تكتب الروائية العراقية سفر العوائل الأشورية القديمة أو ما تبقى من تلك الأقوام التي صنعت أس الحضارة البشرية، عن تداخلهم بنسج المجتمع العراقي، ومحنتهم زمن الحروب والقمع، عن هجراتهم إلى أمريكا هرباً من الأوضاع، عن طقوسهم العائلية والدينية والاجتماعية الخاصة، وعن مصائرهم التراجيدية في بلدان الهجرة.

سهدوثا (رواية)

ليلى قصراني

إلى محمد الحمراني

الأمير السومري الذي غادر بهدوء سحر الأهوار إلى السحر الأبدي

 

لم أرَ أحداً قطُّ يشرب البترول سوى أبي. فعندما أراد التخلّص من الديدان الشريطية العالقة بأمعائه، طلب من جارنا أحمد السائق كأساً من البنزين، شربها أبي ثمّ ارتمى على كرسي خشبي قديم في غرفة الجلوس، شاعراً بالغثيان، ونحن الأطفال نسمع أنينَه في غرفة النوم المجاورة حيث نختبئ. بينما أمّي من المطبخ تصرخ: «ألم أقل لك ألا تسمع كلام عبد الرزاق، ذاك المضمّد الفاشل». فيغمض عينَيه دون أن يردَّ عليها. وبعد قليل ينتفض، يتلوّى من المغص، ويركض إلى الحمّام، مرّة للتقيّؤ ومرّات للتغوّط، ثم ينام نوماً مضطرباً. في الليل تبدأ الكائنات السكرى بالنفط بالزحف على الأرض الإسمنتية الرطبة في الحمّام المظلم وتسلُّق جدران مُشبَعَة بالبترول غير المشتعل في أعضاء أخوتي الذكور الستة.

أنا لم أرَ أحداً قطُّ، يشربُ البترول ويعيش. كانت أمّي قد نصحته أن يُجمِّدَ قطعة رفيعة من اللَّحم النيّء ويدخلها في إسته لتتجمّع الديدان حولها، ثمّ يسحبها ويعيد الكرَّة حتى تختفي، فسخر هو من وصفتها التي ورثتها عن جدَّتي القرويّة.

الديدان لم تغادره كليّاً، بل ظلّت تنشطر وتهاجر في داخله. في الليالي، يعرف بتحرّكاتها فتتهيّج أعصابُه. ويأتي صراخ ديك الجيران في الفجر ليزعجه أكثر. فحين يصيح ديكُ بيتِ أبو كرّومي، يستيقظ أبي غاضباً، يوقظ النائمة بجانبه. وأختي الأكبر منّي، في الحجرة نفسها لا تفهم ما يحدث. كان أبي، قبل ولادتي، يستيقظ غاضباً بسبب ديك الجيران فيُفرغ غضبه في أمّي. ذات خريف تسلّل في فجر بريء، عابراً السياج الخشبي المبلّل بالمطر، إلى الحديقة الخلفية لبيت أبو كرّومي، فتح باباً حائراً بلا صرير. اتّجه نحو القفص، وسحب عنق الديك الغبي بعصبية، وكسره، ثمّ تركه خارج القضبان بعدما وضع بعض حبّات حنطة بجانب القفص كي يبدو كلّ شيء وكأنّه مجرّد حادث.

مرّ أسبوع كامل، والجيران لا حديث لهم سوى رأس الديك المتدلّي من قفص دجاجاتهم. تقول أمّ كرّومي لأمّي: «يا دليلة، لا نعرف كيف مات ديكنا، ربما سمَّموه، أو أن رأسه انحصر بين قضبان القفص». وأمّي تحكُّ بطنَها منزعجة من هذه الحكاية. ربّما خائفة من أن ينفضح أبي، بينما أنا أرفس، أرفس التي حاولت بطرق عديدة إسقاطي، وتجاهلتُها لأني عزمت منذ الأزل أن أحدّث عمّا شاهدتُ. أقصد الجريمة الكاملة وغياب صياح ديك في فضاء صامت، وعن افتخاري بأبي عندما وضع حدّاً لروحه الهائمة في عدمية الحياة اليومية. أيضا لأكفّر عن ذنبي تجاه أختي التي لم تعد الصغرى.

المرّة الأولى التي رأيتُ فيها جنيناً، لم تكن في مختبر المدرسة، بل في حمّام المدرسة. دخلت ورأيت، في زاوية الحمّام المظلم، بينما رائحة البول تكاد تخنقني، قطعةً من اللحم ملفوفة في خرقة ملطّخة بالدم. كان من المفترض أن أكون أنا نفسي ملفوفة بخرقة ملطّخة بالدم. القابلة طمأنت إحدى الطالبات بعدما انتهت من إجهاضها «لا تخافـي، معظم زبوناتي من مدرسة القعقاع، اليوم تأتي البنت إليّ للإجهاض وفي اليوم التالي ترجع إلى المدرسة. تحبل الفتاة وتجهض ثم تتخيّط، وهكذا تتزوّج عذراء، أنتنَّ يا بنات كلّكن عذراوات». كانت القابلة تصيح بالبنت التي تخاف الإجهاض: «عندما فتحت ساقَيك له لم تفكّري بهذه اللحظات».

 منذ البدء عرفت أني مجرّد غلطة، فكيف أكون ضدّ الإجهاض، وأمّي كادت تجهضني؟ أيّ قسوة قلب! أعرف أن وجودي مزعج، فهو ليس سوى تشويش. أكان ضرورياً أن أوجد؟ أنا التي لست سوى بكتيريا تعتاش على الغير. أحياناً أستطيع أن أتخيّل الحياة بدوني، لا بدّ من أنها كانت ستكون أكثر إثارة.

حين كبرت فهمت، لماذا ولدتُ في تموز، في الغرفة المعتمة، في بيتنا المستطيل، الغرفة المحصورة في الوسط بين الغرفتَين، التي لم يكن فيها ولا حتى شبّاك صغير. أدركت أيضاً لماذا أرادت أمّي أن تتخلّص مني. لكنّي لم أفهم قطُّ، لماذا علّق أبي في غرفة الجلوس، صورة العائلة الوحيدة بالأبيض والأسود، وفيها يظهر الجميع ما عداي. ضحك أبي حين سألته، لا أدري لماذا ضحك: «انظري، إنكِ هناك أيضاً... كانت أمّك حبلى بكِ». وأضاف: «كان بإمكاننا أن نلتقط صورة أخرى لولا رحيل أخيك إبراهيم». لكني لم أقتنع. عندما تغوَّطتني أمي كنت حيّة بعينَين كبيرتَين تشبهان عينَيها. أحبّتني بعد حين، ربّما أحبّتني أكثر من بقيّة أبنائها السبعة. رغم أنها صاحت بألم: «أوخ ماري!». كانت تنادي ماري الربّ دون أن تدري أن لغتنا وطقوسنا هي من أصل أكدي.

ولدت يوم الاثنين. يومها صرخت أمّي من خلف الباب: «داود، انظر ماذا فعلت بي». تمتم أبي بلا أبالية: «كأنها ليست هي نفسها دليلة التي في الليالي تتوسّل بي وتقول: ادفعْه في داخلي جيّداً يا داود آهٍ... أعمل كذا وكذا يا داود... يا لها من بلهاء، تظنّ أنّ ثمن المضاجعة رخيص!». لم يكن نموّي طبيعيّاً. فأذناي ظلّتا تكبران بسرعة، أسرع من نمو قامتي القصيرة. تقول أمّي بأنّي أشبه جدّتي أمَّ أبي. لكن يقال إنها كانت قزمة. وعرفتْ أمّي أنني آخرُ أولادها، فكانت تناديني «بنيامينتي... بنيامينتي». لم أكن أفهم قصدها حتّى كبرت وعرفت أنها كانت تشير الى أصغر أبناء يعقوب. فكانت تسمع وتحفظ ما يقصّه عليها أبي من قصص وأساطير الأولين، إذ كان يهدّئ أعصابَها بالحكايات والصلوات التي يقرأها بصوته الرخيم. بعد ولادة أخي سامي مباشرة، أصيبت أمّي بكآبة شديدة، فقد كانت ولادته من أصعب ولاداتها. أثناء الوضع، سامي أبى الخروج، فقامت الداية بمدِّ يدِها إلى أحشاء أمّي وسحبته بعنف. لم يبكِ حالَ ولادتِه، فكان لونه مزرقّاً. أما أمّي فاضطربت عندما شعرت بيد المرأة الباردة في داخلها. فلكمت كُرجية (القابلة) التي أولدتنا جميعاً، وشدَّتها من شعرها الأحمر.

«المرأة التي ترتفع درجة حرارتها بسبب الولادة، يجب ألا يمسَّ جسدَها الماءُ إلا بعد إتمام الصلوات المعدّة للنفساء». وتلوم جدّتي نفسها: «كان ينبغي أن أكون معك يا دليلة فالنفساء يجب ألا تبقى وحدها لأربعين يوماً». أما عند خروج سامي إلى العالم، فكأنّ أرواحاً غريبة دخلت البيت في ذلك المساء وسُمِعَتْ أصواتٌ كالتي يسمعها الساكنون قرب المقبرة، عبر السياج من الجهة المقابلة للنهر. المرآة في الحمّام وجدوها مكسورة في الصباح بلا سبب. أخبرني يعقوب بذلك عندما رحلنا إلى بغداد. بينما كنا نراقب شهبَ النجوم تسقط من السماء وأقول ليعقوب بأني أخاف من البدر فأنا لا أستهين بضعفي أمام القمر لأن ضربة القمر أقوى من ضربة الشمس. أنظرُ إلى النجوم وأتساءل إن كان يوجدُ أطفال في كوكب آخر بعيون وآذان كبيرة مثلي! أجابني يعقوب: «لا تكرهي نفسك بسبب أذنَيك». كان يجرحني دون أن يعرف وأضاف: «أتعرفين لماذا لا نملكُ لكِ صوراً في البيت وأنت طفلة؟ لقد جمعت أمّي كلّ صورك التي تبدين فيها عن قرب، ومزّقتها في أحد الأيام. لم تُحرقها بل قطّعتها ورمتها في الزبالة. كنت مختبئاً في الغرفة الوسطى أتنصّت إلى أنينها، سمعتها تقول بصوتٍ باكٍ بعد تقبيل كل صورة قبل تمزيقها: لا أريدك أن تكبري لتري صورك برأسك الصغير وأذنَيك الكبيرتَين». لم يلاحظ يعقوب دموعي إذ كنت أبكي بصمت. وصرخ بنا أخي فاروق بأن نكفَّ عن الكلام لأنه وقت النوم: «نامي كي تكبري فالأطفال يكبرون إذا ناموا، أما أنت يا يعقوب فقُمْ تبوَّل ونَم». أما أخي عدنان فمشى بخطاه العرجاء ليغلق باب السطح بعدما غفونا جميعاً.

عندما أُصيب عدنان بالشلل بسبب نسيان التطعيم، همس الناس بتهكم: «ابن الدكتور مصاب بالشلل». أخذته أمّي للعلاج في بغداد. كنتُ يومَها في سنتي الثانية، فتركتني مع بعض الجارات اللواتي حاولن إرضاعي وإطعامي لكني رفضت. حين عادت أمّي بعد غياب أيام كثيرة لم أنقطع فيها عن البكاء، حاولت إرضاعي دون جدوى. فوضعت حلمتها في فمي بالقوّة، عضضتها فانتقمت مني بأن صفعتني وفطمتني. لم تفهم أمّي بأني كنت أستطيع أن أدرك وأني كنت بحاجة إليها أكثر من الحليب ذاته. يبدو أنني مثل أبي، فهو لا يحبّ الفراق خصوصاً بعد سفر ابنه البكر. إبراهيم أخي، خرج من البيت وهو يعرف إلى أين يذهب. لقد أدرك في السابعة عشرة من عمره، بألا مستقبل له في المدينة الصغيرة، فرحل إلى خالي يوسف في نينوى، لكن المكان ضاق بهم، فأرسل خالي يوسف جدّتي لتُمضي الشتاء معنا ففرحنا بوجودها. كانت جدّتي تطبخ لنا أكلاتها الجبلية وتصنع لنا المربّيات والمخلّلات. علّمت جدّتي أمّي حفظ الرمان بدفنه في برميل مملوء برمل وقش رطب. حين يأتي الصيف كانت جدّتي ترحل شمالاً إلى الجبال في موسم نضوج الخوخ والعنب ونتناوب في الذهاب معها، لتمضية أشهر القيظ الثلاثة. ذات مرّة اصطحبت معها يعقوب وبعد أسبوعين من وصوله أرسلته إلينا مع بعض الأقرباء لأنه طارد صبيات القرية وكسّر أغصان شجرة التوت الأسود المغروسة أمام كوخها وقفز بملابسه في بركة مياه الشرب عند ينابيع المياه الحلوة في قرية عين نونا.

وفي يوم بحث يعقوب عن مجنون القرية: «أين يعثر الواحد عليه عندما يتيه سوى عند نساء لم يريْنَ رجلاً منذ أكثر من مئة عام»؟ لكنه لم يأتِ اليوم الذي فيه تمسك سبع نساء برجل واحد قائلات: «ليكن اسمك فقط علينا، انزع عارنا. حينئذ، حتى المجنون لا يفلت من أياديهنّ».

