«لست ضد آلهة الجمهور، بل ضد فكرة الجمهور عن الآلهة» (سقراط)
في أسلوب مغلق بدايته القصاص ونهايته جهنم، لم يكن مصطفى صادق الرافعي، وهو يحاكم “في الأدب الجاهلي”، يقرأ كتاباً وينقد شخصاً محدّد الاسم واللقب، بل كان يستولد من لغة معطاة عدواً يلبّيه، وينزل به العقاب الذي يشتهي ويرغب. كان الرافعي، وكما في أزمنة لاحقة، يواجه التفكير بالتكفير، مساوياً بين التكفير والدفاع الغيور عن الدين. ما كان في المعركة، التي أشعلها كتاب، مكان، صغير أو كبير، للدين، لأنها كانت بين مَنْ ينصر الثبات ومَن يقول بالتطور، أو كانت، وبلغة طه حسين، معركة بين أنصار القديم وأنصار الجديد1. كانت المعركة بين مثقف جديد، يدعو إلى تفكير غير مألوف، وعارف قديم يستظهر، مطمئناً، لغة جاهزة أكثر قدماً. ولأن للقديم شرعيته الراسخة، ونسقاً متوالداً له شكل البداهة، بدأ المثقف الجديد معلّقاً في الفراغ، ينتظر زمناً يأتي ولا يأتي، مقترباً من حلم أرخميدس القديم، الذي يعد بتحريك الأرض، لو عثر على نقطة ارتكاز في الفضاء.
الشيخ المثقف: اختلاف المنطلق
يكتب طه حسين في الأيام: “وكان حذاء الشيخ غليظاً كصوته جافياً كثيابه، فلم يكن يتخذ العباءة، وإنما كان يتخذ “الدفية”، كان حذاء الشيخ غليظاً جافياً، وكانت نعله قد ملئت بالمسامير، وكان ذلك أمتن للحذاء وأمنع له من البلى. ففكر في الطالب الذي كانت تصيبه مسامير هذا الحذاء في وجهه أو فيما يبدو من جسمه”2. لو وضع النص كلمة الشيخ جانباً، لانتهى إلى وصف إنسان بائس، يحاصره الفقر وتستبد به الفاقة، ولكشف عن فقر هذا الإنسان الشامل، الذي يتخذ من الحذاء الغليظ أداة للتربية ووسيلة مروّعة للتأديب. وهذا الفقر المادي والمعنوي الشامل، هو الذي جعل طه حسين يرى في الشيخ، الذي تتلمذ على يديه واختبر قوله، مجازاً للتأخر الاجتماعي. لم يكتب حسين كلماته المتمردة، وكان قد رجع من فرنسا، إلا بعد أن التقى بمعلم مختلف، لا يرى في الحذاء وسيلة للتربية والتعليم.
يبدو كلام طه حسين، في المستوى المباشر، هجائياً، ويتجلّى، في مستوى لاحق، عطفاً على الإنسان البائس وشفقة عليه. غير أن كلمة الشيخ لا تلبث أن تردّ النص من وضع إلى آخر، ذلك أن البائس الفقير الثياب يعود من خلال رمزه الموروث، ملغياً المسامير ووجه الطالب المدمى، ومتكئاً على هالة مشرقة تستثير الإجلال. يعود الشيخ رمزاً، وقد غطّى وجهه بوجوه نسق من المشايخ قديم، تعظّمه القرية ويبجّله مَن هو خارج القرية أيضاً. وبسبب هذا النسق الذي يتناسل، مستقرّاً، من زمن بعيد، يبدو كلام طه حسين انتهاكاً للأعراف والتقاليد، ويبدو طه حسين معلقاً في الفراغ، لأن النسق الجديد الذي يرتكن إليه لا وجود له.
وسواء أكان جديد طه حسين واضحاً أم مرتبك الوضوح، فإن إشكاله كلّه يتمثّل في الإنسان المتمرد على التقاليد البائسة، وفي بحثه الصعب والشائك عن شرعية جديدة تواجه، محاصرة، شرعية مستقرة ومتجذرة. يقول في الجزء الأول من الأيام: “وما هي إلا أيام حتى سئم لقب الشيخ وكره أن يدعى به، وأحسّ أن الحياة مليئة بالظلم والكذب، وأن الإنسان يظلمه حتى أبوه، وأن الأبوّة والأمومة لا تعصم الأب والأم من الكذب والعبث والخداع”3. في كرهه للقب الشيخ، الذي يحاكي به شيخاً يتتلمذ على يديه، حاكى بدوره شيخاً سلف، كان حسين يمزّق الأقنعة ويبحث عن الوجوه، فيفتش عن وجهه عارياً بلا لقب قديم، وينقب عن وجوه أهله بعيداً عن استبداد البداهة. وما كان البحث إلا أثراً لوعي متقدم، يدرك الفرق بين الأزمنة، ويدرك أن تاريخ الإنسان الحقيقي يساوي جملة القيم الإنسانية الحقيقية التي يعترف بها. ولذلك، استذكر حسين أكثر من مرة، سقراط، ذلك الفيلسوف اليوناني الذي “يعلّم الناس وهو يحاورهم أن للإنسان ضميراً حرّاً ليس لأحد سلطان عليه، ولا ينبغي أن يكون موضوعاً للمساومة، ولا سلعة تعرض للتجارة، وأن حرية التعبير وحرية الضمير وحرية التفكير هي التي تجعل الإنسان إنساناً”4. تعليمٌ قوامه الحوار وإنسان قوامه الحرية، فكرتان متلازمتان دافع عنهما المثقف المتمرد دون أن يتقدم، لأن التاريخ المعطى بقي حيث أراد، لا حيث أرادت له الإرادة المتمردة أن يكون، إن لم يقترب من “القدم الصينية”، التي يغلّها الموروث ويمنع عنها النماء والتطوّر.
“إن استبداد الموروث أكثر ألوان الاستبداد استبداداً”، يقول مؤرّخ حصيف، ولذلك لن يفصل “القارئ”، في كتاب طه حسين، بين صورة المعلم الملتحف ببؤسه وصورة الشيخ الموروثة، التي تحذف البؤس وتستبقي الهالة الجليلة، كما لو كان البؤس في ذاته كرامة من الكرامات. إنه استبداد الأعراف في المجتمع الأمي، الذي يستظهر ركوده معتقداً أنه “يقرأ” الموروث. وهو ما يجعل الوعي الراكد يطمئن إلى منطق الاختزال، حيث الشيخ هو لقب الشيخ، وحيث اللقب المهيب تجسيد لمقدس قديم. ومثلما يختزل الوعي الشيخ المشخّص إلى لقبه المجرد يعيد الشيخ، بدوره، اختزال علاقات “القراءة” والتأويل، مرتاحاً إلى شرعية البداهة وموطّداً لها في آن. يختزل الشيخ النص الموروث إلى التأويل الموافق له ويساوي، لاحقاً، بين ذاته والنص المؤوَّل. ويبلغ الاختزال منتهاه، حين يساوي الجمهور، الذي لا يعرف القراءة، بين الشيخ والنص المؤوَّل. والنص، والحالة هذه، هو نص الجمهور الذي لا يعرف القراءة، وهو نص الشيخ الذي يقرأ على جمهور لا يعرف القراءة أيضاً.
يستمر العرف بقوة المقدس الذي يحمله، بقدر ما يغدو العرْف المستمر مقدساً بدوره. وما الشيخ، الذي لا يستطيع طه حسين حياله شيئاً، إلا أثرٌ لجدل العرف والمقدس. وهو ما يتيح للشيخ أن يكون مركزاً لذاته ومركزاً لغيره، وتجسيداً لمراتبية صارمة، حدودها السيطرة المباركة والخضوع المشتهى. تصدر هذه المرتبية، في المجتمع التقليدي، عن خضوع الجاهل العارف (من علّمني حرفاً كنت له عبداً)، وعن خضوع العادي للمقدس، وبفضل هذا الخضوع المزدوج، في اتجاه معيّن، أو السيطرة المزدوجة، في اتجاه آخر، يكون الشيخ مع البشر وفوقهم في آن، أو لا يكون معهم إلاّ ليكون فوقهم أولاً. وبداهة، فإن الشيخ، الموزّع على أكثر من مكان وزمان، لا يوجد في كتاب الأيام، غليظاً وجافياً ولا تنقصه القداسة، إلاّ لأنّه وجد، ومنذ زمن طويل، في ذاكرة جمعية تشخصن المقدسات وتجرّد الوقائع اليومية. تقول الأيام على لسان الشيخ: “ومَن كان حريصاً منكم على ألا تبطل صلاته فليتبعني”، وتتحدث عن آخر “يذهب الناس في إكباره وإجلاله إلى حد يشبه التقديس”، وعن ثالث يقول: “مما أمّن الله به علي أني أستطيع أن أتكلم ساعتين فلا يفهم أحد عني شيئاً ولا أفهم أنا عن نفسي شيئاً”5.
يتكئ الشيخ، وقد ترمّز، على الشرعية الموروثة، التي تسوّغ أيديولوجيا الفرق، وهي تضع المريد في مكان والعارف في آخر أكثر علوّاً، نقرأ في “آداب العلماء والمتعلمين” و”جمعه مولانا القلم الحبر الحسين بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي”، عن “آداب المتعلم مع شيخه وقدوته وما يجب عليه من عظيم حرمته” ثلاثة عشر نوعاً من الوصايا، تعلم التلميذ ما يلزم من السلوك، كأن “ينقاد لشيخه في أموره، ولا يخرج عن رأيه وتدبيره. ويتحرّى رضاه فيما يعتمده. ويبالغ في حرمته ويتقرّب إلى الله بخدمته. ويعلم أنّ ذله لشيخه عز، وخضوعه فخر وتواضعه له رفعة ... ومهما أشار عليه شيخه بطريق في التعلم فليقلّده، وليدع رأيه، فخطأ مرشده أنفع من صوابه في نفسه...”6.
