المؤكد أن الترجمة "علامة وجود" أو بالأحرى "علامة حضارة" على الحضارات ذاتها وعلى الثقافات واللغات في تواصلها وتجاوبها وتدافعها... عبر إواليات أو آليات تقع في صميم "المثقافة" (Acculturation) مثلما تتحكم في هذه المثاقفة. ولا يبدو غريبا أن لا تكون الترجمة وقفا على "الثقافات القومية المغلوبة" أو "المقموعة" فقط، تلك الثقافات الحالمة بملاحقة "الآخر" في وتائر درجات تقدّمه المتسارعة. ذلك أنه حتى "الثقافات المتقدّمة"، أو الثقافات التي نعدّها "مهيمنة"، تأخذ الترجمة على محمل الجد. لا كمجرد قناة لـ"الهيمنة" فقط، وإنما كقناة لـ"المعرفة" أيضا، وكل ذلك في المدار الذي يستحضر السياق العالمي في أفق التفاعل معه والإسهام ــ تاليا ــ في صياغة دلالات العصر. فمن الواضح، إذا، أنه ثمة علاقة ترابط أو علاقة تلازم ما بين الترجمة والعصر الذي من المفروض أن ننتمي إليه وبالقدر ذاته أن نسهم في صياغة دلالاته الإجمالية سالفة الذكر.
فالزمن، الذي نعيشه الآن، هو، وبمعنى من المعاني، "زمن الترجمة"؛ وكما أن الفكر بدوره، والذي هو مدخل للعصر، هو، وبمعنى من المعاني أيضا، "ترجمي". وهذا على "الهزال" الذي نعيشه، نحن العرب، على مستوى الحضور في هذا الزمن؛ وهذا لكي لا نشير إلى مستوى الدفع بهذا الزمن والارتقاء به إلى مستوى أعمق في المعرفة التاريخية. ولا داعي لاستحضار الأرقام المخجلة، والمخيفة، في هذا الصدد ... والصادرة عن هيئات ومؤسسات تحظى بـ"احترام دولي". ولذلك من المفيد أن نشاطر رأي من ذهب إلى أن التعاطي للترجمة لا يخلو من "دلالات التحدي السياسي" أيضا.
وأتصوّر أن "سند المعرفة" سالف الذكر هو أوّل ما استخلصته بخصوص مشروع "كلمة" للترجمة في "هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث" الذي هو، وبمقاييس عدّة، مشروع فكري كبير وما أحوجنا إلى محاورته والإفادة منه في عالمنا العربي الذي لا يزال يعاني انسدادا فكريا كاسحا لا يمكن فك جانب كبير من "غموضه التاريخي" إلا من خلال الانفتاح على الثقافات (الإنسانية) الأخرى التي تؤكد على "تتميم النوع الإنساني" تبعا لمقولة الفيلسوف العربي القديم الكندي. وكل ذلك في المدار الذي لا يجعلنا نتقوقع في إطار من لغات المركزية الأوروبية والأمريكية فقط، فاللغات العالمية لا تنحصر في هذا التصنيف. وهذا بالإضافة إلى "الدعاوى" التي أخذت تنادي بـ"نقد" هذه المركزية التي تتأكـّد، وأوّل ما تتأكد، من خلال اللغة ذاتها باعتبارها، وفي مثل هذه الحال، "متعلقات قوة". فثمة لغات أخرى يمكن الانفتاح عليها، وترجمة نصوصها، مثل الصينية واليابانية واليونانية والروسية والفارسية والتركية ... إلخ.
المطلوب، وحتى نعي حجمنا التاريخي، ألا نطالب بترجمة جميع ما هو موجود في هذه الدنيا أو بأن نترجم من اليمين إلى الشمال وبدون توقف. المطلوب هو أن نقدم على ترجمة "النصوص المكرّسة" ذات الصلة بالإشكاليات الأساسية والحارقة التي تلوي بأبنية الفكر العربي المعاصر في "تياراته" وفي "ثابته ومتحوّله" ... وذلك بالنظر إلى أن العديد من هذه الإشكاليات هي ذات "جذور ثقافية"؛ ودون أن نسقط، هنا، في النزعة التي تغلب الثقافة، على العناصر الأخرى المكوّنة للمجتمعات، وذلك من خلال ما يعرف بـ"الثقافوية" (Culturalism).
