عزاءٌ وارف
أنصتوا يا جماعة إن فاتكم شيءٌ قولوا سمعنا.
يا سادة يا مادة يدلّنا ويدلّكم على الشّهادة كلامنا بالترتيب حسنْ و عجيب صلّوا على النبي الحبيبْ.
كانَ إذا أرادَ شيئا يذهبُ رأسا إليها مباشرةً تكرمُهُ ثمَّ تُواسيهِ
_ما فاتكَ شيءٌ. الدّنيا رحبةٌ و الطّريق بها ألفُ عين ليسَ على المرء إلاّ أن يتوكّل على نفسهِ. الوصايا مغدورة هذه الأيّام .و لا فائدة في الإطالة
_أمّي اُدعي لي دعوة صالحة تنجيني من أولئكَ السّدنة إذ كلّما انزاحت عنّي صعوبة و دخلتُ في مًعتركٍ آخرٍ وقفوا أمامي حجراتِ عثرة يريدون صكوكا و رشاوى. يتبعونني إلى أين؟ لا أدري
_لا فائدة في الدّعاء الذّهابُ بقصديّةِ الموتِ تنجيكَ من مآسٍ كثيرةٍ كن كما أنتَ أصمّا اِستمع إلى أنفاركَ فقط.
_و لكن أمّي ألا يدعو الأمر إلى الاستغراب اُنظري كلّما باشرتُ في عملٍ ما إلاّ و انتقلوا بي من بؤرةِ الفعل ووضعوني على جهةٍ إلى أن تحينَ الإقالةَ .
_ربّما عملكَ ناقص أو ليسَ منجزا كما ينبغي
_لكن رؤسائي المباشرين يبكونَ حسرةً كلّما فرّطوا فيَّ
و قالوا إنّ أمرَ إقالتكَ تمّت من أُناسٍ آخرينَ أنتِ تعلمينهم .
كانت هذهِ آخر محاورةٍ تمّت بيني وبينَ أمّي التّي غادرتني صبيحةَ هذا اليوم . الدّنيا سوداء أمامي تماما مثلَ دراما توجيا أتقنها كاتبٌ ملمٌّ بكلِّ تفاصيلِ الحالاتِ المشابهةِ .
المنافقون و السّادة و الحثالة و الصّعاليك و الهمّش و العاشقات و أصحاب الياقات البيضاء و العجائز و الأطفال الذّين درّستهم كلّهم أتمّوا العزاء.
_البركة فيك
_اللّه يبارك فيك
الموكب لم يكن جنائزيّا حين لمحتُ امرأةً أوصتني بها المرحومة . كانت يماماتُ العشقِ ترفرفُ حولَ الهالة القدسيّة فوقنا و الأنوار اشتعلت بيننا نيرانا لا ترضى أن تكون إلاّ بياضا يكفن صمتنا المتوالدَ .
الدعوة التّي تركتها لي و الوصيّةُ الأخيرة لم تنقذني من مخالب أولئك الذّين أرادوا هدمي .
المسرحةُ منفلتة من انضباطها العسكري جاءت أمّي في الحلم و أوصتني بها قالت:" لآخر مرّة سأدعو لك اللّه أن تتزوّج بها"
_لكن أمّي إنّها متزوّجة كما تعلمين لا يجوز
_ يجوز ذلك في الغيب اِبحث عن رائحتها في أخرى
_ لا .لا. أمّي ما الحبّ إلاّ للحبيب الأوّل
_لا لا ابني هذا هراء حبيبكْ إذا شِردْ ..لا تلحقهْ لا تجيبهْ
عندي غزال إلّي يضدّ.. و تِرجعْ المحبّهْ جديدهْ
حملتُ نفسي إلى أقرب حلقة دراويش كانت بجانبنا تراقص أطياف الظلِّ . زرتها هناكَ على ضوء القمر
كلّما أسريتُ إلى قبرها كانت المرأةُ تموءُ بينَ القبور
و الاثنتان الميّتتان ظهرتا على سطح القبور . الأولى بنصيحة قتلِ الربِّ و الأخرى بوصيّةِ حوّاء التّي تغري و لا تحزن.
الأولى حالفها الحظّ إذ كانت تظهر كلّما قاوم عجزة و ترك لنفسه فسحة أمل جديدة يركن لملذّات الدّنيا و يستنشقُ هواء الحرّيّة و طقوس الرّحلات و الثّانية صدمته بأنّني بدائيّ تركته لصدف ميّتة عزّته وهي ميّتة .
بكاهما حين أطلّ خلفَ شبابيك اللّيل. غنّتا له سوناتات شكسبير و أحضرتا له وليمة من قدّ الموتى خلف الكاميرا التّي تعبت من رصد المشهدِ .المخرجُ و بقيّةُ المتتبعين
اِنهمر الدّمع منهم شفيفا أبيض بينما كنت أرجع مهتوكا إلى بيتي تجرّني حسرة آدم .
