يسعى الباحث الفلسطيني المرموق هنا إلى تحديد مفهوم «الشاعر الشعبي» الذي يصدر عن لغة الشعب/ العامة وتصوراته، تميزا له عن مفهوم الشاعر الذي يكتب بالعامية من ناحية، أو الذي يصدر عن رؤى الخاصة والنخبة من ناحية أخرى، ويبلور عبر تحليله للغة نجم ورؤاه الفكرية والتصورية معا أركان هذا المفهوم.

لماذا كان أحمد فؤاد نجم «شاعراً شعبياً»؟

محاولة منهجية في مفهوم «الشعر الشعبي»

محمد شاويش

مقدمة: في سؤال المقال:
أريد، في هذا المقال، أن أقدم محاولة أولية لوضع خطاطة دراسة عامة تتناول السؤال التالي العام: "متى نقول عن شاعر ما إنه "شاعر شعبي"؟"، والبحث في شعر أحمد فؤاد نجم في علاقته "بثقافة الشعب" هو النموذج الذي نأمل أن يخدمنا في محاولة الوصول إلى تحديد الخواص التي تلزم وتكفي لكي نصف شاعراً بهذا الوصف.

1- في مفهوم «الشعر الشعبي»:
بأحمد فؤاد نجم تكتمل ثلاثية من شعراء العامية العظام شهدتهم مصر في القرنين الأخيرين: عبد الله النديم (1842 - 1896) وبيرم التونسي (1893 - 1961) وأحمد فؤاد نجم (1929 - 2013). هناك شعراء عامية مصريون كبار آخرون، لكن هؤلاء كانت لهم أهمية خاصة تتمثل في مشاركتهم الفاعلة في الأحداث السياسية الكبرى مما عرضهم جميعاً للسجن والنفي.

التوصيف "شعر شعبي" كثيراً ما يستعمل لوصف أي شعر يكتب بالعامية، وهذا خطأ فكثير من الشعر الذي يكتب بالعاميات العربية لا ينتمي إلى "الثقافة الشعبية" بما هي مقابلة لثقافة النخبة، فمعيار استعمال العامية والفصحى ليس وحده هو الذي يحدد إن كان الشعر منتمياً فعلاً إلى "الشعب" أم إلى "النخبة". لا شك أن ما كتبه شعراء عامية من أمثال سعيد عقل أو ميشال طراد أو الأخوين رحباني أو نجيب سرور أو حتى صلاح جاهين لا يمكن ببساطة وصفه بأنه "شعر شعبي" لمجرد أنه كتب بالعامية. لا تنقسم الثقافة العربية المعاصرة على أساس "عامية" و"فصحى" فقط، بل تنقسم إلى ثلاثة مكونات: "ثقافة العامة" و"ثقافة الخاصة" و"ثقافة النخبة"، والأولان قديمان بينما الثاني من نتاج العصر الحديث. وهو انقسام يخص كل قطاعات الثقافة العربية، غير أننا إن بقينا في الشعر نقول إن الشاعر الفلسطيني أبو عرب مثلاً ينتمي إلى قطاع "ثقافة العامة" أو هو من "الشغيلة الثقافيين في هذا القطاع"، والشاعر محمد مهدي الجواهري ينتمي إلى قطاع "ثقافة الخاصة" أو هو "شغيل ثقافي" فيه، والشاعر أدونيس ينتمي إلى "ثقافة النخبة"، وهذا يمتد إلى كل قطاعات الإنتاج الثقافي، ففي الغناء والموسيقى ستجد "موسيقى العامة" (وهي الأغاني الموروثة أوالحديثة التي تحاكيها من حيث اللغة والتركيب الموسيقي، والتي يغنيها الشعب)، و"موسيقى الخاصة" وهي ذلك النوع المعقد الصعب من الموسيقى الذي أنتجته في القرون الأخيرة المراكز المدنية الكبرى في الشام والعراق والخليج ومصر والسودان واليمن والمغرب العربي، ولا تستطيع غناءها غير صفوة من العلماء بالموسيقى ليس من المصادفات أنها كثيراً ما ترتبط شخصياً مع ثقافة الخاصة المكتوبة (كثير من أساطين هذا الفن يحملون لقب "شيخ" من أمثال الشيخ أمين الجندي والشيخ عمر البطش والشيخ زكريا أحمد وغيرهم..) وثمة أخيراً "موسيقى النخبة" وهي تتضمن علاوة على موسيقى مغرّبة بالكامل قليلة الانتشار نوعاً من الموسيقى يتناسب مع شعر النخبة (قارن بين غناء وموسيقى مارسيل خليفة وغناء وموسيقى الشيخ إمام).