في مدار الشيخ، الذي إنْ خدمه التلميذ تقرّب إلى الله، يصبح إلغاء الذات شرطاً للمعرفة، وتغدو العبودية الطوعية درباً إلى العلم السديد. وبداهة، فإن الذات الملغاة، كما العبودية المشتهاة، لا تحيل إلى المعرفة المنتظرة، بل إلى الشيخ – الرمز الذي تنبثق منه، لأنه يكون مع التلميذ ولا يكون معه، أو يكون منه وفي مقام مفارق أيضاً. كأن نقرأ: “إن نعلي الشيخ تطيران في الهواء وتضربان رأس الفاسق حتى يموت، وإن تابع الشيخ يمشي في الهواء، والشمس تسلّم عليه، وإن الشيخ وهو في المهد رضيع كان يمنع عن ثدي أمه في رمضان ... وأن أهل بغداد رأوه رأي العين يقف على ماء دجلة والأسماك تجيء إليه فوجاً بعد فوج، فتسلّم عليه وتقبّل يديه ورجليه”7. تعيّن المرتبة الدينية الشيخ، كما تابعه المطيع، مرجعاً أعلى لما عداه، بسبب قدرات تجاوز الإعجاز وتتاخم المعجزات. هكذا، ينتقل إعجاز النص الديني، وهو لا يقبل بالشخصنة، إلى الشخص الذي ينطق به، ليكون الشيخ تجسيد النص، الذي هو تجسيد للحقيقة. ولعل ترحيل الحقيقة من النص الديني إلى رجل الدين، وقد تساوت العلاقتان، هو ما أتاح للشيخ أن يقنع الأم المصرية بأن تفقأ عيني ولدها، كي لا يذهب إلى المدارس التي فتحها محمد علي باشا، بحجة أن المدارس تعلّم الكفر والإلحاد8.
ليس في نعلي الشيخ الخافقين في الهواء، ولا في أسماك دجلة المنكبّة على تقبيل قدمي الشيخ، ما له علاقة بالدين، واهية كانت أم قوية، فالعلاقة كلها مستمدة من جهل مكين، ومن مثابرة فريدة على توطيد الجهل المكين. وهو ما قاتله طه حسين قتالاً لا راحة فيه ولا مساومة، منذ أن أرهقه الشيخ البسيط بمساميره المرهبة إلى أن غدا وزيراً يساوي بين التعليم والهواء. يقول في الأيام: “وقد استطاع صاحبنا أن يضبط نفسه، ولكنه لم يستطع أن يختلف إلى دروس الأستاذ أكثر من ثلاثة أيام، لأنه لم يجد عنده غناء وإنما وجد عنده عناء ولم يفد منه شيئاً”، ويقول أيضاً: “كان من أول أمره طلعة لا يحفل بما يلقى من الأمور في سبيل أن يستكشف ما لا يعلم. وكان ذلك يكلّفه الكثير من الألم والعناء”. استولد طه حسين، وهو يتمرد على تربية مستبدة، تربية مغايرة، وهي رغبة واقتراح واحتمال، ينقد فيها العقلُ العُرْفَ، وتسبق الكرامة المعرفة، ويحاور فيها التلميذ الطليق معلماً أكثر طلاقة. وكان انفتاحه على المغاير والمختلف، بل المجهول، انفتاحاً على “العلم الذي لا حدّ له”، كما كان يقول، ودعوة إلى متعلّم جديد قوامه “الشجاعة في إبداء الرأي والروح النقدية”، كما كان يقول أيضاً. قرأ صاحب الأيام، وقد ارتكن إلى تجربة ثقافية إنسانية، الظواهر الدينية بمعايير ثقافية، تقبل بالنقد والاستقراء والاستنساخ، معارضاً رجل الدين التقليدي، الذي يرى إلى قضايا الثقافة، كما الحياة، بمعايير دينية.
يشخصن الفولكلور الديني الحقيقة الدينية، ويجرّد مشخّص الحقائق التاريخية والاجتماعية. وفي هذا الاستبدال، الذي ينصر سلطات متعددة وتنصره، تصبح المدرسة كفراً، والنقد هرطقة، والعلم زللاً، والغرب إلحاداً، والمجتمع فئة ضالة وأخرى مؤمنة، والإيمان وطناً، والتاريخ الإسلامي وحدة متجانسة ... . تختصر الوقائع المشخصة إلى وحدات ذهنية متجانسة، نصر بعضها الدين الذي نصره، وجافى بعضَها النصرُ وهو يجافي الدين. يصبح الإنسان، في هذا كله، كائناً دينياً، يحتاج الإيمان ومرجعاً يلقنه مبادئ الإيمان. وهو أمر لا يستوي دون إنسان مرجعه العقلي خارجه، ودون شيخ عصمه لقبه عن الخطأ، يرى في غياب التفكير شرطاً لحضور الإيمان. وهو ما يفصح عنه الشيخ عبد العزيز بن باز حين يقول: “الفكر والكفر واحد، بدليل أن حروفهما واحدة”9. وعلى القياس ذاته، تصبح الحرب هي البحر، والبحر هو الربح، والربح هو الحبر، وصولاً إلى اشتقاق النسيم من السنام ... إن تنازل الإنسان عن فكره أمام فكر آخر، يعني تنازل أحد الطرفين عن حقوقه لصالح الآخر. وهذا ما لا يأتلف مع جوهر الرسالة الدينية على الإطلاق.
تعامل طه حسين وبعيداً عن مجردات الاختزال، مع وقائع مشخصة، واشتق منها حاجات عملية، تلبي أجساد البشر وأرواحهم أيضاً. كأن يقول: “ليست حياة الأمم والأفراد عقلاً خالصاً ولا معرفة خالصة، وإنما هذه حياة الملائكة والقديسين والصديقين والذين يتأثرون بهم من الفلاسفة”، أو: “فالحاجة اليومية العملية والضرورات العادية الماسة والمنافع القريبة العاجلة، هي التي دعت إلى إنشاء التعليم الحديث في مصر قبل الاحتلال”10. وعلى هذا، فإن الدكتور طه لم يرَ المثقف الحديث في مواجهة الشيخ التقليدي، بل في نقد المجتمع المغلق الذي ينتج بشراً يحتاجون إلى الشيخ وأحكامه المجردة. وبسبب نقد الانغلاق، الذي لا يكفّ عن التجدّد، يكون طه حسين عقلاً متمرداً بامتياز، قبل أن يكون مثقفاً حديثاً، أو ما يدعى بذلك.
الشيخ والمثقف: اختلاف الموضوع
لم تمنع مكانة فرويد المعرفية في العلوم الاجتماعية المعاصرة الشيخ محمد الغزالي عن أن يصفه بكلمة: “حمار”11. لم يصدر الوصف عن “محمد الغزالي”، الذي قد يرتبك وهو يعطي حكماً نوعياً، إنما صدر عن “الشيخ محمد الغزالي”، الذي يسوّغ له لقبه الديني أن يعطي حكماً في التحليل النفسي والأنثربولوجيا الثقافية ونظرية الاحتمالات. يعثر السلوك على تفسيره في المطابقة المجردة بين اللقب الديني والحقيقة الدينية، التي تضع الحد الفاصل بين الحق والضلال. فإذا كانت “علوم الدين” هي العلوم الأكثر رفعة وشرفاً، فإن ما خلاها من العلوم منقوص الشّرَف والرفعة. وعلى صورة العلم يكون مَنْ ينتسب إليه، إذ “عالم الدين” أرفع العلماء وأعلاهم مقاماً، وإذا “العالم الآخر” عادي المرتبة ومحدود المقام. وبسبب الفرق بين مقامين لا متكافئين، يكون فرويد “حماراً” والشيخ محمد الغزالي مرجعاً في كل العلوم.
جاء في آداب العلماء والمتعلمين: “إذا تعدّدت الدروس قدم الأشرف فالأشرف، والأهم فالأهم: فيقدم تفسير القرآن، ثم الحديث، ثم أصول الدين، ثم أصول الفقه، ثم المذاهب، ثم الخلاف أو النحو أو الجدل، ويصل في درسه ما ينبغي وصله، ويقف في مواضع الوقف ومنقطع الكلام ..”12. يستمد العلم مرتبته من قدمه، فإنْ ابتعد عن القديم تداعى. ينطوي العلم القديم على مرتبة مزدوجة، فهو علم لأنه علم، وهو علم يَفْضُل غيره لأنه قديم. بيد أن القديم لا يُتخذ مرجعاً شريفاً إلا لأنه قديم–أصل، أي قديم مقدس، فلا أصل إن لم تكن القداسة قائمة فيه. هكذا تبدأ آداب العلماء، في شكلها النموذجي، بالأصل المقدس وتنتهي، لاحقاً، إلى تهميش “العلم” وتضخيم المقدس، بعد أن تساوي بين المقدس القديم والذات العارفة.
لا مقدّس بلا أصل، ولا اصل بلا ثبات، فالأصل كامل تعريفاً، والكامل عصيٌّ على التغيّر والتبدّل. ولهذا، فإن ما قال به “مولانا القلم الحبر الحسين بن أمير المؤمنين المنصور بالله” عن مراتب العلوم، ظل قائماً في مصر حتى بداية القرن العشرين. كتب قسطاكي الحمصي في كتابه (منهل الورّاد في علم الانتقاد)، الصادر في القاهرة عام 1907، ما يلي: “ولهذا السبب عينه، نجد أكثر التآليف عندنا وأوسعها تآليف العلوم الدينية، ثم تأتي بعدها الصرف والنحو، لأنهما يتعلقان بعلوم الدين أيضاً، ثم اللغة لأنها تتعلق بالدين ..”13. يفضي مبدأ النص–الأصل، وقوامه القديم المقدّس، إلى مبدأ الواحد–المقدس، الذي يظل واحداً بسبب قدسيته، ويتقدّس لأنه مغاير لغيره وأسمى مرتبة. لا يقبل العلم – الأصل بغيره من العلوم، إلا بـ”فتوى” تجيزها، وهو ما حصل عند تدريس بعض العلوم الحديثة، أو إذا اُعتبرت “العلوم الطارئة” حاشية فقيرة للعلم–الأصل، كأن تبرهن الرياضيات وعلوم الفلك والفيزياء والكيمياء عن جلال النص–الأصل وعظمته. تنقسم المعارف، في منظور الواحد المكتفي بذاته، إلى مراتب، منها الشريف والنبيل، وعالي المقام ومنها ما انخفض وتدنى، وصولاً إلى الدنيء والوضيع والمنبوذ، كما حدث عند صدور “حديث عيسى من هشام” ورواية زينب، وكما حصل أيضاً عند ظهور في الشعر الجاهلي لطه حسين. يمكن القول، مع حذف جمل كثيرة: إن كانت أحادية المرجع في الحقل السياسي تحوّل ما خارج المرجع الأول إلى رعية، فإن أحادية المرجع في الحقل المعرفي تردّ ما عداه إلى “رعية مكتوبة”، أي إلى كتابة لا ذاتية لها، خاضعة ونافلة، إلا إن تمردت على المرجع الوحيد وسقطت عليها، لزوماً، صفات الشرك والكفر والخيانة. في طبائع الاستبداد لمح عبد الرحمن الكواكبي، وبشجاعة لامعة، علاقات المطابقة بين أحادية المرجع في حقلي السياسة والمعرفة، حيث كتب: “المستبد لا يخشى علوم اللغة ...، وكذلك لا يخشى المستبد من العلوم الدينية، المتعلقة بالميعاد والمتخصصة بما بين الإنسان وربه ... ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة، مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية والتاريخ المفصّل ... وغير ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه...”14. ولعلّ علوم الحياة هي العلوم الوحيد التي كلما مرّ بها الشيخ التقليدي، في أزمنة الاستبداد، توعدها بجهنم.