فليس من شك في أن "حدث الاستعمار"، ومن خلال تأثيراته، عاد من جديد ليتعمـّق النقاش من حوله في الفترة الأخيرة؛ وهو ما أخذت تطالعنا به، وفي إطار من إحكام معرفي ومنهجي هائل، ما راح يعرف، وفي سياق النظرية العالمية ككل، "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" (Postcoloialism) التي لا يمكن فهمها بمعزل عن "حساسيات العالم الثالث" ... وهذا على الرغم من تشكـُّلها من خلال "المنجز الغربي" في مجال النظرية والعلوم الاجتماعية. ويمكن تأطير الإفادة من النظرية في إطار من محاولة قراءة "أرشيف الاستشراق الكبير" على نحو ما يمكن استخلاص "دلالاته" من خلال ما يتجاوز تأثير الاستعمار المباشر نحو مواضيع مثل "الهجرة" و"الاندماج المستحيل"... و"الإسلام في أوروبا" و"اللقاء المعقد بين الغرب والإسلام" و"فرنسا ومسلموها" و"الصدام داخل الحضارات"... فالتعاطي لمثل هذه المواضيع لا يزال لا يخلو من "نظرة استعلائية" وحتى داخل مراكز للبحث الأكاديمي في الغرب. وهذا ما يجعل الغرب ذاته، ومن جديد، يقابل "الفاشية"، بل ويجعله مهددا بـ"الانتحار" و"عودة البرابرة".
فالثقافة، وبشهادة كبار المفكرين وسواء من الغرب أو الشرق، عادت لتطفو على السطح ... ولاسيما في سياقنا هذا الذي هو "سياق ما بعد الاستعمار" أو "سياق عودة الكولونيالية البيضاء". ولذلك فإن "التفاهم بشأن الصراعات الثقافية" يستلزم فتح "كتاب الاستشراق"، ومن جديد، لربطه بـ"عصوره" الوسطى والرومانسية، وبـ"الرحالة المتأخرين"، ولفحص مناهجه وطرائقه، وللتمييز داخله بين "الواقع والأسطورة"، وعلى النحو الذي يعيد، ومن جديد أيضا، الأكاديمي الأمريكي والمفكر الفلسطيني الأشهر إدوارد سعيد (Edward Said) الذي كان في أساس تفجير حقل النظرية المشار إليها من قبل وتعيينا من خلال كتابه الإشكالي والصادم "الاستشراق" (Orientalism) (1978)... وعلى النحو الذي يدفع إلى البحث في "المرجعيات" و"الخلفيات" التي تحكـّمت في الكتاب وفي مجموع كتابات صاحب "فرويد وغير الأوروبيين"، وعلى النحو الذي يدفع أيضا حتى إلى البحث في طبيعة "المؤثرات الدينية والثقافية" التي تبدو "خفية" في أحيان و"جلية" في أحيان أخرى. والفكرة الأخيرة يمكن استخلاصها من الكتاب القيم، وغير المسبوق في حقل الترجمة العربية، "إدوارد سعيد والمؤثرات الدينية والثقافية"، ولصاحبه وليام د. هارت (William D. Hart). فنحن بصدد أحد الكتب النادرة التي وفرها مشروع "كلمة" للمهتمين بـ"الفكر السعيدي" في العالم العربي.