اِتصلت أخيرا حبيبتي عبر الموبايل تطلب لقاءا آخر في المقبرة .
إذا فاتكم شيء قولوا سمعنا.
الجلاّسُ من حولي :" يا لَطيف تلطفْ بِينَا، مازلْنا نسمعْ مازلنا نرى !!! "
حكمة السيّدة الأولى
أفاق الكاتب صباحا برأسه دُوارٌ و بعينيهِ ماءٌ . فتح العزلةَ وراحَ يخطُّ بخطِّ الرّقعةَ ما آكتشفَ أنّهُ بابٌ من أبوابِ الشّعرِ قد حكت عنهُ جدّته البومة و لم يُصنّفهُ حازم القرطاجنّي إلى أيِّ بابٍ. تركَ الأمر سائلاً كالزّئبقِ بينَ يدي القارئِ و لم يستطع الخليل ابن أحمد الفراهيدي أن يُقولبهُ تحتَ أيِّ بحر
لا بنعمْ و لا بلاَ .
أغلقتُ بابَ الغرفةِ حتّى لا يقلقني صغارُ الدّارِ. كانت حشرجةُ شجرةِ الحديقةِ تغمسُ في الصّمتِ أوراقها و المكانُ يفتحُ أصواتهُ لكي تدخل الشمسُ. ليسَ من عادتي الإطالةُ .
إنّها القصيدةُ الأولى تحكي تفاصيلها منذُ أن ولدت حتّى أبطأها الموتُ لغايةٍ في نفسِ يعقوب .
يا سادة يا مادة يدلكم و يدلّنا على الشّهادة صلّوا على النبي الحبيب كلامنا مرتب ترتيب حسن وعجيب زيدوا صلّوا على النبي الحبيب .
_ ألف و لا يزّي
....؟؟؟؟ !!!!!
في قريةٍ من قرى الساحل على منحدرِ النسيانِ بإفريقيّة العبادلة السبعة وُلدت آمرأةٌ من أبٍ بيزنطيّ و أمّ ونداليّةٍ دخلت الدّين الجديد عن طيبِ خاطر و بدأت حياتها كزوجةٍ وهيَ في التاسعةِ من عمرها لحسنِ قدّها و رقّةِ قلبها وآكتمال بلوغها . خطبها رجلٌ طفلٌ أيضا بأحلامه التّي شرحت صدرهُ حين رمقها تحملُ سلّة بها قوتُ يمامات يرتزقنَ عل البئرِ
و كانت تُسعفهنَّ المرأةُ عندما تصلُ الحافّة .
أعجبتهُ فأعجبها. أتّموا أنتم نشوةَ اللّحاق بالفراشةِ و رحلةِ الفرحةِ بينَ شاعر و شاعرة عند الوصول.
.......ذهبَ زمانٌ و جاءَ زمان. دار لقمانُ على حالها البلادُ هيَ البلادُ و البحر مازالَ ينشرُ ألواحهُ بالبشرِ و الغزواتِ .
رمضانُ يأتي و رمضانُ يروحُ و الوشمُ لم يمّحِ من مُخيّلة المرأةِ . السلّةُ و اليماماتُ.
تطبخُ زينبُ الكسكس و تسقيهِ بمرقٍ أنثوي يطفحُ برائحةِ الحبِّ ثمَّ تأمرُ أحدَ احفادها ليذهبَ بالصّينيّةِ إلى الجامعِ المسجدِ. عندما يحلُّ المغربِ تأتي العصافيرٌ من كلِّ حدبٍ
و صوبٍ تغمسُ مناقيرها تلتذُ رائحةَ الطّفلةِ ذات التسعِ سنواتِ
و تر الجنّةَ على الأعتابِ . الغرباءُ عمّالُ الحظائر والمتسكّعونَ يحضرونَ المأدبةَ بكلِّ فخرٍ . يلتفونَ حولها لا يبسملونَ كعادةِ المصلّين الذّينَ في الدّاخلِ بجوارهم بجانبهم خطيفات المقامِ يصغينَ الآذانَ إلى حديثهم المتقطّعِ
_ما ألطفَ هذه المرأةَ كم هو لذيذُ هذا الطّعامِ البسيط
_هذا من طعامِ الجنّة يا صاحبي
_قلتُ هذا في قلبي
_اِجهر بهِ لمَ لا ! نحنُ عصافيرها في النهايةِ نحدسُ غيبها كلّما جاءَ طيفها على عتباتِ الغروب
_يا كاتب ارجع بالسلّةِ إلى الدّارِ قبلَ صلاةِ التراويحِ
_لماذا يا أمّي ؟
_حتّى أُسعفَ هؤلاء الجنيّاتِ أيضا الرّابضاتِ أمامي
_ماذا ؟
لم يصدّق الكاتب أنّ أمّهُ تسقي الجنّيات حساءَ لياليها في رمضان المبارك.
