يعد خوان رويث Juan Ruiz، كاهن هيتا، Areipreste De Hita بكتابه "الحب المحمود" Libro De Buen Amor من أكثر شعراء التروبادور (لفظة تروبادور مشتقة من الكلمتين العربيتين "تروبا" تعني: طرب، ودور) تأثراً بالثقافة العربية عموماً، وبكتاب "طوق الحمامة" لابن حزم على وجه الخصوص. ولد عام 1295 م في الجانب الإسلامي من الأندلس، ابنا غير شرعي لرجل ثري من بالنثيا، يدعى أرياس جونثالث. وقد أمضى والده خمسا وعشرين سنة في الأسر عند أحد المسلمين، وخلال فترة أسره عرض عليه سيده الزواج بجارية مسيحيّة كانت عنده، فتزوجها أرياس، وأنجب منها عدة أولاد. وقد شملت ملكة قشتالة وقتها ماريا دي مولينا برعايتها خوان رويث وتم إعداده كرجل دين(1) قام بعدة رحلات إلى إيطاليا وجنوب فرنسا –منطقة البروفانس– حيث مكنه ذلك من توسيع ثقافته والاطلاع على حضارات متنوعة، ومن ضمنها الثقافة العربية الإسلامية. عين كاهنا لمدينة سيوينثا ولم يتعد بعد الستة عشر عاماً، ثم بعد ذلك كاهناً لقرية هيتا.
الحب بنكهة عربية أندلسية:
ألف خوان رويت كتاب "الحب المحمود" أو "الحب الطيب" سنة 1330(2)، وبسبب هذا الكتاب "زج به في غياهب السجن لعدة سنوات عقابا له على مؤلفه"(3). وكان وراء سجنه الكردينال دون جيل مطران طليطلة(4). إلا أن هناك من يزعم أن هذا السجن "ليس إلا سجناً روحياً خالصاً، وهو سجن العالم الآثم"(5) ويكتنف حياته الكثير من الغموض، فقد "كان يمضي في الحانات وقتاً أكثر من الوقت الذي كان يمضيه في الكنائس، كما تحدث عن الحب والشعر والكأس أكثر مما صلى بالناس القداس"(6).
"الحب المحمود" قصيدة طويلة تزيد عن 1700 مقطع شعري، تدور حول الحب الإنساني في أسمى صوره وحالاته، وهو "معراج من الدنيوي إلى الديني، من الشهوة الدنيوية إلى غرض ضبط السلوك"(7)، إنه بذلك يجمع بين المدنس والمقدس، بين دعوة رغبات الجسد والروح، بين الإفراط والمبالغة في الحسيّة وطهارة الروح وبهذا فـ"إن كتاب القمص أثر عظيم يجعلنا نحس أن الرجل وعالمه لعبة ذات مظاهر تجري حول بعضها من أبيض لأسود، ومن براءة إلى دناسة ومن ميلاد إلى موت، ومن صلاة إلى حس"(8).
تخطى كاهن هيتا نظرة المجتمع الأوربي للمرأة في العصور الوسطى، وأشاد في كتابه بطابع الحب العفيف وسلطان الحب على النفوس. وبدأ الفارس يعبر عن هيامه للمرأة، يزاوج في ذلك بين قوته في الحرب وما يفرضه عليه الحب من تجاوز الأهوال وهدم الأسوار المادية والمعنوية التي صنعتها الكنيسة الكاثوليكية لتعميق الهوة بين الرجل وبين أخطار الحرب وأخطار الحب(9).
