف» (إخراج: مدحت السباعى، 1998)، وكذلك قدمت السينما المصرية فيلماً يحتوى عنوانه على كلمة (عنف) وهو «لا يا عنف» (إخراج: جمال التابعى، 1993)، كما أن هناك فيلماً تم تصويره بتقنية الديجيتال ولم يعرض سينمائياً حتى تاريخ كتابة هذه الورقة البحثية يحمل إسم «العنف والسخرية» إخراج أسماء البكرى، والمأخوذ عن رواية بنفس الإسم للأديب ألبير قصيرى.

ومما لا شك فيه أن العنف لا يرتبط فقط بالأفلام التى تنتمى إلى فئة "أفلام الحركة" «والتى تعتبر أكثر نوعيات السينما إنتشارا وشعبية من خلال فصائلها المتعددة»(4) مثل أفلام «رصيف نمرة 5» (إخراج: نيازى مصطفى، 1956)، «الأبطال» (إخراج: حسام الدين مصطفى، 1974)، «شمس الزناتى» (إخراج: سمير سيف، 1991 )، «إبراهيم الأبيض» (إخراج: مروان حامد، 2009)، بل أنه يتواجد في عدد من الأفلام التى تنتمى إلى فئة الدراما الإجتماعية، كما أن هناك نوعاً من الأعمال الفكاهية يطلق عليها "الكوميديا الخشنة" وهى «كوميديا قائمة على الفعل أو النشاط البدنى (وخاصة التهجمات) والحركة المتسارعة «خاصة المطاردات، ويمكن التعرف على تقاليد هذا النوع بوحدات من الحدث مثل المطاردة بالسيارات ومعركة الفطائر (حلوى التورتة)»(5). ويظهر ذلك في عدد من الأفلام مثل:ـ «العتبة جزاز» (إخراج: نيازى مصطفى، 1969)، «بخيت وعديلة» (إخراج: نادر جلال، 1995)، «تتح» (إخراج:سامح عبد العزيز، 2013).

وينبغى التأكيد على أن هذه الدراسة البحثية ليست أول عمل نقدى يتناول طبيعة العلاقة بين السينما المصرية وظاهرة العنف، فثمة مجموعة من البحوث المنشورة في هيئة كتب مثل (العنف في السينما المصرية وظواهر أخرى)، تأليف محمود قاسم(6)، بالإضافة إلى رسالة علمية للباحث خالد أحمد بهجت تحمل إسم (العنف في السينما ما بين التقنيات والواقع والمؤثرات الوافدة / نماذج مختارة من السينما المصرية والعالمية في الفترة من 1965 ـ 1990).

وتركز الدراسة على ثلاثة موضوعات أساسية، هى:ـ
 1ـ مفهوم العنف وأنواعه.
 2ـ طبيعة العلاقة بين الأدب والسينما.
 3ـ صور العنف بين فيلم «فتاة من إسرائيل»(7) ونظيره الأدبى.

1ـ مفهوم العنف وأنواعه
يعرف «القاموس الفرنسى مصطلح العنف بأنه كل ممارسة للقوة عمداً أو جوراً، وكلمة عنف violence الفرنسية مستعارة من الكلمة اللاتينية التى تشير إلى القوة، فمصطلح القوة والعنف مشتقان من أصل واحد»(8).

وتشير إحدى الدراسات إلى أن "العنف" «خاصية ظاهرة أو فعل عنيف، يتعلق الأمر باستخدام غير مشروع أو على الأقل غير قانونى، للقوة ، حيث نستعمل كلمة (عنيف) عندما نتحدث عن الأحاسيس أو الأفعال بل حتى على الطباع، والتى تلتقى في فكرة واحدة، ألا وهى وجود إندفاعات تنفلت من قبضة الإرادة »(9).

وتذكر دراسة أخرى أن "العنف" هو «كل ما يصدر من الفرد (الطلاب) من سلوك أو فعل يتضمن إيذاء الآخرين ويتمثل في الإعتداء بالضرب والسب أو إتلاف ممتلكات عامة أو خاصة، وهذا الفعل مصحوباً بانفعالات الإنفجار والتوتر، وكأى فعل أخر لابد وأن يكون له هدف يتمثل في تحقيق مصلحة معنوية أو مادية»(10).