"ثقافة النخبة" يمكن تعريفها بأنها "ذلك القطاع من الثقافة العربية المتبني للثقافة الغربية كما تنعكس في وعيه" (لأن المثقف العربي لا يتبنى الثقافة الغربية بل يتبنى ما يتصوره "الثقافة الغربية"، وبالتحديد هو يتبنى "ترجمة الثقافة الغربية إلى اللغة العربية").

هذا الانقسام هو أولاً ليس انقساماً بين ثلاثة قطاعات معزولة عن بعضها كلياً وليس بينها تفاعل، وهو ثانياً ليس انقساماً بين قطاعات ثابتة لا تتغير. والحال أننا لو درسنا مكونات الثقافة المصرية الحديثة مثلاً لوجدنا تغيراً معقداً في المكونات الثلاثة فقد شاهدنا تغير"ثقافة العامة" أو "الثقافة الشعبية" (التي هي بدورها منقسمة بين قطاعات شعبية مختلفة) مع المستجدات المهمة مثل انتشار التعليم الحديث وانتشار وسائل الإعلام من صحف وإذاعة وتلفزيون، وبالمثل تغيرت "ثقافة الخاصة" وتغير تأثيرها الاجتماعي (في اتجاه نازل غالباً)، وفي المقابل لا تزال "ثقافة النخبة" هي ثقافة أقلية يتوازى تأثيرها ولا يكاد يتقاطع مع أثر أصداء الثقافة الغربية التي تتردد في أوساط الشعب منقولة عبر وسائل الإعلام والترفيه.

النديم وبيرم ونجم ثلاثتهم نشأوا في "بيئة شعبية"، كما نقول بلغة المثقفين الشائعة، كان مصباح أبو عبد الله النديم عاملاً في الترسانة البحرية التي أنشأها محمد علي ثم أغلقت بأمر من الدول الكبرى فتحول إلى صاحب فرن، وأرسل الولد الموهوب إلى دراسة على النمط الأزهري في "الجامع الأنور" فتعلم قسطأً مهماً من العلوم الموروثة نرى أثره في كتاباته، لكنه غرق في جو "الأدباتية" (وكان الأمهر فيهم والظافر في مبارياتهم الزجلية)، ولم يثبت النديم في مهنة بل تجول في أرجاء مصر متعرفاً على شرائحها المختلفة ومتمثلاً لأنظمة الإشارة التي تستعملها كلها من ألفاظ وأزياء وقواعد للسلوك، وثمة شهادات متواترة عن معاصري النديم (علاوة على شهادة كتاباته نفسها) تؤكد صحة ما قاله عن نفسه: "أخذت عن العلماء، وجالست الأدباء، وخالطت الأمراء، وداخلت الحكام، وعاشرت أعيان البلاد، وامتزجت برجال الصناعة والفلاحة والمهن الصغيرة، وأدركت ما هم فيه من جهالة، ومم يتألمون، وماذا يرجون، وخالطت كثيرا من متفرنجة الشرقيين، وألممت بما انطبع في صدورهم من أشعة الغربيـين"(1)، وحين تخفى النديم لمدة تسع سنوات تخفيه الأسطوري بعد هزيمة الجيش المصري، جيش عرابي، عام 1882 كان يستطيع تارة أن يظهر بثوب أحد أتباع الطرق الصوفية وينطق بلغة هذه الجماعة ويتصرف كما تتصرف، أو يظهر بثوب تاجر أو فلاح من الصعيد أو أدباتي. النديم كان "ذاكرة ديناميكية" للمجتمع المصري وأعني بهذا التعبير ذلك الفرد الذي استوعب الملامح التفصيلية لمجتمعه سواء في تاريخها القريب أم في سلوكها الحاضر، إنه قريب من ممثل موهوب يستطيع تقمص أدوار الشرائح الاجتماعية (وهذا يعني: يستطيع أن ينطق "بلغاتها" كلها: اللفظية وغيرها).

سنرى هذه "الذاكرة الديناميكية" حين يتقمص بيرم في "المقامات" شخصية المشايخ العميان مثلاً ويحاكي سلوكياتهم وينطق بلغتهم، بل قد يتقمص صاحب هذه الذاكرة شخصية من شخصيات الملاحم البطولية للجماعة كما فعل أحمد فؤاد نجم في حياته الواقعية حين تقمص مرة شخصية عنتر بن شداد(2).

لا يمتلك "الذاكرة الديناميكية" من عاش في حلقة ضيقة من مجتمعه، ومن جهل تاريخ هذا المجتمع (القريب، الديناميكي، الذي لا زال أثره فاعلا، لا أعني كل التاريخ من العهود الغابرة طبعا، بل هذا التاريخ لا يعنيني في التحليل الذي أنا بصدده)، ومن جهل نتاجاته الثقافية المؤثرة ولم يستطع أن يستعمل "لغاته" (ولا أعني بالمقدرة على استعمال هذه اللغات القابلية السالبة للفهم فحسب، بل أعني أيضا امتلاك القابلية الموجبة للكلام الطلق "الفصيح" بهذه اللغات) فإننا لن نصفه بأنه "ذاكرة ديناميكية" لمجتمعه.