الأثر الإسلامي العربي واضح كل الوضوح في عمل خوان رويث، نتلمس ذلك على مستوى المضامين الشعرية والصياغة الفنية، وهو بذلك قام بعملية "استنساخ" الحب العربي، وزرع بذور الحياة في الحب الأوربي. ولأول مرة سنجد أن الشاعر الأوروبي، شاعر التروبادور بالأخص، يتحدث عن نفسه وما يقاسيه من عذاب لإرضاء الحبيبة المتمنعة. "ويظهر الأثر العربي واضحاً وقوياً، كذلك، عند خوان رويث المعروف (أرثيبرستى دي هيتا) أي: نائب الأسقف بناحية هيتا (منتصف القرن الرابع عشر)، وهو أول شاعر غنائي كبير، في الإسبان وأكبر شخصية شعرية في عصره. ويبدو لنا ذلك بوضوح في مواضيع مختلفة من كتابه المسمى "كتاب الحب الطيب" وفي رسمه الألفاظ العربية بحروف لاتينية بدقة جيدة. وقد أشار الى ذلك أيضاً كل من دوزي والكلمان وأيكيلاث(10). فالحب أصبح على يدي هؤلاء الشعراء التروبادوريين مصدر كل خير وجمال ورقي نفسي وروحي، "والعاشق فيه يرتفع بمعشوقته إلى درجة الألوهية"(11).
يرصد الكاتب وليد صلاح الخليفة، في مقاله -البصمة العربية لكتاب الحب الطيب Impronta Arabe Del Libro De Buen Amor جامعة Autonoma، مدريد- أهم العناصر العربية الإسلامية في كتاب "الحب الطيب" لخوان رويث، ويقف عند نقط التشابه بين "طوق الحمامة" لابن حزم و"كتاب الحب الطيب"، وهو يرى بأن هذه المهمة صعبة لأنه سبق أن قارن بين الكاتبين كل من أميريكو كاسترو Americo Castro وشانشث ألبورنوص Sanchez Albornoz.
لقد عاش راهب هيتا في ظل الثقافة الإسلامية، طوال عمله راهبا في مدينة توليدو Toledo، المدينة المطبوعة بتعددية الأجناس والثقافات و العادات وأنماط العيش وهو ما أعطاها بعداً سياسياً وثقافياً، إذ لم تكن توليدو في تلك الفترة مركزاً سياسياً لقشتالة Castilla فقط، بل كانت في فترة حكم ألفونسو العاشر مركزاً ثقافياً لإسبانيا كلها.
التمازج الإثني والثقافي، ساهم إلى حد كبير في غنى وتنوع ثقافة خوان رويث وقد "وظف كل عنصر ثقافي وجد في الفترة التي عاش فيها، كتوظيفه للعنصر الكلاسيكي والأوروبي والمسيحي، والمسلم واليهودي، في تكامل بديع لا نجد له مثيلاً في أدب القرون الوسطى" على حد تعبير رود ريغيث بويرتولاس.
تعددت الرؤى، واختلفت في تقييم علاقة "الحب الطيب" و"طوق الحمامة" ومدى تأثير الثاني في الأول، بحكم الأسبقية الزمنية من جهة والأثر الذي خلفه "الطوق" في الثقافة العربية بالأندلس. لقد عاش ابن حزم ما بين سنتي 994 م و1064م في حين عاش خوان رويت ما بين سنتي 1295 م و1333م، كلاهما تناول موضوع الحب، وكلاهما انطلق من تجربة ذاتية، إلا أن نقط التشابه بينهما عديدة.
إن الناقد الإسباني خوصي أورتيغا إي غاست Jose Ortega y Casset لا يعترف بتأثير كتاب خوان رويث "بطوق الحمامة"، مدعماً رأيه بالقول بأن ماهية الحب عند العرب تختلف عن ماهية الحب في الغرب في العصور الوسطى. وحسب إميليو غارسيا غومث E.Garcia Gomez، يلتقي الكتابان في تحديدهما لعلامات الحب، وحضور الوسيط/ السفير.
ويؤكد أميريكو كاسترو Americo Gastro أن صاحب "الحب المحمود" أصبغ كتاب "طوق الحمامة" بصبغة مسيحية، ومزج فيه بين البهجة والبعد التعليمي الإرشادي، وهي أدلة قاطعة على أن خوان رويث عاش في ظل الحياة الأدبية الإسلامية وتشبع بها.
عارض سانشيث ألبورنص Sanchez Albornoz موقف كاسترو بنفي البصمات العربية في كتاب "الحب المحمود" رافضاً أي وجه شبه بين الكاتبين، وهو بذلك يتبنى فكرة غارسية غومث الذي لايؤمن بوجود أثر كبير ومباشر للطوق في كتاب راهب هيتا.
