ثمّة شخصيّة واضحة للمسرح. ثمّة شخصيّة واضحة للإعلام. شخصيّة نموذجيّة هنا. شخصيّة نموذجيّة هناك. غير أنّ شخصيّة المسرح تحرض على الفضائل لدى الإنسان. غير أنّ شخصيّة الإعلام تحرّض على الفضائل لدى الإعلامي. لا تحرّض على الفضائل لدى المسرحي. بل تُثير المشاعر المتناقضة بدون أن تثير المشاعر النبيلة. أشير هنا إلى الصراع الأزلي بين الإعلامي والمبدع بحركة هي حركة عكس الطبيعة لأنّ قوّة الإعلامي من حضور المسرحي. يفترض هنا أن تبان قوّة المسرحي من قوّة الإعلامي في حضوره في كواليس المسرح وفي صالات المسرح. لبنان نموذج ذلك. أحسب أنّ النموذج هذا ينسحب على دول عربيّة كثيرة في المشرق والمغرب والخليج وعند ضفاف المتوسّط. يقوى الإعلامي على المسرحي بعيدًا من تراجيديا تبادل القوّة على الشيء بدل تبادله في صدع الشيء.
استقرّت الحال في لبنان على صورة واضحة دراميّة في آن. إذ أضحى الصراع دراميًّا بين النقد والمسرح. لا إبداع هنا. إنّها لعبة تبادل مشاكل بلا حلول. ذلك أنّ العلاقة المتبادلة بين الناقد والمسرحي هي علاقة صراع مع الطبيعة. ليست كذلك. أضحت كذلك. حيث أنْ لا نقد في غياب المسرح. المسرح مادّة النقد. لا حضور لناقد في غياب مسرحي. بيد أنّ مكوّن الخلايا الحيّة هذا يغيب في العقائد الدارجة بين الاثنين. الناقد أكثر. وهي عقائد لا دينيّة ولا قوميّة ولا وطنيّة. هي عقائد انشقاقات مختلفة. بذا: ينتج عالم المسرح تفرّعات زائفة ومهجّنة. تفرّعات مبرمجة تُصيب أعماق الخلايا الحيّة في المسرح وعند الناقد أو الإعلامي. أصبح عالم النقد بائسًا ومضحكًا ومثيرًا للأشجان. بدل أن يضحي عالمًا طيّبًا ومنتجًا. لأنّه يفتقر إلى المجد بلا تفخيم الكلمة وبلا بلاغتها. أشير إلى الإعلامي والناقد في الآن نفسه، في غياب النقّاد وكثرة وتكاثر الإعلاميين في عمليّات تصنيع الأنماط المسرحيّة. الأنماط البطوليّة والأنماط غير البطوليّة. يُنتج الإعلامي أنماط المسرح بدل أن يفكّكها ويُعيد تركيبها بحسب حاجته وليس رؤيته. لأنّه بلا رؤية وبكثير من الحاجات. أولى الحاجات هذه إزالة الحدّ الفاصل بين المسرحي وبين الناقد. يميل الحدّ هذا إلى تصوير المسرحي في حجمه. ما يريده الإعلامي أن يضحي في حجم المسرحي أو أن يفوقه حجمًا في كتاباته أو متابعاته. متابعاته أكثر. لأن جُلّ الكتّاب هم متابعون بلا اختصاص. كتّاب. كتبة بتعبير أدقّ. هذا كلام تجربة بعد كتابة النقد المسرحي في صحيفة يوميّة على مدى 22 عامًا.
