تؤكد الفنون البصرية المعاصرة يوماً بعد يوم قوة حضور شكل فني جديد يتخذ من تعدد الوسائط التقنية الجديدة حقلاً له، وهو يتطلب درجة عالية من الوعي لتفنيده خاصة أنه مازال يتفاعل ولم يصل فى عالمنا العربي لدرجة من الاستقرار والبعد الزمني تساند محاولة تقيييمه والإحاطة به مما يجعل تلك المحاولة محفوفة بالحيرة يؤدي كل سؤال فيها لسؤال جديدة، مما يدفعنا لأن ننظر للفن المعاصر تلك النظرة القلقة التي تجبرنا على متابعة الشروط المتغيرة للفن وتجديد تحليلاتنا عنه دون انقطاع.
وأتذكر هنا موقف الفيلسوف الألمانى جادامر عندما قدم نظريته فى التأويل من منطلق رفضه لعدم قابلية العمل الفنى للإحاطة قائلاً:
"كانت حقيقة أن العمل الفنى يمثل تحدياً موجهاً إلى فهمنا لأنه يفلت دون حدود من كل تفسير، ولأنه يعترض بمقاومته التي لايمكن أبداً التغلب عليها، هي بالنسبة لي نقطة انطلاق نظريتي في التأويل" . حيث رفض جادامر فكرة تعالِي العمل الفني ، وأن الفنان فرداً لايحيط به الوصف. وأن تجربة المشاهد بمثابة استسلاماً منبهراً للعمل، مأخوذاً بتفرده الذي لايمكن التعبير عنه، وحاول وضع اتجاه فى التفسير يقوم على الفهم والحوار وينفر من إصدار الأحكام أو التقريرات أو الإجابات النهائية. في محاولة لإزالة حالة الاغتراب بيننا وبين الفن المعاصر. من نفس هذه الدائرة أقدم محاولة لإنارة بعض جوانب الفن المعاصر.
نعيش الأن أيام الحرية الثقافية، التي مارست فيها ثقافة الصورة سطوتها وتأثيرها على طريقة الحياه اليومية وطرق الحصول على المعلومات عن الواقع السياسي والإقتصادي والإجتماعي. وقد تنبأ العالِم الأنثربولوجى ليفي شتراوس بالوضع الحالى للعَالم في كتابه اللقاء بين العلم والأسطورة في ستينات القرن الماضي حين قال "من المحتمل أن يكون ما يهددنا الآن هو فرط الإتصال over communication أو النزوع إلى معرفة ما يجري، بدقة، في كل الأجزاء المختلفة من العالم، ومن أى نقطة فيه.
من هنا كانت اتجاهات الفن المعاصر تشير إلى النموذج الذي قدمته ثقافة الصورة التي تبثها الفضائيات طوال الوقت والتي مارست حضورها الفعال وأصبحت من مصادر التجربة الإبداعية للفنان في اتجاهه الفني ومفرداته وأشكاله وقضاياه وموضوعاته. وقاربت بين رؤى الفنانين على مستوى العالم لدرجة التداخل وغياب التفرد. حتى أصبحنا نجد أنفسنا في كثير من المعارض وكأننا داخل غرفة عمليات قناة إخبارية تلاحق الأحداث وتلهث وراء كل ما هو جديد ومثير، فالفعل الجمالي كما يقول إيردل جنكنز ليس منعزلاً عن البيئة بل يشكل جانباً من الإستجابة لعناصرها والتكيف معها.
وقد تحول الفن المعاصر إلى تقديم أشكال تعبر عن حضارتنا المعاصرة التي تفتقر للطابع الإنساني وتربط الإنسان بسياق آلي تحركه التكنولوجيا ونظم المعلومات؛ مما جعل من أهداف الفن المعاصر: الرغبة في تحرير العالم عن طريق تزويده بأشياء جديدة ومثيرة لاتمثل صورة لما هو معروف من قبل. ومن هنا أصبح الفنان يطالب المتذوق بأن يكون واعياً بأنه يتطلع إلى عمل فني يمثل لوناً من التحدي الصارخ لحياته النمطية ولمعرفته السابقة عن الفن ومفاهيمه المستقرة عن الجمال.