يلغي تصوّر النص–الأصل إمكانية القراءة الفاعلة مختصراً القراءة، التي هي ليست بقراءة، إلى ثنائية التلقين والاستظهار، حيث المعلّم يلقن الطالب نصاً جاهزاً، والطالب يستظهر، بلا انحراف، النص الذي استظهره المعلّم أمامه. وفي ثنائية التلقين والاستظهار يعيد الطالب إنتاج الشيخ الذي سبقه، مثلما سيعيد، وقد أصبح شيخاً إنتاج ذاته في شيخ لاحق. وفي هذا النسق، المصاغ من تبادلية الإنتاج المتماثلة، يصبح الثبات مقدساً، ويغدو الثابت المقدس علماً للعلوم، تحتاجه “العلوم العارضة”، ولا يحتاج إلى شيء سواه. يقول جودت سعيد، وهو عالم دين مستنير: “فأنا أريد أن أفهم فقط، غير مبال ممن خرجت الكلمة ومن أطلق الفكرة، مؤمن أو ملحد، فالعقل والفكر ليس حكراً على المسلمين فقط”15. يفصل كلام سعيد بين عالم الدين، الباحث عن الحقيقة والشيخ النمطي، الذي يرى في ذاته مرجعاً للحقيقة. وهذا الفرق بين الطرفين، جعل الشيخ ابن باز يكفر مَن يقول بكروية الأرض، حتى وفاته العام 1999،16 معتقداً أن لا حقيقة خارج الحقيقة الوحيدة التي يؤمن بها. وإذا كان جودت سعيد، المعجب بمحمد إقبال ومالك بن نبي، وكلاهما مسلم وغيور على إسلامه، لا يتهيّب عن التماس الحقيقة خارج ديار المسلمين، فإن خصوم طه حسين، ويمتدون من زمنه إلى زمننا فسرّوا انحرافه، الذي لا يقوّم، بتأثره بالمسيحية واليهودية تارة، وبالفكر الشيوعي الملحد تارة أخرى.
يقول ماركس مستعيراً هيجل: “إننا ولدنا قابلين لأن نكون كاملين، لكننا لن نكون كاملين أبداً”17. هذه العبارة، “التي تشكل الضمانة المفهومية الوحيدة للاستمرارية الدائبة للتطور في التاريخ”، كما تكتب حنة أرندت، لا معنى لها لدى الفكر الأحادي المغلق، الذي يحكم على الواقع وهو خارجه، ويكتفي بذاته ولا يعترف بغيره. يسمح هذا الاكتفاء المطلق بالذات للفكر المغلق، أن يرى في الفكر كفراً وفي فرويد “حماراً” وفي الرواية هرطقة وفي اللغة الصحفية انحرافاً، ويتيح له أن يُخضع الوظائف الثقافية والسياسية والقانونية والأدبية للوظيفة الدينية. ولعل هذه “العمومية الإيمانية”، إن صحّ القول، هي التي تمدّ الشيخ التقليدي باختصاص مزدوج: فهو مختص بشؤون الدين، وهو مختص بـ”علوم” الضلال والحق، كما لو كان الاختصاص الأول، وهو “علم العلوم”، يعيّن الشيخ عالماً في العلوم كلها. وما الاختصاص المزدوج إلا سلطة أيديولوجية متعالية تُخضع الاختصاصات كلها إلى اختصاص وحيد جوهره الشيخ وأقواله. يلغي هذا التصوّر دور المؤرّخ والجغرافي والناقد الأدبي وعالم الاقتصاد، ذلك أن السلطة الأيديولوجية الدينية تتحصّن بـ”العمومية الإيمانية”، معرضة عن الدنيوية والعلوم الدنيوية. وبداهة، فإن إعادة إنتاج الثبات، المسوّغ بالمقدس، لا يستوي، وكما يظهر التاريخ، دون “العادي الإنساني”، الذي ينزع إلى الثبات، ممّا يحول الدين إلى أيديولوجيا دينية، أي إلى عنصر من عناصر الأيديولوجية السلطوية.
حين يصف طه حسين أحوال المعرفة في الفكر الأحادي المغلق، يقول: “حيل بينها وبين الهواء الطليق، وحيل بينها وبين الضوء الذي يبعث القوة والحركة والحياة، وظلّت كما هي تعيد ما تبدأ وتبدأ ما تعيد. وتكرر في كل سنة ما كانت تكرّر في السنة الماضية، والأساتذة مطمئنون إلى هذا البدء والإعادة”18. يدافع هذا القول عن التعدّد والتنوّع والتغيّر وينادي، أولاً، بالحرية ويحتفي بها، من حيث هي تعبير عن الحياة، التي تخفق في الهواء والضوء والحركة والنماء. وفي هذا كله، يطالب السيد العميد بالانفتاح على المشخّص وعلى حاجات الإنسان العملية، بل يطالب برؤية ما هو قائم وملموس ومنتشر إلى حدود الابتذال. فاللغة العربية ليست لغة الدين فقط، كما يذهب الرافعي وهو يرجم طه حسين، بل هي أداة تواصل إنساني متعدد المستويات، ذلك أنها ظاهرة من ظواهر الاجتماع الإنساني، أسهم في تكوّنها أفراد وجماعات مختلفة، وفي أزمنة متعدد. ولعل هذا الوضع الذي يحيل إلى المقدس في لحظة ولا يحيل إليه في لحظة أخرى، هو ما يدفع حسين إلى المطالبة بدراسة اللغة في ذاتها، دون إرجاعها إلى الديني واختزالها إليه. تكون اللغة، في هذا التصوّر، ذاتاً مستقلة، يدرسها عالم له ذاتية مستقلة أيضاً، ويتعلّمها تلاميذ لا تنقصهم الذاتية. وهكذا، تنزاح اللغة من علم الدين إلى تاريخ الآداب، وينتقل الباحث من وضع “تلميذ الشيخ” إلى وضع المختص الجديد، له حق المساءلة والحوار والاختبار. “أريد أن أدرس تاريخ الآداب في حرية وشرف، كما يدرس صاحب العلم التطبيقي علم الحيوان والنبات لا أخشى في هذا الدرس أي سلطان”19 يقول طه حسين. يؤكد القول الاعتراف بالذاتية الإنسانية الطليقة شرطاً لممارسة المعرفة، ناقضاً بالذاتية المحدّدة “عمومية إيمانية”، تحوّل البشر إلى أقنعة متناظرة. ينفتح القول على الحداثة التاريخية في اتجاهات ثلاثة: البدء من الإنسان القادر على التفكير والمحاكمة، الاعتراف بتعدّد المعارف والحقول المعرفية، الدعوة إلى الاختصاص العلمي الذي يلبّي تعددية المعرفة. وفي تعددية الاختصاص، يصبح رجل الدين مختصاً بين مختصين آخرين، واللغة المقدّسة لغة لا تلغي غيرها من اللغات، وطالب علوم الدين طالباً بين غيره من الطلاب، أي تنتهي المرتبية الصارمة، التي تضع مرجعاً بشرياً فوق غيره من البشر.
إذا كان الاختصاص، وقد وضع الإيمان الديني في حيّز الشعور، يعترف بتعددية المعارف ليعترف، في اللحظة ذاتها، بتعددية العاملين في حقول المعرفة، فإن الأزهر، في قيمته الثقافية التاريخية الكبيرة، لن يلعب دوره الذي عليه أن يلعبه، إلا إذا اعترف بما يقع خارجه من المراكز العلمية. فكما لا يمكن اختصار تاريخ المعارف المختلفة إلى تاريخ العلوم الدينية، فإنه لا يمكن اختصار المعاهد العلمية المتنوعة والمستجدة إلى مركز وحيد. يقول حسين “نحن نريد أن يوفق الأزهر إلى النهوض بمهمته الدينية الخطيرة ...، وهذه المهمة تكفيه ولعلها أن تتجاوز طاقته. فليس من حسن الرأي ولا من النصح للغة العربية وآدابها ... ولا من الإخلاص للشباب المتعلمين أن نثقل على الأزهر المثقل فنكلّفه مهمة جديدة هي تخريج المعلمين لمدارس الدولة في الوقت الذي لا يستطيع أن ينهض بمهمته الأولى ...”20. في هذا الكلام ما يوحي، ظاهرياً، بصنمية الاختصاص، وهو ما لا يأتلف مع منظور طه حسين الذي يرى الظواهر في تكاملها، أي في الانتقال من الواحد إلى المتعدد، ومن الديني المقدس إلى الاجتماعي العادي.
يشكّل الانتقال من الواحد الساكن إلى المتعدّد المتغيّر قوام منظور طه حسين إلى الحياة والمجتمع والتاريخ. يقول في “حديث الأربعاء”: “ثم إن اختلاف المذاهب وتنوّعها في أوروبا وأمريكا ليس شيئاً جديداً، وإنما هو شيء عرفه الإنسان منذ تحضَّر، ومنذ فكّر. ويسوءنا أن نقول إن الإنسان قد عرف الديانات منذ تحضّر، ومنذ فكّر أيضاً، فما استطاعت الديانات أن تقضي على اختلاف المذاهب، ولا استطاع اختلاف المذاهب أن يقضي على الديانات، وإنما الإنسان إنسان، فيه الخير والشر، فيه الإيمان وفيه الإلحاد، فيه الفضيلة وفيه الرذيلة، فيه الإباحة التي لا حدّ لها، وفيه التحرّج الشديد”21. يبدو الاختلاف سرمدياً، أي محايثاً للحياة، بقدر ما يبدو إعلاناً عن الحضارة. على خلاف ذلك، يظهر التماثل، الذي يأخذ به العقل المنغلق، معادياً للحياة وانتصاراً للتخلّف. وسنة الاختلاف، الذي يسكن الإنسان الواحد والعقل الواحد، تفسّر ديمومة الدين وديمومة الخلافات الدينية والخلافات بين الأديان. وبهذا المعنى، فإن جدل الشك واليقين الملازم للإنسان، وهو صورة عن الاختلاف، هو ما يجعل الأديان السماوية لا تهزم الأيديولوجيات الإنسانية، وهو ما يحول بين انتصار الأيديولوجيات الأخيرة على الأديان السماوية. وعن تعددية الإنسان، فكراً وحاجات ورغبات، تصدر تعددية المعارف، التي تلبي حاجات الإنسان، المنفتح على الدنس والمطلق المتعالي في آن.