تمتدّ الأذرع الساخنة تحت قميص التائه، ربّما تحت شجرة عقيمة. حقاً، ما ذنب الرجل المخبول؟ بعضهّن لم يلمسنَ اللحم البشري منذ عقود. منذ حروب عدّة، كالحرب العالمية الثانية حيث النازيات جالسات في صفّ منتظم خلف البنايات، فاتحات سيقانهنّ في انتظار تلقيح البويضات المتجمّدة لإرضاءِ الرايخ الثالث.

يعقوب يراقب الطبيعة ويتعجّب من أهل القرية الذين لا يُراقبون مثله تزاوج الأغنام عندما يقفز الذكر فوق ظهر الأنثى. ويقول ربّما هم اعتادوا رؤية التزاوج من حولهم حيث الطبيعة تأخذ دورتها كاملة من ولادة وتزاوج وموت. أما يعقوب فلم يرَ في حياته بالمدينة أكثر من تزاوج ذبابتَين ملتصقتَين على النافذة في حرّ الصيف.

هناك في عين نونا، ليس بعيداً عن جبل كوكا زرا، ولدتْ جدّتي وتزوّجت في الخامسة عشرة من عمرها، من رجل لم ترَهُ إلا دقائق قليلة قبل مراسيم الزواج الطويلة. المراسيم كانت مملّة إلى حدّ أنّ جدّتي، وعلى حين غفلة من الجميع، نامت. ولحسن الحظّ كانت مغطّاة الوجه ببرقع أحمر فاقع، اشترته من الغجر المارّين بالقرية. وجهها متورّد بفضل أكل العنب الأحمر المتدلّي على شبابيكها الحجرية، من حيث تأتي أغنيات الغجر. أغنيات عن الزواج والحبّ، مردّدين بفرح: «شللا بللا آها كجا قا دا يالا... شللا بللا آها كجا قا دا يالا...». وجدّي بجانبها يتثاءب أمام المذبح. يكاد يغمى عليهما من الجوع في الكنيسة شبه المعتمة. فطقوس الزواج لا تتم إلا فجراً وعلى معدة فارغة، أي الصوم القسري، تمنّت جدّتي لو تزوّجت ببساطةِ أغنيةِ الغجر بمجرّد ترديد «هذه البنت لذاك الولد». جدّتي أحبّت جدّي وهو أحبّها بعدما اضطجعا معا.

كانت الكنيسة قديمةً قدم الإيمان الذي اعتنقه أجدادي الآشوريين من أيام الإرساليات الإغريقية الأولى، حيث استبدلوا حكمة إحيقار بأمثال سليمان، كما ورَّط الأغريق أنفسهم باستبدال معارف فلاسفتهم بدهاء تعاليم بولس. اليوم لم يعد للكنيسة وجود، لأن الدبّابات أتت وحوَّلت البناء إلى أحجار وخراب. لم تكن الدبّابات للأعداء بل للقادة الذين راحوا يطاردون المتمرّدين. إلا أنَّ الحائط الرئيسي ما زال قائماً في الكنيسة وفكرة إعادة البناء غير مستبعدة، لكن رجال القرية في النهار هم أيضاً سكارى.

 لا بدّ من أنّ الذين بنوا الكنيسة، خافوا من الغرباء، لذلك تمَّ تصميم المعبد على أن يكون باب المدخل الرئيسي وكأنه شباك صغير في وسط الحائط مزوّد بسلالم خارجية وُضعت كي يستحيل على الرعاة استخدام الكنيسة حظيرة لحيواناتهم عند خلوّها في الليالي الباردة. حين سُئل بناة الكنيسة عن سبب تصميم الباب صغيراً مثل كوّة، أجابوا: «كي يُجبَر الداخلين على الانحناء بتواضع يليق ببيت الله».

ليس بعيداً عن الكنيسة يوجد هيكل مثلّث الشكل، في داخله حوض المعمودية. اثنان من ثلاثة جدران، هما جزء من الجبل نفسه كي لا يفتخر إنسان بأنه بنى بيت الله. هناك عين ماء تجري داخل المعبد، فالمكان يصبح ملجأ لأهل القرية في أوقات الشدة. ثمة صخرة صغيرة يسهل دحرجتها لغلق الباب من الداخل. في المذبح البسيط توجد بعض المخطوطات القديمة، من كتب طقسية وصلوات مع الكتاب المقدّس. هناك كأس كبيرة مع صحن من القصدير لتقديم القربان، موضوعةً على طاولة أمام الهيكل، تتدلّى على جانبَيها ستائر من النسيج السميك القرمزي عليه صلبان ثلاثة مطرّزة بالأبيض. لا أصنام ولا أيقونات في الهيكل. على الحائط عُلِّق صليب من خشب من دون المصلوب للدلالة على القيامة.

كان الغجر يصطادون الدببة الصغيرة من أعالي الجبال. يأخذونها ويدرّبونها على الرقص. في الأعياد يأتون إلى القرية ويتجمّع الأطفال والنساء حولهم. تتذكر أمّي رؤية الدبّة تقف على قدمَيها وترقص على كلمات الأغنية «آومين آومين دبراقصة، شمو شمو دبراقصة...». بينما كان أحد الرجال يدق على الطبل والدبّة تحرك خصرها وتؤرجح رأسها، وقلادتها ذات الحبّات الكبيرة بالألوان الصارخة تتأرجح يميناً ويساراً. يناولها أحد الرجال من الفرقة غليوناً فتضعه في فمها فيتعجّب الصغار. لم يكن لأهل القرية أموال يعطونها للغجر مقابل العرض، فكانوا يهبونهم بعض الجوز والفاكهة المجفّفة. أما جدّتي فتعطيهم كُراتٍ من الصوف غير المصبوغ الذي غزلته بنفسها.

وعمانوئيل المعتوه خطبوا له فتاة جميلة من القرية المجاورة وتزوّجها لأسبوع فقط. لم يقولوا لها بأنه لا يعرف شيئاً حتى اكتشفت هي بنفسها بعد الأكليل. فطلبت الطلاق وجاء المطران ابن خال العريس وقال لها: «لا يجوز الطلاق». فأخذ كل واحد منهما في خلوة وسألهما. اغتاض المطران: «هذا المجنون رأى ما بين فخذَي المرأة. أظن أني أنا المعتوه المنفي في صومعتي. طفت الجبال. وتعلّمت في أديرة ماردين ونصيبين لكن معلوماتي قاصرة». المطارنة الباقون الذين لم تنذرهم أمّهاتهم من البطن، يأكلون اللحم، حتى أنه يشتهي أن يتذوّق قطرة من الدسم الذي يسيل على لحاهم.

كلُّ أخبار الجبل، كانت تأتينا مع مجيء جدّتي، وكنّا نتجمّع حولها فتمدّ قدمَيها الصغيرتَين أمام المدفأة النفطية، تدخّن وتقصّ علينا حكايات من القرية. ذات مرّة أردنا أن نثيرها، فسألتها تمارا بخبث: «أصحيح أنك لم تكوني جميلة في شبابك وأن جدّي كان أكثر وسامة منك؟». فضحكت وقالت: «ألم تسمعوا بأن التفاحة الحمراء الكبيرة تكون من نصيب الدبّ الذي يأتي في الليل ليسرقها؟ كان جدّكم من نصيبي، وكنت الأجمل في عينَيه. ماذا تريدون أكثر؟ وعده أبوه وهو شاب يافع: يا إسحق يا ابني، ذات يوم سأبيع نعجتَين وسأخطب لك بثمنهما عروساً. وبعد أقل من سنة وقف جدّكم أمام أبيه وقال له: لنتحدّث عن النعجتين يا أبي...». ونضحك عليها: «مهرك لم يكن سوى نعجتَين»!

سألها نجيب عن السنة التي ولدت فيها أمّي، لأننا لم نكن نعرف التواريخ المهمّة لأبوَينا فقالت بعد تفكير: «أمّكم ولدت في السنة التي تمّ فيها ذبح الثور الأحمر». الثور الأحمر الذي ظنّ رجال القرية بأنه فأل سيء وتشاءَم الجميع منه ما عدا جدّي. كان جدّي فلاحاً ككلّ رجال القرية البسطاء. ذات ربيع وقف فوق تلة مقابل حقله عندما هجم سرب من الجراد على المحاصيل فرفع يده وصلّى صلاة خاصة بأحد القدّيسين لطردها من حقله. كشّهم بصلاته: «اذهبوا الى حقول غيري». وهكذا دُمِّرت حقول بقيّة الفلاحين عدا حقله هو.

استيقظ جدي يوماً وإذا بشيء لزج على قدمَيه، تذوّقه فكان حلواً. رفع رأسه فرأى شرخاً في سقف الغرفة الحجري يتقطر منه عسل ذهبي. عندما صعد إلى السطح اكتشف أن مملكة من النحل صنعت خلية في إحدى الزوايا. نساء القرية جئن بأوانيهن وأخذن من العسل البري الصافـي النازل من السقف.

كانت واحدة تعاني من قيح مزمن في معدتها. أخبرها طبيب المدينة بأن عليها أن تهيّئ نفسها لمقابلة وجه ربّها فكانت تتقيّأ كل صباح دماً. ناولها جدّي وعاءً من الشهد ونصحها: «لا تأكلي شيئاً لشهر غير هذا العسل من إنتاج نحلي». فشفيت بعد فترة قصيرة وعاشت بعدها أكثر من عشرين سنة وكانت تأكل كل ما تشتهي. أما الشمع فقامت جدّتي بتسخينه قليلاً وجلبت خيطاً طويلاً من الكتّان السميك وغمسته فيه وصنعت شموعاً صفراء رفيعة. أعطت للكنيسة حصّتها. فكان المعبد يمتلئ برائحة الشهد.

في الخريف، في موسم الحصاد، يصنع جدّي العَرَق بجمع الزبيب في أوانٍ فخارية كبيرة. ينقع الزبيب الأسود في الماء ثلاثة أيام، ثم يعصره بالأقدام غير المتنجّسة، كالأيدي، ببقايا الإنسان، ويأتي باباجان ليساعده في العصر، وبعد تسعة عشر يوماً يُصفّى ويُبخَّر على نار هادئة، بتركيز الكحول بعد مرور السائل بمقطرة مصنوعة من قصبتَين ذات فتحات كبيرة لينتهي في زجاجات مفرغة من الهواء، ويضاف إليه زيت الحبّة الحلوة أيضاً. فتكون جاهزة للبيع، ليس البيع بالضبط، بل مقايضتها بالتمر المستورد من الجنوب والشاي والسكر. جدّتي تتذكّر جيّداً كيف عثرت على درهم وجدته تحت أحد الصخور وعرفت أنه شيء ثمين فأعطته لجدّي الذي قايضه بمنجل غير صدئ مع الأكراد الذين كانوا يعيشون في القرية.

كانت جدّتي تعالج سعال جدّي ونزلات البرد بتدليك أسفل قدمَيه ليلاً بزيت شجرة اليوكالبتوس. كذلك تقرّحات الحلق التي تختفي حالما تضع عليها العفص الناشف المطحون الذي تدقّه كل خريف، إذ تغمس إصبعه المبللة ببصاقه بالبودرة الخشنة وتضعها على موضع الالتهاب وتقول: «حذار من اصطباغ الأسنان، ابصق الزائد منه فوراً». أما هو فيجلس في سريره ويلفّ التبغ في ورقة خفيفة ويدخّن. عندما كنت أصعد إلى القرية كل مرّة أراه شاخ أكثر، وشعرُ أنفه وأذنَيه قد طال. أما هو فيقول حين يرانا أنا وتمارا نلعب ونركض: «بنات دليلة أكثر شقاوة من أبناء يوسف». ثم يهزّ رأسه ويضيف: «تعيشون وكأنكم لن تكبروا يوماً ما مثلي»! ثمّ يردّد باللغة الكرديّة، التي تعلّمها من جيرانه، مَثَلَهُم المأثور: «عشْ طويلاً كي تعرف كم أن الحياة قصيرة». أخذنا جدّي في عصر أحد الأيام إلى حقله وقطف لكل واحدة منا ثمرة سفرجل. أكلتُ ثمرتي بشراهة بينما تمارا وقفت تشمّ الفاكهة التي تراها لأول مرّة: «يا لها من رائحة زكية. سأضعها بين طيّات ملابسي في حقيبة سفري».

ذات صباح قفز جدّي من فراشه وهو يلعن بلا مبرّر «ملعون كلُّ مَن يُسّمي ابنته عشتار»! توسّلت إليه جدّتي أن يشرب الشاي قبل أن يبرد. كان خالي يوسف قد سمّى ابنته الصغيرة عشتار. «هو حرّ أن يُسمّي ابنته ما يشاء» قالت له جدّتي. «لا ليس حرّاً أن يسمّيها على اسم راقصة في الطاحونة الحمراء بطهران». أجابها بغضب ثمّ أضاف: «كان لها ابن عم غير شريف أبداً هو الذي غيَّرَ اسمَهُ إلى مردوخ».