ومن الهام هنا أن نشير إلى أن الفن البصري المعاصر قد توجه بعد الحرب العالمية الثانية نحو نمطين في التعبير تربط بينهما منهجية واحدة، هما "البنية المبرمجة" و"الصورة المتبدلة حركياً" وهاتان الوسيلتان تقودان للأطراف الحدودية للفن، أي إلى حدود ما لم يعُد فناً، من هنا حدث تحولاً فى الرؤية الفنية فأصبحنا نجد "الشيئ المنظور" بدلاً من (العمل الفني)، و"المُبرمِج" (بدلاً من الفنان) و"المُشارِك" (بدلاً من المشاهد).
وفي هذا الإطار طرح المؤرخ والمنظـرالألماني المعاصر(ياوس) في ستينات القرن العشرين: فكرة "جمالية الاستقبال" التي أعطت معياراً لتحديد قيمة العمل الفني من خلال وقعه على المتلقين، سواء كان ملبياً لتوقعاتهم أو متجاوزاً لها، واعتبر أن المسافة بين "أفق التوقعات" وبين "الأفق المغاير" الذي تقدمه الأعمال الفنية الجديدة هي التي تحدد قيمة العمل: فكلما تضاءلت تلك المسافة بحيث لا يكون وعي المتلقي مطالباً بأي تغيير في تلقيه للعمل كلما فقد العمل قيمته واقترب من المجال الاستهلاكي. من هنا بدأ العمل الفني يتخذ مظهر الشيئ الغريب غير المتوقع، الذي يحدث صدمة، ويتعمد التأثير على انفعالات المتلقي وكسر توقعاته.
والحقيقة أن الرغبة العارمة لدى الفنان في إحداث التاثير وإثارة انفعال المشاهد ورجه بعنف، لها ما يبررها فى حياتنا المعاصرة حيث لم يعد هناك ما يجعلنا نتأثر فقد اصبحنا الآن نرى الأشلاء والانفجارات والانهيارات والأطفال الشهداء والكوارث والحصارات والإبادات الجماعية ونحن نتناول العشاء ونثرثر أمام التلفزيون. وأصبح تقديم اعمال فنية تحمل أي من لمحات أمل يبدو فى رأي العديد من الفنانين وكأنه نوع من تغييب الوعي والانفصال عن العالم، وتقديم أعمال تدعو للتامل والحلم نوع من الرومانسية الخائبة. فما أن ينتهى العالم من أزمة حتى يقع فى أزمة أبشع منها، حتى أصبحنا إما أن نصاب بالتبلد وإما أن نصاب بالشقاء الدائم ثمناً لاحتفاظنا بوعينا إنها معادلة مغلقة أربكت الفنان واقتربت به إلى حدود ما لم يعد فناً.
والفنان وسط دوامة الحياة المعاصرة لا بد و أن يخلق فناً يلاحق هذا التمزق والتشتت الذي اتسمت به تلك الحياة، وأن يحاول التغيير حتى يخرج على الناس هو الآخر كل يوم بشيء من نوع جديد. لقد قدم فن هذا العصر المعادل الطبيعي له؛ فإنسان هذا العصر مطارد من الزمن، متعجل لا يجد فسحة من الوقت للتأمل، وأصبح عليه أن يضحي هو الآخر بكل ما ورثه من قيم، يضحي بالمتعة العقلية التي يصرفها في التأمل، أو الإنصات إلى الموسيقى، أو قراءة قصيدة شعرية، وتحت شعار الجرأة والرغبة في البحث عن الجديد فقدت الكثير من القيم.
كذلك فإن تيارات النقد في فـنون ما بعد الحداثـة تعتبر أن المتلقي هو الذي يحـدد "القصدية" بناء على تصوره للشكل وتفاعله معه، وأصبح النقد لا يقوم على دراسة بناء الشكل في العمل الفني، وإنما على ردود فعل المتلقي نحوه. وربما أدى هذا إلى زيادة رغبة الفنان في إحداث تأثيرات صادمة لتحريك ردود فعل المتلقي وتصعيدها، مع مراعاة طبيعة المتلقي المعاصر المتعجل الذي ليس لديه وقت للتأمل والوقوف أمام العمل الفني، فظهرت الأعمال الضخمة التي تحتوي المتلقي داخلها وتفرض تأثيرها عليه، وتتوسل بالأصوات والأضواء لتأكيد هذا التأثير.