الأمّ زينب قصيدة ليس كمثلها قصيدة احتار الشّعراء في وصفها فهي و لا عجب ربّة القرية حارسة الماء و خادمة التراب سيّدة المقام قابلة الأيتام ناحتة الضّوء و مرضعة الأرواح ........حين تمشي كانت العصافير تصنع غمامات الفرح حتّى لا يهلكها التعب تُصبح أمام المقبرة تقرأ سورتها المعهودة تقول في سرّها " ألهاكم التّكاثر......
ثمّ تمرُّ إلى الجنائز تقطف فاكهة العشاء الذّي سيُطبخ اللّيلة .
لن أطيل عليكم و ليسَ من عادتي الإطالة . من رغب في كوبِ ماءٍ او جرعة مُرناقْ فليتفضّل ليسَ لنا ما نعمل غير الحكايات ننتظركم عند حلول الغروب.
.....ضوضاء خارج البيت ، عتمة تغلف سطح الطّريق ، البيوت مطفأة و الأناس أمام بيت الحجّ ينتظرون المائدة .
_ ما بهم يا أمّي ينتظرون ؟
_ينتظرون البركات
_هل اتممتِ
_لم أتتم السّقاء سأضع لهم نكهة الزعتر و مذاق الغرباء
_إنهم صفّا صفّا
_لماذا ما بهم ؟
عندما ذهبت زينب تستكشف الحالة رأت الكاتب بَبيرقهِ الأبيض يرثي حالة القرية . الصّحون بأفواهٍ جائعة على مصطبة البيت و الأدعية سجف من نفاق
_لقد أخذتهم يد الجوع أسعفيهم يا زينب
حين ادارت المرأة للجموع سمعت أصواتا ليست كالأصواتِ العصافير التّي سقتها و أطعمتها و ليسَ كأصوات الغرباء
الذّين يعملون طوال النهار ليجدوا الدّفءَ أخيرا في لقمتها الفردوسيّة .
وجدت ثعابين برؤوس آدميّة تُبحلق في شيبتها لِتَنهبها كرمها و ماءَ حيائها .
بصمتٍ لا مثيلَ له أتمّ الكاتب الكلمات . وبعسر أشاحَ بوجهه عن الجموع أخبرهم بأنّ حارسة الماء سيّدة المقام على فراش الموت فادعوا لها أن يدخلها الربّ فراديس جنانهِ .
بينَ اللّحظة و الأخرى اشتمَّ الكاتب رائحة الطّعامِ تطلع من مسامات القماشة البيضاء تعمّ أنوف الجماعة و المشيّعين تستبدل نفسها عطرا من قيعان الجنّة.
كانت وصيّتها أن لا تنقطع العادة في الخلف. رغم معارضة الكاتب و حروفه المتسلّقة حيطان منازلها العالية في اجتماع حميميّ و مكوّنات مجتمعها المصغّر . إلا أنّ الإجماع كان سيد الموقف .فأزدان فراش العائلة بزينب أخرى تروح
و تجيء أمام أعين اللّقطاء تحضر لهم عشاءهم كلّ ليلة من ليالي الصّيام منّة من ربّ كريم.
_ لا تنس يا ولدي عُد بالقصعة قبلَ التراويح
_لماذا؟
_ألا تعرف لماذا؟
_ماذا أخبرتنا ملكة النحل ؟ الجنيّات أيضا لها قسم من طعام العصافير.
....ليسَ من عادتي الإطالة .
رغم انتهاء كهذا قد لا يُشيُ بالفجاءَةِ إلاّ أنَّ المرأة تخرج علينا من المحرابِ كلّ ليلة تغمسُ يدها معنا في القصعةِ تنظر إلينا بِحنوِّ حوّاء على أبنائها تستأذن كما الجنيّاتِ ترقصُ رقصةَ حلولِ الإفطار ثمَّ تعودُ إلى مخدعها بكلمات الغرباءِ
و سيرة الأعشى .
الحصير نفس الحصير في الزاوية تلك من زوايا الجامع كان يلمُّ بقايا المأدبة لخطاطيف مأهولة جاءت تُسبّحُ باسمها تُحنّي خصلات شعرها على أطراف الحلقة بحذاءِ الصومعةِ.
الفُجاءَةُ تركتها للمُنصتينَ على الدكّةِ هؤلاء الذّين جاؤوا ليتعلّموا الشّعر من شفاهِ زينب . لا نسأل عن حالها وتسألُ عن حالنا . تقولُ أخيرا حمدا للّهِ على ما أصابنا. زوروا المقابر و أنتم عُزّل إلاّ من الصّمت و كلمات العصافير
" لا مِنْ ماتْ وهزْ معاهْ "