أما بالنسبة للمفهوم السيكولوجى لمصطلح (العنف) فيعنى «إنه سلوك ظاهر يستهدف إلحاق التدمير بالأشخاص أو الممتلكات والمقصود بكلمة ظاهر هو أن العدوانية لكى تكون عنفاً ينبغى أن يتوافر لها شرط الظهور، فثمة أنواع من العدوان يعرفها علماء النفس، تتميز بالخفاء والكمون، مثل مختلف أنواع المرضى نفسياً»(11). ويترتب على وقوع (العنف) إحساس الفرد بالألم «بوصفه علامة إنذار لا تحدث إلا في حالات خاصة، مثل وجود استثارة خطيرة مفرطة (ألمية) آتية من البيئة المحيطة»(12). وعن علاقة العنف بالغضب أظهرت دراسة "ديفنباخر" «أن الغضب الزائد له كثير من الأثار السلبية على التوافق الشخصى والأسرى والاجتماعى والدراسى والوظيفي للفرد، حيث يؤدى إلى حدوث أضرار للفرد نفسه وللأخرين وإتلاف الأشياء وإفساد العلاقات الاجتماعية بين الفرد وغيره»(13).

ومن جهة أخرى، تتعدد أشكال وأنواع العنف فهناك المادى والمعنوى، والعنف المباشر وغير المباشر، وكذلك الإجتماعى والسياسى. وتجدر الإشارة إلى أنه من أشكال العنف السياسي غير المباشر «اعتماد مجموعة من أساليب التفرقة العرقية والدينية، ونشر آفات اجتماعية خطره مثل المخدرات والدعارة، وتغذية الإشكاليات العائلية أو العرقية من خلال عملاء أو مستفيدين»(14).

ويوضح "هيجل" أن العنف كان دائماً نتيجة مباشرة لانعدام العقلانية في بعض الفترات التاريخية التى تمر بها المجتمعات، كما أنه جزء لا يتجزأ من جوهر الشعور الإنسانى نفسه، وهذا الشعور خاصية يمارسها الإنسان من أجل ذاتها وفي حد ذاتها دون الإعتراف بوجود (الغير)(15). كما تشير "حنه أرندت" إلى «أن عامل التفتت الداخلى الذى يواكب إنتصار العنف على السلطة، يكون واضحاً بشكل خاص حين يتم استخدام الإرهاب من أجل الحفاظ على الهيمنة»(16). ومما لاشك فيه «أن من أهم مصادر الصراعات الكامنة في عالمنا المعاصر، الزعم بأن الناس يمكن تصنيفهم تصنيفاً متفرداً مؤسساً على الدين أو الثقافة»(17).

2ـ طبيعة العلاقة بين الأدب والسينما
يقرر "مدكور ثابت" «أن العملية الإبداعية لابد وأن تتم عبر جدلية "التطويع / الخضوع" في آن واحد، لجمالية السينما وتكنولوجيتها في آن واحد كذلك، ومن ثم يصبح ما يمكن إيصاله عبر كلمات الأدب غير ممكن تحقيقه هو نفسه عبر الفيلم إلا بـ "إعداده"، بما هو "تطويع وخضوع"، أى بما هو "التكييف" إذا ما أردنا تعبيراً اصطلاحياً»(18). ويشير "جابر عصفور" إلى أنه «يمكن للأفلام المأخوذة عن الأعمال الأدبية أن تنتقل بسهولة فائقة من دائرة الموازاة الإبداعية إلى دائرة التفسير الذى يتجسد بالتركيز على موضوع أو محور بعينه في الأصل الأدبى، وإعادة صياغته بلغة السينما التى تستلزم في هذه الحالة ـ درجات متعددة من تحويل الأصل بواسطة عمليات من التكبير والتصغير أو التبديل أو التقديم والتأخير أو الحذف والإضافة، وذلك كله بما يحقق رؤية المخرج التى هى خلق مستقل بمعنى من المعانى أو إبداع مواز بكل المعانى، وفعل التفسير الذى ينطوى عليه عمل المخرج الذى يقوم بالصياغة السينمائية للعمل الأدبى هو فعل ضرورى، لا يمكن أن يكون لفيلمه وزن بدونه»(19). كما يرى ناجى فوزى أن «هناك صورتين للعلاقة بين الفيلم السينمائى والمصدر الأدبى المأخوذ عنه، الأولى هى فكرة (الالتزام بالنص الأدبى) وفي هذه الحالة لا يسمح للفنان بالاجتهاد في المعالجة السينمائية سواء من حيث الشخصيات أو الأحداث الرئيسية، أما الثانية فهى فكرة (احترام النص الأدبى) وتعنى أن الفنان السينمائى لا يغير من فكر المؤلف الأدبى، ولكنه في نفس الوقت ـ يسمح له بالاجتهاد في المعالجة السينمائية التى هى من صميم اختصاصه، بل هى واجب يلتزم به»(20).