من هنا أصبحت الجرأة في العمل الفني تتم بشكل متعمد لإحداث هذه التأثيرات، إلا أن الجرأة في خدمة السطحية تجعلها واضحة، وتصل بالعمل الفني إلى مستوى العبث، وتضئ تلك الفراغات التي يخلقها انعدام القيم. وبناء على ذلك يصبح الفنان مجرد شخص مقدام جرئ على حساب أنه لم يعد فناناً. مع العلم أنه وكما يقول الكاتب الاسباني إدواردو جونزاليز لانوزا: أن الفنان المبدع الأصيل يمتلك تلك الجرأة الفطرية الأصيلة والموجودة بالفعل، وهو يدهشنا بما يحققه من نتائج دون أن يقصد ذلك، ودون محاولة الالتجاء إلى خدعة الجرأة الإضافية.
تلك الجرأة المفتعلة التي جعلت بعض الفنانين يغريهم الترقب المثير من جانب المتلقين لتقديم كل ما هو جديد. مما جعل الأعمال تفقد كل قيمة لها بعد المشاهدة الأولى التي عرف فيها المشاهد الفكرة الجديدة للعمل، وينتهي بذلك كل شيئ ولا يعد المشاهد يتذكر العمل الفني الذي أصبح مثل اللعبة الجديدة التي تفقد بريقها عند الطفل بعد اكتشافه لها، ويبدأ بعدها الضجر ومحاولة البحث عن لعبة أخرى جديدة، ويبدأ فى انتظار الجديد القادم. ولاشك أن جانب كبير من المتلقين الذين أرهقهم كثافة وتتابع الصورة التي يقدمها لهم الإعلام يتخذ هذه الجرأة كحافز لتحريك الخمول، وحالة الملل الدائم الذي يجعلهم مهيئون لتقبل الأشياء بسرعة وتركها بنفس السرعة أيضاً بحيث لا تترك أي أثر.
وأصبحت ما أن تدلف إلى قاعات العرض فى كثير من المعارض الكبرى حتى تتخاطف انتباهك الأصوات والضواء والصور المفككة المتباينة التي لايقيمها نسق، ميل إلى نفي النظام وإعلاء قيم الفوضى. رغبة عارمة فى استحضار الذات وفرض وجودها لدرجة تصل أحياناً لحدود الاستعراض فى وسط عالم لايحفل بالصامتين، عالم يصعب فيه الحضور، وعندما تتدافع الأفكار بالمناكب لابد أن يحدث الصخب.
وهناك مؤثر اخر على الفن التشكيلي العربي المعاصر بشكل خاص وهو الاستخدام غير الناضج للتقنية، وربما يكون مرد ذلك للأسف هو الإحساس بتخلفنا التقني الذي ما لبث أن شجع النزعة إلى عبادة التقنية، و قد أدى ذلك إلى ترقب دائم من جانبنا إزاء الغرب المتقدم تقنياً، خاصة فى ظل تنامي النزعة التقنية على الصعيد العالمي، لكننا ننسى أن الغرب يجرب ويترك لينتقل لتجربة أخرى بينما ما زلنا نحن نحتفي باتجاهات في الفن غادرها الغرب من ستينات القرن الماضى. وما زال الكثير من الفنانين يعتبر عمله الفني حقلاً يستعرض فيه بشكل مجمع ومكثف كل مايعرفه من إمكانيات للوسائط الجديدة دون أن يصل لمرحلة الانتقاء المناسب والتلخيص لصالح لغة التشكيل الأساسية.