جاء بعد النديم بيرم التونسي، كان للأول علاقة مباشرة مع الحركة الفكرية الكبرى في مصر في سبعينات القرن التاسع عشر: حركة الأفغاني ومع الحركة السياسية الحديثة الأولى في مصر (الحزب الوطني) كما سميت آنذاك حلقة جمال الدين الأفغاني، وقد انعكست هذه الحركة سياسياً في الثورة الحديثة الشعبية الأولى واسعة النطاق التي قادها الضباط الوطنيون في الجيش وعلى رأسهم أحمد عرابي. بيرم عاش في عصر ثورة 1919. لم تكن له تلك العلاقات القوية مع الصفوة الثورية كما كان الحال مع النديم، ولم تكن له تلك الفاعلية الاجتماعية التي كانت للنديم الذي لم يكن شاعراً وخطيباً شعبياً وصحفياً واسع التأثير فقط، بل كان أيضاً قائداً اجتماعياً نهضوياً أسس "جمعيات خيرية" ومدارس كانت تجمع وظيفة التربية والتعليم مع وظيفة تغيير السلوك الاجتماعي، لكنه ماثله في قوة العلاقة مع الشعب ومع ثقافتيه: "ثقافة الخاصة" (لأنه مثل النديم بدأ حياته بدراسة في معهد ديني، وانظر وصفه لبيئة المشايخ وللغتهم في "المقامات") و"ثقافة العامة"، وقد تجلى ذلك أيضاً في مقدرة الرجلين على الكتابة بالفصحى والعامية وإحساسهما العميق بآلام وأشواق الشعب وتعبيرهما عن ذلك باللغتين: الفصحى والعامية.

لكن بيرم ظهرت عنده إمارات انفصام روحي لم تظهر عند النديم بين ما سميته في أماكن أخرى "الثقافة السائدة" (وهي ثقافة الشعب بقسميه: "الخاصة" و"العامة")، وكانت ثقافته الحقيقية ولغته هي اللغة الوحيدة التي يتقنها، و"الثقافة المسيطرة" وهي ثقافة النخب التابعة سياسياً أو روحياً للاستعمار الغربي، وكان ربما حاول أن يتمثلها دون نجاح، فهو في نصه الهجائي "السيد ومراته في باريس" الذي كتبه متأثراً بمشاهداته في باريس يجلد بلسانه الحاد "الثقافة السائدة"، ويردد عنها ما تقوله دعاية "الثقافة المسيطرة" مفلتاً لها العنان لتسخر منها وتحكم عليها أقسى حكم.

هجا بيرم "البراقع واللبدة والجلابية" ولم تستعد اعتبارها عنده حتى مرت الباخرة التي كانت تنقله من منفى لآخر في بورسعيد فغافل بوليس المدينة وتسلل إلى مصر. هنا تظهر تلك الذات العميقة الأصيلة التي أسميتها في فرضياتي النظرية عن الاستلاب "الذات الحقيقية" مرة أخرى مبطلة بقوتها الخارقة كل الجاذبية المغنطيسية "للذات المثالية" للمرجع الاستلابي. تولت هذه الذات الحقيقية جذب الشاعر ليتسلل من الباخرة:

"هتف لي هاتف وقال لي

إنزل ومن غير عزومة

إنزل دي ساعة تجلي

فيها الشياطين في نومة

إنزل ده ربك تملّي

فوقك وفوق الحكومة

نطيت في ستر المهيمن

للشط يا حكمدارية

وأقول لكم بالصراحة

اللي الزمن ده قليلة

عشرين سنة في السياحة

بشوف مناظر جميلة

ما شفت يا قلبي راحة

في دي السنين الطويلة

إلا اما شفت البراقع

واللبدة والجلابية"

كان بيرم والنديم كلاهما ذوي علاقة قوية ومعرفة بقطاعي الثقافة الشعبية كليهما: المشايخ ولغتهم وعلومهم المنقولة والشعب ولغته وأشكاله الفنية المفضلة، بحيث كانا يستطيعان حين يريدان أن ينطقا بلغة هؤلاء أو أولئك بدون أي تكلف وبطلاقة تامة.