إن جاذبية كتاب "طوق الحمامة" لابن حزم الأندلسي تتأتى من المواضيع التي عالجها بدون قيد أو شرط وتتأتى أيضاً من القدرة على مخاطبة العقول والأفئدة بلغة يفهمها الجميع: لغة القلوب والوجدان، محطماً بذلك جدار الحشمة، وباعثاً في الأنفس الحيوية التي افتقدتها في ظل ظروف سياسية قاسية. الغرب بدروه سيتلقف الكتاب، وسيعيد رسم الحدود المصطنعة بين الرجل والمرأة، وكتاب خوان رويث، وغيره ليس بدعاً، إنما أملته سيرورة الحياة. تأثير "الطوق" في "الحب المحمود" حاصل بالقوة، لكن درجته تختلف من ناقد لآخر بحسب التوجيهات والمقصديات البريئة منها وغير البريئة. لكن ما لا يختلف فيه الجميع هو أن ابن حزم "أول من أكسب الحب معناه كعاطفة وهوى في تاريخ الثقافة الإنسانية على العموم"(12).
يتأسس كتاب "الحب المحمود" على قصدية تناصية تتخذ من نص "طوق الحمامة" أنموذجاً للتفاعل النصي. ويتبين ذلك من خلال عدة تمظهرات:
الحب بضمير المتكلم: صاغ ابن حزم، طوق الحمامة بضمير "الأنا"، هذه "الأنا" التي نجدها منذ المفتتح إلى نهاية الكتاب، وهي أنا ردمت الفجوة بين الموضوع –المرأة– والذات المتكلمة بصدق يتلقف خوان رويث هذه الصيغة الجديدة في الخطاب الأدبي، ويعبر عنها بواقعية جديدة على الآداب الأوروبية "وكتابه يعدّ لذلك أحد المعالم الهامة على طريق الواقعية التي بدأت في الأدب الإسباني بملحمة السيد"(13). يقول خوان رويث:
وأنا كرجل، مثل الآخرين، خطاء
قد كان لي مع النساء صولات وجولات:
تجربة المرء للأشياء ليست سيئة طالما كانت طريقا
لمعرفة الحسن من القبيح واختيار الأفضل"(14).
الصيغة الأوتوبيوغرافية Autobiographie التي يتأسس عليها نص خوان رويث "ليست لها أية علاقة، وعلى وجه التأكيد التعاليم المسيحية في العصور الوسطى، إنما تعبير على نمط أسلوب السيرة الذاتية في الأدب العربي"(15).
المرأة بين الحسي والمثالي:
احتذى خوان رويث ابن حزم في تصوره لعلاقته بالمرأة، واغترف من معين "الطوق" ما يشبع نهمه، وما يثير في متلقي نصه الإحساس بإنسانيته، وما "يروض قلبه حتى لا يصدأ(16)، فيدخل عليه البهجة والانشراح. إن كتاب "الحب المحمود" يعلن عن موضوعه منذ العنوان المركزي، ويقيم تعارضاً بين شكلين للحب: (الحب المحمود، والحب المذموم). ابن حزم يفرق بين الحب الطيب والحب الحسي، فصاحب الحب الأول معصوم من الله، بينما صاحب الحب الثاني خاضع لقدره النابع من أن الحب علاقة مع امرأة مصدر للخير والشر، وفي كلتا الحالتين فالدين لا يمنع الحب وهذا التفكير إسلامي"(17).
بكلمات معسولة وإيماءات خداعة
يعد الرجال في الحب ويمنون بالكثير
وللوفاء بما وعدوا، يغافلون الضمير
يطمعون في الممتلكات التي لم يربحوها
وبدافع الطمع يسطو كثير منهم على ما يخص الغير
لأنهم جعلوا أجسادهم وأرواحهم تهفو إليه(18)
يتناسل نص خوان رويث و"طوق الحمامة" بتغليب معاني الحب المختلفة، وتتزين المرأة بطقوس تعبدية، مزاميرها الوفاء، والابتعاد عن الخداع والخيانة وشهوة الأجساد. التناص بين "الحب المحمود" و "الطوق" حاصل لأن اللاحق امتص السابق وحوله تارة بالتواتر(19) أو بالإيجاز(20).