ويقوم "دادلى أندرو" بإضافة نوعين لعملية الإعداد السينمائى وهما (الإستعارة Borrowing) و(التقاطع intersection)، «أما الإستعارة فلا تحوى على أى تقليد للنص الأصلى، ولكن من خلالها يسعى المتلقى لاكتشاف جوانب مؤثرة تظل عالقة طويلاً بالنص مثل مسرحيات الغموض في العصور الوسطى، بينما يقصد بالتقاطع "الرفض القاطع لعملية الإعداد التقليدية، حيث يتم تمييز النص وإضفاء الحياة عليه من خلال الفن السينمائى، وذلك عن طريق الدمج بين جماليات الفنون الأخرى والتقنيات السينمائية المستحدثة مثل أفلام المخرج (بيير باولو بازولينى)»(21). وتشير نهاد صليحة إلى أنه «يترتب على القول بحرية الفنان في تفسير النصوص، وطرحها عبر وسائط فنية مختلفة، والقول بنسبية معنى الأعمال الفنية، الإعتراف ضمناً بأن العمل الفنى يمتلك خاصية توليد قراءات متعددة، في أزمنة متعاقبة، أو حتى في الزمن الواحد، أو لدى نفس القارئ أو المفسر، وأن المعنى الكلى لأى عمل فنى هو جماع كل القراءات الممكنة له، السابقة واللاحقة، ولذا فهو لا يوجد أبداً في صورته الكاملة، في لحظة زمنية معينة، ولا في لحظة اكتمال إبداعه وانتهاء الفنان من إنجازه، بل ليتحقق مرحلياً، على مر الزمن، ولا يكتمل أبداً ما دام هناك قراء جدد، في زمن لاحق، أى أنه يكتمل فقط حين تنتفي إمكانية وجود متلقين، جدد أو سابقين»(22).

 

3ـ صور العنف بين فيلم «فتاة من إسرائيل» ونظيره الأدبى
لقد إتبع كتاب السيناريو (إيهاب راضى ـ مصطفي محرم ـ فاروق عبد الخالق ـ رفيق الصبان) مجموعة من الإجراءات عند تحويل قصة (الوداعة والرعب) إلى فيلم سينمائى، ما بين حذف وإضافة شخصيات وأحداث.. إلخ.

ومن أبرز التغييرات التى طرأت على النص الأدبى:ـ

1ـ تغيير مكان وقوع أحداث العمل، حيث تدور أحداث القصة بمدينة (فارنا/ بلغاريا) بينما تقع أحداث الفيلم داخل مدينة (طابا).

2ـ تغيير زمن وقوع الأحداث، حيث تم كتابة القصة عام (1985) (ص 156) بينما يحدد الفيلم زمنه عن طريق عبارة تكتب عقب إنتهاء لوحات أسماء العاملين وهى (القاهرة 1989).

3ـ ويضيف السيناريو عدة شخصيات غير موجودة بالنص الأدبى مثل (إبرام ـ ناعوم ـ أسامة ـ حسن ـ وائل).

4ـ ويقوم السيناريو بإجراء تغيير في طبيعة العلاقات بين الشخصيات، فإذا كانت القصة تشير إلى أن الأب "عبد الغنى" يتعرف على رجل الأعمال " محجوب" عندما يصل إلى (فارنا)(ص 101)، فإن الفيلم يؤكد على ووجود صداقة قديمة بينهما، وبالمثل نلاحظ أن شخصية إبنة رجل الأعمال تحاول كسب ود طارق داخل القصة دون جدوى، بينما يوضح الفيلم أن هناك بوادر علاقة حب بينهما في أحد المشاهد.

5ـ وبينما يختلف الوصف المادى الخاص بالتكوين الجسمانى لشخصية إبنة رجل الأعمال حيث يصف "محمد المنسى قنديل" الفتاة بأنها تتسم بالبدانة(ص 76) بينما يتم أختيار ممثلة رشيقة لأداء الدور (حنان ترك)، يتم تنميط شخصية الأب في الفيلم باعتباره مدرس التاريخ المثالى، على العكس من رسم الشخصية داخل العمل الأدبى وهو ما يظهر بوضوح عند مخاطبته للأستاذ الجامعى قائلاً «أنا موظف تقليدى.. غاية في التقليدية... إلخ»(ص113).