وكان أحمد فؤاد نجم معجباً بهذين الرائدين وكانا ممن أهدى إليهما "آثاره الشعرية الكاملة" وكان يعد بيرم مؤسساً للاتجاه الذي تابعه جيله:

"ماشيين في طريقك دايماً

وح نفضل كده ماشيين

ع الدرب اللي انت سلكته

بالليل والناس نايمين

وان كنا نقول ونزوّد

ونجوّد في المضامين

بيكون الفضل لبيرم

أسّس واحنا الطالعين"

في سيرته الذاتية يخبرنا أنه بدأ حياته معجباً بشوقي وعبد الوهاب وغير معجب ببيرم ولا بصفة "شاعر الشعب" التي أطلقت عليه، لأنه لم يكن يرى في الشعب (وقد أقول: من منظور المرجع الاستلابي الذي هو "الثقافة المسيطرة") شيئاً يستحق الاحترام!(3)، وسيتغير هذا الموقف مع دخوله للسجن عام 1959 (لأسباب غير سياسية!) وهناك التقى بالشيوعيين للمرة الثانية في حياته وتعرف على شعر فؤاد حداد(4).

تجمع الشعراء الثلاثة صفة "الصعلكة". لم يكونوا متمتعين "بالوقار"، وقد أخذ أناس على النديم هذه الصفة ووصفوه بالمهرج، ودافع أحمد أمين عنه دفاعاً جميلاً حين كتب عنه في كتابه "زعماء الإصلاح في العصر الحديث"(5)، و"الصعلوك" صفة قد تطلق على من لا يتمتع بوضع اجتماعي ثابت فهو يتنقل بين المهن وبين الأماكن ويكتسب رزقه بطرق لا يعترف بها المجتمع على أنها "طرق محترمة"، ويمكن وصفهم جميعاً أنهم انتموا إلى الشرائح الأدنى في المجتمع، ولكنهم جميعاً كانوا على معرفة واحتكاك بشرائح مختلفة، وأحياناً كان الاحتكاك ودياً وفي كثير من الأحيان كان عدائياً. والانتماء إلى الشرائح الاجتماعية الأدنى لا يعني بالضرورة الانحياز لها، ولكن هؤلاء الثلاثة انحازوا بالفعل لهذه الشرائح والأمثلة من أدبهم على ذلك أكثر من أن تذكر، ولكن نجم من بينهم هو من سمى هذه الشرائح في شعره مقسماً إياها بين "عمال وفلاحين وطلبة"، ولك أن ترى أن هذه التسمية لوحدها والانحياز اللفظي لا تدلنا على الموقع الاجتماعي- الثقافي الحقيقي للشاعر، فانحيازات كثير من أدباء "الواقعية الاشتراكية" للكادحين مثلاً لم تكن تعبر عن انتماء عضوي لهؤلاء الكادحين، بل ربما تكلم عن الفلاحين من لا يعرفهم ولا يتقن لغتهم، وكذلك كان الأمر في العلاقة مع العمال، وربما أكثر، لأن الماركسية كانت تعير العمال أهمية كبرى وتنسب إليهم أدواراً تاريخية استوردها الأديب الاشتراكي العربي وحاول أن يصفها في بلاد لا يكاد يكون فيها عمال أصلاً، ناهيك أن يكون سلوكهم متطابقاً مع الفرضيات أو الآمال الماركسية.

إذا غضضت النظر عن هذه "الاقتباسات" من المعجم الماركسي التي كان نجم يقتبسها ستجد أن نجم بالفعل وبالدم والأعصاب كان ابن الشرائح المسحوقة من الشعب المصري (أي الأكثرية)، وقد عبر عن هذه الشرائح باللغة والمفاهيم حتى حين كان لا يسميهم، أو لربما كان من الممكن أن نقول: بل بالتحديد عندما كان لا يسميهم ولا يكونون هم موضوع الكلام أصلاً!

علامتان تميزان الانتماء العضوي لقطاع ثقافي من القطاعين الكبيرين الذين ذكرتهما (الثقافة السائدة والثقافة المسيطرة) وهما: اللغة المستعملة والأشواق التي يعبر عنها الأديب:

 واقرأ لنجم:

"لو القى خل يبات وفي يصبح مراعي

لاطوي المداين ع القدم وامشي له ساعي

وافرد قلوعي يا وله واركب شراعي

أنا وحبيبى في الهوى على هوايا

شوف الحكايه!"