لا عقل ولا معقول في عالم المسرح. بحيث يراوح العالم هذا بين الدنس والخطأ. الدنس صفة من صفات الإعلامي. الخطأ صفة من صفات المسرحي. لأنّ الكثير من المسرحيين أرادوا دخول الأسطورة بقتل النقد كدين مسرحي. أو قتل دين الناقد. ثمّة من هو إله طالما هو مسرحي. أعرف الكثيرين ممّن لا يرضون بصفات أقلّ من ملك المسرح أو ملكة المسرح. أو تجمّع بشر في فرد هو المسرحي. أو المبدع الكبير أو الممثّلة المجيدة. أو الفرد في تجمّع بشر. أو الطفل في مساري تؤدّي إلى كلّ شيء. إلاّ لذّة الاكتشاف. هكذا يتواطأ المسرحي مع الإعلامي الجديد. الإعلامي في المناسبة صفة بلا لحم وبلا دم. أي صفة بلا مكوّن. صفة بلا مكوّنات. هكذا افتقد النقد إلى النقّاد في حضور الإعلاميين. إعلاميّو وصف أو تقرير أو رواية أو إخبار. إعلامي في تضاؤل قوّة رهيب. إعلامي بلا سبب وبلا هدف وبلا قدرة. بقسوة موصوفة: أصبح الناقد طالب صنف بدل قارئ صنف. هذا مثال: يشقى المسرحي في بناء مسرحيّة عبث أو لامعقول. لا عبث ولا مسرح معقول في المسرح عند الإعلامي. لا تغريب في المسرح عنده. ولا واقعيّة سحريّة ولا سريلة ولا فانوس سحري. عنده: بيسكاتور ليس جاره. بل عدوّه. عنده: مسرح الواقع هو المسرح. يقود الإعلامي المسرح إلى واقعيّة المسرح المفضّلة لديه. هكذا: يقلب الإعلامي أو الناقد طيّة المسرح إلى بطانة شخصيّة. هاوي المسرح الواقعي أو الواقع في المسرح أو العلبة الإيطاليّة بدون أن يمحص في شروط العلبة الإيطاليّة. لم يسمع على الأرجح بالعلبة الإيطاليّة. عنده: العلبة علبة. لا عمق. لا مطلب ولا ضرورة لفهم حدود ومساحة ومعنى ومفهوم العلبة الإيطاليّة. يغيّب الإعلامي الحقائق أو الوقائع بطروحات بائسة ويائسة أو كئيبة ومتوتّرة ومرتابة وشكّاكة ومهووسة ومتطيّرة ومتشائمة. بروح متكسّرة، يغيّب كلّ ما يخصّ الاتّصال في صالح الانفصال. يغيّب كلّ ما هو تقني، لكي لا نشير إلى الأكاديميّة. لأنّ الأخيرة صفة مرعبة لكلّ الإعلاميّين العاملين في الصحف والمجلاّت المكلّفين بكتابة مقال عن مسرحيّة أو عمل مسرحي. يسود النمط الواحد على كلّ الأنماط. يسود نموذج الإعلامي ـ الناقد على الأنماط المسرحيّة المبتدعة منذ ألفي سنة بالتقريب بالصراع بين الآلهة والناس في أحيان، والصراع بين الناس والناس في أحيان، وبين الناس والمسرح في أحيان. يغوص الناس (المسرحيّون) في الصنف لنقد الصنف بأصناف أخرى. يستهدف هنا بريشت ومايرخولد وشراكة ستافسلافسكي مع مايرخولد، وبسكاتور وجاري ودي موسيه وغيرهم. ليست القصّة قصّة إيمان هنا، بل هموم شخصيّة نموذجيّة. تبنى الهموم على الرغبة، لا البحث. تبنى الهموم على دنيا الناقد لا على دنيا المسرحي. لا غنائيّة ولا تكعيبيّة ولا مشهد ولا سينوغرافيا ولا إضاءة ولا حضور ممثّل. حيث تميل طبيعة الإعلامي ـ كاتب المقال إلى النصّ. عنده: المسرحيّة نصّ. عنده: المسرحيّة كلام. عنده: المسرحيّة ثرثرة. أجمل المسرحيّات عنده: مسرحيّة ثرثرة بلا نهاية بنهفات وإيفهات بلا روح. لا يعود المسرح يُبدع شخصيّات نموذجيّة أو اختباريّة أبدًا، أمام غريزة الكاتب المحدقة كالقدر في أشغال المسرحيّين. إنّه ليس واقعيًّا اشتراكيًّا حتى. إنّه لا شيء إلاّ نفسه. يتأتّى سروره ممّا يرغب برؤيته وليس بما يراه. فقدٌ. بل عدم في غياب الثقافة الثمينة أمام مطرقة الواقعيّة بيد الإعلامي الواقعي اللااشتراكي. صغّر الرجل دوائر الصراع. ألغى الرجل ساحات الصراع. لم يعد ثمّة صراع فيما يراه. ذلك أنّه بدل أن يصارع نفسه في صالح رؤية أفضل، في صالح رؤية أفيد، يروح يصارع المسرح والمسرحي وينتصر عليهما بالضربة القاضية في نظرة واحدة أشبه بيدي حمّال في مرفأ من مرافئ العالم. يرغب الرجل في رواية سيرته الذاتيّة في كتابته بدل سيرة المسرحي والمسرحيّة أو العمل المسرحي. هنا يضحي المسرحي لاجئ في دولة الإعلامي المسرحيّة بحدودها المرسومة بحمأة الروح الستالينيّة. بُنيت الروح الأخيرة بكلّ شيء إلاّ بالحبّ. وبدون حبّ لا شيء سوى الخرافة. خرافة الكاتب في أطلانتس الوهميّة.