يستعير خوان رويث معاني الوفاء الواردة في "باب الوفاء" في "الطوق" على أن هذه الاستعارة تنمو تباعاً، وتتوسع ليشكل "الحب المحمود" "استعارة كبرى" لابن حزم، يحاول إزاحة النص الأصل بتغييبه تارة وبالعمل على تنحيته وامتصاصه أخرى، إلا أن النص المزاح يحضر عبر التماهي وفي "دم النص"، بإتجاه للعمق، في مكوناته العضوية. ومن ثمة تختفي المتفاعلات وتظهر النواتج: نص "الحب المحمود". يقول ابن حزم: "وللوفاء شروط على المحبين لازمة: فأولها أن يحفظ عهد محبوبه ويرعى غيبته، وتستوي علانيته ويطوي شره وينشر خيره، ويغطي على عيوبه ويحسن أفعاله، ويتغافل عما يقع منه على سبيل الهفوة ويرضى بما حمله ولا يكثر عليه بما ينفر منه"(21).
تحولت فكرة: "حفظ عهد المحبوب ورعاية غيبته" إلى "وللوفاء بما وعدوا، يغافلون الضمير"، وبذلك تتم عملية المعارضة، بالاختلاف والتحويل. الاختلاف عن النص المعارض، وتحويله في ذات الوقت "وليس القول باختلاف النص المعارض ذلك التحويل التام لمكونات النص المعارض حتى لا علاقة ولا شبهة بينهما، بل هو التحويل الذي يظل فيه النص النموذج طاقة تفجير لنصوص لاحقة ومصدر توليد لها"(22). والتحويل يخلق مسافة ما بين النص المعارض –بقتح الراء– والنص المعارض –بكسر الراء– هذه المسافة تعمق أفق انتظار القارئ وتغوص به في لذة النص "كذلك شأن النص: يبعث في لذة أحسن إذا تمكن من أن يجعلني أنصت إليه بكيفية غير مباشرة، إذا ما دفعني، وأنا أقرؤه إلى أن أرفع رأسي عاليا وأن أسمع شيئا آخر"(23).
خيانة الرسول
تعرض ابن حزم في كتابه "طوق الحمامة" في "باب السفير" لدور الرسول بين المحبين وصفاته، وكيف يتم اختياره "ويجب تخيره وارتياده واستجادته واستقراره، فهو دليل عقل المرء، وبيده حياته ومودته، وستره وفضحه، بعد الله تعالى"(24). يقول خوان رويث:
من شده حرصي على أن تكون لي
طلبت من فرناندو جارثيا
أن يكون سفيري إليها
وأن يكون لطيفا معها(25)
وقد حذر ابن حزم من بعض سلوكيات سفراء المحبين، ودعا إلى حسن انتقائهم "فينبغي أن يكون الرسول ذا هيئة، حاذقا يكتفي بالإشارة (…) ويضع من عقله ما أغفله باعثه (…) كاتما للأسرار (…) ومن تعرى من هذه الصفات كان ضرره بمقدار ما نقصه منها"(26) وفي هذا المعنى يقول خوان رويث:
قال إنها وافقت هواه
وجعلها محظيته
تركني أجتر النخالة
وآكل الخبز الأكثر حلاوة
وعدها عملا بنصيحتي
الخائن المزيف الكاذب(27)
لقد نبه ابن حزم إلى دور النساء والعجائز في ربط الاتصال بين المحبين، والتقريب بين المتباعدين بينهم زمانيا ومكانيا وعاطفيا: "وماأكثر هذا في النساء ولا سيما ذوات العكاكيز والتسابيح والثوبين الأحمرين"(28). ولعل خوان رويث، وهو الخبير بالثقافة العربية الإسلامية، والمتأثر بكتاب الطوق، لم يجد حرجا في "نقل" معاني الطوق بشكل مباشر وصريح:
إذا لم تكن لك قريبة بهذه المواصفات، فابحث عن إحدى
العجائز
اللاتي يرتدن الكنائس ويعرفن الشوارع والحارات:
إنهن يحفظن كثيرا من الحكايات، ويعرفن المداخل.