لدينا مجموعة من الصفات والتراكيب والأفعال: "الخل"، الوفي"، "المراعي"، "أطوي المداين"، "عالقدم"، "أمشي له ساعي" ، "أفرد قلوعي"، "أركب شراعي"، "على هوايا"، "شوف الحكاية"، وقد أتت من "تناصات" لا شعورية وغير مقصودة مع اللغة التي يستعملها الشعب ومع تراثه الأدبي أيضاً، والفكرة المركزية في هذا النص هي التشوق إلى "خل وفي"، ولعلك سترى في التراث الصوفي مئات القصص عن أولياء "يطوون الأرض" والذين هم من "أهل الخطوة"، وهذه التعابير "غير المثقفة" (غير المنتمية إلى لغة النخبة التي هي لغة مترجمة أساساً) وأمثالها تعبر عن الانتماء العضوي "للثقافة السائدة" لا "الثقافة المسيطرة" وليس المعيار هنا هو استعمال الكلمات فقط (فشاعر النخبة قد يستعيرها)، بل اقترانها "بالأشواق" التي يعبر عنها هذا الشعر والتي هي أشواق ابن هذه الثقافة (مثلاً هو يريد "الخل" لا "الحبيب") والتي لا يستطيع ابن الثقافة المسيطرة أن يعبر عنها.

هذا ما أنشده الشيخ إمام رفيق نجم والمتقن للغة الموسيقية للشعب كما أتقن الشاعر اللغة اللفظية للشعب وعبر عن أشواقه.

خذ كنموذج مقابل من الثقافة المسيطرة، ثقافة النخبة، نموذجاً ثورياً غنائياً هو الآخر: المغني الملتزم فهد يكن الذي غنى في الثمانينات:

"أنا لا أريد خنجراً

أنا لا أريد قنبلة

أنا أريد أن آكل وأحب

وأستمع إلى الموسيقى!"

اللغة هنا هي لغة النخبة: انظر إلى استعمال الفعل "أحب" وكأنه فعل لازم (بدون مفعول به)، وهذا الاستعمال "اللازم" لهذا الفعل هو من صفات لغة النخبة لأن الشعب لا يقول "أحب" إلا أضاف فوراً مفعولاً لهذا الفعل. ولو كان يريد أن يتكلم عن عاطفة تذكّر بعاطفة الحب التي تتكلم عنها النخبة لتحدث عن "مودة" أو "معزة".

والأشواق بالمثل هي أشواق النخبة: يريد أن يأكل ويحب ويستمع إلى الموسيقى!

طبيعة العلاقة مع "الشعب" (بمعنى هذه الشرائح المسحوقة) يمكن أن تأخذ شكلين مختلفين: الشكل الأول شكل التزام تلقائي "داخلي" بمعنى أنه معطى من خلال التجربة نفسها التي عاشها الشاعر وبدون دور "خارجي" تأتي به أيديولوجيا معيّنة يحملها ''مثقف"، والشكل الثاني شكل التزام لفظي خارجي لم يأت من معايشة داخلية، وهذه المعايشة هي مجموع منصهر من تجربة واقعية ومنظور اكتسبه الفرد من التربية التلقائية غير المقصودة التي تقوم بها البيئة ناقلة لغتها ومفاهيمها عن الحياة وقيمها، وهي تعبر عن نفسها على شكل لغة خاصة.

تأثر نجم بلا شك بمنظور الشيوعيين الطبقي، وأنا لا أعده "شاعراً شعبياً" لأنه تكلم عن الطبقات الشعبية ودافع عن مصالحها على الطريقة الشيوعية، بل لأنه ظل في لغته وفي "الأشواق العميقة" للشعب التي عكسها شعره، ابن الشعب بالفعل (لا ابن النخبة).

2- سؤال "الداخلي" و"الخارجي" في الوعي الاجتماعي والفني:
ثمة سؤال عن المفاهيم عن ''الفلاح'' ونقيضه ''المرابي'' أو ''الخواجة'' في شعر النديم ونثره، هل جاءت من مصدر خارجي ما (مثلاً عبر جمال الدين الأفغاني وتلاميذه) وكذلك عن مفاهيم بيرم عن الفلاحين والكادحين (ولها آثار في فن رفيقه في الحياة والفن سيد درويش الذي كان غير بعيد عن وسط يعرف أفكار "الحزب الوطني" الذي اهتم بالفلاحين وبالعمال أيضاً، وكان ممن يكتبون أناشيده شاعر هو الشيخ يونس القاضي كانت له علاقة مباشرة بهذا الحزب الذي أسسه مصطفى كامل ثم قاده محمد فريد)، والمصدر ''الخارجي" لموقف أحمد فؤاد نجم من "العمال" و"الفلاحين" معروف بدرجة أكبر من الموثوقية، فنحن نعلم أنه قبل السجن وفي السجن التقى بمعتقلين يساريين علموه كيف ينظر إلى المجتمع "نظرة طبقية" ويحدد الخصوم والأصدقاء، وقد استمرت هذه العلاقات مع المناضلين الشيوعيين لاحقاً (ولا سيما مناضلي الحركة الطلابية القوية في النصف الأول من السبعينات)، وهذا التأثير واضح في التقسيم الطبقي لقوى الثورة في نشيده الشهير:

" شيد قصورك عالمزارع

من كدنا وعرق إيدينا

(..)