في غياب جدّتي، نتذكّر القصص المحكية، في ليالي أكل البطيخ المبرَّد بالحالوب المخزّن في القبو في البرّاد الخشبي. الحالوب الموضوع في حصيرة كبيرة أيضاً لحفظ اللحوم لساعات. أما اللحم المقدّد، فمعلّق في الظل منذ مئات السنين، حيث الهواء الجاف، ومتبّل بالبهارات المستوردة من بلاد الهند. التوابل التي تُبعد الذباب، الذباب نفسه الذي إذا سقط في عصير الفاكهة تحوّل المحلول إلى شراب روحي، حسبه القدماء سمّاً، حتى شربت منه امرأة تعيسة، ظنّت أنّها تنتحر، لكن الذي حدث، أنها بعدما شربت منه هربت مع مَن تُحبّ. القصص المحكيّة وغيرُ المدوّنة، محفوفة بالخيال الذي وصل إلينا جاهزاً وملفوفاً في صرّة صفراء. وأنا أصدّق كلّ ما تقوله جدّتي، حتى عن المرّات التي لَسَعَ فيها العقربُ جدّي حين كان ثملاً. كان يستيقظ في الصباح فيرى العقرب ميتاً قربَ فراشِه، فيضيفه إلى مجموعة العقارب التي يجمعها في صندوق خشبي مصنوع في أسطنبول أهداه إليه أحد رجال القرية. قالت جدّتي: «لو عرف جدّكم فائدة سمّ العقرب لوضعه في قناني العرق وشرب منه لمعالجة أمراضه العديدة». أما الحكاية التي روتها جدّتي ولم نصدّقها مطلقاً، فهي قصة مرجانة جارتها التي رجعت من الكنيسة وأخذت طيناً وبصقت فيه وطلَتْ به عينَي زوجها نصف الأعمى. أخذه أولاده خارج القرية نهار ذلك اليوم، وكان يوم أحد، ممسكين بيده وهو يتخبّط، وسألوه بعدما غسلوا الطين عن عينَيه، في ما إذا كان يرى الناس من بعيد وكأنهم أشجاراً، لكنّ الرجل لم يرَ شيئاً، ثم فقد بصره كلياً بعد أيام ولعن زوجته وأولاده بقية حياته. لم نصدّق هذه الحكاية، لأن يوم الأحد في القرية هو يوم بطالة.

الأحد هناك ليس يوماً بل شخصٌ يتحدّث عنه الناس وكأنه سيلعنهم إذا ما قاموا بأي عمل: «سيضربك الأحد لو حرثت أرضك»، أو أنهم يحلفون به: «بهذا الأحد المبارك أعدك...»، والويل للتي تقوم بأي عمل كالحياكة أو كنس المطبخ بعد مغيب الشمس يوم السبت.

رافقتُ جدّتي صباح أحد الآحاد إلى الكنيسة وغطّيتُ رأسي بمنديل مثلها. قبل دخول الكنيسة، حذّرتني: «إياكِ أن تلوكي القربان». بخشوع اقتربت من القسيس وهو يضع قطعة الخبز الصغيرة في فمي. رجعت إلى مقعدي فشعرت بالقربان وقد لصق بسقف حلقي فحركته بطرف لساني وبلعته بعد جهد. في ذلك اليوم خفت أن أبصق أو أن أتفوّه بكلمة سيئة لأني أكلت جسد المسيح.

كان جسدي يقشعرّ كلما رأيت خانزاده، العجوز المعتوهة، جالسة على صخرة مصقولة قرب بئر مهجورة. هي التي فقدت صوابها منذ سنين عديدة حينما كانت في عرس في القرية المجاورة. كانت ترقص الدبكة بجانب أحد أقربائها الذي أصيب برصاصة ومات فوراً فتحوّل العرس إلى مأساة. رجعت إلى القرية جالسة على ظهر بغل وبيدها منديل ملوّن ترقص وتغنّي. أحرقوا لها البخور وصلّى لها الخوري وشمّاسو القرية كي يقطعوا خوفها على حدّ قولهم. لكنها لم تشفَ أبداً.

آخر مرّة صعد يعقوب فيها إلى القرية، قبيل وفاة جدّي الذي بدأ يفقد بصره، سأله جدّي «أأنت ابن دليلة»؟ «ماذا تريد يا جدّي»؟ أجابه يعقوب، فأمره: «اخلع ثيابك»!. فتعرّى يعقوب وأمسكه جدّي من ذراعَيه أولاً، ثم تحسسه من الرأس إلى القدم وقال: «الصوت صوت إبراهيم، لكن الملمس كأنّه يعقوب». وصرخت جدّتي به من الغرفة المجاورة، وهي نصف مغمضة: «يا إسحق دع الولد يذهب إلى فراشه، أنت لست أعمى فقط بل خَرِفٌ ولا تعرف عمّا تتحدّث». أما جدي فشمَّ يعقوب وقال له: «رائحتك كرائحة حقل مبارك».

ويعقوب أعجبه تحسّس جدّي له، لكنه في الصباح عندما استيقظ شعر فجأةً بضيق في صدره، فقام أثناء غياب جدّتي ونوم جدّي بسرقة صندوق العقارب المخبّأ في الحائط، أزال حجرةً من الجدار وفتح الصندوق ليتأكد من أن العقارب موجودة، فعدّها فكانت خمسة عشر عقرباً.

 وذات يوم لم يكن جدّي سكراناً، مدَّ يده إلى الحائط، لكنه لم يجد الصندوق، فصرخ: «من سرق عقاربي»؟

كان يعقوب قد أخذ الصندوق معه إذ خبّأه في صرّته ولم يتذكّر أنه قد سرقه حتى أنه تخلّص منه قبل أن يهاجر، بأن أعطاه لأحد أصدقائه الذي أفرغه ووضع فيه السجائر بثلاثة صفوف وتركه مفتوحاً أمام المعزّين في عزاء أخيه الذي مات في الحرب.

اشتكت جدّتي من شخير جدّي، بعد تقدّمه في السنّ، إلى شمس الله، حكيم القرية الذي ورث صنعة «المجبرجي» عن أبيه، وهو الذي طلى أحد أسنانها بالذهب، فقال لها: «يا ليّة اصنعي ثلاث كرات صغيرة أكبر قليلاً من حجم حبّة الحمص من بقايا الأقمشة، وشقّي جيوباً في قميص نوم إسحق من منطقة الظهر كي يضطر إلى النوم على أحد جنبَيه لتفادي الشخير». فنجحت الطريقة. لكن بعد فترة، مرض جدّي مرضاً شديداً، فكتب «تحت أيِّ صخرة يختبئ يوسفُ وفي أيّ بئر هو»؟ فجاء خالي يوسف وفرح به جدّي: «الآن سأموت بسلام»! كان جدّي يتمشّى متكئاً على ابنه كل يوم إلى رأس حقله، ويرجع. يصبّ كأسين من العَرَق له وليوسف. قبل أن يموت سأله خالي عمّن يكون باباجان؟ لأن لا أحد في القرية يعرف هذا الرجل ومن أين كان يأتي. فقال له جدّي: «لن أقول لك من هو باباجان حتى تقول لي أنت لماذا أسميت ابنتك عشتار؟ فقط الذي يريد أن يعذّبني، ينجب بنتاً ويدعوها عشتار». لم يُجبه خالي يوسف عن سؤاله، فوبّخه جدّي، ووضع رأسه في تلك الليلة ومات.

«الرجل البارّ يموت في نومه فجأة دون أن يعذّب أهل بيته»! قالت جدّتي بفخر. فأخذوه ودفنوه عند سفح الجبل.

أما رواية عشتار التي حكتها لنا جدّتي كما سمِعَتْها من جدّي، فقد فهمتُها هكذا: كان يا ما كان في قديم الزمان مملكة في بلاد عيلام يحكمها ملك فارسيّ يسكن في مدينة شوش العاصمة. في يوم، جلس احشيورش، وهذا هو اسمه، على عرش ملكه في القصر وأقام مأدبة كبيرة للكثير من وزرائه وقادة جيشه. طالت الولائم لأكثر من مئة وثمانين يوماً، وبعد أيام، وكأنّ المرءَ ليس لديه ما يفعله سوى الأكل والشرب، قام الملك أيضاً بصنع وليمة أخرى كبيرة لجميع الشعب المقيم في شوش وضواحيها، لسبعة أيّام، للشعب الذي يحبّ الرقص والطرب كثيراً. كانت الكرنفالات تعمُّ الشوارع، حديقة القصر مزيّنة بالحرير الأبيض وأقمشة أخرى زرقاء وخضراء معلّقة بحبال كتانية ملوّنة ومربوطة بحلقات فضّية. أعمدة القصر كلّها من رخام أسود وثمة عشرات الأرائك الذهبية والفضّية مرتمية بين الشجيرات الصغيرة من الآس والزهور الغريبة التي رائحتها تُشَمُّ من بعيد. أما أرضية الباحة حول الحديقة فهي مرصوفة بجزع ومرمر ودرّ. كانت الخراف محشوّة بالأرز الأصفر واللوز ومزيّنة بحبّات الرمّان، ورائحة الزعفران تملأ المكان، مع الخمور الشيرازية المحفوظة في القبو منذ سنين لمثل هذه المناسبة. وبعدما أكل المدعوون ببذخ لسبعة أيام، قاموا في آخر يوم بالتعرّي والعربدة والسُّكر.

في اليوم السابع، لعبت الخمرة برأس الملك، فاستدعى زوجته التي كانت في قصر آخر تحتفل مع صديقاتها ووصيفاتها وبعضهنَّ كنّ بابليّات. أمرها بالتعرّي أمام حاشيته في حفل خاص كي يتباهى بجمالها. طال انتظار الرجال ولم تأتِ (وشتي). خجل الملك وأُحرِج أمام الحشد. لم يتوقع قطُّ أن يرفض أحدٌ أمراً له. أما الملكة وشتي فأرسلت رسالة مع المرافقين في صباح يوم الأربعاء، أربعاء الرماد، تعتذر فيه عن عدم قدرتها تنفيذ هذا الأمر غيراللائق بالملكة. «نه بابا! لم أستطع أن أطيعك أيها الملك المعظّم في هذا الأمر، فالجسد جسدي وأنا الوحيدة التي لي سلطان على جسدي». غضب الملك أحشيورش واستدعى حكماءه السبع ليرى ما يمكن أن يُفعل بالملكة. لأنَّ الملك لا يقدر أن يأخذ قراراً لوحده في بلاد عيلام دون استشارة. صرّح أحكمُ السبعة مموكان: «طلّقْها، لقد أذنبَتْ بحقّكَ وحقِّ الشّعْب. إن لم تعاقبها، نساء المملكة سيتعلّمن منها احتقارَ أزواجهن، فتكون مثلاً سيّئاً».

أرسلَ الملك ورقة طلاق لوشتي مرفقة بكلمات قصيرة «منذ متى وأنت تدّعين أنك خجولة ؟ ألستِ أنتِ من يتمشى في القصر أمام رجالي بثياب شفافة بلا ملابس داخلية»؟

وبعد زمن قدّم الرجال الحكماء أنفسهم اقتراحاً للملك «سنبحث لك عن ملكة جديدة تحل محل (وشتي)». كان الملك قد نسِيَ غضبه وهَدَأ، وطلب من رجاله نشر الخبر في كلِّ أنحاء المملكة الممتدّة من جنوب آسيا إلى الحبشة. على النساء العذارى المجيء إلى القصر والدخول في مسابقة اختيار ملكة جديدة.

ولسبب ما، كان هناك رجل غريب يقيم في القصر، رغم أنّه لم يكن غير بوّاب. في عطلة نهاية الأسبوع يعمل قوّاداً في ملهى الطاحونة الحمراء، لم يجرؤ أحدٌ أن يسأله لمَ هو في القصر وما هي طبيعة عمله؟ «هذه فرصة لا يمكن أن أضيّعَها من يدي، أنا أيضاً سأجلب هدسة، قريبتي اليتيمة، وأدعوها عشتار». قال مردوخ في سرّه حين عرف بأمر النساء المدعوّات إلى القصر، ستفعل كلَّ ما أقوله لها، إنها فرصتي الآن، ففي السياسة كما يقولون، إذا أراد أحد معرفة ما ينبغي أن يقال فليسألْ رجلاً ولو أرادَ شيئاً ما أن يُنجَز فليسألْ امرأة»!

أسرع مردوخ إلى البيت. لكنّ قريبته لم تكنْ هناك. انتظرها حتى رجعت من الكباريه. دخلت هدسة ابنة عمّه متعبة، وبعدما خلعتْ حذاءَها ذا الكعب العالي، وضعت قدمَيها فوق الطاولة تستمع إلى مردوخ: «أبشري أيتها القدّيسة المبارَكة... أخيراً، ستصبحين «خانم» وتدخلين قصر الملك. سيكون لك كلّ ما تشتهيه امرأة من ذهب وحرير ومجد». لم تصدّق عشتار ما سمعت، فانتفضت وصارت تقفز من الفرح: «أحقاً هذا الكلام؟ آه. كأني متُّ وذهبت إلى باهاشتي». فقال لها مردوخ: «يا واش يا واش... يا عشتار، أمامنا عمل كثير، والوصول إلى العرش سيكون من مهمّتك أنت! لكن ليست كلُّ الأخبار التي عندي مفرحة! إنّ احشيورش أغلف»! فجلست عشتار تسمع. فحكى لها أيضاً كل الذي حدث في القصر وقصة الملكة والعذارى... وأضاف: «سأشتري لك فستاناً غداً وآخذكِ إلى القصر». قالت عشتار: «لكن غداً السبت». فأجاب مردوخ بهدوء وحكمة، بعدما وضع ذراعه حول عنقها الطويل: «أحياناً، من أجل الأهداف السامية التي أمامنا علينا أن نضحّي بالمعتقدات إلى حين. انظري إلى النتائج وقيسي الأمور بمنطق العالم لا بمنطق ورثناه من الأجداد. الأهم يا عشتار ليكن خُدا هو يهوه ويهوه هو خُدا. فحجر يُرمى في الوقت المناسب أفضل من ذهب يعطى في الوقت غير المناسب، كما يقول أحد أمثالهم. حسناً، أنا نفسي كنت أحياناً أرفع عينيَّ إلى السموات لأرى من أين يأتي عوني، ثم تذكّرت فجأة ما قاله المؤسس: خلاصنا يأتي من المال. بعدها تأهّبت للعمل ولم أعد أوجّه نظري إلى السماء. أنا تعب الآن، سأذهب إلى الفراش، وسنتحدّث في التفاصيل غداً صباحاً».

