مرة أخرى يطفو على سطح الحياة الثقافية المغربية نقاش إشكالية اللغات واللهجات المتداولة في هذا الوطن ، الذي يظهر أن قدره لم يعد محصورا في مواجهة تحديات كبرى من قبيل التخلف والبطالة والصحة والتعليم ورهانات الاقتصاد، يريد له البعض من أبناء جلدتنا أن يبقى مشدودا إلى قضايا تتضح معها التبعية للإستعمار الغاشم الذي رحل مرغما عن ديارنا بفعل تضحيات كل الشعب المغربي وفصائل المقاومة والحركة الوطنية الباسلة دون أن يكمل مخططاته في الهيمنة والتسلط . ولذلك قر قراره على أن يترك أذنابا له حلوا محل الخونة والعملاء كي يواصلوا تحقيق ما عجز الاستعمار عن الوصول إليه بقوة الحديد والنار وبطش التآمر والخيانة .
وهذا النقاش الذي يثار وفق برمجة مدروسة وفي أوقات محددة يعبر في حقيقة الأمر عن الوضع المتردي لثقافتنا ، وعن هذا النفق المسدود الذي يعمل أفراد ومؤسسات وجمعيات تحظى بالمال والوسائل والإمكانات على إدخال ثقافتنا وفنوننا في أتونه حتى لا يضطلع المثقفون والمبدعون الوطنيون الملتزمون بقضايا الأمة الحقيقية بأدوارهم الطبيعية في التثقيف الهادف وفي تنوير العقول لبناء وجدان المواطن وتكوينه وتسليحه بكل أساليب العلم ومفاتيح التقدم والتطور والنماء.
وقد لاحظ الجميع هذا النقاش المفتعل الذي ساد الساحة الثقافية في الآونة الأخيرة ، والذي هيمن على كل الصفحات في منابرنا الوطنية ، وهو يدعي زورا وبهتانا الإهتمام بالشأن اللغوي من خلال التوسل بالإصلاح وتطوير مناهج التربية و التعليم ، في حين أن حقيقة هذا النقاش المفتعل لا تهدف إلا إلى شيء واحد ووحيد وهو تخريب هوية هذه الأمة وضربها في مقتل من خلال الإجهاز على ما تبقى من وجود محتشم للغة العربية في حياتنا العامة والخاصة وفي مشهدنا الثقافي والفني والإعلامي ، أمام كل الهجمات الشرسة للفرنكفونية التي تحظى بكل وسائل الدعم والتمويل والتشجيع .
غير أن الذي قد لا تعلمه الأجيال الشابة المستهدفة من وراء كل هذه الضجة حول اللغة واللغات وحول اللهجة الدارجة التي يراد لها اليوم أن تحل محل لغة القرآن ، لغة الآباء والأجداد ، لغة الوطن الأولى بالنص الصريح للدستور ، هو أن هذه المعارك حول الهوية – واللغة جزء لا يتجزأ من هويتنا وحضارتنا – ليست جديدة في هذا الوطن ، وليست طارئة أو بدون أسباب ومقدمات . بل هي قديمة في تاريخنا الوطني حتى قبل أن نحصل على الاستقلال والحرية. وقد خاضت الحركة الوطنية وفصائل المقاومة الجزء الأول من هذا الصراع حين استشعر رجالها وأبطالها ومقاوموها أي خطر جارف وعارم يحدق بالهوية الوطنية من خلال الإجهاز على لغتنا الأم وعلى لهجاتنا المحلية التي تشكل خصوصياتنا الحضارية ، وفي هذا الإطار يدخل إنشاء المدارس الحرة المعربة كجزء من مقاومة المحتل وإفشال مخططه الهادف إلى تخريب الأمة وتمييع مبادئها وقيمها العليا انطلاقا من سلخنا من جذورنا وفصلنا عن مرتكزات هويتنا ، وهما هدفان استعماريان خطيران لا يتأتيان إلا عن طريق الاستلاب اللغوي أو الانبطاح الفكري أو التطبيع المستسلم مع ثقافة ولغة المستعمر، هاته الثقافة واللغة التي يدرك الفرنكوفونيون أنفسهم اليوم مدى إفلاسها.