وعرفنا مين سبب جراحنا

وعرفنا روحنا واكتفينا

عمال وفلاحين وطلبة

دقت ساعتنا وابتدينا

نفرش طريق مالوهش راجع

والنصر قرب من عينينا"

موضوع "الداخلي" و"الخارجي" في "الوعي" الذي ينطلق منه أحمد فؤاد نجم هو الموضوع الذي يهتم به هذا المقال. ثمة ذكر لكتب قديمة وحديثة في "الفاجومي"، لكنه لا يذكر شيئاً عن كتب محددة قرأها ما عدا الروايات البوليسية!(6) ولا دليل (عندي) على أي قراءة منظمة قام بها نجم لكتب ومطبوعات تقدم رؤية نظرية متماسكة للمجتمع، أي تلك القراءة المنظمة التي تكسب المناضل صفة "الواعي" بالمعنى المستعمل للكلمة عند يسار السبعينات والثمانينات، و"الواعي" عندهم هو ذلك الذي "تضلّع من العلم الماركسي اللينيني" بحيث "يفهم الواقع بشكل صحيح".

ثمة أسباب كثيرة تجعل المرء يشك في أن أحمد فؤاد نجم تملك هذه "الثقافة" بالفعل وبالتالي أنه تبناها تبنياً كاملاً، رغم أنه بالتأكيد كان على احتكاك بها عبر المناضلين الماركسيين، ومن هذه الأسباب أسباب "خارجية" تستند إلى المعلومات عن سيرته التي قدمها هو في "الفاجومي" جزئيا، وقدمها من عرفه عن كثب، لكني هنا أهتم بالرؤية الداخلية المستقاة من شعره. ولنحاول اقتصاص أثر المكونات الثقافية في شعره:

أ- أثر النخبة الماركسية:
قسم أحمد فؤاد نجم المجتمع المصري إلى طبقات، وله قصيدة خاصة عن تركيبة هذا المجتمع:

"يعيش أهل بلدي وبينهم مفيش

تعارف يخلي التحالف يعيش

تعيش كل طايفة

من التانية خايفة (...)

يعيش التنابلة بحي الزمالك

وحي الزمالك مسالك مسالك

تحاول تفكر تهوّب هنالك

تودر حياتك.. بلاش المهالك

لذالك....

إذا ردت توصف حياتهم

تقول الحياة عندنا مش كذلك !(...)

يعيش الغلابة في طي النجوع

نهارهم سحابة وليلهم دموع

سواعد هزيله

لكن فيها حيله "

يمكن الظن أن الرؤية هنا هي الرؤية الماركسية،

ونجم يأتينا في القصيدة نفسها بشريحة ثالثة: إنها شريحة "المثقف":

"يعيش المثقف على مقهى ريش

محفلط .... مزفلط كثير الكلام

عديم الممارسة عدو الزحام

بكم كلمة فاضية

وكم اصطلاح

يفبرك حلول للمشاكل قوام"

ومن الممكن أن يكون هذا التوصيف لهذا المثقف المترف المتكبر على "الزحام" أيضاً مما سمعه نجم أو اتفق فيه مع مجموعة يسارية محدّدة في زمن القصيدة، وهذا النوع من المثقفين هو الذي شمت به في أغنيته عن انتفاضة يناير:

"مصر قامت تنتفض عز ما كان السكات

بعدما قاموا الفلاسفة يشخصوا عقم الحارات"

لكن حين ينتقل نجم من المسألة الطبقية إلى المسألة الوطنية، أي مسألة الصراع مع الاستعمار سنراه لا يتكلم اللغة الشيوعية المعروفة بل سنرى آنه يعود للغة الشعب.

ب- أثر "ثقافة العامة" و"ثقافة الخاصة" في شعره:
إن جئنا إلى توصيفه للاستعمار الأجنبي سنجده يستعمل وصف "الخواجات" لتسميته، وهذا متناثر في قصائد كثيرة: مثلاً "حاحا"

"دخلوا الخواجات

شفطوا اللبنات

و البقرة تنادي

حا حا

وتقول: يا أولادي!

و اولاد الشوم

رايحين في النوم"

وفي رثائه لهوشي منه يقول:

"يادي العجب يا رجب يا مرتب الحكايات

اسمع وشوف واندهش واكتبها في الكتبات  (...)