لم تنم عشتارُ تلك الليلة الربيعيّة، بل ظلّت تتقلّب في فراشها وتفكّر بما قاله مردوخ. أما الملكة المخلوعة فقد ظنّت أن المرأة الحُبلى غير جميلة حين تكون عارية. فرفضتْ أن تخلع ثيابها أمام الحاشية. سمعت عشتار أن وشتي كانت جميلة «جميلة وغبية! أما أنا فلا أقبل بأقل من أن أكون الأولى في القصر. يكفي أننا انتظرنا أنا ومردوخ هذه السنين كلّها لنصل إلى القوّة والجاه. أمّا هذا الملك الذي يبحث عن امرأة مطيعة، فأين يجد واحدة أكثر طاعة منّي؟ ألم يربّيني أبواي بحسب تعاليم الدين عن المرأة المطيعة التي تفعل كلَّ ما يأمر به زوجُها؟ آهِ، غداً ماذا سأرتدي؟ البلوزة البيضاء مع التنّورة السوداء؟ كم أنا خائفة! ماذا لو انكشفنا من البداية؟ عليّ أن أنام قليلاً كي أعرف كيف أفكّر وأخطّط. لأنه بلسانٍ عذب يستطيع المرءُ أن يجرَّ فيلاً بشَعرة».

في النهار، اصطحبَ مردوخ عشتارَ إلى القصر، حيث استقبلهما هيجاي، خَصِيّ الملك الذي يُشرف على العذراوات، وأعجبَ بروعة جمال عشتار وببراءتها. فهي طبيعية الحُسن وشعرها ووجهها بلا أصباغ. لا تشبه بعض اللواتي جئن إلى القصر حيث كل شيء فيهن يبدو مصطنعاً. ارتدت عشتار مع القميص البيضاء عقداً من اللؤلؤ الأصفر الغالي الذي أهداه إياها أحد الزبائن في الملهى. رحَّب بها هيجاي، وهنأها بعدما اجتازت إختبار العذرية المفروض على كل متسابقة.

أسلَمَها هيجاي إلى المرافق الشخصي للملك، شعشغاز، وهو خَصِيٌّ أيضاً، من المخابرات السرّية، فأخذها إلى مخدعها. انبهرت عشتار بمنظر باحات القصر الواسعة، فلم تتخيّل قطّ أن ترى في حياتها الثريّات المصنوعة من الكريستال البوهيمي والصحون غالية الثمن. الكؤوس المذهّبة ذوَّبت قلب هدسة داخلَها، أما ملاءات السرير فهي بيضاء نظيفة تنبعث منها رائحةُ الشمس والمسك، وليس كما في الطاحونة الحمراء، تفوح منها رائحة العَفَن والدخان والمني.

كان على عشتار أن تبقى سنة كاملة في القصر، من أجل التعطّر والتدهين. يقوم هيجاي بزيارتها كلَّ يوم، ويُشرِف بنفسه على حاجاتها اليومية. لم يعلم أنها قريبة مردوخ، ففتح قلبه لها، وباح لها بكلّ الأسرار الجنسيّة المتعلّقة بالملك المعظّم مثلَ تمسيدِ خصيتَيه وأوضاع النكاح المختلفة التي يفضّلها. لذلك عندما قيل إنه سيُعطى للوصيفاتِ كلّ ما يطلبنه من جناح النساءِ في القصر، فينقلنه معهنّ إلى مخدع الملك قبل أن يختار أحداههنّ، لم تطلب عشتارُ شيئاً سوى الأغلالِ التي يُحبُّ الملك أن يُربَط بها في السرير. عندما حان وقت المثول أمام الملك، كانت كل متسابقة تدخل لليلة واحدةٍ فقط، ليلقي الملك نظرة عليها فلو أعجبَتْهُ سيدعُوها بأسمِها لِتدخُلَ مرّة أخرى. حين جاء دور (هدَسَة) للدّخول، صلّتْ في قلبها أن تنال أعجاب الملك، فهي لا تعتمِدُ على قوّتِها بل على الله. ارتدت الفستان الأزرق الذي نَصَحَها به هيجاي، فستان أزرق مطرّز بزهور السّوسن وخيوط فضيّة. فستان طويل يغطي كلّ الجسد، لأنَّ المَلك يُحِبُّ متعة الاكتشاف الشخصية. فتح شعشغاز البابَ، ودخلَت حافيةً إلى ديوان المَلك دون أن تقول كلمة. انحنَتْ قليلاً ونظرتْ في عينَيه بحياء العذراءِ، ثمَّ أسقطَت عينَيها إلى الأرض. اقترب منها أحشيورش وأمسك بحنكها وسألها «ما اسمك»؟ «عشتار يا مولاي». أجابته بحياء. أمّا المَلك فبِحركةٍ من يده صرفَ المرافِق الشخصيّ الذي أغلق الأبواب من الخلف. وأوّل شيء سألته عشتار: «أترغب أن تراه»؟ وطبعاً كانت تقصد لباسَها الداخلي، فرفعتْ فستانَها الأزرق برفقٍ. وأحبّها المَلك لأنها رقصت له رقصات غريبة تعلّمتها من غريتا غاربو عندما رقصت في فيلم «ماتا هاري». في الصباح أُمِرَتْ عشتارُ بالمغادرة حتى اشعار آخر إن شاء الملك. لكنها تأكدت أنها قد فازت بقلبِ هذا الأغلف ذي الشيء المقزّز، فكّرت في سرّها: «لم أرَ مثل الذي لأحشيروش القذر. فمن كثرة الممارسة كبرَ عضوه غير المستقيم. سيناديني لأنه من زمان لم يتمتّع بالأوضاع المختلفة. فالذي رآه منّي لن يراه من أي عذراء من عذراوات القصر الغبيّات».

بعد أسبوعين، كانت النساء المدعوات قد غادرنَ القصرَ، كلّهنّ ما عدا عشتار. وفي أشهر قليلة، كان الملك قد أعلنَ تتويج الملكة الجديدة وأقام حفلاً كبيراً بلغت أصداءه جميع أرجاءِ المملكة، حتّى أنّه أصدرَ قراراً بإعفاء الشعب من الضرائب تلك السنة. أحبَّ أحشيورشُ عشتارَ التي لن يستطيع العيش من دونها. تأتي إلى مخدعه بين فترة وأخرى ولا تتكلّم كثيراً، لأن الملك لا يُحبّ الكلامَ أثناء المضاجعة، كما قال لها هيجاي. كان من أساليبها عدم التعرّي الكامل مع الملك عند المضاجعة. إنه ليس من الحسن، كما تظن عشتار، أن يكشف المرء عن كل ما لديه، من الناحية الجسدية، أما من الناحية السياسية، فالمرأة الذكيّة هيَ التي تقود الرجل كما يقود السائس الخيول الجامحة.

 في تلك الفترة من حكم احشيورش وحسب الانتخابات المتعارَف عليها في بلاد عيلام منذ قرون، فاز المرشح هامان بمنصب رئيس الوزراء. كان مكتبه في القصر نفسه حيث يجلس مردوخ الذي لا ينحني لهامان عندما يمرّ في طريقه للعمل. امتعض هامان وسأل المخابرات عن هذا الرجُل الغريب فقيل له بعد التحريات: إنه يهودي.

صار مردوخ كابوسَ هامان الذي يتوقّع من الجميع الانحناء له في تحية الصباح. شكى هامان أمرَ الرجُل إلى زوجته، فقالت زَرَش: «لا تزعج نفسك يا عزيزي، اشتكِه في أذن الملك ليأمر بأعدامه». رجع هامان في المساء مهموماً لأنّه لم يملك الشجاعة الكافية لإخبار الملك، وذابَ قلبُ زوجته التي قالت: «سأقومُ بنفسي بصنع صليب يُصلَب عليه مردوخ». في تلك الأثناء، كشفَ مردوخ عن مؤامرة خطّط لها رجلان في القصر للإطاحة بالنظام. فطلبَ بسرّية تامّة رؤية الملكة كي يُخبرَها عن السرّ. لكنّ رجال الحماية الخاصة بالملكة رفضوا طلبه. خرجتْ عشتار ذات مساء بحجّة التمشّي في الباغ، فرأت مردوخ لثوانٍ وأخبرها بالخطّة وبأسماء الرجلَين. بعدها دخلت على الملك وأخبرته، فقام رجاله بالتحرّي، وكشفوا صدق الوشاية. فأمرَ الملك بإعدام الرجلَين. أما مردوخ فلم ينتظر مكافأة من الملك. ومرّت الشهور، وهو جالس عند الأبواب، التي يمرُّ منها هامان الذي يتوقّع الانحناء من الجميع ولا يُكدِّر مزاجَه سوى رؤية مردوخ جالساً لا يؤدّي له التحية.

وفي يوم من أيام الشهر التاسع من التقويم الفارسي، قرَّرَ هامان أن يشكو مردوخ غير المطيع عند الملك في الوقت نفسه فتح الملك كتاب التأريخ ليرى إن كان قد فاته شيء، في ساعات لهوه الطويلة مع عشتار أو مع كؤوس الخمر. فأدرك أنّ مردوخاً لم يُكافَأ جزاء ولائه له وكشفه للمؤامرة، وما أن اقترب هامان من المَلك ليشتكي مردوخ، سأله الملك: «ماذا يُصنَع للرَّجُل الذي يريد خيراً للمَلك؟». فظنَّ هامانُ أنّه هو المقصود وقال في سرّه، ففرح وأجاب: «مكافأة الرجل أن يرتدي حلّة الملك وتاجه وخاتمه ويُطاف به في المدينة بموكب ملوكيّ على خيول ملكيّة». فقال الملك: «بالصواب حكمت. فأسرعْ وافعلْ ذلك بمردوخ». فنفَّذ هامان الأمر، ولم يأكل ولم يشرب ثلاثة أيّام، بل لم يكن قادراً على التحدّث من شدّة الحزن. كان صليب الأعدام الذي هيّأته زرش مرتفعاً خمسة وعشرين متراً في باحة البيت، إذ بالإمكان رؤيته من بعيد. قالت لهامان: «إذا كان مردوخ يتمكّن منك وهو رجل بلا منصب، بل لمجرّد أنه خبيث يتعسَّر عليك التخلص منه، فإنّي أخشى أنك ستهلك أمامَه لا العكس». لم ينم هامان لياليَ كثيرة وهو يخطّط للانتقام من مردوخ. لم يستطع الوقوف في حضرة الملك، بل أرسل له يقول: ثمة شعب مُشتَّت يعيش بين شعبك، جاؤوا من الجهة الأخرى من بحر قزوين، لا أحد يعرف بالضبط كيف وصلوا إلى أرضك، ربّما بالتجارة، إلا أنه شعب لا يرضخ لشريعتك ولا ينفّذ أوامرك. تمنّى هامان أن يُصدر الملك قراراً بإبادتهم قريباً. في ليلة الجمعة يُحبُّ الملك شرب الخمر وما يليه من مداعبات. عشتار تنزعج لأنها تعرف أنّ عليها أن تضاجعه، وأحياناً أخرى تعزّي قلبَها بالقول: «نتائج الأعمال السامية لا تظهر إلا بعد حين وها هي الأهداف أمامي. في المستقبل، ستباركني الأجيال وربّما إلى الأبد. أما هذا الأغلف فسيموت يوماً ويترك لي ابناً أربّيه أنا كما أريد، يتبعُني ويحملُ ديني». أما موضوع الإبادة فلم يكن سوى حدث جاء في سياق الأحداث. ذلك أن عشتار عرفت أنها منذ البدء ستدخل التاريخ، فتظاهرتْ بعد مدّة بالاهتمام. أنا لا أريد شيئاً سوى أن الشعبُ لا يفنى، هكذا كانت تقول وهكذا تمَّ صلبُ هامان على الصليب وأُنقذَ الشعبُ من الفناء بالصدفة ونال مردوخ مراده فأصبح الرجل الثاني في المملكة. مردوخ الطويل البال والكامل الأمين، جرائد الصباح كتبت عناوين مثل: «مردوخ يحكم بلاد عيلام».