بنيت الأهرام بالحبّ والعقيدة الراسخة. يبني الإعلام المسرحي خريطة المسرح بالإرادة الخاصّة وبعمّال من المعادن وجهًا الأشبه بخرافة بدل الإبداع والتعدّد والتنوّع. النقد هنا مادّة سامّة لأنّه ليس نقدًا. يلاحظ المسرحيّون في لبنان أنّ نقّاد المسرح لا علاقة لهم بالمسرح. جاء نقّاد المسرح من الشعر والأدب والفنّ التشكيلي. لا بأس. ثمّة طبقة سائدة اليوم غير هؤلاء. إنّها طبقة الكتابة البرّانيّة المستعملة كسلاح كيميائي لا همّ لصاحبه إلاّ إبادة الآخرين. الآخرون مسرحيّون. يضحي المسرح كحاوية تتآكل بصدأ الكتابة البلا ماء. البلا أوكسيجين. ما يؤثّر في لحم المسرح. ما يؤثّر في دم المسرحي. ما يؤثّر في جلد المسرح. ما يؤثّر في جلد المسرحي. يسبب "النقد" تقرّحات في الجلد والعين والأغشية المخاطيّة ومجرى التنفّس والأنسجة المسؤولة عن توليد الدم. يدمّر "النقد الحديث" المسرح الحديث وكلّ ما هو حديث في المسرح. جرى استخدام غاز الخردل لأوّل مرّة على جبهة القتال في 24 نيسان عام 1915. توسع الألمان بالتوسّع في استخدامه ضدّ الحلفاء عام 1915.
كما استعملته إيطاليا في احتلال الحبشة عام 1936. استعمله العراق عام 1983 ضدّ إيران وضدّ الأكراد العراقيّين. يُعاد استخدام غاز الخردل في المسرح. ولو أنّ خردل العالم غير خردل الناقد. خردل العالم علمي، يقود إلى تكافؤه التساهمي الثنائي وقدرته على الإسهام بمجموعتين متفاعلتين. ومقدرته على تكوين ما يشبه الجسر أو القنطرة بين أيّ مادّتين قابلتين للتفاعل في خليّة، ممّا يجعل نطاق تأثيره في الوظائف الحيويّة في الكائن الحيّ متّسقًا ومتنوّعًا. خردل الناقد المخردل من سلطة الصحيفة أو المجلّة ومن كراهية تستعمل للتضليل ومن نذالة فكرة التعاطي مع المسرح بما يحضّ على الكراهية في طريق التضليل. لا يخدم القال والقيل أحدًا. إنّنا أمام قال وقيل لا أمام إعلام مساهم في قراءة المسرح بما يُنير درب المسرحي والجمهور. ما نرصده كلمات تشيد الجدران والحواجز بين الطرفين. حواجز على حواجز. لن تنفتح الآفاق بعد. لن تُزال الحدود، ما يرفع أسرّة تغشي وتعمي. وهكذا.
هذا أوّلاً. ثانيًا: بدأت تجربة المسرح اللبناني في التلفزيون اللبناني. قدّم المسرح الثقافي أوّل مسرحيّاته عام 1959. هذه بداية محكومة بالظروف. هذه دائرة صغرى. دائرة الظروف. دائرة صغرى. تخطّى المسرح اللبناني دائرته الصغرى في تجربة امتدّت من تجربة "المسرح الحديث" إلى "حلقة المسرح اللبناني" إلى "محترف بيروت للمسرح" إلى تجارب وقّعت حضورها البارز في السبعينيّات والثمانينيّات. أبرزها تجربة الحكواتي وتجربة يعقوب شدراوي وتجربة جلال خوري إلى تجربة الشباب الحائرة ـ بين التجريب على السائد أو القفز إلى المسرح المنشأة أو المنشأة المسرحيّة. القائمة طويلة: ربيع مروّة وناجي صوراتي وعصام بوخالد ولينا الصانع وكريستال خضر وبيتي طوطل ومارك قديح وغيرهم. أدركت التجربة نفسها في دائرتها الكبرى في نصوص مشهديّة نبيهة أو نصوص مشهديّة مضبوطة على مستوياتها أو فالتة في فضاءات أملت في غالب الأحوال أوامرها وتوجيهاتها وإيحاءاتها بلا برامج واضحة أو محدّدة.