والمبررات.
وعندهن من سحر موسى ما يفتن الآذان ويحرك الغرائز(29)
الإشارة إلى النساء العجائز، جعل نص خوان رويث يدور في فضاء النص الحزمي ويقتبس منه، بل لا يستطيع أن يتحرر من "أسر" معانيه، وطاقته الإيجابية. ولا بد من التأكيد على أن التأثير لم يقتصر على المعاني، بل يتجلى في الأسلوب الفني الممثل في الصياغة الحكائية: الشخصيات، وفي الصور الشعرية المستمدة من المخيلة العربية الثرة، وبذلك يحقق "التفاعل النصي" فاعليته "السحرية" بامتصاص النص الحزمي وتحويله وتحويره استجابة لرغبة المتلقي الغربي المغاير للمتلقي العربي.
الجمال الأنثوي
حدد ابن حزم معايير الجمال الأنثوي في:
أ- (الشعر الأشقر): يقول: "وعني أخبرك أني أحببت في صباي جارية لي شقراء فما استحسنت من ذلك الوقت سواد الشعر"(30).
وقد سار خوان رويث على نفس خطى سابقه، إذ يقول:
"فتش عن إمرأة ممشوقة القد، صغيرة الرأس
جدائلها صفراء، ليس من أثر الحناء"(31).
صدى ابن حزم واضح في اختيار خوان رويث لمقياس الجمال الأنثوي، فهو يقدم لقارئه مواصفات المرأة المرغوب فيها:
"تخيرامرأة مليحة، جميلة وناضرة
لا تكن طويلة جداً، ولامفرطة في القصر
وبقدر الامكان ابتعد عن الفظة المنحطة
لأنها في الحب جاهلة، وفوق هذا حمقاء متكاسلة
فتش عن امرأة ممشوقة القد، صغيرة الرأس
جدائلها صفراء، ليس من أثر الحناء
الحاجبان متباعدان، طويلان مقوسان،
عريضة الأرداف غير إسراف: هذا قوام المعشوقة
الأمثل"(32).
هذه المعايير، تتردد في "الطوق" في وصف ابن حزم لزوجته "نعم" وللجارية التي عشقها وهو لم يتجاوز بعد سن السادسة عشر من عمره(33)، ومعنى ذلك أن كتاب "الحب المحمود" يمثل من جهة استمرارا لـ"تاريخ الأفكار" العربية في رحلتها خارج الأدب العربي، ومن جهة ثانية فالطوق هو "الرئة" التي يتنفس بها العمل الأدبي لخوان رويث إن "الذاكرة اللغوية والتراثية تكاد تنفي عن كل إبداع ادعاء الاستقلالية عن النماذج المؤثرة، كيفما كانت مستوياته وأصوله القومية والأجنبية"(34).
لعب طوق الحمامة دور "الوسيط" الفعال في نقل الثقافة العربية إلى خارج أسوار العالم العربي، وبذلك استطاع أن يحقق سلطة رمزية وأدبية وأن يخلف لغة إنسانية مشتركة.
كرر خوان رويث تيمات "الطوق" التي أضحت مكوناً أساسياً من لحمة ونسيج "الحب المحمود". تشرب خوان معالم الحضارة العربية كغيره من شعراء التروبادور، وانفتح على ابن حزم مستحضراً تجربته الذاتية ليجعل منها أفقا أسس عليه تجربته الإسبانية "إن الشعر الشخصي والمباشر في طوق الحمامة يظهر في كتاب الحب الطيب كفجوة شديدة الوضوح، فما هو عند ابن حزم (شعر باعث للحياة) سيصير عند خوان رويث شعرا لموضوعات وشخوص (ذات أسلوب) خلاله لا يجرؤ على إبراز الإنسان المحدد الذي يعيش في المكان والزمان"(35) لايمكن الادعاء باستقلالية نص "الحب المحمود"، ومالا يغيب عن الأذهان أن "طوق الحمامة" شكل خلفيته التناصية في أجلى صورها فخضع من ثمة لقوانين الحب العذري العربي من: التدلل، العفة، المثالية .. وبهذا "يمكن اعتبار التأثيرات حركة انطولوجية تستهدف بكينونتها الحفاظ على حس مشترك، وكليات إنسانية تتفاوت قيمها عبر العصور والفضاءات"(36).
عبر "الحب المحمود" أبحر "طوق الحمامة" إلى الشاطئ الغربي، ووجد صدى طيباً لدى الأدباء والمفكرين الغربيين، بل يعتبر حسب المستشرف الإسباني، إميليو غرسية غومث "حجر الزاوية في موضوع تأثير الأدب العربي في الأدب الأوروبي"(37). فعل المثاقفة بين الأدب العربي والأدب الغربي أثمر مجموعة من الأعمال الأدبية لم يكن ليبدعها هذا الأدب لولا احتكاكه بالثقافة العربية الإسلامية(38).
الألم وفقدان النوم:
يستحضر خوان رويث، وهو يكتب "الحب المحمود" "طوق الحمامة" بل إن "الطوق" هو الخليفة النصية النواة التي تفاعل معها، وأنتج الدلالات/ التيمات عينها التي يقدمها لنا ابن حزم في كتابه. تحضر تيمة الألم وفقدان النوم في "الحب المحمود" عبر حوار بين السارد والحب –كل حكاية من حكايات طوق الحمامة يمكن اعتبارها قصة قائمة بذاتها، ونفس الأمر يمكن أن ينطبق على المقاطع الشعرية في الحب المحمود– يقول خوان رويث:
سأحكي لكم عن مشاداة حدثت لي في ليلة
متفكراً في قدري، غاضباً، ليس بسبب الخمر
رجلاً وقوراً، جميلاً، رزيناً جاءني
سألته: من أنت ؟ أجابني: "أنا الحب جارك"
بكل غضب لعنته،
قائلاً: "إن كنت أنت الحب، لاتستطيع أن تكون هنا،
أنت مخادع، كاذب، خدعت الكثيرين.
(…)
تصير الكثيرين حمقى بسبب معرفتك
تفقدهم النوم، الأكل والشرب(39)
جاء الحديث عن الألم وفقدان النوم، في مواضع متعددة من الطوق، أهمها ماورد في الباب الثاني، علامات الحب. "ويعرض للصادق المودة أن يبتدئ في الطعام وهو له مشته فما هو إلا وقت ما يهتاج له ذكر من يحب صار الطعام غصة في الحلق وشجي في المرئ (…) وآية ذلك الوجوم والإطراق وشدة الانغلاق، فبينما هو طلق الوجه خفيف الحركات صار منطبقا متثاقلا حائر النفس جامد الحركة يبرم من الكلمة ويضجر من السؤال"(40).
جاء في الحب المحمود لخوان رويث:
أذهبت عقول الكثيرين بعلومك ومعارفك
جعلتهم يتركون الطعام والشراب ولا يزور النوم لهم جفونا(41)
الحب والجنون:
كثيرة هي أحاديث حمقى الحب في طوق الحمامة، نجتزئ منها "أن سبب جنون يحيى بن محمد بن عباس بن أبي عبدة بيع جارية له كان يجد بها وجداً شديداً، كانت أمه أباعتها وذهبت إلى إنكاحه من بعض العامريات"(42). الصور عينها تتكرر في "الحب المحمود"، و"الكون الشعري" الحزمي يعاد تشييده بلغة جديدة، لكن بأمانة أدبية، وإن لم يصرح بها. فخوان رويث وهو بعيد صياغة "أطروحة الحب" العربي بحثاً عن مثالية متجسدنة في واقع كنائسي يحارب العفة، والوفاء، إنما يفعل ذلك وهو متيقن أن سفينة الحب لن ترسو، هكذا، في كتابه هذا -الحب المحمود- إنها الشرارة التي أيقظت الحس العاطفي الأوربي وترجمت من ثمة حقيقة المشاعر الحية، المكبوتة. يقول خوان رويث:
"حب لايصلح لجميع السيدات:
لاتحب النساء اللاتي لا يوافق هواهن هواك
إنه حب بوار، مصدره خبل عظيم
سيظل دائماً تعيساً من يضع أمله في المظنون"(43).