بعضُ القصص التي روتْها لنا جدّتي حقيقية، لكنْ من أين جاءت هذه القصّة بالذات في كتبنا لتزعجني؟ وإذا كانت قصة عشتار حقيقية فلماذا نفتخر بها؟ وإن لم تكن حقيقية، لماذا يجب تصديقُها؟

لم أجرؤ على أن أقول لسامي عن طريقة فهمي للنصوص التاريخية التي يحترمها هو ويدعوها مقدّسة. أردت أن أخبره عنها مراراً، لكنّي جبانة لا أستطيع إلا أن أكتبها.

كانت جدّتي مصدري الوحيد لمعرفة القصص الروحية، حتى كبرت وبدأت أقرأ بنفسي الكتاب المقدّس الذي أعجبني أكثر حين قرأته باللغة السريانية. لم أطلق قطّ صفةَ «الروحية» إلا على نصوص العهد الجديد وكلمات المسيح المقدّسة. لكني لم أحب قصة الثعلب... فات فات... وفي ديلو سبع لَفَّات... أعرفُ أنّ القارئ قد سئم هذه الكلمات التي تتكرّر في الحكايات لكنّ قصّة اللفّات السبعة هذه مختلفة، فهي تذكّرني، حين كنت أسمعها في صغري، بأسطورة الأسوار التي سقطت بسبب الهتاف. الشعب يطوف صامتاً لفّة واحدة حول المدينة كل يوم، وفي اليوم السابع يَطوف سبع لفّات. بالهتاف وبضرب الأبواق، أبواق الحرب. سقطت الأسوار وجاء صوتٌ من السماء: «إليكم أعطيتُها. المَدينة المُحصَّنة هي لكم. ألم أقل لكم تقدَّسوا للعمل لأني غداً في وسطكم سأعمل عجائبَ، هكذا قال الربُّ». «خُذوا لأنفسكم أرضاً أنا قدّستها بنفسي».

تهيّأ غالب، ابن عمي، لينفردَ بصديق عمّي أبو نونة، فتوسَّل إليه أن يُعطيه أرضاً. بعدما جلس أبو نونة في الخيمة يشرب الحليب الدافئ، اقترب منه غالب وقال: «الآن أعطِني هذا الجبل». وأشارَ إلى جبل حَبرون الذي لأبناءِ العم خليل. لم يُجبه أبو نونة، بل نظر إلى الخليل، وصلّى بعدَ النُّصرة: «يا شمسُ دُومي على جبعون... ويا قمرُ على وادي إيلون...». وظل أبو نونة يتظاهَرُ بأنه في روح الصلاة كي ينسى غالب طلبه، لكنّ هذا الأخير شهد توقّف القمر، والشمس في كبد السماء، حتّى انتقم الجيش من أعدائه. كرّر غالب مرّة أخرى «الآن أعطني هَذا الجبل». لكن يشوع تجاهله «أبيدوها...». وهو يقصد المدينة الملعونة أريحا، فلم يبقَ فيها أحد سوى راحاب. راحاب الزانية التي رأت المعجزة. على عمود في ماخورها ربطتْ حبلاً قرمزياً لا يرمز إلى شيء فاستحيوها هي وأهل بيتها. مَن استحياها؟ الجاسوسان... الجاسوسان. وظلّ اسمها راحاب الزانية، حتى بعدما تابت. على حدّ قول وليم فولكنر: «once a bitch always a bitch». والعراقيون قبله قالوا: «لا الماء يروب، ولا القحبة تتوب». قصص مثل هذه لن أرويها لأبنائي فهم بالتأكيد لا يحتاجون إليها، لأن النبي الوحيد الذي قرّرتُ إخبارهم عنه هو نبيّ جبران.

غالبُ ابنُ عمّي موشي، قال في أيّام الشدّة: «إلى أرض كنعان أدخلوني». كان كنعان ساكناً في أرض أجداده وطلب منه غالب أن يسمح له بأن ينصب خيمته بالقرب من (الباب الشرقي) ليس بعيداً عن المقبرة. قال كنعان: «أنت ضيفي فكيف لي أن أرفض»؟ أما غالب ففكّر بالاستيطان، وليس الإقامة الموقّتة، فجلب خرافه إلى أرض كنعان. وجاء كنعان يوماً إلى غالب طالباً أن ينصفه، فاشتكى: «راعيَّ غاضبٌ من رعاتك». غالب استغل المأزق فأجابه: «بِعْ لي الأرض كي لا نختلف». فباع كنعانُ الأرضَ دون استشارة أخوته. وأول شيء فعله غالب بعد انتقاله إلى الأرض هو قتل كنعان.

كانت الإرساليات الإنكليزية تصعد بين فترة وأخرى إلى جبل كوكا زرا، بحجّة تبشيرنا بالأخبار السارّة، وكأننا لم نعرف مَن هو المسيح. جدّي لم يرتح لوجه أحد الرجال، الأب ستيفن، فقال لأهل القرية: «سترون، لن أموت قبل أن أكشف سرَّ هذا الرجل ذات يوم سيختفي على غفلة وتكفّون عن القول إن إسحق يخرف»! ومرَّت الأيّام، وأثناء المجاعة، بعد الحرب، صعد الجيش الإنكليزي إلى الجبال، وإذ بعسكري طويل القامة بعينَين زرقاوَين ووجه أحمر قد رأى الأب ستيفن فوقف له باستعداد وأدّى له التحيّة العسكرية. كان الجنرال ستيفن بملابس عسكرية ومحلوق اللحية. لم يميّزه أحد من أهل القرية سوى جدّي الذي كان ثملاً ويضحك قائلاً «العالم ليس سوى قنبلة موقوتة بتوقيت غرينتش، ولن تنفجر إلا بأمرهم».

على طرفَـي الوادي، وحتى ظهر النهر، تنام قرية أجدادي. بيوتها الحجرية ترتعش وسط بساتين أشجار الحور. حتّى لو همست فإن صوتك سيكون مسموعاً فيرتطم بالوهدة الملآنة بأشجار الجوز.

يقال إن الجبال هناك تحوي على كميات كبيرة من المعادن. بعض رجال القرية رسموا داخل الكهف بالنحاس الذائب من شقوق الصخور رسوماتٍ مثل أشجار الوعر والماعز البرّي وبعض الزواحف مثل أفعى ذات الجرس.

عند بدء الحرب العالمية الأولى، تطوّع الكاهن قرياقوس كي يحارب ضدّ الأتراك، فخلع ثياب الكهنوت واشترى بندقية. في ذلك الزمن أيضاً بدأت نساء القرية بتذويب صحون النحاس في قوالب لصنع البنادق. هو نفسه، الكاهن قرياقوس، الذي قام بمصالحة عائلتَين بعدما كلّل ابنتهما وابنهما في القرية المجاورة سراً. عجائز القرية فرحن، أما هو فنفر من قبلاتهن الشائكة. سألوه بعد المصالحة عما يريد؟ فطلب مئة طلقة من العريس. واحدة منها أصابت بالخطأ مأذنة الجامع الذي في العمادية.

«لا تقبِّلْ يدَ القسيس» قال جدّي لخالي يوسف عندما كان صغيراً: «بل أعطيك ديناراً لو عضَضْتَ يدَه». كان القسيس يشرب النبيذ مع أهالي القرية، ما عدا جدّي، وليس هذا فقط، بل كان يطيل الصلوات. وفي الأعياد يتفقّد الأرامل وفي الليل يزور سكارى الحي الجالسين في الشرفات ويتظاهر هو بالانصراف، لكن أحدهم يقدم له كأساً صغيرة، وهكذا يظل يتنقّل من بيت الى آخر ويشرب في كل بيت يباركه، بدافع الواجب، ويقنع نفسه بأن من العيب أن يرفض المرء جرعات صغيرة من النبيذ الأحمر، حتى أن المختار كان يقول له: «اشرب يا أبونا حتى المسيح شرب النبيذ».

«لا أحب القساوسة» كان جدّي يقول، ثم يضيف: «أنا دخلتُ الكنيسة مرّتين في حياتي، يوم عَمَّدوني ويومَ تزوَّجْتُ، والمرّة الثالثة ستكون يوم أموت».

خالي يوسف عندما كان صغيراً، رفع جُبَّة الكاهن مرّة، لأنه سمع جدّي يقول: «إذا رفعتَ جبّة أي كاهن ستجد مُسدَّسَين على جنبَيه». كان جدّي يضرب كفّاً بكف ويقول: «لا بدّ من أن بابَ الذهب سيحتاج يوماً باب الحديد». لا أعرف ما كان يقصد، وقد كانت جدّتي تكرّر المثل ذاته دون أن تعرف معناه.

الكلّ كان يقول إسحق مجنون لأنه كان يؤكّد بأن للإنكليز غاية من المجيء إلى القرية، فيصعد فريقٌ منهم لأيام وأسابيع فوق قمّة الجبل الأصفر (كوكا زرا)، وينزلون مسرعين على متن بغالهم محمّلين بأشياء، لا بدّ من أنها كانت ثمينة لأنهم حين يقتربون من أهالي القرى في الوديان يبتسمون لهم، لكنهم لا يتوقفون أبداً للراحة. مرّة رأوا راعي الكنيسة، في طريقهم إلى القمة، فقالوا له بلهجة آمرة: «قل للغجر أن يكفّوا عن اصطياد الدببة الصغيرة». لكن أحد أفراد الكنيسة قال: «يا رابي، الإنكليز يريدون الدببة لأنفسهم فقط لأني رأيت أحدهم يقتل دبّة ويستخرج من داخلها شيئاً لا أعرف ما هو. قد يكون دواء لأمراضهم». فنهره القس: «لا تشكّ. فالشكّ خطيئة».

بعد سنين من رحيل الإنكليز وموت جدّي، صعدَ أهلُ القرية إلى الجبل الأصفر واكتشفوا منجماً خاوياً فعرفوا أنه كان منجماً للذهب.

 ظلّت جدّتي وحيدة بعد موت جدّي. أحياناً تنزل إلينا من الجبل وتجلب معها الجبنة المدفونة غير المُبسترَة. الجُبنة المالحة التي تكفي لرفع ضغط الدم عند أبي، وقفّتها ملأى بالزبيب والتين المجفّف مع التفاح الأحمر «كلوا التفاح كي تبقى بشرتكم يافعة». كانت تمارا تقول لأمّي. لكن أمّي كانت تجيبها: «لا ضير في أن يكبر المرء ويشيخ». أما تمارا فتُحبّ صبغ شفتَيها بقشر الجوز الطري وتستخدم أيضاً الملفوف للتخلّص من التجاعيد وعمليات هدم خلايا بشرة وجهها، بأكله دون طبخه وتقوم بتشطيف البشرة بعصير قشور الرمّان، الذي كانت تستخدمه أمّي أحياناً كدواء عند إصابة أحدنا بالأسهال. اكتشفت جدّتي بالصدفة، أو لجهلها القراءة والكتابة، أنّ معجون الأسنان المحلّي «عنبر» يُريح من الحكّة الشرجيّة، ويُخفِّف آلام البواسير. فكانت كلّما صعدت إلى الجبل تأخذ منه وتوزّعه على المقرّبين إليها. كنت أفكّر وأقول، أسنانهم هناك في الجبل لا تتسوس مثلنا هنا في المدينة فهم ينظفون أسنانهم بينما يأكلون جذور النباتات والفواكه كالجزر والتفّاح.

كنت أحبُّ أن أتنافس مع الفجل الذي ينبت أسرع من شعري في بستان جدّتي التي كانت تعتني به كل ثلاثة أسابيع. تقوم بفرزه، وتقصع القمل والصئبان التي تتعايش عليَّ والتي تفضل الماء الفاتر؛ الماء الفاتر غير المغلي في حمّامات النساء الكسولات اللاتي كن يستحممن في الهواء الطلق وأحياناً يتركنَ «البريموس» مشتعلاً حتى يكاد يسقط الأطفال في مياه الاستحمام الأسبوعي. النساء اللواتي لهن ضفائر سميكة عندما يستحممن في الفضاء الرحب، تجلس إحداهنّ على الصخرة والأخرى تمشّط لها شعرها الطويل، يتكلّمن بصوت عالٍ. ثمة فتاة تحدّث صديقتها بإعجاب عن الفتى الذي خاض مبارزة خطيرة مع دب طوله متران. قرب الكهف، رأى الشاب ظلّ مخلوق كبير يتحرّك. دخل الدب الكهف المظلم فتبعه هو وقال: إما سأقتله وإما سيقتلني. في ما بعد عرف بأنه الدب نفسه الذي سرق طفلة نائمة قرب أمّها التي كانت تحصد الحنطة في الحقل، فطعنه بسكين تقشير لحاء الأشجار، لكن الدب جرح الرجل وأدماه بمخالبه عدا وجهه، وفي نهاية الصراع تمكّن الرجل من الدب وقتله وشقّ أحشاءه ونام بداخله ليتدفّأ في تلك الليلة الباردة.