عادت التجربة المسرحيّة اللبنانيّة إلى دائرتها الصغرى بعد نصف قرن على البداية. لم يلعب منير أبو دبس لعبة الأضداد الخارجيّة في تقديمه المسرحيّة الأولى عبر "تلفزيون لبنان". أغلب الظنّ أنّها "تسعة على أبواب طيبة". كشفت المسرحيّة ستارها عن واحدة من القمم المسرحيّة اللبنانيّة: أنطوان ملتقى. أسّس الأخير "حلقة المسرح اللبناني"، إثر انفضاضه عن تجربة "مدرسة المسرح الحديث".
المهمّ أنّه بعد نصف قرن اجتمع المتقدّم والمتأخّر والغائم في تجربة المسرح اللبناني الحديثة في دائرة صغرى من جديد، بعودة التجربة المسرحيّة اللبنانيّة إلى التلفزيون. أو إلى الأقنية التلفزيونيّة اللبنانيّة. بعد أن تملّك لبنان القدرة على امتلاك القدرة الاستطلاعيّة لمعارضة الستاتيكو الإقليمي عبر التجربة التلفزيونيّة. أضحى التلفزيون مشجب التجربة المسرحيّة اللبنانيّة. تميّزت المسرحيّة التلفزيونيّة الأولى بعدم تقديم المبرّرات للقناة التلفزيونيّة الفتيّة لكي تتسلّط على التجربة المسرحيّة الأولى. إذ قَدمت الأخيرة بشروط المسرح لا بشروط التلفزيون. لأنّ التلفزيون بقي دون القدرة على إدراك النمط التقاني الكامل. لم تدرج في أواخر الخمسينيّات ولا بداية الستينيّات عمليّات التصوير والتوليف في الطريق إلى العرض بتنظيف المسرحيّة من هنات المسرحيّة السلبيّة أو الرجعيّة أو الشرّيرة. قدمت المسرحيّة كما تقدّم على منصّة مسرح بأبطالها وأجوائها وأخطائها وخطابها، كما لو أنّها على الخشبة. لعب التلفزيون دور الوسيط في إيصالها إلى الجماهير اللبنانيّة "فقط لا غير" باللغة الاقتصاديّة. اللافت أنّ اللغة الاقتصاديّة أسرت المسرح. ثم ردّته إلى الدائرة الصغرى أو الدائرة الأولى بالشرط الاقتصادي، حين وقع المسرح فيما لم يفعله ولم يقله سابقًا. كسرت الحاجة الاقتصاديّة البرجوازيّة الثوريّة المسرحيّة، حين شنّت هجومها المكتوم على المسرح. فجأة: أدرك المسرحيّون حاجتهم إلى التلفزيون. هذا ليس فصلاً افتراضيًّا في حياة المسرح. إنّه فصل جدانوفي فرض على المسرح أن يسقط في صورته البروليتاريّة في حاجته إلى الإعلان في التلفزيون. لن يشاهد أحدُ مسرحيّة إذا لم يلمح إعلانًا للمسرحيّة في التلفزيون في حمأة الواقع المعيشي. خسر المسرح شعريّته في فنّ الإعلان الجديد. فجأة: أضحت المؤسّسة اللبنانيّة للإرسال (L.B.C.) شخصيّة إسخيلوسيّة. ذلك أنّ شخصيّات إسخيلوس هي من الآلهة. فجأة: أضحى المسرحيّون شخصيّات يوروبيديسة. ذلك أنّ شخصيّات يوروبيد هي من البشر. خسرت المسرحيّات غنائيّتها في الإعلان المسرحي بموقف مسبق تحت شرط الظرف الاقتصادي المستجدّ. سقطت التجربة المسرحيّة في ملكوت الأقنية التلفزيونيّة. بالتحديد: قناة المؤسّسة اللبنانيّة للإرسال. لا خبث ولا تخابث. بل عمليّة حسابيّة بسيطة. أمست المسرحيّة سحابة صغيرة من أسف وشجن. هكذا أوقظ المسرح فطرة جديدة في المسرح. النتيجة: تدافع المسرحيّون اللبنانيّون إلى إبرام صفقات اقتصاديّة خاسرة مع "المؤسّسة اللبنانيّة للإرسال". ضُربت التجربة بزرنيخ العقائد الدعائيّة. هوت التجربة إلى قيعانها بالحقائق الغبيّة. لا جدل. لا اجتهاد. لا شراكة ولا تقاسم. بل تطبيق القناة التلفزيونيّة شرطها الوحيد على الممارسة المسرحيّة والبثّ المسرحي أو الإرسال المسرحي والصياغة المسرحيّة. لا تقييم سوى تقييم المادّة. أعلت المادّة سلطتها على سلطة المسرح والمسرحيين بمعادلة بسيطة وخطيرة في آن: "التروك". أي عقود متتالية مع المسرحيين عمادها تقديم المسرحي مسرحيّته إلى القناة التلفزيونيّة بدون بدل مادّي، سوى نشر القناة إعلانات تجاريّة خاصّة بالمسرحيّة هذه أو تلك. ثقافة جديدة. ثقافة تقديم المسرحيّة إلى القناة في مقابل إعلانات ترويجيّة بقيمة البدل المادّي. يقسم البدل المادّي المفترض على ما يوازيه في الإعلانات الترويجيّة. لم يعد مبدعو الفنّ من الملهمين هنا. لأنّهم انقادوا ـ بلا تحريض انتباه - إلى شرط القناة التلفزيونيّة: أن تحوز حقوق عرض المسرحيّة في مقابل الإعلانات الترويجيّة. ما علينا. لولا أنّ العمليّة هذه أضاعت عالم العمل المسرحي وعالم الإبداع الفنّي معًا. حيث لم تحترم القناة التلفزيونيّة النهج البنيوي للمسرحيّة هذه والمسرحيّة تلك. انتبه الجمهور إلى "الأوبيّات" أو سيّارات النقل المباشر وهي لا تمارس النقل المباشر، بل تصوّر المادّة المسرحيّة بروحيّة تلفزيونيّة. هذه نتيجة من نتائج حيل الإعفاء من دفع البدل المادّي من المسرحيّين في مقابل الإعلان الترويجي. نهاية غير متوقّعة. أعادت النهاية هذه التجربة المسرحيّة إلى البداية، حين سجّلت القناة المسرحيّة والثانية والثالثة والرابعة والمسرحيّة رقم ألف على أشرطتها التلفزيونيّة، قبل أن تخضع إلى عمليّات توليف تلفزيونيّة. قدّمت الأخيرة المسرحيّة وشقيقاتها بلغة النقل المباشر بدون نقل مباشر. استولت القناة المسرحيّة ـ من جرّاء ذلك.
على أرشيف المسرح اللبناني. صحيح أنّها أسّست لبناء أرشيف مسرحي متلفز هنا. بيد أنّها أبادت حرّيّة المسرحيّة. أبادت الإبادة كلّ الأصناف المسرحيّة. لا تمييز بعد لمسرحيّة بولفار عن مسرحيّة قوّالين أو مسرحيّة تغريب بحسب بريشت أو مسرحيّة تبعيد بحسب دورنمات أو مسرحيّة عبث أو مسرحيّة فودفيل. سقطت الأساليب في أسلوب التسجيل التلفزيوني. أمست المسرحيّات مسرحيّات آلات وكهرباء في فضاءات كثفت في فضاء واحد هو فضاء التلفزيون. قادت العلاقة بين الإعلام التلفزيوني والمسرح، إلى تلفزة التجربة المسرحيّة. لم يغامر مسرحي في الطلب من القناة التلفزيونيّة بكتابة المسرحيّة والمسرحيّة الأخرى بأسلوب تلفزيوني. أي كتابة إخراج المسرحيّة بالآلة من زاوية تحترم دين التلفزيون، ودينه الكبير في إدراك جديد. ضربة تلفزيونيّة أصابت المسرح في الصميم، لأنّها لم ترغب في إعادة صياغة المسرحيّة بلغة التلفزيون. قام وضع جديد هو وضع علاقة الأب التلفزيوني الجديد بالأبناء المسرحيّين القدامى والجدد. سلطة آباء وملوك على الأطفال والمفاهيم. بالتالي: قامت قدرة الأوّل على تغيير المجرى الطبيعي لتاريخ المسرح والمسرحيّين. انتهت ـ تاليًا.