الحب والكلمة الطيبة:
يقدم لنا ابن حزم نموذجاً من نماذج العشق المثالي الذي جمع بين أخيه أبي بكر وزوجته عاتكة بنت قند "وكانا في حد الصبا وتمكن سلطانه تغضب كل واحد منهما الكلمة التي لاقدر لها"(44).
يشخص خوان رويث حالة التعاتب تلك بتقديم الحب نصائح للكاهن:
السب ولو قليلاً يضيع الحب الكبير.
ومن المشداة القصيرة تولد الظغائن الدفينة.
وبقول غير لائق يفقد التابع سيده.
بينما الكلم الطيب يرفع إلى عنان السماء(45).
يستلهم كاهن هيتا المعاني الجليلة للحب من ابن حزم، كما يضمن كتابه مقاطع شعرية تنبئ عن جدل الحب العفيف والحب الفاحش، وهو جدل لم يستطع ابن حزم التخلص منه، حينما كشف، في الطوق، عن ممارسات جنسية شاذة، وحينما أشار في أكثر من مناسبة إلى الأعضاء التناسلية للرجل، وكأنه بذلك يمثل جانبين من حياة الإنسان الأندلسي، الخفي منها والظاهر.
يستثمر خوان رويث "طوق الحمامة" ويحاوره تضميناً واستنساخاً، ومعارضة، ويفتح أفقا للقراءة لاينتهي –الأفق– بمجرد التناص مع النص العربي، بل من خلال الامتداد والتوالد في نصوص لاحقة، غربية أساساً: نذكر هنا "ملحمة السيد"، و"دون كيخوته" لسرفانتس، و"الكوميديا الإلهية" لدانتي.
(باحث، كلية الآداب والعلوم الإنسانية الرباط)
(عن صدانا الثقافية)
الهوامش
(1) علي عبد الرؤوف البمبي، مختارات من الشعر الإسباني، العصور الوسطى، الجزء الأول مطبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 2007، ص61.
(2) أميريكو كاسترو، حضارة الإسلام في إسبانيا، ترجمة سليمان العطار، الدار الثقافية للنشر ط1/2002، ص77.
(3) علي عبد الرؤوف البمبي٬ نفسه٬ ص64.
(4) أميريكو كاسترو، نفسه ص118.
(5) نفسه، ص 118/119، رأي "ليوسبيتزر".
(6) علي عبد الرؤوف البمبي٬ ص64.
(7) أميريكو كاسترو، نفسه ص79.
(8) نفسه٬ ص97.
(9) محمد عنيمي هلال، الأدب المقارن، دار العودة ودار الثقافة بيروت الطبعة 5، دون تاريخ النشر، ص205.
(10) حكمت علي الأوسي، فصول في الأدب الأندلسي في القرنين الثاني والثالث للهجرة، مكتبة المعارف الرباط، ط 4/1983، ص198.
(11) عبد الهادي زاهر، صلة الموشحات والأزجال بشعر التروبادور، مكتبة الآداب القاهرة ط1999/2000، ص124.
(12) فاروق سعد، ابن حزم الأندلسي، طوق الحمامة في الألفة والألاف، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان ط1975، ص43.
(13) عبد الرؤوف البمبي، نفسه، ص68.
(14) نفسه، ص78.
(15) أميريكو كاسترو، نفسه٬ ص88.
(16) تعبير لابن حزم، ورد في طوق الحمامة في الألفة والألاف٬ ص46.
(17) امير يكوكاسترو، نفسه٬ ص83.
(18) علي عبد الرؤوف البمبي، ص83-84.
(19) التواتر كما يعرفه محمد مفتاح في "الخطاب الشعري إستراتيجية التناص: إعادة نماذج معينة وتكرارها (…) لقوتها الايجابية"، دار التنوير للطباعة والنشر ط1/1985، ص134.
(20) الإيجاز، عرفه محمد مفتاح بالقول؛ "على أننا نخطيء إذا نظرنا إلى المسألة من وجه واحد وقصرنا عملية التناص على التمطيط" نفسه٬ ص127.
