للكاتبة الفلسطينية حنان بكير صدر حديثاً عن مؤسسة الرحاب الحديثة المجموعة القصصية (إبحار في الذاكرة الفلسطينية) قصص قصيرة وصور قلمية ، والكاتبة حنان بكير فلسطينية المولد نرويجية الجنسية ، عملت في مجال التعليم والصحافة ، وتنقلت بين بيروت واليونان والنرويج ، عملت في الصحف النرويجية ، وساهمت في إصدار كتابين صدرا باللغة النرويجية ، كما صدر لها رواية بعنوان (أجفان عكا) عام 2000م ، وهي ناشطة في مجال تدوين الذاكرة الفلسطينية ، والدفاع عن المرأة ، ومحاضرة في مجال تفاعل الثقافات.
الكتاب يركّز على معاناة المرأة الفلسطينية خاصة والعربية عامة سياسياً واجتماعياً ، وتم تقسيم الكتاب إلى ست عشرة قصة قصيرة ، منها رؤيا العودة والبوريفاج وامرأة أخرى ، ومعابر – أم دروب جلجلة ؟ ومحارق الأطفال وليالي الرعب ، وانفصام ... وتنقل لنا الكاتبة معاناتها مع التعذيب الجسدي والنفسي إضافة للإذلال والإهانة من مجموعة لا تنتمي لجنس البشر ولا الحيوانات ، بل أقذر مما يتصوره عقل لكنهم عرب في النهاية.
المعاناة والصور الحقيقية التي نقلتها لنا الكاتبة تُشعرنا بالقهر ، وتجعلنا ننقم على أنفسنا ؛ لأن هؤلاء الوحوش ليسوا من الأعداء ، إنهم ينتمون لهذا الوطن العربي الكبير بمساحته والفنان بتعذيبه ، والعجيب بحدوده ومعابره.
في قصة البوريفاج وهو فندق بلبنان تكشف لنا الكاتبة في أروع صورها ونقلها للمشهد همجية التعذيب وسادية الوحوش على المستضعفين رجالاً ونساءً ، التعذيب العربي بمخابراته القذرة والسيئة السمعة في العالم كله قديماً وحديثاً. هؤلاء يستعرضون فحولتهم على أبنا جلدتهم لكنهم جبناء وأنذال مع العدو. تقول : «أُطلق سراح أطفالي وبقيت وحدي .. خمسة من الوحوش الكاسرة كانوا بانتظار ضحية جديدة لممارسة ساديتهم والتنفيث عن حقدهم . كنت أرتدي ملابس وحذاء الرياضة .. تفحصوني بنظرات قاسية ومتحفزة للانقضاض .. قال أحدهم : الظاهر إنها رياضية ، خلينا نلعبها شوية رياضة» ص17
«قيدت يدي بحبل إلى الخلف. ضربة قوية على ضهري أوقعتني أرضاً على وجهي .. تسارعت الأيدي الكرسي الحديد الذي رأيته لحظة دخولي ، دخلت أرجله بين ذراعي وجسدي ، والتفت ساقي عليه حتى أخذ جسدي بكامله شكلاً دائرياً ، أو كجسد العقرب حين تنطوي ، فقد التقت قدماي برأسي.» ص 18.
إذا هي الطائفية القذرة والميليشيات التي عاثت في الأرض فساداً وهمجية وعلى مر الأزمان والأمكنة، هي العنصرية القذرة بأبشع صورها. لقد تميزت قصص حنان بكير بقيم مضمونية عميقة الدلالة ، وصور أوجاع تكبدها الشعب الفلسطيني بسبب التهجير قسراً ، والتشتت إلى بلاد الطائفية والعنصرية فكانت الهجرات بمثابة الهروب من الألم إلى الأكثر إيلاماً. لقد أقامت الكاتبة عملاً قصصياً مستنداً على جملة من البنيات الأساسية حيث نسجت بين مجموعتها القصصية خيوطاً مشتركة جعلت منها نظاماً متكاملاً ونسقاً منسجماً، قدَّمت من خلاله تجربتها ومعاناتها مع التعذيب وألم البعد عن المكان والوطن بلغة فنية تسمو بالقارئ إلى آفاق رحبة تحقق له لّذة فنيِّة ، لهذا جاءت العناية بالعناصر المحيطة بالنص أو ما اصطلح عليه بالنص الموازي.
ومما لا شك فيه ان اختيار العنوان (إبحار في الذاكرة الفلسطينية) كان مقصوداً وضرورياً لاستقطاب القراء وجذبهم لقراءة النص بعناية واهتمام.
وقد لخَّص رولان بارت وظائف العنوان فيما يلي :
وظيفة بيولوجية: الإعلان عن النص بوصفه منتجا وسلعة.
وظيفة إشارية: العنوان علامة من علامات وتمييز النص.
وظيفة تلفظية: العنوان يخبر عما سيليه في النص.
وظيفة نفسية: العنوان يثير شهية القراءة لدى القارئ .