وإذا كان تاريخنا الوطني يؤكد أن فصائل المقاومة الوطنية قد ربحت الجولة الأولى من هذه المعركة لما حصل الوطن على استقلاله وحريته بعد عودة رمز السيادة الوطنية المرحوم الملك محمد الخامس من منفاه رفقة أفراد الأسرة الملكية ، فإننا اليوم وحفاظا على هويتنا وجذورنا وأصالتنا المغربية مطالبون بأن نبذل كل ما في وسعنا لربح هذا الشوط الثاني من هذه المعركة المصيرية ، منطلقين في المقام الأول من أن تربيتنا الأولى وسط أسر مقاومة ، وفي أحضان فصائل المقاومة الوطنية ، ثم ما بذلناه من تضحيات جسام خلال كل عقود الاستقلال من أجل أن نحافظ على هويتنا ولغتنا الأم ولهجاتنا المحلية .كل ذلك يلقي علينا ، قبلنا أم أبينا، مسؤولية تاريخية في مواصلة أداء هذه الرسالة المناهضة لكل أشكال الاستعمار القاتل للخصوصية ومناهضة كل أساليب الانبطاح للآخر لتفردنا التاريخي وتميزنا الحضاري . وفي مقدمة كل ذلك الإبقاء على صرحنا اللغوي شامخا لا تطاله كل هذه المحاولات اليائسة مهما توفر لها من أفراد ومؤسسات وأموال ودعم خارجي لا يرى وجوده إلا في اقتلاعنا وفصلنا عن كل مقومات المناعة والقوة .
إن واقعنا الحالي، يؤكد بالدليل الملموس إلى أي حد غزت الفرنكوفونية كل المجالات الثقافية والفنية عندنا ، فقد استطاعت للأسف الشديد أن تخرب المجال الثقافي حين أصبح بعض المحسوبين على الإبداع و الثقافة لا يستطيعوا اقتراف الإبداع إلا من خلال الأجندة الفرنكوفونية وبذلك أصبحوا يحلقون في عوالم من الوهم لا رابط يربطها على الإطلاق بما تحتاجه الأمة من مبدعيها ولا ما تنتظره من مثقفيها وتحولوا بذلك إلى مجرد ناطقين ومنفذين للرغبات الاستعمارية لأسيادهم الذين يثمنون ما يقترفون من فظائع في حق الوطن ويخصصون لهم الجوائز والأوسمة كلما أجادوا في تشويه و تمييع واقعنا الذي أضحى بانتاجاتهم مجتمعا نشازا عن واقع المغاربة، متوهمين عن قصد أو عن جهل أن إبداعهم الفرنكفوني إن جاز أن نحسب ما يقترفونه على الإبداع هو عين المعاصرة ، وأصبح الابداع بلغة الضاد يروجون له على أنه قمة التخلف ومصدر الرجعية والتزمت والتقوقع .
نفس الواقع الحالي يظهر إلى أي حد توغلت فيه هذه الفرنكفونية الاستعمارية في فنونا الوطنية والتي تحولت من قيمها الوطنية النبيلة ومن مثلها الإنسانية السامية ومن أهدافها الوطنية الكبرى إلى مجرد مسخ و تشويه للشخصية المغربية، سواء من خلال تبني الفرنكفونية ، أو من خلال استعمال دارجة ساقطة مبتذلة تروم تنفير الفرد المستهدف من فنونه الوطنية و تغييبه عن قضاياه المصيرية، يحصل ذلك في الأغنية التي ابتعدت عن الكلمة النظيفة والمعبرة لتسقط في الابتذال والوقاحة ، ويحصل ذلك في المسرح الذي أصبح عند البعض مجرد خطاب يتوسل الكلام النابي للسخرية من الناس و التهكم على أعراضهم و اهانة عقيدتهم. ويحدث نفس الشيء في التشكيل الذي لا نعلم ماذا يشكل بعض دعاته الفرنكوفونيون من وزن في الساحة الثقافية والفنية المغربية .
أما حال السينما عندنا مع انتهاك خصوصياتنا وهويتنا الحضارية والتاريخية فحدث ولا حرج ، حيث أصبحت الفرنكفونية جواز المرور الوحيد نحو الدعم الذي يقتطع من المال العام دون حسيب أو رقيب ودون ضمير فني أو مهني أو حتى أخلاقي ، ونحو العرض في القاعات التي تتناقص بشكل مفزع لتجسد المفارقة الصارخة ، إذ في الوقت الذي كانت فيه القاعات متوفرة كان الإنتاج الذي كان يسمى وطنيا محصورا وقليلا ، وحين ارتفعت وثيرة هذا الإنتاج المرفوض من الشعب جملة وتفصيلا لكثرة ابتذاله وانفصاله عن واقع المغاربة تضاءلت القاعات بشكل ملفت، وهو مصير منتظر للصناعة السينمائية عندنا حين أصبح الفرنكفونيون هم القيمون على الشأن السينمائي من خلال تشكيل حاشية من المخرجين و المنتجين المصنوعين ، وبطانة من المقربين تستحوذ كل سنة على كعكة الدعم بينما هم في حقيقة الأمر مجرد منفذين لأجندة فرنكفونية تشجع على إنتاج وانجاز هذا النوع من الأفلام التي لا تضمن الفرجة لنا بل تحقق الفرجة علينا . وتحقق إلى جانب ذلك ضرب هويتنا الوطنية والعربية والإسلامية في مخطط جهنمي أخذ يتلمس الآن طريقه إلى ضرب حتى المنظومة التعليمية التي بلغت مع هؤلاء الدرك الأسفل حين أصبحت توصيات بعض الندوات ذات الغطاء الدولي لا تكتفي بفرنسة كل المواد بل أصبحت تروم إحلال أنواع اللهجات الدارجة للتعليم والتعلم .