(21) طوق الحمامة في الألفة والألاف، تقديم وتحقيق إحسان عباس دار المعارف للطباعة والنشر، سوسة، تونس، ط2/2001، ص198.
(22) محمد مصفار، التناص بين الرؤية والإجراء، ص424، نقلاً عن: عبد القادر بقشي، التناص في الخطاب النقدي والبلاغي، دراسة نظرية وتطبيقية، منشورات أفريقيا الشرق ط 2007، ص79.
(23) رولان بارت، لذة النص، ص79، ترجمة: فؤاد الصفا، الحسين سبحان، دار توبقال للنشر، ط2، 2001، ص31.
(24) طوق الحمامة في الألفة والألاف، ص130
(25) مختارات من الشعر الإسباني، العصور الوسطى، ترجمة علي عبد الرؤوف البمبي٬ ص54.
(26) طوق الحمامة، ص130.
(27) مختارات من الشعر الإسباني، العصور الوسطى، ص79-80.
(28) طوق الحمامة، ص130-131.
(29) مختارات من الشعر الإسباني، العصور الوسطى، ص89.
(30) طوق الحمامة، باب من أحب صفة لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها، ص119.
(31) مختارات من الشعر الإسباني، العصور الوسطى، ص88.
(32) نفسه، ص89.
(33) انظر باب "من أحب صفة لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها" ص119، "وباب السلو" ص238.
(34) سعيد علوش، مكونات الأدب المقارن في العالم العربي، دار الكتاب اللبناني ودار الكتاب العالمي، الطبعة 1 السنة 1987، ص458.
(35) أميريكو كاسترو، حضارة العرب في اسبانيا، ص110.
(36) سعيد علوش، نفسه٬ ص457.
(37) الطاهر أحمد مكي، دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة، دار المعارف مصر، الطبعة4، 1993، ص248.
(38) نذكرها هنا على سبيل المثال لا الحصر : ملمحة السيد، ودون كيخوته لسرفانتس.
(39) طوق الحمامة، ص96-97.
(40) مختارات من الشعر الاسباني، العصر الوسيط، ترجمة علي عبد الرؤوف البمبي٬ ص81.
(41) طوق الحمامة، ص231-232.
(42) مختارات من الشعر الإسباني، العصر الوسيط، ص87.
(43) طوق الحمامة، ص248.
(44) مختارات من الشعر الإسباني العصور الوسطى، ص86.
المصادر والمراجع
- إحسان عباس، طوق الحمامة في الألفة والألاف، تقديم وتحقيق دار المعارف للطباعة والنشر،سوسة، تونس، ط2/2001.
- أميريكو كاسترو، حضارة الإسلام في إسبانيا، ترجمة سليمان العطار، الدار الثقافية للنشر ط1/2002.
- حكمت علي الأوسي، فصول في الأدب الأندلسي في القرنين الثاني والثالث للهجرة، مكتبة المعارف الرباط، ط 4/1983.
- رولان بارت، لذة النص، ترجمة: فؤاد الصفا، الحسين سبحان، دار توبقال للنشر، ط2، 2001.
- سعيد علوش، مكونات الأدب المقارن في العالم العربي، دار الكتاب اللبناني ودار الكتاب العالمي الطبعة 1 السنة 1987.
- الطاهر أحمد مكي، دراسات عن ابن حزم وكتابه طوق الحمامة، دار المعارف مصر، الطبعة 4/1993.
- عبد القادر بقشي، التناص في الخطاب النقدي والبلاغي، دراسة نظرية وتطبيقية، منشورات أفريقيا الشرق ط 2007.
- عبد الهادي زاهر، صلة الموشحات والأزجال بشعر التروبادور، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1999/2000.
- علي عبد الرؤوف البمبي، مختارات من الشعر الإسباني، العصور الوسطى، الجزء الأول مطبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، طبعة 2007.
- فاروق سعد، ابن حزم الأندلسي، طوق الحمامة في الألفة والألاف، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان ط1975.
- محمد عنيمي هلال، الأدب المقارن، دار العودة ودار الثقافة بيروت الطبعة 5.
- محمد مفتاح، الخطاب الشعري إستراتيجية التناص، دار التنوير للطباعة والنشر ط1/1985.