وإذا كان قدرى حنفي يشير إلى أن «العدوانية هى أحد السمات الأساسية للشخصية اليهودية الإسرائيلية»(23)، فإننا نجد أثراً لهذا الرأى السديد داخل الفيلم، وهو الأمر الذى يمكن ملاحظته منذ المشهد الأول الخاص بقيام الضباط والجنود الإسرائيليين بقتل الأسرى المصريين الأبرياء، حيث يتم إستخدام اللقطات المقربة (close up) لوجوه الضباط والجنود الممتلئة بالكراهية تجاه الأسرى بالإضافة إلى لقطات مقربة للأسلحة التى تصرع الأسرى.

ويستكمل الفيلم تأكيده على السلوك العدوانى من خلال عدد من المواقف الدرامية داخل العمل، مثل قيام "إبرام" بمحاولة أغتصاب الفتاة المصرية "أمينة" عند خروجها للبحث عن "طارق" (خالد النبوى). ومحاولة الأستاذ الجامعى (فاروق الفيشاوى) إغواء "طارق" بالمزايا التى تنتظره عند وصوله إلى "تل أبيب"، حيث تم التعبير بصرياً عن طبيعة العلاقة بين الشخصيتين في هذا المشهد بواسطة عنصر "الإضاءة" «إذ تم إضاءة الأستاذ الإسرائيلى بإضاءة ذات لون أصفر ضارب للحمرة (برتقالى) وفي نفس الوقت فإن مصدر الإضاءة على وجهة يأتى من الجهة السفلية وهو ضوء يتسم بزيادة نصوعه مما يزيد من الإحساس بالرهبة مع توقع الخطر من صاحبة، ولأن الفتى ذو شخصية منقسمة ما بين الرغبة في زواج الفتاة الإسرائيلية من جهة. والرغبة في إرضاء الوالدين إرضاءً تاماً من جهة أخرى، لذلك فإن إضاءة وجه الفتى المصرى من شأنها أن تشير إلى حقيقة إنشطاره الداخلى، ذلك أن نفس اللون الأصفر الضارب للحمرة هو ضوء خفي بالنسبة له. يأتى من اتجاه الإسرائيلى الذى يسعى لإغواءه، كما أن الإضاءة الخالية من أية مسحة لونية تأتى جانبية بالنسبة لوجه الفتى فتقسمه إلى قسمين، أحدهما وهو المظلم، هو القريب من الرجل الإسرائيلى» (24) ، ويقدم الفيلم أيضاً تعبيراً مباشراً عن عدوان الصهاينة على العزل الأبرياء عندما يكتشف "عبد الغنى" أن "يوسف" ما هو إلا إسرائيلى يعمل أستاذاً بجامعة تل أبيب، حيث يتخيل أثناء تواجدهما بدورة المياة أن الدماء تتساقط من يد "يوسف" أثناء قيامه بغسلها كناية عن دماء الشهداء الذى قتلهم الصهاينة. ومن جهة أخرى يقدم كلا من الفيلم والعمل الأدبى مواقف تعتمد على "العنف الدلالى أو الرمزى" ويشمل "التعبير بطرق غير لفظية كاحتقار الأخرين أو توجيه الإهانة لهم كالامتناع عن النظر إلى الشخص الذى يكن له العداء أو النظر إليه بطريقة تدل على على ازدرائه وتحقيرة"(25). فبالنسبة للقصة فإن بدايتها تقدم موقفاً يجمع بين أسرة "عبد الغنى" وضابط الجوازات بالمطار، حيث يخاطبهم في سخرية عندما يعلم بمرض الأم لماذا لا تذهب إذن للعلاج بدلاً من السياحة؟" (ص73) فيلاحظ الأب نظرات الإبن الغاضبة والتى يوجهها إلى الضابط (ص74). وهو الأمر الذى يتكرر في موضع أخر من القصة عندما يسخر الأستاذ الإسرائيلى من الموظفين المصريين قائلاً "«لقد أثبتت الإحصائيات أن الموظف العادى في حاجة إلى خمس إمضاءات على الأقل قبله حتى يستطيع أن يضع إمضائه» فيعبر المؤلف عن غضبة مشيراً إلى قيام "عبد الغنى" بالضغط على أحد الأكواب الموضوعة أمامه بواسطة يده، مما أدى إلى تراجع الأستاذ الجامعى متحدثاً بصوت خافت "آسف ولكن هذا كلام علمي" (ص 108). ويظهر "العنف الدلالى" أيضاً عندما تتبادل الفتاة البدينة ووالدها رجل الأعمال النظرات عقب حديثها عن رسوبها ثلاث سنوات متتالية في المرحلة الثانوية «نظرت نحو أبيها كأنها تحاول بكلماتها أن تنتقم منه، سعل محرجاً ورمقها في تهديد»(ص 102).أما بالنسبة للفيلم فيتضمن عدة مشاهد تعظم هذا الإحساس، فهناك نظرات (إبرام ) الحادة عند حديثة لعامل الإستقبال بالفندق عن ضرورة إيجاد غرفة خاصة به تبعد عن غرف المصريين، بالإضافة إلى لقطات ضباط وجنود الجيش الإسرائيلى (السابق ذكرها). وللعنف غير المباشر نصيب من الظهور داخل قصة (الوداعة والرعب)، فعندما يكتشف "عبد الغنى" قيام "طارق" بمضاجعة الفتاة الإسرائيلية، يمسك بألة الجيتار الخاصة بإبنه الشهيد الراحل ويحطمها «هتف في حنق مكتوم: أنت لا تستحقه، دخل مسند المقعد في مقدمة الجيتار... تقطعت الأوتار وهى تصدر أنيناً مكتوماً.. تناثرت شظايا الخشب.. لم يبقى في يده إلا الزراع الطويل وبقية من الأوتار الملفوفة»(ص145).