تنتهي الأسئلة السابقة إلى موضوع العلم والدين، الذي عالجه طه حسين، بوضوح لا مخادعة فيه، في كتابه من بعيد. وتؤكد المعالجة نقطتين: لا خصومة أبداً بين العلم والدين، ولا مصالحة أبداً بين العلم والدين. لا خصومة بينهما، لأن لكل منهما حيِّزه الخاص وماهيته الخاصة، فحيّز الدين الشعور والعاطفة وماهيته الثبات والاستقرار، وحيِّز العلم العقل وماهيته التبدّل والتطوّر. ولا مصالحة بينهما، لأن لكل منهما مواضيعه والوسائل الخاصة التي يبرهن بها عن صحة مواضيعه، فمثلما لا يقبل العلم بأسطورة الأصول لا يرضى الدين بمبدأ “القطع المعرفي”، ذلك أن تاريخ الأديان لم يلتقِ بـ”نيوتن” ديني ولا بـ”أينشتاين” ديني أيضاً. يسمح اختلاف الحيّز والماهية بين الطرفين بتعايش مثمر بينهما، يرضي “العقل” في الإنسان ويوافق “الشعور” فيه، ويتآزران في تحقيق سعادة الإنسان. وهذه الصيغة، التي تُطمئن العاقل وتستثير غضب غيره، كانت حجة طه حسين، وهو يدفع عن نفسه تهمة الكفر بعد كتابه “في الشعر الجاهلي”، حين ميّز بين المؤمن والعالم اللذين يسكنانه دون اضطراب، إذ الأول يؤمن بـ”إسماعيل” دون مساءلة، وإذ الثاني يرى إلى “إسماعيل” بمنظور المعايير التاريخية وفرضيات علم التاريخ.
تتداعى فرضية التجاوز السعيد بين العلم والدين، لسبب صادر عن خارجهما، هو السياسة، أو تلك “الدخيلة” الآثمة، بلغة طه حسين، فكثيراً ما يشعل الساسة الخلاف بين العلم والدين، أي يختلقونه، حفاظاً على سلطات متنوعة تترجم مصالح أكثر تنوّعاً، مستغلين عواطف “السواد”، أي جهلهم، التي تخطئ فهم الدين والعلم معاً. وهذا الخلاف المختلق، وسببه السلطة – المصلحة، أو المصلحة المتسلّطة، هو ما يدفع الساسة، غالباً، إلى إنتاج وإعادة إنتاج “السواد”، أي الجماهير الغافلة، وإلى استدعاء مراجع دينية موافقة، تنقض العلم بالدين، كما لو كانت تنقض الكفر بالإيمان. أملت هذه العلاقات على طه حسين، أن يطالب بفصل الدين عن العلم، وبفصل “السواد” عن الدين والسياسة السلطوية أيضاً. غير أن السيد العميد، وهو يقترح ما اقترح، كان يدخل، دون مفاجآت، إلى منطقة معتمة، لأن الحرية الواضحة التي كان ينشدها، لا تستوي دون سياسة تحديثية واضحة بدورها، وهي سياسة مراوغة، تنعقد فجأة وتتبخّر دون ميعاد.
يفصل الانفتاح على المشخص والمتعدد والمتغير بين طه حسين والشيخ التقليدي، دون أن يفصل، لزوماً، بين الأول ورجال دين آخرين. يكمن السبب في سلطوية الشيخ التقليدي وفي السلطات السياسية التي ترى في الشيخ سلطة لها. يقول الشيخ محمد حسن الأمين: “أتقول لي إن الكواكبي مثقف تراثي والكواكبي فقيه ومشتغل على مجال الفقه، لكن لو لم يدخل العصر ويلمّ إلماماً عميقاً في تطوّر البنية السياسية في عصره، هل كان يمكن أن يكتب مؤلفه الشهيرة (طبائع الاستبداد)، وبالتالي أن يكشف بنية الاستبداد الموجودة في الاجتماعي الإسلامي...”22. ليس بين هذا القول وأقوال طه حسين جفوة كبيرة، فالبدء المشترك بينهما ارتقاء الإنسان والالتزام بكرامته.
الشيخ والمثقف: اختلاف المرجع الاجتماعي
يطالب طه حسين، وهو ينقد “سياسة السواد”، بفصل الدين عن العلم والدين عن عبث السياسة. ومع أن صاحب “الأيام” رأى في أوروبا مثالاً يحتذى، فإن منظوره الفاصل بين العلم والدين اتكأ، في المستوى العميق، على الاستقلال الذاتي للظواهر الاجتماعية، أي على مبدأ الفردية الطليقة. وقاده هذا المبدأ لزوماً، إلى الفصل بين الدين والدولة وبين العلاقات الاجتماعية والمعتقدات الدينية. والواضح في هذا التصور، حاكى النموذج الأوروبي أو اعتصم بمبدأ الحرية، هو الفصل بين السلطات، على مستوى الدولة، والفصل بين العلاقات الاجتماعية والانتماء المذهبي، على مستوى المجتمع. فالفصل بين السلطات، على المستوى الأول، يتيح للدولة أن تأخذ بسياسات علمية وتربوية وثقافية طليقة، دون أن تخشى الأزهر، الذي شكّل دولة داخل الدولة، كما يلمح طه حسين في أكثر من مكان. والفصل، على المستوى الثاني، شرط للحداثة الاجتماعية، التي تقبل بالأحزاب السياسية والهيئات الاجتماعية والمراكز العلمية، دون تحرّج أو إعاقة.
يقبل الموقف الأيديولوجي الجاهز باختصار طه حسين إلى داعية للتبعية الثقافية والسياسية. ومع أن حسين لا يُبرَّأ من انبهار بالغرب، فإن في تجربته الذاتية والعقلية ما يؤكّده عدواً حاسماً لاستبداد المرتبة، وخصماً شديداً لما ينتقص من مبدأ المساواة أو يعبث به. فبقدر ما بهره معلم فرنسي لا يقدِّس ولا يقبل بالتقديس، راقه مجتمع فرنسي يتقاسم الناس فيه الحقوق والواجبات دون فروق. لكأن السيد العميد وصل، فكرياً، إلى ما وصل إليه، وهو يقارن بين مجتمع حديث، هو المجتمع الفرنسي، وآخر تقليدي، هو المجتمع المصري، سيّان في ذلك إن قرأ ديكارت أو لم يعرف من صفحاته شيئاً. نقرأ في كتاب طارق البشري: “المسلمون والأقباط” عن قوانين تفرض: “حرمان القبط من وظائف المعلمين في المدارس (لتكون) وظائف تدريس اللغة العربية وقفاً على المسلمين، على الرغم من أنه لا ارتباط بين الدين واللغة”23. لا يتوافق هذا القانون مع منظور طه حسين عن اللغة المقدسة والمبتذلة في آن، أي المقدسة في علاقتها بالقرآن الكريم، لأنها مرآة لعبقريته وأداة لفهمه، والمبتذلة في علاقتها بذاتها، كما لو كان الاعتراف بخضوع اللغة لمقدس خارجها شرطاً مسبقاً للاعتراف بها. يساوي وضع “القبطي”، وقد أُرجع إلى انتمائه الديني، وضع اللغة في التصوّر الديني، ذلك أنه موجود في صفته الدينية وغير موجود خارج هذه الصفة، التي تلغيه كإنسان وتحتفظ به كإشارة سلبية. أراد طه حسين أن يرى البشر في وجود لا يختزل إلى إشارات دينية مختلفة، تستولد، لزوماً، المراتب البشرية المختلفة.
يصل حسين إلى العلمانية معتمداً ما يقول بمساواة البشر. فمثلما أن للغة وجوداً فردياً، لا يحتاج المقدس ولا يخضع له، فإن للإنسان، مهما كانت عقيدته، وجوداً نظيراً، الأمر الذي يجعل من تعليم اللغة العربية شأناً اجتماعياً لا أكثر. يعرّف بيرجر العلمانية قائلاً: “هي العملية التي تمت بها إزاحة قطاعات من المجتمع والثقافة من تحت السيادة العائلة للمؤسسات الدينية والرمزية. بالنسبة للمسيحية: إنها نزع التأثير والتحكم الكنسي عن مناطق كانت تحت هيمنتها، كفصل الدولة عن الكنيسة، ونزع ملكية الأراضي، وفصل التعليم عن السلطة الدينية”24. يذهب طه حسين في هذا الاتجاه ولا يذهب إليه في آن، ذلك أنه يقصده بطريقته الخاصة. فهو يطالب بفصل الدين عن الدولة والتعليم عن السلطة الدينية ويعترف، في اللحظة ذاتها، أن الإسلام لا أكليروس فيه، وأن الحضارة الإسلامية معطى ثقافي ثمين. إضافة إلى ذلك، فإن علمانيته لا تشتق من صعود العلم ومعطيات المجتمع الصناعي، وهو حال العلمانية في شكلها الأوروبي، بل من ضرورة الحرية والتقدم، التي يحتاجها مجتمع راقد وراكد ومفوّت، ليكون قادراً على مواجهة التقدم الأوروبي. ولعل هذا الفرق بين العلمانيتين هو الذي أملى على طه حسين، وقد وضع الدين في حيّز الشعور، أن يتأمل الإسلام وأن يدافع عنه في “الوعد الحق” و”مرآة الإسلام”، و”على هامش السيرة”.