الحزن طول عمرنا له من حياتنا ساعات

نقضيها في النهنهة ونضيع الأوقات

نحزن على اللي مضى ونعيش مع اللي فات

أول ما طار الخبر وتأكد الإثبات

صاح السلاح في الحرس قال هو شي منّه مات

الحاكم اللي زهد في الملك واللذات

والزاهد اللي حكم ضد الهوى والذات

أول ما طار الخبر بين الجنود إشاعات

دمع البارود انهمر دفعات ورا دفعات

واحدة تصيب العدا تردي العدا عشرات

و الثانية من عزمها زعق الفضا زعقات

و التالتة تحمي الفضا من فانتوم الخواجات

والرابعة من بعدها والمية والألوفات

تغسل طريق البشر وتموّت الحشرات"

مع أن الحدث هنا هو "بامتياز" حدث "يهم اليسار"، لكنّ الرثاء لم يكن "ماركسياً" بل استعمل مقولات "تراثية" تماماً: "الحاكم الزاهد في الملك واللذات" "ضد الهوى" ويأتي وصف المستعمرين بأنهم "خواجات" والوصف الأخير قد يستعمل للطبقة العميلة المحلية كما في قوله

 "يا خواجه يا ويكا

يا بتاع أمريكا"

احتفل نجم كما هو معلوم بالثورة الإيرانية، وله جملة قصائد جمعت في شريط خاص صدر عند انتصار الثورة، وفي هذه القصائد سنجد منظوراً للثورة بعيداً عن التعصب الأيديولوجي اليساري أو التعصب الديني الضيق:

"ده شيعة واحنا سنة ده فين ومصر فين

عايزين يدخلونا نظام ودنك منين

و ناس تقول شيوعي

وعامل نفسه شيعي

عشان خايفين طبيعي

لا يبقوا ثورتين

يا أسيادنا اللصوص

قرينا في النصوص

لو الإنسان يلوص يغوروا الفرقتين"

في آخر القصيدة يسأل نجم: "يزيد ولاّ الحسين؟".

لا جدال في أن أحمد فؤاد نجم لم يكن بالمتديّن، وما من مركز ديني من مراكز عصرنا (بما فيها الأزهر) سيرضى عن كتاباته من منظور ديني من المنظورات الشائعة في عصرنا، ولكن اللغة الدينية حاضرة حضوراً لافتاً في قصائد نجم وعبر السنين فمثلاً: في بداية السبعينات يقول ضد السلطة الأردنية، وسيراً على نموذج شاعر الربابة: (أول السبعينات)

" أصلّي عالنبي قبل البداية

نبي عربي مشفّع في البرايا

واسلّم بالوتر والقوس عليكم

يا كل السايرين عالشوك معايا

يقول الشاعر المجروح فؤاده

من الأنذال ومن عشق الصبايا

رضانا بالقليل والخوف رمانا

بحكام المواكب والهفايا

و إيه بعد المسيرة الهاشمية

على عينك يا تاجر في المرايه"

بعد ذلك في رثاء خالد استنبولي (1981):

"أصل الحكاية ولد

فارس ولا زيه

خد من بلال ندهته

ومن النبي ضيه

ومن الحسين وقفته

في محنته وزيه

قدم شبابه فدا

والحق له عارفين"

و هذه اللغة الموجودة في مراحل شعره المختلفة تمتح من معين اللغة الدينية الشعبية، مرة عبر نقل عن لغة شعراء الربابة ومرة عبر نقل عن لغة الحضرات الصوفية:

"يا سيّد يا بدوي

ياسيدنا الحسين

مدد يا ام هاشم

يا كحل العينين"

3- لماذا كان نجم "شاعراً شعبياً"؟
ثمة هم ثابت في هذه اللغة هو هم الثورة، ولكن لغة الدين عند نجم ليست "تكتيكا" لتوصيل الشعار الثوري إلى الجماهير بلغة تفهمها! فهي جزء من لغته الخاصة غير المستعارة، لأن نجم، كما أحب أن أقول، لم يكن "مثقفاً" بمعنى "متمثل الثقافة المترجمة والمشتغل فيها"، بل ظل "شغيلاً ثقافياً" من الشعب، ولم يحقق في حياته على طولها أي "اختراق" للمنظومة الثقافية الشعبية"، كما أسميها مؤقتاً في انتظار اسم أفضل، وهذا الاختراق إنما يظهر أساساً في اللغة والأشكال الأدبية، كان أحمد فؤاد نجم شاعراً شعبياً لا لأنه كتب بالعامية، بل لأن لغته ظلت هي لغة "الثقافة السائدة"، وبالتحديد بالسمة الغالبة: "ثقافة العامة" منها (خلافاً للنديم وبيرم لم يكتب نجم بالفصحى، وإن كانت قصائده لم تخل من آثار لثقافة الخاصة) ولم يتمثل قط لغة "الثقافة المسيطرة" ولم يستعملها بالتالي.