وتتعدد أشكال العنف المباشر داخل الوسيطين فثمة مشاهد نطالع فيها مشاجرتين متتاليين في ختام الفيلم تجمع الأولى بين "حسن" (بهاء ثروت) و"إبرام" (عمرو مهدى) عقب قتله لوائل (مصطفي شعبان)، أما الثانية فتجمع بين الأب المصرى ونظيره الإسرائيلى، وتمت بجوار الشاطىء حيث تبادلا اللكمات واستخدم المخرج شريط الصوت (صوت الطائرات والصواريخ) للتأكيد على أن المشاجرة أقرب إلى معركة حربية، بينما يتفوق العمل الأدبى في تجسيد المشاجرة حيث يسردها الأديب محمد المنسى قنديل بدقة «اشتبكا بالأيدى.أنشب كل واحد أظافره في وجه الآخر.. أكتشفا فجأة عندما تلاحما وعندما أحس كل منهما بطعم الدم المالح اللاذع في فمه، أنهما يكنان لبعضهما كراهية عميقة... تفجر الغضب من كل خلية من خلاياهما... إلخ»(ص 148ـ 149)

ويقدم الفيلم عددا من المواقف التى ترتبط بفكرة أن «العنف في حد ذاته ليس شراً دائماً، وإنما العبرة بالنتائج المترتبة عليه»(26) . حيث تقوم الأم (رغدة) بصفع إبنها ساعية إلى تقويمة عقب علمها بأنه وقع في حب الفتاة الإسرائيلية، وهو الأمر الذى يتكرر عندما يقوم "حسن" بصفع "وائل" عندما يواجهه بشأن صداقته بالشاب الإسرائيلى (نعوم). وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين الأدب والسينما تحتاج إلى عشرات البحوث، ومما لاشك فيه أن علاقة فيلم فتاة من إسرائيل بمصدره الأدبى تلفت النظر إلى ندرة تعامل السينما المصرية مع إبداعات بعض الأدباء المتميزين مثل (إبراهيم عبد المجيد ـ خيرى شلبى ـ جمال الغيطانى ـ محمد البساطى ـ محمد المنسى قنديل).

 

المراجع
1ـ محمد المنسى قنديل: بيع نفس بشرية (القاهرة، دار ميريت، 2008).

2ـ نبيل راغب: موسوعة الفكر الأدبى ج1 (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1988) ص135

3ـ خالد أحمد بهجت، د.: العنف في السينما ما بين التقنيات والواقع والمؤثرات الوافدة / نماذج مختارة من السينما المصرية والعالمية في الفترة من " 1965 ـ 1990 "، رسالة دكتوراة غير منشورة، ( القاهرة: أكاديمية الفنون، المعهد العالى للسينما، قسم الإخراج، 1997) ص 2

4 ـ سمير سيف: أفلام الحركة في السينما المصرية 1952ـ 1975 ( القاهرة، المركز القومى للسينما، 1996 ) ص29.