في الحمام الجماعي، النساء يتبادلن رؤية أجسادهن في المرآة التي تنتقل من يد إلى أخرى. أمّي تقول بأنها كانت في الثانية عشرة عندما رأت وجهها لأول مرّة عند عمّها المختار آدم. سرقت المرآة من بيته وانطلقت إلى الحقل لترى نفسها بشكل دقيق هناك. كان المختار قد جلبها من المدينة الكبيرة بالقرب من بحيرة الملح شرقاً. هو الذي رجع ومعه بعض البذور الغريبة مثل بذور ثمرة حمراء مدوّرة، فتحسس أهل القرية ملمسها الطري وقالوا: «انظروا، إنها تلمع كالباذنجان الأسود». فأسموها الباذنجانة الحمراء. بعد سنين، عرفوا كيف يستخدمونها بأكلها طازجة أو باستخدامها في الطبخ. كنت أسأل جدّتي عن السرّ، سرّ الشعر السميك، فتجيبني «إنها البقعة. تلك البقعة في الوادي التي إذا حفروا فيها نصف متر فإنهم يعثرون على الطين الأزرق. النساء يغسلن شعورهن به حتى أن بعضهنَّ يأكلن منه عند الوحم». قلت لها مرّة: «سأنزل إلى البقعة، أريد تجربة الطين الأزرق». صرخت بي جدّتي: «لا، لن تستحمي يوم الثلاثاء». «لماذا بحقّ السّماء، وما علاقة الاستحمام بيوم الثلاثاء»؟ سألتها فصرخت بي: «حتى الخنازير لا تستحمّ يوم الثلاثاء». فأهل القرية متمسّكون بعادات ورثوها عن الأجداد وبقوانين وضعها الإنسان لا الله. في القرية، غسل الملابس كان أسهل من أي وقت مضى فعند مجاري المياه المتدفّقة سريعاً إلى أسفل الجبل، تتكون الرغوة التي تساعد على الشدّ السطحي الطبيعي ومن دون أي مساحيق تنظيف. تقوم النساء بضرب الملابس بالصخور التي على جانبي النهر، فتبيضّ وتتعقّم بعد نشرها تحت أشعة الشمس. تعجَّبتُ من طريقة جدّتي في غسل أوانيها الفخارية حين كانت تصبّ فيها قليلاً من الماء مع حفنة من الحصى ثم تحرّكها بقوّة حتّى تنظف. كانت تقول بسخرية: «صابونكم في المدينة لا ينظّف مثل الحصى، فهذه هي الطريقة الوحيدة لتنظيف الأواني الفخارية، طريقتي». وجدّتي عندما تحلم حلماً مزعجاً، تستيقظ وتذهب إلى الساقية لتحكي حلمها للمياه الجارية فتبطل الشرّ. في الشتاء، عندما يتسخ فستانها الوحيد، تغسله وتنشّفه أمام الكانون وهي بملابسها الداخلية الطويلة كونها لم تملك غير فستانَين واحد لكل فصل.

في سنوات شيخوخة جدّتي، رأينا أنه من الحسن، أن تترك القرية وتأتي لتعيش معنا. بدأت جدّتي تفقد حاسة السمع، أخذها نجيب إلى الطبيب وركّب لها جهازاً صغيراً يساعدها على السمع، فرجعت بآذان جديدة، وصارت تسمع أكثر مما يجب. وإذا قال لها أحدُنا شيئاً لا يعجبها، فهي تدّعي أن الجهاز معطّل. كانت تسمع فقط ما تحبّ سماعه، أما أنا فلا أستطيع أن أتخيّل الحياة من دون السمع بأذنيّ الكبيرتَين. ثمة مساوئ للسّمع، مثل سماع ضجيج أصوات اللعب بالكرة التي ترتجّ في جمجمتي، في النهارات حين يلعب إخوتي في الباحة الإسمنتية، التي تحرق أقدامَهم في الصيف ولا يجرؤ أصحابهم على اللّعب معهم خوفاً من أمّي التي تصرخ بهم وتطردهم إذا لعبوا أو جلسوا يتحدّثون تحت أشجار حديقتنا الخلفيّة قرب غرفة نومها وقت القيلولة. حينذاك كان الرجل الوحيد في الحيّ، الذي يخشاه أولاد الجيران هو أمّي رغم هدوئها العجيب. بعد سنين، عندما تقدّمت في السن صار لديّ رهبة من وداعتها، خصوصاً حين عرفتُ سرَّ الثعلب المُحنَّط والمُعلَّق في إحدى زوايا غرفة الجلوس، حيث كانت تُحبُّ أن تجلس وتدخّن بهدوء. أما أبي فكان يفضّل الانشغال بسقي الحديقة أو تنظيف قفص الدجاج وكنسه. لا زلت أتذكّر كيف كان يعتني بالدجاجات إذ كانت بريش ناعم أبيض منه تصنع أمّي وساداتنا. كانت الدجاجات تبدو لي أكبر من جميع الدجاج الذي رأيته في حياتي. ربما لأنّ أبي كان يطعمُها العظام التي تفضل من طعامنا والتي كانت أمّي تطحنها. فيمزج أبي المسحوق مع البذور ويقدّمها إلى الدجاج مرّتين كل يوم. كانت الدجاجات تعرف صوته. في إحدى المرّات عندما رجع من سفر، ارتفعت أصوات الدجاجات «قيق قيق قيق». تعجّبنا كثيراً وضحكت أمّي وجاراتها. البيض الذي كانت تضعه دجاجاتنا كان أكبر من كلّ بيض الجيران، وأحياناً كانت البيضة بمُحَّين. ربما سبب ذلك يعود إلى المرآة التي وضعها أبي في القفص بمستوى الأرض. فقد اكتشف، كما سمعتُه مرّة يشرح مفتخراً لرستم جارنا، بأن الديك عندما يرى نفسه في المرآة، يظنّ أنه يرى ديكاً آخر، فيغار. يقول أبي ضاحكاً: «أنا أول رجل استطاع أن يضع ديكَين في قفص واحد»! قبل أن يتلقط الديك الحبوب، يصدر أصواتاً يدعو بها الدجاجات لتأتي وتأكل هي أولاً. حقاً، للديك كياسة لا توجد في بقية المخلوقات من الذكور. وأبي يترك ضوءاً أصفرَ مشتعلاً في القفص قبل نوم الدجاجات ونومنا نحن السبعة في الغرفة الوسطى التي تؤدي إلى الغرفة الداخلية التي ينام فيها هو وأمّي.

كلّما تكلّمت جدّتي انتبهتُ إلى أسنانها الخضراء التي تذكّرني بالطحالب التي ستنبت فوق قبري حينما سأكون مترَين تحت سطح الأرض، وبأسناني التي تتسوّس بسرعة، أسرع من تسوّس أسنان إخوتي. لا أعرف شيئاً عن أسنان إبراهيم، فأنا لم أره منذ صغري. هكذا، كبرت وعرفت أن لي أخاً اسمه إبراهيم. بالكاد أذكر أوّل لقاء بيننا، وكأنّه لم يحدث، عندما جاء لزيارتنا، قبل أن يغادر إلى أميركا. إبراهيم بقي أخي المفضّل، ربّما لأنني لم أعرفه جيّداً. أحياناً، كنت أشكّ في وجوده وصدق رواية ابنه، وزوجته سمر التي يُقال إن اسمها الحقيقي هو سميرة. هي التي جاءت إلينا من مدينة حلب. حلب التي لم يترك إبراهيم أي أثر فيها، لا هو ولا زوجته، ككلّ المدن التي مرّا فيها، حتى الشّام التي عاشا فيها بعدما أكملا دراستهما الجامعية. ذات مرّة سافرت أمّي إلى سوريا لزيارتهما، لكنها رجعت سريعاً بعد أيام قليلة لأنها قالت عن سمر إنها غريبة حتى وإن كانت تتكلّم لغتنا. جاعت أمّي هناك رغم توافر الأكل في سوريا. وقالت لها أم هيثم جارتنا الفلسطينية: «العباءة المستعارة لا تُدفئ». وجدّتي تقول لها: «لا تبكي، فأنت في الحقيقة لديكِ فقط ابنتان، أمّا الصبيان الستة فلن يجلبوا لقلبك سوى الكرب».

وفي يوم تشرينيّ بارد، صرخ سامي بيعقوب إذ رآه يسرق عجلة درّاجة قديمة من مرآب الجيران: «ماذا سرقت»؟ أجابه يعقوب: «لا أدري ما سرقت». فوبّخه سامي: «أرأيت كم أن السرقة قبيحة لأنه في معظم الأحيان لا يعرف السارق ما يسرق؟ وفوق كلّ هذا يخفق قلبك بشدّة أثناء السرقة. أتعرف أن سرقة شيء تجهله هو أحطّ مراتب السرقة»؟ فجاوبه يعقوب ببرود: «وما هي أرفع مراتب السرقة يا قدّيس»؟

«الله يريدني أن أسرق النفوس من الهلاك مثلك. وأرفعهم إلى مستوى الشرفاء».

«حسنا كلّنا نعرف بأنك أنت الشريف ونحن حثالة». لكنّ سامي صرخ به موبّخاً: «أريد أن أعرف لماذا سرقت العجلة من الجيران»؟ تحجّج يعقوب بأنه أخذها لأنهم ليسوا بحاجة إليها، ولديهم الكثير من الدواليب القديمة لسيّاراتهم ودرّاجاتهم المكسورة. فقال سامي غاضباً: «أأنت تحكم ما يحتاج إليه الآخرون. آه يا يعقوب كم مرّة قلنا لك بأنّ الوصيّة تقول: لا تسرق». فقاطعه يعقوب: «لا أسرق ماذا؟». «لا تسرق... لا تسرق عجلة، من الجيران، التي لا يحتاجونها أو لا تسرق الرمّان مثلاً». فكان أول شيء عمله يعقوب في اليوم التالي أنه سرق الرمّان من الجيران. ثم اكتشف بعد حين أن سرقة الرمّان بالذات هي سرقة محلّلة. بل سرقة صحّية، إذ بقطعها هو يخفّف من ثقل الثمرة على الأغصان، خوفاً عليها من الكسر. وكان كرّومي جارنا يتحسّر لأنه لا يقدر أن يسرق من بستانهم. وظلّت مرارة الثمرة المسروقة الحلوة في قلبه، حتى في شهر كانون الثاني نفسه، صمّم على سرقة رمّانهم. وقطف وأكل أكثر من عشر رمّانات. ووزّع الباقي على أطفال الحارة. وقال «عجيبة هي ثمرة الرمان! فلا بدّ من أن هناك سرّاً في خلقها بهذا الشكل. إذ أنها الفاكهة الوحيدة التي نأكل حبوبها فقط ونرمي الجزء اللحمي منها». عندما اكتشفتْ أمّه أن الرمان مسروق وبعضه ساقط على الأرض، طلبت من كل صبيان الحارة أن يتجمّعوا عند المغيب ويتغوّطوا خلف الجدار، لترى حبوب الرمّان في الغائط وتكشف السارق. فوجدت أن الحبوب في غائط ابنها هي الأكثر.

لم يتُبْ يعقوب، أما سامي فقال: «ينبوع ماء عكر، هذه هي حياتك يا يعقوب». ونادت أمّي سامي: «أين أخوك؟». عرف أنها تقصد يعقوب، فقال ساخراً: «لا أعرف أين أخي. ربّما يسرق الرمّان في الخارج. منذ الأزل حارس أنا على أخي. إن الذي يفعله يعقوب في الخفاء سينكشف يوماً ما رغماً عنه في العلن».

أمّي توصي سامي بأخيه كل يوم: «حذار أن يخطئ أخوك يا سامي. اذهب وقلْ له ألا يسرق». وسامي قال ليعقوب عندما رآه: «ماذا عملت يدك الشرّيرة اليوم»؟ ردّ يعقوب ساخراً: «أي واحدة منهما»؟

انتقلنا إلى المدينة الكبيرة، بغداد، بعدما تقاعد أبي. لكنه قال: «التقاعد عندي يعني الموت». فبنى قنّاً للدجاج فوق سطح البيت، تخلصّت منه أمّي بعد موته.

لم أحبّ العاصمة في صغري، لأني رأيت على سطح الجيران، في أوّل يوم لنا فيها، حمامة بيضاء تنتفض حيّة في فم قطة رماديّة، فاضطربت نفسي. كانت المدينة صاخبة وبيوتها قريبة من بعضها البعض، وتكاد تخلو من الأشجار. لم أتعلّم تفادي السيّارات حتى كادت إحداها تدهسني ذات يوم. حتى أطفال المدينة كانوا عنيفين، ركض صغار الحارة خلف عدنان عندما رأوه يعرج، وصرخ أحدهم من بعيد بعدما رشقه بحجارة كي يركض: «أعور... أعور»، وكان يقصد: «أعرج... أعرج». وضحك عدنان رغم تأثّره، لكنه سرعان ما بدأ يلعب معهم.

استغربت جدّتي من حياة المدينة، ومن كثرة نفايات سكّانها، هي التي لا يفضل عنها شيء في القرية، فهناك هي تطعم بقايا الخضروات والفواكه للماشية وقشور الجوز واللوز تنتهي في قعر تنّورها. أما مياه الحمّام فهي أفضل سماد للتربة. وتقول: «يا ربّي لماذا الناس هنا دائماً مستعجلون»؟ كانت تراقب النساء في المدينة عصراً هي وأمّ هيثم جارتنا. تجلسان أمام النافذة، وتشاهدان مرور النسوة، تقول جدّتي :«انظري إلى تلك التي ترتدي حذاءً أحمرَ». ترّد أم هيثم: «حذار من المرأة التي تلبس حذاء أحمر». مكرّرةً بشكل دائم: «المرأة تعرفونها من حذائها». وتقول أم هيثم: «المرأة خطيرة، فالرجل إذا اشتهى يخضُّه وينام، أما المرأة فإذا اشتهت تروح للشام... الشام... الشام»!