ولعل ما يساعد دعاة الفرنكفونية على مواصلة سعيهم الحثيث نحو تنفيذ كل هذه الأهداف المشبوهة في ضرب الهوية وقتل وتدمير الخصوصية المغربية هو هذا التسامح السلبي الذي تجاوز حد المقبول من طرف الأحزاب السياسية والوطنية وكل فعاليات المجتمع المدني التي لا تبدي أي رد فعل رافض لكل ما يرتكب ضد مقوماتنا ومن طرف علماء الأمة الذين لا يغيرون هذا المنكر الصراح ، وهذا النفور من القيام بهذا الجانب الوطني هو ما يوحي لدعاة الفرنكفونية بأن الطريق أمام مخططهم المكشوف سالك ، وأنهم قريبون من تحقيق أحلامهم المنشودة التي يتخذهم المستعمر مجرد مخلب قط لتنفيذها .
لكننا نرفع أصواتنا في وجوههم لنقول لهم وبأعلى نبرة ممكنة : أنتم واهمون ، فلن يعدم هذا الوطن من يتشبتون بالجذور، ومن يناطحون الصخر من أجل الحفاظ على هويتنا صافية من أي شائبة أو عنصر دخيل ، ولا يمكن لحفدة الشهداء وأبناء المقاومين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه أن يظلوا مكتوفي الأيدي أو في وضعية المتفرجين على كل هذا الإجهاز المبيت ضد هويتنا الوطنية وجذورنا العربية والإسلامية . وإذا كان الآباء والأجداد قد افلحوا في إفشال مخططات (ليوطي) و ( جوان) و ( كيوم) و (فوازان) فإن الأحفاد يمتلكون من المناعة ومن مظاهر الحيطة والحذر ما يمكنهم من إفشال كل مخططاتهم لتفتيت الوطن والاستلاب والانبطاح والانسلاخ مهما تفننت أساليبهم ومهما تقوت جمعياتهم بالدعم الخارجي ورغم كل ما يرصدونه من أموال طائلة لتمرير أهدافهم .
إن شعورنا بحجم هذه المسؤولية الملقاة علينا كأبناء شرعيين للحركة الوطنية إلى جانب غيرنا من ذوي الضمائر الحية المتيقظة لكل ما يحاك ضد هذا الوطن وضد ثوابته وهويته ومقدساته ، ورفعا لكل هذا اللبس الذي يسود مشهدنا الثقافي والفني ، ورفضنا القاطع للإجهاز على هويتنا من خلال الإجهاز على مقوم اللغة ، كل ذلك لا يعني رفضنا للآخر ولا يعني بأي حال من الأحوال تقوقعنا وانعزالنا أو رغبتنا في سجن الأمة داخل حدودها . إذ يكفي الذين اعتادوا كيل التهم الجاهزة لنا جراء إعلان مواقفنا والذين اعتادوا الصيد في الماء العكر أن يتأملوا جيدا مسارنا الفني ، حيث انفتحنا على تجارب غيرنا سواء من المشرق أو من الغرب حيث تعاملنا مع النصوص التي تحمل القيم الفكرية والإنسانية دون أدنى مركب نقص أو شعور بالدونية والاستصغار . وهذا يعني في المقام الأول إيماننا الكامل بتلاقح الحضارات وتفاعل الأفكار لما فيه مصلحة المواطن الإنسان . كما يعني أننا استطعنا أن نضع الحدود الفاصلة بين التعامل البناء والانبطاح أو الانسلاخ عن الذات وعن المقومات . بل إننا نفتخر أننا حولنا هذه النصوص العالمية المستوحاة أو المقتبسة من الشرق أو من الغرب إلى أعمال شكلت معالم وروائع في مسارنا المسرحي الذي لم نكن ولازلنا نفصل فيه بين الإبداع الفني المحض وبين تحديد الموقف المشرف والجهر بكلمة الحق حين يتطلب الأمر ذلك وهو ما نفعله الآن ، وما سنواصل السير على نهجه وهو وعد وعهد منا على الوفاء لهوية هذا الوطن الذي نحمله في القلب ولمقدساته وقضاياه الكبرى ، فلسنا من تجار الأوطان ولسنا من الذين يميلون حيث الريح تميل .
سيظل هذا الوطن العزيز ذا هوية عربية وإسلامية رغم كل الزوابع والمخططات الجهنمية التي تخطط خارج الحدود ، ورغم كل أساليب الذين يتآمرون للتخريب والإجهاز تحت مسمى الإصلاح أو التطوير أو غيرها من أساليب رخيصة انكشفت ولم تعد تنطلي حتى على الصغار ، فكيف بالكبار .