نقض طه حسين “العمومية الإيمانية”، مدافعاً عن تعددية العلوم. ولم يكن الأمر مختلفاً، وهو ينقض “العمومية الإسلامية” وهي عمومية أيديولوجية غائمة، ملتزماً بوعي تاريخي حديث، يتعامل مع مفاهيم الإنسان والمواطن والمجتمع والوطن. فالوعي الديني في تبسيط بريء، أو خال من البراءة، يذهب إلى تعابير الأرض والديار والجماعة، التي يحوّلها نعت “الإسلامي” إلى ماهيات مجردة، لتصبح “الأرض الإسلامية” و”الديار الإسلامية” و”الجماعة الإسلامية” أيضاً. وبداهة، فإن إضافة المقدس إلى الجغرافي، ينصر الأول منهما ويحوّل الدنيوي إلى وجود محتمل. وعن هذا الفرق يصدر قول مألوف: “مَن قال وطني قال ديني”، ويأتي التعريف الديني للوطن، فيكون: “الدار التي تسيطر عليها عقيدة المؤمن وتحكم فيها شريعة الله وحدها”25. يشتق تعريف الوطن من الإيمان، في علاقة يكون فيها الثاني مسيطراً على الأول، ليتم الاعتراف بالوطن إن كان مؤمناً، وينزع الاعتراف عنه إن جانب الإيمان. بهذا المعنى، فإن الوطن دون إيمان يليق به مجرد أرض لا يليق بالمؤمن أن يدافع عنها. ينتهي التحديد الحقوقي والسياسي والجغرافي للوطن، وهو تحديد حديث، وينزلق إلى “عمومية دينية” مرجعها جماعة تصرّف أحوال الدين والوطن. وهذا ما سمح للشيخ الشعراوي أن يصلي ركعتين، حين هزم “الله” جمال عبد الناصر في حرب حزيران 1967، ذلك أن الهزيمة لم تصب “الوطن”، إنما أصابت “غير المؤمنين”، الذين لم يروا في الوطن الأصيل امتداداً للإيمان الأصيل. وعلى هذا، فإن الوطن هو الجماعة المؤمنة التي تجسّد الإيمان الديني، يرتحل بارتحالها ويستقر إن آثرت الاستقرار.
على الرغم من جمالية الإيمان، بريئاً كان أم تنقصه البراءة، فإن الإيمان يطرح قضية “الأقلية الأخرى” بلغة قليلة الوضوح، أو قضية “أهل الذمة” بلغة لا تزيد وضوحاً، أي يطرح مسألة “المجتمع الديمقراطي”. فإذا كان المجتمع الديمقراطي، تعريفاً، هو الذي لا أقلية فيه، اعتماداً على المواطنة وتساوي الحقوق والواجبات، فإن مجتمعاً يعيّن “الأكثرية” و”الأقلية” اعتماداً على الفروق الدينية، مجتمع لا ديمقراطية فيه لسببين: فهو يقصي المعيار المدني بالمعيار الديني، وهو يقصي المعيار الديني بمعيار ديني آخر متفوق عليه، ممّا ينقل مبدأ المراتبية من حقل المعارف إلى حقل الأديان السماوية. يقول د. عبد الهادي عبد الرحمن في كتابه عرش المقدس: “إن مفهوم “أهل الذمة” في عرف المقاومة الإسلامية، يؤكد ثقتها في احتكار تصوير الحقيقة. إنه ظن أو وهم باستبعاد تصوّر الآخرين للحقيقة. وهو وهم لأن الخلاف الحقيقي للتصور غير موجود. بل إن الرعب الذي أصاب “أهل الذمة” من إمكانية نجاح هذه المقاومة سياسياً، جعلها أكثر محافظة، بل وربما اكثر من تلك المقاومة نفسها”26. يحيل تعبير “أكثر محافظة” إلى كلمة أخرى أشد سلباً هي: “الطائفة”، التي لا يستوي وجودها إلا بوجود “طائفة” أخرى، مغايرة لها ماهية وحقيقة، مما يعيّن “الحرب الطائفية”، مضمرة أو صريحة، جسراً وحيداً يصل بين طائفتين.
تستولد “العمومية الإيمانية” على مستوى المعارف، الشرك والإيمان، وتستولد “العمومية الدينية”، على المستوى الاجتماعي، الإخلاص والمروق، والأمر كلّه في أيديولوجيا تلغي التاريخ، ذاهبة من حاضر لا تتملّكه إلى ماضٍ لا تملكه أيضاً، أعاد العقل الإيماني صياغته متجانساً، ومنتصراً في تجانسه. يقول مرسيا إلياد: “والأسطورة الكوسموغونية، بما هي النموذج المثالي لكل “خلق”، قادرة على إعانة المريض أن يبدأ حياته من جديد. إذ بفضل العودة إلى الأصل، يؤمل أن يولد ولادة جديدة...”27. والمريض هو “المجتمع الإسلامي” في احتضاره العجيب، الذي تطرد فيه الحياة الموت بقدر ما يطرد الموت الحياة، و”النموذج المثالي” هو “العهد الإسلامي” الأول، الذي يزيد ماضيه جمالاً كلما زاد الحاضر الإسلامي بؤساً. وعن هذا “النموذج المثالي”، الذي لا يبتعد كثيراً عن تصورات فيورباخ عن وعي الإنسان المخذول، كتب طه حسين في حديث الأربعاء: “إن الأمم إذا اضطرتها صروف الحياة إلى أن تنزل عن مجدها، وتنحط عن مكانتها العالية فتخضع لخطوب الدهر حيناً، وتنام عن العزة والسلطان. ثم استفاقت من هذا النوم...، فأول شعور تجده في نفسها إنما هو الشعور بهذا المجد القديم، والحاجة إلى إجلال أصحابه وإكبارهم واتخاذهم مثلاً عليا”28. ما نسي طه حسين أن يقوله هو: إن الإمعان في الإكبار والمبالغة في الإجلال والغلو في التعظيم يردّ الأمم المحبطة إلى نومها العميق، ويعيدها إلى سُبات ثقيل لا يقظة منه.
رداً على العزوف الشديد عن الحاضر والشغف الكبير بالماضي طالب طه حسين، وبإصرار شديد، بالانغماس في الأزمنة الحديثة، والقبول بما تقبله شعوبها، والإقبال على ما تقبل عليه بشغف كبير، كما لو كان يعبّر عن السياق التاريخي الذي صاغ فيه خطابه، قبل أن يعبّر عن علاقته الذاتية بهذا السياق. وكان في قوله، الذي آمن به ومكّنه السياق، واضحاً ونزيهاً، يبدأ بالفرد وينتهي إلى المواطن، وينطلق من الفرد–المواطن ليصل إلى الدولة الديمقراطية. وإذا كانت الأيديولوجيات القومية والماركسية، قد همست بشيء قريب من العلمانية، يقوّضه استبداد يرى في الديمقراطية شأناً برجوازياً، فإن هذا الليبرالي المتسق، أقام الديمقراطية داخل العلمانية وأقام السياسة المجتمعية داخل العلاقتين معاً. وكان عليه، بالضرورة، أن يبني الوطن على حقوق المواطنة، وأن يبني المواطنة، على فرد له حق الرفض والقبول. وهذا الطموح، الذي ظل طموحاً، دفعه إلى الحديث عن الثورة الاجتماعية: “ثورة تقتلع طبائع الاستبداد من حياتنا ومن فكرنا. ولن تتحقق هذه الثورة إلاّ إذا شاعت ثقافة الحرية ثم تمكنت من النفوس بحيث يتكوّن على أرضنا: الإنسان-الفرد-الحر...”29. جاء هذا الكلام في كتاب مستقبل الثقافة في مصر، الذي صدر في الشهر الأخير من العام 1938، حين كانت كلمة الاستبداد، لدى الأيديولوجيات الصاعدة، لا تعني شيئاً كثيراً.
الشيخ والمثقف: اختلاف النسق
في تحقيق أجرته صحيفة السفير اللبنانية، قبل سنوات قليلة، عن طه حسين وما تبقى منه، أجاب أحد طلاّب الجامعة، واعتبر متقدّماً على غيره، بالعبارة التالية: “أليس هو ذلك الأعمى؟”. لم يترسّب في ذاكرة الجامعي، أم لم يمرّ عليها، إلاّ رذاذ مريض من الاحتمال، يختصر المفكّر المصري إلى عاهة، تعبّر عن النقص وتستجلب الشفقة. ربما تكون العاهة، كما الشفقة التي تستجرّها، مرآة سياق ثقافي عربي فقد الذاكرة، والتعبير الأدق عن مآل مثقف عربي فريد في زمن مقوّض. ولذلك دُفن طه حسين وبصيرته الواسعة، وترسبت عاهته في “ذاكرة جامعية” خذلت دلالة “الجامعة”، وخذلتها الجامعة الرسمية منذ زمن طويل.
ليس في اختصار طه حسين إلى عاهة تستثير الرثاء ما يبعث على الدهشة، بعد هزيمته، وهو التنويري المقاتل، مرتين متفاوتتين: المرة الأولى حين همّشه النظام الناصري، وفقاً لسياسة ثقافية قوامها المفارقة، تنصر الثقافة وتهزم المثقفين، وتنصر حرية التعليم وتعتقل العقول المفكرة. كما لو كانت الثورة، وقانونها الاختزال والمراتبية الصارمة، بديلاً عن الثقافة والمثقفين و”التلميذ المكبّل”، الذي تقوده إلى الحرية. والمرة الثانية حين هُزم النظام الناصري في حرب حزيران، وهُزم معه المشروع التحرري العربي هزيمة مفتوحة. هزم التنوير السلطوي طه حسين، وألحقت به هزيمة “السلطة المستنيرة” هزيمة ثانية، ذلك أن السلطة، التي هزمته مرتين، رفضت منهجه واحتفظت بطموحاته الواسعة.
مثّل حسين، الذي رفع النقد الاجتماعي إلى المقام الأكثر وضوحاً واتساقاً، المثقف العربي الحديث الذي ولد، متعثراً، في منتصف القرن التاسع عشر. وبسبب الولادة المتعثرة، لن يتكئ حسين، وفي مجتمع مستعمر تسوده الأميّة، على طبقة أو طبقات أو فئات اجتماعية فاعلة، بل على الرهان والإرادة ونسق قلق من المثقفين، يتعرّف بخطابه المستنير ولا يتعرّف، إلا صدفة، بجمهور ينتظر الرسالة المستنيرة. ولذلك التقى حسين وعلى المستوى الفكري، بالكواكبي، الذي كتب عن الاستبداد وقتله الاستبداد، وبالشيخ محمد عبده، الذي بكى موته أصحاب الطرابيش لا أصحاب العمائم، وبالطهطاوي، الذي قرأ وكتب تحت أنظار السلطة المُجْهِدَة.