وفي السياق ذاته، والذي هو سياق "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" ، فإنه لا ينبغي التغافل عن منظرين آخرين، ومن قارات أخرى، أسهموا بدورهم في النظرية، ولاسيما من الهنود من الذين درسوا "مواطن الحداثة" وأعادوا قراءة تاريخ الهند الحديث وبالتالي رسموا صورة مغايرة حول الهند أو "فكرة الهند" تبعا لأحد عناوين "كلمة". وهي فكرة غير متجانسة ولا أحادية البعد، غير أنها تبعث على قلب الأفكار الأخرى التي هي جديرة بإعطاء صورة عن الهند "المتسامحة" على الرغم مما تعانيه من "جروح" و"انكسارات" كان الاستعمار بدوره قد أسهم في تعميقها. لقد أفاد الهنود، ومقارنة مع العرب، أكثر من النظرية، وعلى النحو الذي جعل "التابع" يحظى بـ"صحوة الكلام". ومن ثم كان منشأ ما يعرف بـ"دراسات التابع" (Subaltern Studies)، وهي الدراسات التي صار بإمكان القارئ العربي، ومن خلال "كلمة" أن يطلع عليها من خلال كتاب أساسي "مواطن الحداثة ــ مقالات في صحوة دراسات التابع") ولاسم أساسي هو ديبيش شاكرابرتي (Dipesh Chakrabarty). المؤكد أن الباحث العربي المعاصر، والذي يعتقد في جدوى "التحوّل" الحاصل في مجال "النظرية"، وفي "التعدد النظري" ذاته، وعلى النحو الذي صار بموجبه يتمّ إدماج الأنثروبولوجيا والتاريخ، صار بإمكان هذا الباحث الإفادة من هذا الحقل الجديد في نطاق "توطين حداثة ما بعد الاستعمار" في بلدان العالم الثالث. وشخصيا كنت قد أفدت، من المقال التأسيسي في هذا الحقل ("هل بإمكان التابع أن يتكلم؟"/ جياتري شاكرافورتي سبيفاك) في كتاب "تدمير النسق الكولونيالي" (2012) الذي خصـّصته للكاتب المغربي محمد شكري في "قراءته النقضية" للكتـَّاب الأجانب من الذين أقاموا في طنجة وخاصة في عهدها الدولي. لقد خطف شكري دور "التابع"، وراح، ومن موقع "مثقف ما بعد الاستعمار"، "يتكلم"/ "يواجه" مجمل "التنميطات التبخيسية" المتحدّرة من "الاستشراق الأدبي الكامن".
وحتى ننتقل إلى الفكرة الأخيرة، في مقالنا، وهي في غاية من الأهمية، وهي ذات صلة بـ"الخطاب" الذي يمكن استخلاصه من مشروع "كلمة" للترجمة، فإن "التفاهم" بين الشعوب لا يمكن لدلالته المتوازية، والمتلازمة، أن تتضح إلا من خلال مواضيع أخرى تبحث في "علم الأديان" و"نهج الهوية البشرية". وفي أفق الدفاع عن "بحرنا المشترك" أو الدفاع عن نوع من "الحياة المشتركة" أخذا بعنوان المفكر الإنسانوي تزفتان تودوروف (T.Todorov). وفي الحق فإن أغلب ما سبق ذكره بين "قوسين" لا يعدو أن يكون عناوين أقدمت هيئة "كلمة" على ترجمتها في دلالة على الانتساب للعصر من خلال فتح ملفاته الكبرى والشائكة وعلى النحو الذي لا يخلو من التلويح بـ"بدائل فكرية مقترحة: تعددية ومفتوحة". وألم تعد "التعددية" أهم من "التنمية" كما ديبيش شاكرابرتي في "مواطن الحداثة"؟ التعددية التي تسعى إلى الاصطفاف في الفكر الديمقراطي.
إن ما أقدمنا على ذكره، ومن ناحية، لا يغطي جميع الأعمال المترجمة ضمن ما اصطلحنا عليه بـ"الاستشراق الكبير" ذاته ... ثم إن ما تقدم عليه "كلمة"، ومن ناحية موازية، لا يمكن اختزاله في "جبهة الاستشراق الكبير". فثمة "جبهات" أو بالأحرى "مجالات" أخرى، في المشروع، بل وثمة "فئات عمرية مختلفة" يخاطبها المشروع نفسه، وبإمكان المهتم الآخر أن يتوقف عندها، وكل ذلك في دلالة على التنوع في الترجمة التي تصل ما بين العلوم والفنون والتاريخ والجغرافيا والآداب، وقبل ذلك في دلالة على مطمح "التأسيس" و"التأصيل" الذي يتوخى تعضيد هذا التنوع.
وعلى الرغم من التاريخ القصير لمشروع "كلمة" للترجمة، إذا ما ذكـّرنا بأنها رأت النور أواخر العام 2007، فإنها استطاعت أن تسد فراغا ملحوظا في حقل المنتج الترجمي العربي وعلى النحو الذي جعلها أيضا تحظى بانتشار إقليمي ودولي. هذا وإن كان لا ينبغي أن نتغافل عن هيئات أخرى تنخرط، بدورها، ومن مواقع مختلفة، في "مشروع الترجمة" كما هي الحال بالنسبة لـ"المنظمة العربية للترجمة" و"المجلس القومي للترجمة بالقاهرة". ثم إن الانتقال، وفي العالم العربي، ومن "مرحلة تاريخية" إلى أخرى ... لا بد من أن يقوم على نوع من "الفكر الحداثي" الذي يخصص حيزا لا يستهان به للترجمة بمعناها الفلسفي الاصطلاحي المعاصر والأعمق.