وتجلسان أمام الشبّاك تقزقزان لبَّ حبِّ البطيخ المُملَّح، وتقول جدّتي. «لا أحد يتوب عن الشرّ في هذه المدينة»، ثم تستطرد: «كل مَن يسقط من فوق شجرة الجوز يتأذّى». وكلّ أربعاء تنزل امرأة وقت الظهيرة في شارعنا من سيّارة رجل غريب وتمشي مسافة حتى تختفي. وأم هيثم تحرّك يدها في الهواء وتصرخ: «يا قحاب العالم اتّحدن». فتضحك جدّتي قائلةً: «يا أمّ هيثم من أين تأتين بهذا الكلام»؟

تقول جدّتي إنّ النساء في القرية لسن كاللواتي في بغداد، فهناك كن يغرن من بعضهن البعض. والنتيجة أغلبهن يحبلن. «ألم تحبل سارة عندما رأت بطن جارتها منفوخة، فطلبت من زوجها أن يُحبِّلها»؟ وكانت أمّي تضحك عندما تسمع مثل هذا الكلام. وجدّتي تنهرها: «لماذا تضحكين؟ ألست أنت نفسك حبلت بتمارا لأنك غرت من حياة عندما حبلت بنادية؟ لو لا الغيرة ما حبلت الخنزيرة». فتقول لها أمّي: «الذنب ذنبي أني عرّفتك بأمّ هيثم وصرت تتحدّثين مثلها».

في زمن القحط كنّا نخبز مرّتين في الأسبوع. تصنع أمي العجين ضاغطةً عليه بأصبعَيها لتبصم علامة تشبه الصليب، تأخذه عند الجيران ليساعدوها في خبزه. وذات نهار ربيعي، جاء يعقوب من خلف السياج دون أن تراه أمّي ورمى بطّاريات في التنّور، وإذا بها تنفجر كأنها طلقات تطايرت في الهواء من قلب التنّور الحار. والحجّية جارتنا صرخت مذعورة، إذ كانت تجهّز أقراص العجين لخبزها: «يبو يبو إسرائيل ضربتنا مرّة أخرى». ويضحك يعقوب هارباً لأنها رأته. وأمّي لا تعرف أتضحك أم تركض وراءه لتضربه؟!

 جدّتي كانت تساعد في الطبخ أحياناً لأن أمّي تقول لها: «اليوم اطبخي لنا أنت، فطبخ الأمّهات أطيب من طبخ بناتهن». وكنا نجلس على الأرض ننتظر الأكل ونعرف أنه جاهز لأننا نشمّ رائحته، فنرسل عدنان ليقول لها صبّي لنا الآن لأننا جائعون! فتقول جدّتي: «أولاد داود ينتظرون الأكلة حتى تُطبَخ لكنهم لا ينتظرونها حتى تبرد». وفي الأعياد كانت أمّي تطلب منها أن تُعدّ لنا أكلة «كُتِل داوكِه» فتقوم بخلط اللحم المفروم مع البرغل الناعم وصنع كُبيبات صغيرة تُغلى في اللبن الرائب المخفّف بالماء مع قطع اللحم المطعّمة باللفت المسلوق في حساء ذي نكهة الزعتر البرّي الذي ينبت في أعالي الجبل، الذي تجلبه جدّتي معها. كلّنا كنّا نأكل، ما عدا سامي الذي يقول: «لا يجوز طبخ الجدي بلبن أمّه، هذه الطبخة وثنية». فتصرخ به أمّي: «كلْ طعامَك وأسكتْ قبل أن يبرد». أما هو فلا يأكل، بل يقوم إلى المطبخ ليأكل التمر مع الخبز. تتنقّل جدّتي بيننا ونحن جلوس على الأرض حول صينيّة مدورّة تصبّ الشوربة المتبقّية في صحوننا بملعقتها المكوّرة المصنوعة من خشب شجرة الكستناء التي تعتزّ بها لأنها ورثتها عن أمّها وتقول: «حرام الكلام أثناء الأكل، كلوا يا أولاد من دون كلام». هي وأمّي تفضّلان الجلوس في غرفة الضيوف بعد الغداء وغسل الصحون، وتدخّنان. يتلصص فاروق عليهما فيقول «تعالوا وانظروا إلى جدتي». فنضحك على طريقة نفثها الدخانَ من زاوية شفتَيها. وفي المساء تقول جدّتي لنجيب الذي يقرأ بهدوء جريدة لا يزيد عدد صفحاتها على الأربع: «عمّك موشي الحرامي، سيأخذ كلّ الأرض له ولن يعطيكم حصّتكم». يرمي الجريدة جانباً ويردّ عليها بعد أن يأخذ سيجارة من أمّي: «أنا متمهّل عليه، لكني في الوقت المناسب سأذهب إليه، فماذا تظنّين، أأتنازل عن إرث أبي بسهولة»؟ تنفث جدّتي الدخان بعصبية وترّد: «الأرض أرضكم لكن غالب ابن عمّك، باشر في زراعتها. عليك أن تتحرّك سريعاً لأنهم سيظنون أن الأرض كلّها ملكهم». أمّي القليلة الكلام تقول: «هذا الموضوع لا يليق أن نتحدّث به أيام الأعياد. لمَ العجلة لا أفهم! دعي الأولاد ينهون الدراسة أولاً وبعدها، من يدري. آه. لو لم يتركنا داود في حيرة، ويمت قبل الأوان»! تنهر جدّتي ابنتها: «تماطلين وتتذرّعين بموت داود لأنك تحبّين تأجيل موضوع الأرض. أنا أعرف بأن موت داود مجرّد حجّة. والله يا دليلة أنت لست حزينة على داود، بل مشتاقة فقط إلى ما بين فخذَيه». يأتي صوت سامي من الغرفة المجاورة: «اطمئني يا أمّي، فلا أحد يموت قبل الأوان أو بعده». ثمّ يدخل إلى مخدعه ونعرف بأنّه كان قد أنهى صلاته للتوّ لأنّه في كل مرّة يصلّي فيها، يقطّب حاجبَيه فيرتسم بينهما الرقم أحد عشر. ومرّات يجلس وحيداً في غرفة الضيوف، يتمتم صلوات مبهمة، أحياناً مسموعة، حتى في المطبخ إذ كنتُ آكل خفية التمرَ المحشو باللوز المحفوظ للضيوف فقط... ثم بنبرة وعظية يقول بعد أن يمدّ رأسه من باب الغرفة «إن لم تتركوا التدخين فستموتون كلكم». تضحك جدّتي: «لو لم يكن التدخين من الله فلماذا أعطانا التبغ»؟ يردّ بسخرية وهو واقف عند الباب: «لو كان التدخين من الله لخلقنا بمدخنة». تقول أمّي دون أن نتوقّع منها التفوّه بمثل هذا الكلام: «الأنف هو المدخنة».

يصمت الجميع على غير عادتهم. يغيب سامي ويرجع بعد لحظات وبيده الكتاب، يطلب من نجيب أن يطفئ سيجارته ويتنحّى جانباً ويسأله: «أتحب التدخين»؟ يجيب نجيب بالنفي هازا كتفَيه: «إذاً لماذا تدخّن»؟ سأله سامي بلهجة عتاب. «لا أدري، ربّما التدخين هو الشيء الوحيد الكريه الذي أحبّ أن أفعله». قال نجيب متحدّياً سامي. فتجاهله سامي قائلاً: «دعوني أقرأ عليكم من الكلمة بما أننا في أجواء العيد». ففتح الكتاب عشوائياً، كما يحبّ أن يفعل، وأنا بدأت أتثاءب، فقرأ حكاية الحلم والرغيف الذي تدحرج ليضرب خيمة الأعداء، فقلت بيني وبين نفسي: «يكفي بالله عليك يكفي يا سامي. أنت تقرأ وكأننا نحن الأعداء في تلك الخيمة في ذاك الحلم». أما نجيب فنهض وهمّ بالخروج. «إلى أين من دون معطف؟ الجو بارد». قالت له جدّتي. «لا ليس بارداً، إنه نيسان» أجابها. أمرته: «إنه بارد لأنه ماطر. وكل يوم ماطر هو شتاء. ارتدِ معطفك». «لا تقلقوا إن تأخّرت، لأني سأسهر مع بعض الأصدقاء. وقبل أن يغلق الباب خلفه اقتربت منه جدّتي ناظرةً في عينَيه، ظانّةً أنها تنطق كلمات الحكمة: «ليس للإنسان أصدقاء حقيقيين، بل أعداء حقيقيون فقط. فتذكر أن تكون طيّباً مع الأصدقاء وأطيب مع الأعداء». أما هو فلا يرد عليها، بل يأخذ مظلّته ويخرج.

تتنهّد جدّتي ثم ترتمي على الأريكة الزرقاء في غرفة الجلوس، ضفائرها الرمادية الرفيعة تستريح على الوسائد الملوّنة. الأريكة التي كنت أظنها مسكونة بروح نجسة، لأني كلّما جلست فوقها تمّلكتني أفكار غريبة وهذيانات مشابهة لحمّى أصابتني وأنا صغيرة. لكنني حرصت على ألاّ يعرف أحد بأفكاري، خصوصاً سامي، إذ إنه ضَرَبَني مرّة بشدّة وأطفأ سيجارتي في ذراعي عندما رآني أدخّن عود الداليا اليابس. كنت أكسر عيدان عريشة العنب وأنشّفها وأدخّنها في الخفاء. ومرّة أخرى ضربني لأني صنعت مفرقعات. كنت أقوم بِحّك جانبَي علبة الثقاب بالموسى وتفتيت رؤوس العيدان الكبريتية وخلط المزيجَين، ثم لفّ الخليط بمعدن رقيق، وضربه بحجرة كبيرة. كانت أختي تمارا تحبّ رائحة «القنبلة» كما كانت تُسمّيها. لا أعرف لماذا كان سامي يضربني، فأبي لم يضربني قطّ، لا أنا ولا أختي. كان والدي يقول: «البنت لا تُضرَب، فقط الولد يُضرَب». أستطيع أن أجزم أن أبي كان يكرّر هذا القول، الذي هو ربما من أقوال أحد الحكماء، على الرجال العرب الأقوياء، بالقرب من نهر الفرات في حديثة، أما هم فكشفوا له سرّهم، فمياههم تقوّي الطاقة الجنسية لدى الرجال. وكان زملاء أبي يمازحونه ويقولون له: «يا دكتور داود أنت شربت فقط من مياه دجلة التي ليست مثل ماء الفرات، الماء هنا جيّد للصحة»! أيضاً علّموه ألا يغسل التمرَ بالماءِ الحارّ. قال له الحجّي زرنان مرّة: «يا دكتور، أنتم في الشمال لا تعرفون كيف تأكلون التمر، فالتمر لا يُغسل ولا حتى بالماء البارد».

كنت أظن وأنا صغيرة بأن أبي دكتور، لم يقل لي أحد أنه مجرّد مساعد مضمّد، ظننت أنه طبيب لأن الجميع كانوا ينادونه احتراماً بلقب «دكتور». ذلك أنه كان يعالج الجيران والأصدقاء الذين يأتون في المساءات للتداوي في الحالات الطارئة، حين تكون عيادة المستشفى مغلقة. عندما كبرت وعرفت أني لست ابنة دكتور، ضحكت من سذاجة أبي وأصدقائه الذين عندما يقرعون الباب يسألون: «هل الدكتور موجود»؟

في «حديثة» تعجّب الجيران كيف عالج أبي عدنانَ من لسعة الدبّور الذي كان يمتصّ حلاوة التينة حين مدّ عدنان يدَه إليها، فلسَعَه من إبهامه. لم يقل أبي لأصدقائه كيف شفاه في الحال. إلا أنه ببساطة قال لعدنان: «أعطني أصبعَك». فوضعَه في فمه، ولا ندري إن كان أبي قد مصَّ السمَّ وبصقه، أم أنه لثمَ الإبهام كقبلة طويلة؟ «لماذا صعدت فوق التينة لتقطف الحبّة الأكثر بعداً؟ فالشجرة ملأى بحبّات ناضجة». «تلك التينة بدت أنضج من غيرها. أنا أحب التين كثيراً يا أبي (وفي نفسه) حليب التين عندي أهمّ من حليب الأم».