ذهب المثقف إلى مصيره، أي إلى هزيمته، لأن وجوده، وهو مقولة حديثة، يستدعي جملة من المقولات الحديثة، تنطوي على الشعب والطبقات الاجتماعية والمجتمع المدني والجامعات والصحف والأحزاب السياسية ... . وهذه المقولات الحداثية الغائبة، أو شبه الغائبة كانت، ولا تزال، ترحب بـ”كاتب السلطان”، وهو إرث عثماني، وهو ذاكرة السلطة المستبدة ومحاميها معاً. ولهذا كان على طه حسين، مثل المثقف التنويري الذي سبقه والذي تلاه، أن يلتحف بمأساة مزدوجة، مأساة أولى آتية من منظور المثقف الذي ينقض البنية الاجتماعية مقترحاً مجتمعاً جديداً، لا يوافق السلطة ولا يرحب به الخاضعون كثيراً، على خلاف “الشيخ المصلح”، الذي يطالب بإصلاح الأفراد والأرواح ولا يمس البنية الاجتماعية أبداً. وتأتي المأساة الثانية عن مكر التاريخ، الذي استولد، ولأسباب متعددة، مثقفاً عربياً، ولم يستولد معه، أو له، طبقات اجتماعية تحتاج الثورة أو تحلم بها. ولذلك بدا المثقف عارياً، أو شبه عارٍ، معلّقاً في الفراغ، ينوس بين جمالية المتمرد ويوتوبيا النقد الاجتماعي الشامل.30
كيف يمكن للعارف أن لا يتحدث بشكل مختلف وأن تكون له صورة مختلفة؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه الشيخ التقليدي في ثباته واستمراريته. فهذا الشيخ لا يخسر من صورته شيئاً وهو يستأنف قولاً لا جديد فيه ولا مغايرة، إن لم تُخْدش صورته إذا مزج قوله القديم بنثار جديد أو شبه جديد. لا يقوم السر في الشيخ بل في صورته، وقد رُمزت، الممتدة من اللقب والطقوس الاجتماعية إلى اللغة والهالة والتقديس، كما لو كان في الشيخ سر، وكان الشيخ – السر قادراً على ترويض الأسرار. يعيّن الفضاء المستسرّ شكل الشيخ الخارجي مضموناً لقوله المضمر والصريح، لأن جمهور الشيخ ينصت إلى صورة الشيخ في ذاكرته الجمعية، قبل أن ينصت إلى أي شيء آخر. ينمسح الفرق بين المظهر الخارجي والقول الأيديولوجي، وقد تقدّسا، بقدر ما يلتغي الفرق بين الشكل اللغوي ومضمون الخطاب الأيديولوجي. يصبح الشكل اللغوي، وهو يستأنف لغة – أصلاً مضموناً للخطاب وبرهاناً عن صحته، إذ المستمع يكتفي بالشعور والعاطفة ولا يحتاج العقل والسمع، أو ما هو قريب منهما. ولأن تاريخ النص الأدبي يتحدّد بقراءته، كما يقال في الأدب، فإن حياة الشيخ المتجدّدة تقوم في مَنْ يحتاج إليه. يتداعى السر، الذي ليس سراً، ويستدعي بنية ثقافية قبل – رأسمالية، تعيد إنتاج الشيخ وجمهوره وهي تعيد إنتاج وعي مأخوذ بالمطلقات، لا يأتلف مع النسبي والجزئي والمتعدد، ولا مع مثقف يوزّع العلم والدين على حلقتين مختلفتين. لذا، فإن عبد الهادي عبد الرحمن لم يجانب الصواب حين كتب: “إن حركة التاريخ الثقافي في مسألة العلمانية يكون للبنية الاجتماعية والتاريخية الحيّة فيها الدور الحاسم”31.
يكتب طارق البشري: “درج نظام تعيين الصيارفة على العادات القديمة، أن يتخصص لهذه المهنة من يتتلمذون على الصيارفة القدامى أعواماً، يساعدونهم في أعمالهم ويتعرّفون بالمموّلين وطرائق التحصيل، وغير ذلك مما يناط بالصراف من شؤون، وعادة ما يكون هؤلاء التلاميذ من أبناء الصيارفة أو ذوي قرابتهم”.32 يظهر الصيرفي في النسق المهني المتوارث، فرداً مختصاً منحدراً من عائلة أخذ عنها الاختصاص، بقدر ما يظهر الاختصاص، وبسبب تقادم العهد، جوهراً للعائلة وجزءاً ثابتاً من طبيعتها. يلتقي الشيخ مع الصيرفي ويختلف عنه في آن: يلتقي معه في النسق القائم على الثابت والاحتكار، ويختلف معه في قوة النسق ودلالته. يفيض النسق الديني على الأفراد والعائلات وعلاقات القرابة، مستنداً إلى قوة الترميز، التي تحتاج الأفراد ولا تحتاجهم على الإطلاق. وما قوة الرمز إلاّ ذلك الموقع الغريب، الذي يعطي فيه الشيخ للقضايا الأكثر تعقيداً واستحالة الحلول الأكثر بساطة وسذاجة، دون أن يماريه أحد.
تطرح البنية الاجتماعية التاريخية التي تنصر مثقفاً، في شروط محدّدة، وتنصر نقيضه، في شروط مغايرة، سؤال الجامع والجامعة، من حيث هما موضوعان وإشارتان، يحيلان على الفرق بين الدين والعلم، في زمن، وعلى تديين العلم، أي إلغائه، في زمن آخر. يقول الشيخ الشعراوي: “فمهمتنا كمصر الوطن وبيت الأزهر أن نسعى ونلح ونجاهد في أن نطبق الإسلام، ونحقق الإسلام كعلم. وبذلك نجعل عمل اليوم علماً ونجعل زمن الغد كشفاً لكنوز القرآن”.33 يصبح الإسلام علماً والعلم إسلاماً، وذلك في عمومية أيديولوجية تلغي الطرفين معاً، وتستبقي الشيخ وحده، الذي لم تمنعه كنوز القرآن، عن أن يكون مستشاراً دينياً لأطراف نهبت الشر باسم “البركة”. يمكن القول هنا: لو كان الإسلام علماً لانطفأ منذ زمن بعيد، لأن العلم متغيَّر ومتبدل وجزئي، وهو يغاير جوهر الدين، والعلم يقدم برهانه على الأرض، بينما يقدم الدين برهانه الأخير في ديار الآخرة. مهما تكن حدود القول، فإن الواضح فيه إلغاء العلم والجامعة، لأن الاعتراف باستقلالهما شرط لوجودهما.
حين يكتب محمد عبد الله عنان عن تاريخ الجامع الأزهر يقول: “فيه تقام صلاة الجامعة الرسمية التي يؤمها الأمير أيام الجمع والأعياد. وتتلى من منبره المراسيم والأوامر والأحكام وتعقد فيه مجالس القضاء”.34 إن هذه الوظائف المتعددة، وباستثناء الوظيفة الدينية والرمزية، قد رُحِّلت، وبسبب تغير الأزمنة، إلى أجهزة جديدة مستقلة عن الجامع. أوجدت الأزمنة الحديثة المدرسة، وهي تختلف عن كتاتيب المساجد، ولاحقاً، الجامعة، وهي تختلف عن الجامع وظيفة ومنهجاً وتعليماً. وهذا ما دفع محمد علي باشا، كما الخديوي إسماعيل بعده، إلى إنشاء المدارس وتكوين “ديوان المدارس”، وإحداث مدارس للطب والموسيقى والصيدلة والزراعة وصولاً إلى المدرسة الحربية. . غير أن الخروج من كتاتيب المساجد، التي كانت تفسد العقول وتلقى الرعاية من الاحتلال البريطاني بلغة أنور عبد الملك، كما الانتقال من أحادية التعليم الديني إلى تعددية العلوم الحديثة، اصطدم بالنسق الأيديولوجي المساوي بين الثابت والمقدس، أي بـ”عداء الفلاحين والأوساط الدينية الأزهرية”35. وما اختلف الأمر حين ظهرت الجامعة، في بدايات هذا القرن.
لم يكن غريباً في حقل أيديولوجي تخومه احتكار الحقيقة، أن يحتفي طه حسين بالمدرسة احتفاءً كبيراً، وأن يكون مغتبطاً “أن يعلم فيها الأدب على ألا ينتظر على ذلك أجراً. فالمدرسة عمل وطني لا أجر عليه لمن يشارك فيه”، خاصة أن التعليم في المدرسة خروج “من بيئته تلك المغلقة إلى الحياة العامة” كما كان يقول. وواقع الأمر أن السيد العميد، الذي أمضى حياته يساجل المؤسسة الأزهرية بشكل صريح ومضمر معاً، رأى في المدرسة والجامعة إعلاناً عن الحياة الحديثة، و”أميراً حديثاً” يبني دولة حديثة بديلاً عن مملكة قديمة. فهاتان المؤسستان تعبير عن: “العمل الوطني، الحياة العامة، الانفتاح على الأزمنة الحديثة، الهواء الطلق والعلم الطليق، العلم بالحياة وإيقاظ الشعور وتحقيق الفهم، وخلق بداية صحيحة للمجتمع المدني.
في مقالته “الروح الجامعي”، يصف حسين الفرق بين المؤسسة الجامعية والمؤسسة الأزهرية، فيقول: “فليس من شك عندي في أن المعلمين والمتعلمين من أهل الأزهر الشريف، منذ العصور البعيدة، قد اتخذوا لأنفسهم عادات وسنناً شملتهم جميعاً. ورأوا على مضي الزمان واختلاف الظروف أن الخضوع لها والرعاية لحرماتها، أصل من أصول الأدب الأزهري الذي لا تليق المخالفة عنه أو الخروج عليه”. فإن وصل إلى الجامعة قال: “الروح الجامعي شيء مختلف أشد الاختلاف، متباين أشد التباين، يختلف باختلاف الظروف والبيئات، ويختلف باختلاف الطبائع والأمزجة التي تنشأ فيها الجامعات، لكن هذا الاختلاف لا يمنع ممثلي الجامعات المختلفة من أن يفهم بعضهم بعضاً...“36. تتجلى الجامعة في صفات التباين والاختلاف والحوار، قبل أن تتجلى في علاقات شكلانية، تلغي الجامعة وهي تنتسب إليها، وتجعل من الجامعة جامعاً جديداً.
تتعيّن الجامعة في علاقات حداثية، تشمل المنهج والمعلم والتلميذ والحياة العامة. . فلا جامعة في شرط يقبل بالفردية والحوار الطليق. يربط بين المعرفة وأسئلة الحياة اليومية، ويوحّد بين النظري والتطبيقي، ويرى العلم قوة منتجة وطنية. وغياب هذا الشرط يغيّب دلالة الجامعة ويستبقي شكلها، مستأنفاً سنن ومناهج الكتاتيب القديمة. والاستئناف سهل وميسور، حين يتساوى النسق المشيخي، وقد سيطر اجتماعياً، بالمقدس الموروث. لذلك يذهب “الصيرفي” إلى أحواله بعد انتشار “الحاسوب” والآلات الحاسبة، ويبقى الشيخ مع “فتوى” متجدّدة، تجيز استعمال الحاسوب أو ترى فيه ضلالاً، وتجيز “المقررات الجامعية”، أو ترى فيها بدعة لا تجوز.