كذلك فإن الفن التشكيلي اليوم يتقمص دوراً ليس دوره ، دوراً له أبعاداً سياسية متعددة، على الرغم أن الفن له دور أخر غير دور المظاهرة السياسية أو الإحتجاج الاجتماعي، فنحن لانريد فناً يعيد علينا عرض ما تبثه الفضائيات بلا توقف. بل نريد فناً مازال يحمل البعد الجمالي الذي يحقق لنا حالة من الإتزان تجعلنا نضع مسافة بيننا وبين مشكلاتنا حتى نستطيع أن نتأملها بدلاً من مزيد من الغرق فيها، فناً يتيح مسافة نفسية وعقلية لوعى وخيال المشاهد، لا فناً يستدرجه ويُغرقه مرة أخرى فى مساحة أو مجال أو نشاط مقتطع من الواقع فيخرج من تجربة المشاهدة بلا شئ، ويشعر أنه خُدع أو استهلك جزء من وقته بلا طائل، أو يشعر بالسأم والفتور لنه يحس حينئذ أنه أنفق جزء من عمره بدلاً من أن يسهم العمل الفني في الإضافة لعمره بما يمنحه إياه من أنواع جديدة من الوجود. أو كما يقول د. صلاح قنصوة ، يشعر أن وجوده قد انزلق إلى أشياء العالم، وران عليه التعب من جراء دورانه معها كجزء منها وأنه أصبح فى حاجة إلى انتزاع وجوده الخاص منها ليغمره فى عمل فني يستطيع الولوج من خلاله إلى عالم جديد يتنفس فيه أجواء الحرية.
فمشكلة العديد من الأعمال المعاصرة إنها تقدم أشياء مألوفة في الحياة اليومية المعتادة دون تغيير يذكر، لقد تنافت أقل الشروط التى يجب توافرها لإدراك أن ما نشاهده هو عمل فني. أو كمايقول الناقد م. نايمان: إنه فن يمكن أن تخطئه العين وتظنه الحياة. المفترض فى الفن أنه يحررنا من جميع أشكال العبودية فى الحياة اليومية. حيث أن خبرة الإبداع فى تذوق العمل الفنى تقوم على تكوين صورة من خلال بناء الانفعالات التى يقدمها العمل الفنى على نحو يخرجها من دائرة الانفعالات فى الحياة اليومية، ويدخلها فى دائرة الوعي والخيال الخلاق الذي يصوغها بدوره فى صورة جديدة. ويعضد الشاعر أدونيس هذا الرأي عندما يقول "لايكون الفن أو الإبداع عالياً إلا بقدر ما يزلزل الواقع فى حركة من التجاوز الخلاق نحو تكوين عالم أخر".
إن معيار الإبداع فى الفن هو قدرته على الانفلات من أسر لعبة الحياة اليومية والتحليق في آفاق جديدة، دائماً جميلة. من هنا إزدادت الهوة التى تفصل بين المشاهد وبين معظم فنون ما بعد الحداثة. و في الوقت الذي اقترب فيه الفن من الحياة اليومية واختلط العمل الفني بتفاصيلها ابتعد عن المتلقي، فلامانع من أن يستخدم الفنان مفردات الواقع المعاصر ولكن في واقع جمالي جديد يفاجئنا بصياغاته التي تحمل القيم الجمالية التي لها القدرة على البقاء والاستمرار، حتى نستطيع أن نقدم فناً له دلالته الكامنة التي لاتفسر فقط لصالح عصره لكن تبقى لتحمل دلالاتها لكل العصور. وهذا الذي يفرق الفن عن اللافن فعندما تداخل الفن في الواقع بدلاً من تداخله في الخيال خاطر بإطلاق سياق لن يستطيع السيطرة عليه. وعندما قلت إحالة العمل الفني إلى حقيقة أسمى إنسحق بالواقع ولم يعد فناً. وقد نتج عن ذلك تفكيك ذات الفنان أيضاً لتذوب فى مدار إملاءات الحياة المعاصرة. وأصبحت الأعمال الفنية تضعنا مرة أخرى فى أسر لعبة الحياة اليومية.
ونخلص فى النهاية إلى إشارة هامة هى أنه مهما كان الوسيط الذي يستخدمه الفنان فلابد أن يحمل العمل الفنى قيمته الجمالية، فالتجريب والإرتباط بالتيارات المعاصرة لا يعني تقديم فناً خالياً من القيم. فكل محاولة تريد أن تجرد الفن من بعده الجمالي مصيرها النسيان. وإن قوة العراك الحادث الآن فى قلب التشكيل العربي فى محاولات إحلال وتبديل دائم ستؤدى حتماً بعد مرورها بنضجها الزمني الواجب إلى تصفية الزائف، لتبقى القيمة تحفظها ذاكرة الفن الواعية.