وهنا يتأكد لنا سبب جنوح الكتَّاب إلى توظيف عناوين مركّزة المعاني موحية الدلالات ، وتبدو المجموعة أوفر حظاً ونصيباً من الأجناس الأدبية الأخرى عناية بعتبة العنوان، فيجد كاتبها نفسه معنياً باختيار عنوان ملائم دلالياً وجمالياً ويساعد على فهم خصوصية النص الأدبي ويحدد مقاصده.
وعلى هذا الأساس ، فإنَّ العنوان هو العلامة اللسانية التي تفضي إلى غياهب النص وتقود إلى فكِّ الكثير من طلاسمه ، وتعمل على شد الملتقى للعمل القصصي نفسياً ومعرفياً ، بما قد يحيل إليه داخل النص أو خارجه.
تكمـن أهمية هذا (العنوان) في كونه أول المؤشرات التي تدخل في حوار مع المتلقي فتثير فيه نوعاً من الإغراء والفضول المعرفـي وإليهما توكل مهمة نجاح العمل الفني في إثارة استجابة القارئ بالإقبال عليه و تداوله قراءة أو النفور منه .
تأتي هذه المقاربة لتسلط الضوء على هذا المكون الأساسي (إبحار في الذاكرة الفلسطينية) مفتاح العمل. جاء عنوان العمل القصصي لـ"حنان بكير" جملة اسمية فالإبحار مبتدأ وخبره شبه جملة (في الذاكرة) ؛ هذا الخبر قدَّم وصفاً للوطن ، يثير فضول القارئ عند قراءته لأنه سيدخل وطناً عشَّش في الذاكرة لدرجة الجنون. لهذا العنوان دلالات عديدة تكشف عن أجواء وطنية ذات مرامي تاريخية وأبعاد سياسية ، فمفردة الذاكرة تعني الماضي بكل أفراحه وأحزانه المكان الذي يولد فيه الإنسان وينشأ في أحضانة وليست لديه حرية اختياره ، ينتمي إليه رضاءً أم قدراً هو الملجأ والأسرة والكيان ، الوطنُ بيت كبير تبقى تضاريسه وجغرافيته ملتصقة بعقول المنتمين له ، وتبقى رموزه ومعالمه وأجواؤه مرتسمة في الذاكرة الجماعية لا تبرحها مهما طال البعد والاغتراب .
بناءً على هذا فإنَّ القارئ يرى أن الوطن هو الذاكرة التي تسكن عقولنا ، وما دام هذا الوطن سليباَ فسكانه والمهجَّرين منه سوف يعيشون الهزائم والانكسارات المتتالية ، دلالات يلتمس القارئ مضامينها عند إبحاره بالقراءة حتى يجد نفسه يدخل إلى ذلك الوطن المغتصب ليكتشف مشاهد القتل اليومي ، وسرقة أحلام الأطفال ، والإهانات ممن اكتسبوا متعة تعذيب الناس بكل وحشية وهمجية. فكيف لنا أنْ نبحثَ عن أوطان لا يسكنها قتلة ولا يطأها غربان ، ولاؤهم لجيوبهم وللشيطان!!
في قصتها ليالي الرعب يشعر القارئ بالقلق والرهبة وكأنّ حنان بكير تتلمس مواطن الأوجاع وتتبع معابر الدمع ، واللحظات الحرجة للفزع المهول حد الانتحار.
«عندما يضغط النعاس لا سبيل إلى مقاومته ... ما أزعج ذلك الشيء الذي لم أجد مفراً من تسميتى بالشبح ، بعد ان قاومت كثيراً الاعتراف به.» ص71
في قصة معابر .. أم دروب جلجلة ؟؟ تبحر بنا المؤلفة إلى ذاكرة الوجع وجع الوثيقة ومرمطة الحدود والمعابر ، فبدلاً من تسهيل الإجراءات على المواطنين المقهورين يتم تعذيبهم وإهانتهم والتحقيق معهم بسبب أنهم يحملون الوثائق دون أي اعتبار للإنسانية والعروبة التي تكسرت على صخورها قول الحقيقة.
«معاناة الفلسطيني على الحدود والمعابر ، حكاية تطول ولا تنتهي فصولها» ص59.
في قصة امرأة أخرى تنقل لنا الكاتبة معاناة المرأة العربية اجتماعياً في عالم لا يمجِّد إلا الذكورة ، فكانت القصة نوع من التمرد على المجتمع الذكوري ، فجاءت القصة بعيدة جدًّا عن عالم الرومانسية الساحر ، والعواطف الملتهبة ، وراحت الكاتبة تُصوِّر لنا مرارة الواقع وحدة المأساة وهذا انطبق على كل قصص مجموعتها ، لتكشف لنا أخيراً حبها الخالد للوطن الذي هو جدير لأن نعود ونعيش فيه.
مجموعة حنان بكير مجموعة جديرة بالقراءة وجديرة بأن نتوقف كثيراً ، بل وجديرة بإطالة الوقوف.