من المثقف إلى المثقف الديني
لا يتعرّف الشيخ التقليدي بقول الديني بل بمضمون السلطة فيه. وقوام المضمون سلطة تقليدية تقدس الثبات. يفصل الموقف من السلطة بين الشيخ والمثقف الديني الذي، وهو ينفتح على قضايا المجتمع والحياة، ينقد السلطة ويطالب بمجتمع أكثر عدلاً. وبقدر ما ينتهي قول الشيخ التقليدي إلى أيديولوجيات سلطوية، يتحوّل قول المثقف الديني إلى أيديولوجيات أخرى بين الأيديولوجيات الاجتماعية. يؤول “القول الديني”، في الحالين، إلى تجلٍّ بشري، يمتزج بالتاريخ ولا يستطيع الهروب منه. ومع أن المصلح الديني موجود في الأزمنة جميعاً، فقد عرف عصر النهضة العربي، أو ما يدعى بذلك، ظاهرة المثقف الديني الذي، وهو يتأمل مجتمعاً مقوّضاً، يطالب بإصلاح السياسة والمجتمع وقراءة الدين في آن. تردّ هذه الظاهرة، وهي حديثة ودعوة إلى الحداثة، إلى الغزو الاستعماري الأوروبي المدجّج بالأسلحة وبالمعارف، وإلى “رجل دين” مختلف في مجتمع لم يعرف الجامعة. أملت المقارنة المسؤولة، بين زمن أوروبي منتصر وآخر مغاير ومهزوم، على رجل الدين أن يقرأ أسباب الهزيمة في “السلطة السياسية الإسلامية”، بعيداً عن خطاب متناتج، يلعن الغرب ويمجّد التاريخ الإسلامي البعيد. ويعطي عبد الرحمن الكواكبي (1849–1902) صورة عن المثقف الديني، الذي يعاين أحوال المسلمين المشخصة، ولا يكتفي بدفاع بلاغي عن إسلام مجرد. والبدء من المشخص، قاد الشيخ الذي مات مسموماً، إلى الوقوف الطويل أمام السلطة السياسية، وإلى اكتساب معارف غير تقليدية، مدركاً أن المعارف التقليدية لا تفسّر استبداداً تقليدياً، وأن معارف لا تقبل بالتنوّع والاختلاف لا تشرح مستبداً مأخوذاً بالتماثل والامتثال. يقول الكواكبي وهو يبني طلب المعرفة على صحة الإيمان: “العلم قبسة من نور الله وقد خلق النور كشافاً مبصراً ولاّداً للحرارة والقوة وجعل العلم مثله وضاحاً للخير فضاحاً للشر...”. ويقول أيضاً وهو يبني بين الكفر والاستبداد علاقة صريحة: “المستبد كما يبغض العلم لنتائجه يبغضه لذاته لأن للعلم سلطاناً أقوى من كل سلطان، فلا بد للمستبد من أن يستحقر كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علماً”37. يقرن الشيخ، الذي وشى به شيخ آخر إلى سلطان قاتل، بين العدل والمعرفة والظلم والجهل، مساوياً، وقد عرف أشياء من أفلاطون، بين الشر والاستبداد.
لم يكن الكواكبي، كما المثقف الديني في زمنه ولاحقاً، ينكر المستبد إلا ليستنكر فيه آثار الاستبداد الاجتماعية، الممتدة من تجهيل العقول إلى رعية تجهل سبب وجودها. بيد أن الكواكبي، وهو يصف المستبد في مراتبه الرفيعة والوضيعة، كان يحمل على المستبد وعلى نسق المشايخ الذي يشرعن الاستبداد. ففي مجتمع لا حراك فيه ولا حركة، ارتاح رجل الدين التقليدي إلى لقب “المتصدّر”، أي الجالس في صدر المجلس كي يراه الجميع، وإلى وظائف متعددة ومتداخلة، تتضمن التعليم والقضاء والتوجيه الديني والسياسي وفضّ الخلافات والحديث في مناسبات الزواج والطلاق والموت والميلاد. وجاء زمن استعماري مقلق، لم يختلس من “المتصدر” مجلسه، وإن وضع إلى جانبه رجل دين مختلفاً، يقبل بالجديد ويدافع عنه، قبل أن يردّه زمن قادم إلى هامش لا يُرى. في ذلك الزمن قال الطهطاوي، وكان قصده التسويغ لا التلفيق: “إن المعرفة الأوروبية التي يظهر أنها أجنبية هي علوم إسلامية”،38 وقال محمد عبده: “ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر”، و”تمادى” الأفغاني حتى تحدث عن “تاج بلا رأس أو رأس بلا تاج”. تفصح هذه الأقوال عن رجل دين مختلف، يقبل بكونية المعرفة الإنسانية ويواجه التعصب وينادي بحاكم يحترم إرادة الأمة. تميّز أصحاب الأقوال، ومن اتفق معهم، بالإيمان الديني اليقيني، وبالاعتراف بتاريخية المعرفة وبأن العلم مفتوح ولا نهاية له. وفي هذا الموقف كان رجل الدين المستنير، وعلى خلاف الشيخ التقليدي، ينظر إلى التراث الإسلامي نظرة جديدة، أو يتطلع إلى ذلك على الأقل. وواقع الأمر، أن الاجتهاد الجديد لا يخالف معنى الدين في شيء. فإذا كان الدين رسالة سماوية إلى البشر لإصلاح شؤون دنياهم، فإن المؤمن الصادق هو الذي يتعامل مع الدين كشأن دنيوي. بل يمكن القول، وليس بعيداً عن أفكار محمد عبده ومحمد إقبال ومحمد باقر الصدر وغيرهم: لا يكون العارف مثقفاً دينياً إلا إن كان مثقفاً دنيوياً بامتياز، بمعنى الالتزام بما يتطوّر ومجافاة الاستقرار والركود.
انطوى منظور عصر التنوير على عنصرين أساسيين: أولوية المعرفة المتغيرة على النص الموروث وأولوية المعطى السياسي والاجتماعي على الاجتهاد الفكري. وكان الاستبداد الداخلي والخارجي، في الحالين، مرجعاً لصياغة التفكير واستيلاد الأسئلة. وما كان غريباً، بسبب ديمومة الاستبداد المزدوج، أن يتناتج المثقف الديني في شخصيات مالك بن نبي، وخالد محمد خالد، وجودت سعيد، ومحمد باقر الصدر، وإن كان العجز أمام هزيمة حزيران التاريخية رد إلى الشيخ، الذي تقدسه الأسماك، مكانه القديم كاملاً. على مبعدة عن الشيخ الأخير، الذي يلغي الأزمنة ويقف فوقها، اعترف المثقف الديني بقيمة رأس المال المعرفي، وبالتسامح شرطاً لتفعيل المعرفة ووظيفة العارف الاجتماعية. ذلك أن المعرفة، وهي لا تتعيّن بالأفراد، علاقة اجتماعية في إنتاجها واستهلاكها أيضاً. وبهذا المعنى، فإن جدل العلم الذي لا نهاية له والمجتمع الذي لا استبداد فيه هما الموقع الذي فصل بين الشيخ التقليدي والمثقف الديني، مثلما أنه الموقع الذي أطلق، في شروط معينة، المثقف الحديث، الذي رأى في الإيمان الديني شأناً خاصاً، ووضع الإيمان في حيّز الشعور. يقول مالك بن نبي، الجزائري الفخور بإسلامه: “كلما بزغ الصنم غابت الفكرة”. لا يقبل الصنم بالفكرة لأنه لا يرى خارجه شيئاً، ولا تقبل الفكرة بالصنم لأنها متغيرة. وبهذا يهرب المثقف الحقيقي، دينياً كان أم علمانياً، من الأشخاص إلى الأفكار التي ترفض الشخصنة.
يقول غرامشي: “ليست الاتجاهات متعددة فحسب، بل يمكن أن نلاحظ حركات تراجع في الاتجاهات الأكثر تقدماً”، وبإمكان التراجع أن يكون فادحاً إن كانت “الاتجاهات الأكثر تقدماً” هشّة في ميلادها، وأكثر هشاشة في تطوّرها. ولهذا عاد المثقف الوطني الحديث مثقفاً دينياً، بعد هزيمة حزيران، بلغة واضحة، أو بعد انهيار المشروع التحديثي، بلغة أقل وضوحاً. يقول حسن حنفي: “إنّ العمليات العقلية التي حدّدت طبيعة الظواهر الفكرية هي وراء بناء العلوم، وهي عمليات معقدة واحدة تنشأ في كل حضارة تبدأ من معطى مركزي هو الوحي، وبمعرفته يمكن إعادتها من جديد ابتداءً من العصر الحاضر”39. يفتش حنفي عن مرتكن ديني يشتق منه العلم والإيمان معاً، وينقب، في اللحظة ذاتها، عن هوية أيديولوجية إسلامية تطابق الإيمان العلمي والعلم المؤمن. ولن يلتقي، في الحالين، إلا بتربيع الدائرة، حيث للإيمان الديني برهانه العقلاني، وللمحاكمة العقلانية ضمانها الديني، ناسياً أن إنتاج المعرفة الحديثة يصدر عن التحولات الاجتماعية الحداثية لا عن تدقيق الإيمان الديني. ولا يختلف حال عادل حسين، وهو مثقف وطني آخر، حيث يقول: “يبدأ هذا المنهج (منهج العالم المسلم) بالإقرار بحقيقة المفهوم المحوري في العقيدة السائدة، عقيدة الحضارة الإسلامية. والمفهوم المحوري في هذه الحضارة هو الإيمان بالله الواحد الخالق”40. ليس قول عادل حسين، الذي يحمل كلمة كبيرة وهي المنهج، إلا بداهة الحس الشعبي، الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما كان سمير أمين مخطئاً حين رأى في “أسلمة العلوم”، وأسلمة ما خارج العلوم، أزمة اجتماعية عميقة.