عمليّات الربط بين حركة أساليب الكتابة وحركة المجتمع. صعدت القوّة التلفزيونيّة وحصلت على السلطة على المسرح. غيّرت وجهته. غيّرت شكل مجتمعه. غيّرت شكل إرساله. أوقفت الحركة العميقة والدؤوبة لتفجير قوالب التفكير القديمة في التجربة المسرحيّة. سقط المسرح في صالح مفهوم إدارة التنمية الثقافيّة في إدارة القناة التلفزيونيّة. لم يلزم لنجاح العمليّة هذه، إلاّ المعدّات والأشخاص المهنيّين من أجل إنتاج الأعمال المسرحيّة بتسطيح المسرحيّات التلفزيونيّة بالصورة التلفزيونيّة. تراجعت الشفافية عبر الزجاج بلا شبكات تهوئة المسرح في غياب طاقة المسرح الروحيّة والمعنويّة الداخليّة والشكليّة. أدارت الشركة ـ بقصد أو بغير قصد ـ موت التجربة المسرحيّة. استبطن موظّفوها الموت هذا. أبرز ما فعلوه: فصل الألم عن الموت. دخل المسرح في نوع من الاختفاء الرهيب، في حين لم يدخل المسرحيّون أيّ نوع من أنواع مقاومة الاختفاء.
عنف عرقي، إذا ما اعتبرنا المسرح صاحب عرق والتلفزيون صاحب عرق آخر. عمّم التلفزيون حضور المسرح في البيوتات العاديّة، غير أنّه واجه في آن معركة تحرير المسرح بقوى المسرح الاستعاريّة الفائقة. لم يتطوّر المسرح في عمليّة تمازج اللغتين. لغة المسرح ولغة التلفزيون. أبدًا.
بقيت اللغة هذه مستقلّة وبقيت اللغة تلك على استقلالها. استثمر التلفزيون لغة المسرح في المسطّح التلفزيوني. لم تجمعهم أشياء مشتركة. جمعتهم رقصة موت المسرح الأخيرة في الصورة التلفزيونيّة. وهي صورة بلا أيّة إشارة تخطيطيّة. بلا أيّ أثر تخطيطي في محاولة بناء سلسلة تربط وقت المسرح بأسلوب التلفزيون أو زمن التلفزيون، بأسلوب المسرح. أرضيّة بلا أرضيّة. لا سؤال. لذا: لا جواب. هكذا: شاهد الجمهور المسرحيّة والأخرى في لقطات عامّة غابت فيها كلّ انشغالات المسرحي التفصيليّة. عندها: ماتت قدرة جمع المسرحيين بالمتفرّجين في سيرورة إنتاج قامت غالبًا على طرق تقاسم فيها المسرحي هواجسه مع جمهوره. طرق ملوّنة بشكل كافٍ تسمح للمشاهد أن يجد مكانه في المسرحيّة أو العمل المسرحي.
لم توضع المحاولات التلفزيونيّة في فضاء البحث. لم توضع تحت الاختبار في نقد المشهد المسرحي وبالعكس، ما قد يساهم في إغناء النظريّات والنتائج المؤقّتة في المسرح، بحيث تضحي التجارب الماضية والحاضرة تجارب مستقبليّة. لا علاقة لذلك بـ "المسرح ـ المختبر" مع جيرار استور وجاك لاسال. أو مع ستانسلافسكي ومايرخولد. لم يبحث أحد في علاقة المسرح بالتلفزيون. ولا عن علاقة المسرح بالمدينة. وتاليًا: التلفزيون بالمدينة. لأنّ المسرح فنّ مديني.
خلاصة مريعة أن نجد المسرح اللبناني مضبوضًا في أرشيف قناة تلفزيونيّة بلا نجوم وبلا تصفيق. أن نجد المسرح اللبناني يعود إلى دائرته الأولى، إلى مربّعه الأوّل، بعد أن أقام الإعلام التلفزيوني هنا علاقته بالمسرح في مدى لا علاقة لأخلاق المسرح به. شتّت منطق التلفزيون منطق المسرح بلا وسيلة خلاص. لا شيء بعد إلاّ السأم والملل والضجر من خلال الألم واليأس والشقاء بإصرار لا يلين من المسرحيين والتلفزيونيين سواء بسواء.