5 ـ يحيى عزمى، د.: السينما المصرية من منظور نظرية الأنواع / 1970ـ 1989، حلقة بحث بعنوان (السينما المصرية / الانفتاح والواقعية الجديدة 1970:2000 ) (القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، قاعة الفنون، 21/6/2011)

6ـ محمود قاسم: العنف في السينما المصرية وظواهر أخرى (الجيزة، دار الأمين، ط1، 1998).

7ـ فيلم " فتاة من إسرائيل" (إخراج: إيهاب راضى، 1999)، ومأخوذ عن قصة " الوداعة والرعب" للأديب " محمد المنسى قنديل ".

8ـ قبى أدم: رؤية نظرية حول العنف السياسى، دراسة منشورة بمجلة الباحث (الجزائر، جامعة قاصدي مرباح ورقلة، 2002 ) ص 102 بتصرف

9ـ محمد الهلالى ـ عزيز لزرق: العنف، ترجمة وإعداد ( المغرب، دار توبقال للنشر، ط1، 2009) ص9

10ـ فهد على عبد العزيز الطيار:العوامل الإجتماعية المؤدية للعنف لدى طلاب المرحلة الثانوية / دراسة ميدانية لمدارس شرق الرياض، رسالة ماجستير غير منشورة (الرياض، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، كلية الدراسات العليا، قسم العلوم الاجتماعية، 2005) ص 28

نقلاً عن

ـ محمد الصالح العرينى: دور مدير المدرسة في الحد من عنف الطلاب في المدارس بالمملكة العربية السعودية / دراسة تطبيقية على مديرى المدارس بمدينة الرياض، رسالة دكتوراة غير منشورة، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، 2003 م / 1424 هـ، ص ص 13 ـ 14

11 ـ قبى أدم، المرجع السابق.

12ـ بول شوشار: الألم، ترجمة:ـ هالة مراد (القاهرة، دار المستقبل العربى ، 1992) ص11

13ـ إجلال إسماعيل حلمى، د.: العنف الأسرى ( القاهرة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1999) ص 16

14ـ رنا النشاشيبي ـ مراد عمرو:العنف السياسي ضد الأطفال، مقال منشور بموقع http://www.amanjordan.org/aman_studies/wmview.php?ArtID=6ــــ

15ـ نبيل راغب، د.: العنف يجتاح العالم ( القاهرة، مكتبة المحبة، رقم الإيداع 1989 ) ص12.

16ـ حنة أرندت: في العنف، ترجمة:ـ إبراهيم العريس ( بيروت، دار الساقى، ط1، 1992) ص49

17ـ أمارتيا صن: الهوية والعنف / وهم المصير الحتمى، ترجمة:ـ سحر توفيق (الكويت، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والأداب، سلسلة عالم المعرفة، يونيو 2008 ) ص 12

18ـ مدكور ثابت، د.: صناعة التشويق في حرفية الكتابة للفيلم (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة مكتبة الأسرة، 2007) ص 88.

19ـ سمير فريد: أدباء العالم والسينما (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة مكتبة الأسرة، 2008) ص ص 13 ـ 14

20ـ ناجى فوزى، د.: كمال عطية / التعدد الإبداعي وعشق السينما (القاهرة، صندوق التنمية الثقافية، 2000 ) ص187.

21ـ دينا فؤاد كامل: الإعداد السينمائى للأدب ـ دراسة تطبيقية على نموذج من أعمال يوسف إدريس، رسالة ماجستير غير منشورة، ( القاهرة: أكاديمية الفنون، المعهد العالى للسينما، قسم السيناريو، 1999) ص 132

22ـ نهاد صليحة، د.: في الفن والأدب والحياة (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة مكتبة الأسرة، 2009) ص236.

23ـ رشاد عبد الله الشامى، د.: الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية (الكويت، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والأداب، سلسلة عالم المعرفة ، يونيو 1986 ) ص118

24ـ ناجى فوزى، د.: ماهر راضى / الضوء بين الفن والفكر ( القاهرة، صندوق التنمية الثقافية، 2010 ) ص ص 208 ـ 209

25 ـ فهد على عبد العزيز الطيار، مرجع سابق، ص ص 30 ـ 31

26ـ نبيل راغب، د.: موسوعة الفكر الأدبى ج1، مرجع سابق، ص135