وضعت التحولات التاريخية إلى جانب الشيخ التقليدي مثقفاً دينياً، ومهدت لظهور المثقف الحديث، الذي تجسّد في طه حسين بامتياز. رحل ذلك المثقف الغريب من كتاتيب القرية إلى جامع الأزهر في المدينة، وانتقل من الجامع الأزهري إلى الجامعة الفرنسية، وارتكن إلى ثقافة الجامعة الحديثة، وهو يعهد إلى المثقف – الرسول بوظيفة مربكة ومرتبكة، يحدّد فيها المثقف الحداثي القول وأشكال الفعل التي تعطي القول ترجمة صحيحة. وكان على طه حسين، الذي رأى أحلامه والعقل الذي يصوغ الأحلام، أن يقع في مكر التاريخ، الذي وضع مثقفاً حداثياً في علاقات اجتماعية مجهضة الحداثة. ولهذا، كان على السيد العميد أن يترسّب في هامش تاريخي، لأن “مستقبل المجتمع” لم يطابق “مستقبل الثقافة” التي دعا إليها. وما وصل إليه طه حسين وصل إليه غيره من المستنيرين، منذ أن اكتفت “أجهزة السلطة التعليمية” بتكريم الماضي السحيق ونفي الحاضر المعيش إلى غرف معتمة.
العادي والمقدس
الصراع بين المثقف والشيخ التقليدي صراع زائف بين اليومي والمقدس، لأن المقدس، ولا يماري فيه أحد، يأخذ، وبعملية تقنيع غريبة، صورة الشيخ الذي يدافع عنه. فعلى خلاف المثقف، الذي يتعامل مع إنسان يومي في حاجاته العملية، يمضي الشيخ إلى تجريد يرى “الروح” ولا يرى إلى ما خارجها. يستند الأول إلى تضامنه النقدي مع البشر، دون أن يحوز على هالة الثاني وحضوره، ذلك أن الشيخ منصور بـ “سحر الماضي” الذي يستحضره. يتأسس الخطاب الديني على زمن تاريخي قديم يعيد بناءه المتخيل، حذفاً وإضافة، إلى أن يصير زمناً–أصلاً، لا يحتمل التاريخ ولا يقبل به. وفي الزمن – الأصل لا مكان للبشر، بل لمن هو مختلف عن البشر ومغاير لهم. يقول مرسيا إلياد: “تروي الأساطير حركات الآلهة”41. ومع أن بين الدين والأسطورة فرقاً أكيداً، فإن الشيخ، وهو يتماهى بالمقدس، يدفع بزمن “المؤمنين الأوائل” إلى تخوم الأسطورة.
وإذا كان في انتساب الشيخ إلى الزمن – الأصل ما يؤمّن له هالة لا نقص فيها، فإن انتساب جمهور الشيخ إلى الزمن الذهبي البعيد يضع بين يديه نجاحاً أكيداً. يملي الزمن المقدس، على مَنْ انتسب إليه، أن يقلّده في اتجاهات مختلفة، فالمؤمن لا يكون مؤمناً حقاً إلا بقدر ما يحاكي النموذج الأصلي. وفي عملية المحاكاة يفصح الإنسان عن إيمانه، ويسعى إلى ما يقيه من الأخطار والكوارث في آن. كما لو كان قد ارتحل من زمن الزيغ والهوى إلى زمن الطهر المطلق الأول. ولا غرابة، والحال هذه، أن تصبح الحياة الدنيوية، وقد غمرها الوعي الديني، تخليداً لذكرى عظيمة سلفت، وتجديداً لا انقطاع فيه لزمن تخفق فيه الملائكة. تغيّر سيطرة الماضي على الحاضر من دلالة الخطيئة، فلن تكون قائمة في مشخصات الحياة اليومية والحاجات البشرية، ذلك أن الخطيئة الحقيقية، في الوعي المسكون بأسطورة الأصل، هي نسيان النموذج الذي يُحاكي إلى ما لا نهاية.
على خلاف عن الشيخ الذاهب إلى الأصل القديم، ينطلق المثقف الحديث من الحاضر، من حيث هو المساحة الزمنية الوحيدة الجديرة بالحوار والمعالجة. وكما أشرنا، فإن عمل المثقف، وبالمعنى العميق للكلمة، تضامن مع الناس الذين يعانون ولا يحسنون الكتابة، أو يعانون ويكتبون، ولا يحسنون التعبير عن قضاياهم. يفصل الفرق بين الزمنين، كما الفرق في أسئلتهما، بين الشيخ والمثقف وبين جمهور الطرفين معاً، دون أن يعطي الثاني منهما مكانة الأول وفاعليته. يتأتى الفرق عن خطاب الرجلين، فأحدهما يحتمل الصواب والخطأ، وثانيهما لا خطأ فيه، لأن برهانه الصادق موزّع على زمن مضى، وعلى زمن لم يأتِ بعد.
يتحدث المثقف، وقد انتمى إلى عقلانية يقينية أو نسبية، عن التجربة والاختبار والرهان والاحتمال، أي عن كل ما لا يلتفت إليه خطاب الشيخ التقليدي. والخطاب الأخير يقوم على التسليم، بعيداً عن المساءلة أو الفضول. بين مرسل الرسالة ومستقبلها صمت مطمئن، يعادل المسافة المطمئنة الثابتة بينهما. وعلاقة الطرفين، بداهة، أحادية الاتجاه، تنصاع إلى مرتبة لا يمكن كسرها، يستسلم فيها أحد الطرفين للآخر، دون شرط أو استفسار، بل إنها علاقة مسيّرة من داخلها، بلا زجر ولا إكراه، وبلا عقد ولا اتفاق، لأنها هبة أو ما هو قريب من الهبة. رضوخ سعيد مكنته روح راضية تنتظر الحماية والخلاص، إن لم تكن غبطة الاستسلام أشد قوة من وعود المفازة. تصيّر الغبطة، التي تنتظر ولا تنتظر، حوار العادي والمقدس مستحيلاً، بسبب أحادية الاتجاه القائمة بين الطرفين. لذا يقوم الإيصال بينهما على الرموز لا على الإشارات، والأخيرة خاصة بالدنيوي لا بما عداه، والرمز صورة عن تعبير مغترب، يرى ما يريد ولا يرى ما يعبّر به عمّا يريد42.
إن زمن المقدس هو زمن المطلقات، التي تحوّم فوق التاريخ ولا تلمسه. غير أن للعقل الإطلاقي، الذي يمحو العادي بالمقدس، زمنه التاريخي القابل للتحديد، الذي يشير، غالباً، إلى مجتمعات فلاحيّة، أو إلى مجتمعات غادرت موروثها القديم، وخاب سعيها في العثور على موروث جديد.
(الفصل الأول "إشكال طه حسين" من كتاب صدر عن مواطن؛ المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، بعنوان الحداثة المتقهقرة لمؤلفه فيصل درَّاج، الطبعة الأولى، ص13–35، رام الله، 2005)
الهوامش
1 مصطفى صادق الرافعي. تحت راية القرآن، القاهرة: مطبعة الاستقامة، 1963، ص 12.
2 طه حسين. الأيام، الجزء الثاني، دار المعارف، الطبعة السادسة والعشرين، ص 115.
3 الأيام، الجزء الأول، ص 38.
4 طه حسين. رحلة الربيع، دار المعارف، الطبعة الثانية، اقرأ 69، ص 9.
5 الأيام. الجزء الأول، دار المعارف، الطبعة الخامسة والخمسون، ص 139.
6 آداب العلماء والمتعلمين. جمعة مولانا القلم الحبر الحسين بن أمير المؤمنين المنصور بالله القاسم بن محمد بن علي، بيروت: الدار اليمنية للنشر والتوزيع، توزيع دار المناهل، 1958، ص67–76.
7 حسن إبراهيم أحمد. العقل الإيماني، دمشق: دار المدى، 2000، ص8.
8 المرجع السابق، ص 70.
9 المرجع السابق، ص73.
10 طه حسين. مستقبل الثقافة في مصر، الطبعة الأولى، ص313.
11 د. عبد الهادي عبد الرحمن. عرش المقدس، بيروت: دار الطليعة، 2000، ص88.
12 آداب العلماء والمتعلمين، ص41.
13 قسطاكي الحمصي. منهج الوراد في علوم الافتقاد، القاهرة، 1907.
14 عبد الرحمن الكواكبي. طبائع الاستبداد، الجزائر: موفم للنشر، 1988، ص42.
15 الوعي المعاصر، العدد 4 – 5، دمشق، شتاء 2000، ص30.
16 عرش المقدس، مرجع سابق، ص90.
17 حنّة أرندت. في العنف، بيروت: دار الساقي، 1992، ص25.
18 طه حسين. في الأدب الجاهلي، القاهرة: دار المعارف، الطبعة الحادية عشرة، ص10.
19 المرجع السابق، ص67.
20 طه حسين. مستقبل الثقافة في مصر، ص292–293.
21 طه حسين. حديث الأربعاء، الجزء الثالث، القاهرة: دار المعارف، الطبعة العاشرة، ص30.
22 الوعي المعاصر، مرجع سابق، ص53.
23 طارق البشري. المسلمون والأقباط، بيروت: دار الوحدة، 1982، ص226.
24 عرش المقدس، ص28.
25 سعيد بنسعيد. الأيديولوجيا والحداثة، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1987، ص113.
26 عرش المقدس، ص91.
27 مرسيا إلياد. مظاهر الأسطورة، دمشق: دار كنعان، 1991، ص33.
28 حديث الأربعاء. الجزء الثاني، القاهرة، 1976، ص64.
29 قضايا وشهادات. العدد الأول، قبرص، 1990، ص198.
30 Michael Walzer. La critique sociale au x x Siecle. Ed: metailie, Paris, 1995, P 32–33.
31 مرجع سابق، ص47.
32 مرجع سابق، ص255.
33 الشيخ متولي شعراوي. في تربية الإنسان المسلم، دمشق: منشورات دار النصر، لا تاريخ للطبعة، ص167 – 168.
34 محمد عبد الله عنان. تاريخ الجامع الأزهر، القاهرة: مؤسسة الخانجي، 1958، ص91.
35 أنور عبد الملك. نهضة مصر، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983، ص160.
36 مجلة الهلال، العدد الثاني عشر، السنة الخامسة والسبعون، كانون الأول 1967، ص210.
37 الكواكبي. طبائع الاستبداد، ص42–43.
38 رفاعة الطهطاوي. مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية، الطبعة الثالثة، القاهرة، 1912، ص373.
39 د.حسن حنفي. التراث والتجديد، بيروت: دار التنوير، 1981، ص34.
40 د. عادل حسين. نحو فكر عربي جديد، القاهرة: دار المستقبل العربي، 1985، ص30.
41 مرسيا إلياد. المقدس والعادي، بودابست: دار صحارى، 1994، ص88.
42 Yuri M. Lotman: Universe of the mind. I. B. Tauris publishers, London. New York, 1990, p 254–255.