وفقاً لتعبير أضعه مكان تعبير"المثقف الشعبي" سأقول إن "الشغيل الثقافي الشعبي" (لنقل بمناسبة نجم: "الشاعر الشعبي") يمتاز بأنه لا يخرج عن نطاق مجموعة البدائل المحتملة للغة التي يستعملها الشعب، وهذه المجموعة هي التي تسمى اختصاراً "لغة الشعب"، ولا يعبر عن "أشواق" لا يتشوقها الشعب. وأريد هنا أن أعيد صياغة هذين الشرطين على نحو آخر:

أقصد "بلغة مكون اجتماعي ما" مجموع البدائل اللغوية (بالمعنى الواسع لكلمة "لغة" الذي يتضمن كل أنظمة الإشارة اللفظية وغير اللفظية) الممكنة التي يستعملها أفراد هذا المكون وتتمثل في أشكال عملية (لغة المحادثة اليومية) وأنواع أدبية وفنية (أنواع الأدب والفن المختلفة التي تنتجها الجماعة المعنية). ونميّز على هذا الأساس في مجتمعنا "لغة الخاصة" و"لغة العامة" و"لغة النخبة"، وقد قلت إن نجم تكلم لغة "العامة"، وهي ما أسميها تجاوزاً "لغة الشعب"، وإن لم يخل من استعارات من "لغة الخاصة". ووظيفة الشاعر (كما يقول الاشتقاق العربي العبقري) أن "يشعر" بالأحاسيس التي تتجاوز حيز ما هو فردي مطلق لا يشاركه به أحد، إذ هذه المشاعر الفردية على فرض وجودها لا يمكن التعبير عنها في اللغة التي لا تعترف إلا بما هو "كليات" و"تجارب واقعية مشتركة". يعبر الشاعر عن مشاعر تهم أفراد الجماعة المستقبلة لنصوصه، وهي التي أسميتها "أشواق الجماعة"، ويقوم الشاعر بوظائف في هذا "العالم الشعوري" يمكن أن نعدد منها:

1- الدفاع عن حق الجماعة في الوجود وتبيان أهميتها في الحياة:

" سواعد هزيلة

 لكن فيها حيلة"

بمقابل تصوير خصوم الجماعة على أنهم لا يمتلكون هذا الحق وهذه الأهمية: "يعيش التنابلة بحي الزمالك".

2- توكيد القيم المقدسة و"صيانة قوتها" (كما يتكلم التقنيون عن "صيانة الآلات والأدوات"): "أصلّي عالنبي قبل البداية".

3- أقلمة المشاعر الفردية مع القيم الناظمة لحياة الجماعة:

 "من هنا سكة ندامة

 ومن هنا سكة ندامة

سكتين يا الله السلامة

أمشي فين يا ناس قولولي"

4- التعبير عن مشاعر فردية تعتري أفراد الجماعة والتنفيس عنها:

"يا حبايبنا

فين وحشتونا

لسه فاكرينا

ولا نسيتونا

دا احنا في الغربة

م الهوى دبنا

وانتو في الغربة

جوا في قلوبنا

أوعوا تفتكروا

إننا تبنا

مهما بعّدونا

أو فرقونا"..

عبّر نجم عن مشاعر "الجماعة الشعبية" مستعملاً لغتها ومتقناً أشكالها الأدبية ولم يخرج عنها، من هنا نقول إنه كان شاعراً شعبياً!

 

برلين

 

هوامش:
(1) في: نجيب توفيق، "عبد الله النديم خطيب الثورة العرابية"، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة، 1970، ص 101.

(2) انظر وصف نجم للحادثة الطريفة التي تقمص فيها شخصية عنتر بن شداد في: أحمد فؤاد نجم، "الفاجومي، تاريخ حياة مواطن شايل في قلبه وطن"، دار سفنكس للطباعة والنشر، القاهرة 1993، صفحة 155.

(3) يقول نجم: "كنت مبهور بشوقي وعبد الوهاب وبأي شيء فيه ريحة أوروبا المكرمة (...) طول النهار أتعالم وأتفلسف واسفّه عشاق شعر بيرم وألحان سيد درويش وزكريا أحمد..باعتبارها حاجات بلدي..وأنا راجل أفرنجي أباً عن جد!". "الفاجومي"، ص 205.

(4) انظر في موضوع علاقة نجم بالشيوعيين: "الفاجومي"، صفحة 175 وما يليها وصفحة 229 وما يليها.

(5) انظر: أحمد أمين، "زعماء الإصلاح في العصر الحديث"، دار الكتاب العربي، بيروت، بلا تاريخ نشر، ص 210-211.

(6) انظر وصف نجم لقراءات صديقه المثقف سعد الموجي في "الفاجومي" ص 243، وتباهيه بقراءة عدد كبير من الروايات البوليسية في المصدر نفسه صفحة 176.