أصيب فاروق بمرض لا شفاء منه وهو الصَّرَع. في المرّة الأولى عندما أغمي عليه، عضَّ لسانه، فصرخت أمّي: «لنأخذه إلى المستشفى ليداويه أبوه». ردّت جدّتي باستهزاء: «ماذا سيفعل داود، سيخيّطه؟ لو تخيّط اللسان لقصر، وإذا قصر اللسان ولو مقدار شعرة فالولد سيتأتئ». قادته جدّتي إلى المطبخ، بينما هو يبكي من مشهد الدم، وبّخته: «لا تبكِ كاليهودي الذي يخاف عندما يرى الدم». ملأت كفها بحفنة من القهوة المطحونة ووضعتها فوق لسانه. فتوقّف النزيف بعد لحظات. وفي ليلة استيقظ من النوم صارخاً: «هل أسميتموني فاروق على اسم الملك»؟  «أسميتُكَ فاروق على اسم المخلّص بالسرياني باروقا» تؤكّد أمّي. يضحك فاروق ويقول إن الملك فاروق هو الذي تنبّأ بأنه بعد سنين لن يكون هناك سوى خمسة ملوك فقط في العالم كله: ملك إنكلترا والملوك الأربعة في أوراق اللعب. وأمّي لا تهتّم بكلام فاروق لأنها مشغولة بصلواتها، وسامي يقول لها للمرّة الألف إن الصلوات والتضرّعات التي ترفعها لإلهة القمر الموروثة من عصور بابل لا علاقة لها بالكتاب. فينهرها باستمرار باسم الربّ، كلّما سمعها تصلّي للقمر رغم اعتناق أجدادها المسيحية، فتنهي صلاتها في بداية كل شهر مع ظهور الهلال بتقبيل اليد مردّدةً: «صارا خاتا بريخا بماتا آخني عتيقيه آتي خاتا...»! نعم أيها القمر، جديد أنت في المدينة. أما نحن فقدماء قدم الأزل.

جدّتي أيضاً كانت تصلّي من صغرها للقمر الكبير في القرية، وفي مغيب يوم الجمعة يناديها جيرانها اليهود لتشعل لهم نارهم. كانت تخاف منهم وهي صغيرة، وتقول: «اليهودي هو الرجل الذي يخبّئ كنزه في إناء فخاري ويطمره تحت شجرة ويرحل، لكنّه يعود إليه بعد ألف عام».

لم يعرف أبي ماذا يفعل عندما أصيب فاروق بالصرع. وفي المرّة الثانية عندما أغمي عليه، وضعت أمّي فوراً خرقة في فمه كي لا يعضّ لسانَه، وصرخ سامي، فلم يَرَ من قبل منظر إنسان في حالة صرع بفم يزبد: «يا للهول، ها هي الروح النجسة سترميه في الماء أولاً، وبعدها في النار». فشدّته أمّي من يده وأخرجته من البيت، وصرخت جدّتي: «اضربيه على فمه كي لا يتكلّم مرّة أخرى بمثل هذا الكلام». أما أبي فكان يشكو متاعبه لزملائه في المستشفى، فلا يجد تعزية في العمل، لذلك يذهب عند عزيز ويشرب معه لينسى حزنه.

أذكر أبي لابساً ثياباً بيضاء ناصعة وكأنه طبيب، حين اصطحبتني أمّي حاملة معها وجبة غداء إليه في عمله. لكنني لم أحبّ رائحةَ المستشفى. وذات مرّة أمسكني المستخدَم حين تركتني أمّي وحدي للحظة وقال: «لا تحاولي الدخول إلى تلك الغرفة». وكانت غرفة الطوارئ. ثمّ قال بعدما سحبني في زاوية، وهو يمدّ يده إلى صدري: «أريدك أن تخبّئي هذا الكلام في قلبك». وعصرَ صدري غير النابت وأضاف: «هنا». وظلَّ يفركه حتى أفلتُّ من يدَيه وركضتُ إلى أمّي. رفضتُ في ما بعد مرافقتها إلى المستشفى.

كان لأبي صديقٌ اسمه عزيز، وكان لعزيز ابنة ماتت غرقاً وهي تسبح. كان ذلك قبل ولادتي. وعزيز يردّد منذ عشرات السنين: «لماذا تموت سلمى إن كانت تجيد السباحة»؟ آنذاك عندما رأى جسدها الشاحب على سرير في غرفة الطوارئ، حملها فكانت باردة. أراد أن يأخذها إلى البيت. فمنعه أبي، وتوسّل إليه أن يهدأ. لكنّ عزيز طويل وقوي، وليس قصيراً كأبي. دفع بأبي فسقط على كرسي قريب. وبعد لحظات تعانقا، وصارا ينوحان معاً، واهتزّت ردهات المستشفى على صوتيهما. كانت أمّي مع نساء الحارة هناك أيضاً تبكي على صوت بكائهما، فبكاء الرجال أحياناً أكثر مرارة من بكاء الأطفال! فيما جليلة أم الغريقة مغميّ عليها في غرفة مجاورة. كان عزيز أحد سكّيري حيّنا في حديثة، لم يأكل الخيار قطّ مع مشروبه، ذاك لأن ابنته ماتت غرقا بسبب خيارة قضمتها واختنقت في مياه لم تكن صافية في ذلك اليوم بالذات من شهر آب. في احدى الليالي، ذهب عزيز إلى المسبح وهو سكران. علّق لافتة على الباب الخارجي كتب عليها «مطلوب منقذ يجيد السباحة». آه. وأنا قلت عندما كبرت وسمعت كلّ هذا «أتمنى ألا أموت غرقاً». فأنا أخاف من الماء حتى وهي في الكأس.

لا تذكر جليلة ليلة مرّت في حياتها ولم يكن زوجها سكراناً، إلا تلك الليلة التي أنذره فيها الطبيب: «إن شربتَ الليلة ستموت». وفتح عزيز عينَيه في الصباح، إذ لم يشرب سوى الشاي مع الفطور، نظر إلى أولاده وتفحّصهم وكأنه يراهم للمرّة الأولى. وفي النهار خرج ليتمشّى، ثمّ رجع، حيث توقف طويلاً في ساحة عند نهاية الشارع الرئيسي، وعاد متحيّراً يسأل زوجته: «رأيت صورة لرجل في الساحة، لكنه لا يشبه رئيسنا، ماذا حدث»؟ فردّت زوجته «ألم تعرف أن لنا رئيساً جديداً يحكمنا منذ ثلاث سنين؟ كنت سكراناً كل تلك السنين. ملعونة هي الكأس»! وراحت تقصّ له حكاية الرئيس الأسبق وما حدث، ورجع يشرب ونام تحت شجرة المشمش الكبيرة في فناء الدار وهو يتمتم: «لا بدّ من أن للخمر سرّاً عميقاً سأعرفه يوماً، فهي محرّمة في هذه الحياة ومحلّلة في الآخرة». كان أبي يقول له: «يا عزيز، عليك أن تشرب الماء بقدر ما تشرب الكحول الرخيص كي لا ينشف جلدك». فيقول عزيز: «أنت يا داود تخاف على بشرتي والدكتور يخاف على كبدي. وأنا أشرب وأدخّن وصحّتي أفضل من صحة من يعتني بنفسه. الرجل الذي يشرب الكحول مثلي، ذاكرته قوية».

 كانت جليلة قبلاً تحلف وتقول: «يا عزيز سأطلّقك إن لم تترك المشروب». كان ذلك قبل موت سلمى، وكانا يتشاجران كثيراً فيقول لها: «لن أسمع كلامك في ما بعد يا امرأة»! لأنه عندما اشتكى عزيز من ألم في ضرسه قالت له جليلة: «ضع حبة أسبرين عليه فيهدأ». فعمل بنصيحتها ونام نوماً هادئاً وصحا صباحاً وإذا الألم قد زال تماماً، لكنه وجد لثّته مثقوبة مكان حبّة الأسبرين. وبدأ يلعن جليلة والأسبرين: «أما كان من الأفضل أن أدخّن وأشرب العرق أكثر من أي ليلة أخرى، فتخدر ضرسي حتى الصباح». وكان يلعن ويشتم كل ليلة حتى يسكر فيهدأ ويقول لزوجته: «أريد أن أشاهد فيلماً لممثّلي المفضّل». فتضع له جليلة فيلماً فيه توفيق الدقن، وينام عزيز على صوته قبل أن ينتهي الفيلم ويكمله في الليلة التالية.

كانت جدّتي تتلصص علينا، أنا وتمارا، وتحب أن تعرف كلّ ما نتكلّم به، وأحياناً ننزعج من وجودها ونتمنّى سفرها. لم تكن تحبّ زميلتي فاتن، الفتاة التي حبلت قبل أن تتزوّج. كانت تأتي لزيارتي أحياناً وتسألني جدّتي عنها. طبعاً لم أقل لها إنها حبلت من شاب أعمى تعوّق في الحرب، ولم تشأ إسقاط الجنين لأن صديقها قال إن الإجهاض حرام. والرجل كان وعدها بالزواج بعد الإنجاب. كان جسدها نحيلاً جداً إلى درجة أنه حتى في الأشهر الأخيرة لم ينتبه أحدٌ إلى بطنها المنتفخة، فكانت تغطّيها  بشال أسود فضفاض وتتفادى الظهور أمام أبيها وأخوتها ولم يدرِ أحد في البيت المكتظّ بالأخوة والأخوات الصغار وزوجات الأخوة وأولادهن، حتى حان وقت الولادة وساعدتها إحدى زوجات أخيها التي تثق بها. فأخذتها إلى القابلة سرّاً. والقابلة قالت وهي تسحب المولود: «سبحان الله، دائماً ابن الحرام صبي». ثمّ أخذوا الطفل وأخفوه في البيت ولم يميّز أحدٌ صوته لأنّ صياح الصغار كان يطغى على صوته. وبعد أيام من إرضاعه أخذته أمّه إلى أبيه واعتنى به هو ووالدته وأخته حتى تزوّجا في الصيف التالي.

ينزل خالي يوسف ويأخذ جدّتي معه إلى نينوى فجأة، أما هي فتهدّدنا قبل أن ترحل قائلة: «لن أرجع إلى بغداد حتى أسمع بأنكم اتّحدتم وأصبحتم رأياً واحداً». لكنها لا تحتمل البقاء في بيت خالي يوسف فترجع بعد ستة أيام. ونجيب يثير أعصابها فيحرّضها ضدّ سامي: «أنت يا جدّتي لا تتقنين فنّ المشاجرة، ولا تعرفين أن تغضبي مثلنا». قال هذا بعدما قال سامي لها: «لماذا أطمع في وراثة أرض، إن كان لدي مكان فوق جبل سهدوثا». فقالت له: «كيف تجرؤ وتسمّيه طمعاً؟ إنّه حقك في الأرض يا مغفل». فقال سامي: «لكني ذات يوم سأصعد إلى جبل سهدوثا المقدّس وتكفيني قطعة صغيرة هناك، ثمنها مدفوع سلفاً».

يقاطعه نجيب: «السؤال ليس إن كنت تريد الأرض أو لا تريدها، فإن لم تكن بحاجتها اليوم، فحتماً ستحتاجها غداً».

«غداً متى»؟

«غداً قد يكون خمسمئة سنة منذ الآن»!

«لكني سأتنسّك في الصومعة، جبل سهدوثا حياتي».

«أتعرف بأني مستعد للموت من أجل الأرض»؟

«أخشى أنك لا تريد الموت من أجل الأرض، بل تريد أن تقتل بحجّة الأرض»!

«ستصعد إلى جبل سهدوثا الذي لا وجود له. أنت تعيش في الخيال».

«أنت الذي بدأت في زراعة أرض في خيالك. استمرّ رجاء في الحلم ولا تنسَ أن ترسل لنا من محصولها بعد الحصاد»!

«لا تأتِ غداً وتطالب بحصّتك، أفهمت؟ يبدو بأنك تخجل من أن تكون ناجحاً». ويقول عدنان لنجيب: «أنا أريد حصّتي من الأرض لضمان مستقبلي. فذات يوم سأتزوّج». فيجيبه نجيب: «أتريد أن تتزوّج قبلي»؟ تضحك جدّتي: «لمَ لا؟ فالعيد الصغير يأتي قبل العيد الكبير». عدنان يقول: «لقد تعبت من سياقة التاكسي. ولا وقت لديّ كي أدرس وأشتغل في آن واحد». يردّ سامي لائماً: «ألم أقلْ لكَ ألف مرّة، لا تشتغل سائقاً لأنك تجول الشوارع بلا هدف».

«ماذا تعني بلا هدف؟ المال هدفـي».

«استغفر الله يا عدنان! يبدو أنّ المال يسخّرك بدل أن تسخّره! غيّر هدفَك ومهنَتك، لأن مهنَتك مثل مهنة إبليس، التجوّل في الأرض والتمشّي فيها».

عندما سمعتُهم يتجادلون بهذا الشكل قلتُ لتمارا: «انظري كيف أن الرجال يتكلّمون أكثر من النساء، مع أن الأسطورة القديمة تقول إننا الثرثارات». ونسمع نجيب: «الذي لا يريد الأرض فليترك الذي يريد الأرض وشأنه».

«ألم أقل لك بأنّك زرعت الأرض في خيالك؟ أخشى بأن كلَّ ما تطأه قدماك سيكون لغيرك».

«أي جيل يأتي ويذهب دون استرداد الأرض، هو جيل يبيع جزءاً من الأرض».

«أنا تنازلت عن حصّتي قبل أن أولد، لم تكن الأرض لنا منذ البداية ولن تكون».

«أشكر لك تنبّؤك. أحقاً تريد أن تصبح رجل دين؟ أنت لو رأيت أعمالهم لما صدّقت كلامهم». كان نجيب يلمّح إلى قصة الخوري الذي سافر من بيروت إلى ساو باولو محمّلاً بالسجائر الرخيصة والسُّبحات الورديّة التي يبيعها للعجائز الورعات، مدّعياً أنّ حبّاتها مصنوعة من نواة الزيتون النابت في بستان الزيتون الذي صلّى المسيح فيه يوم الخميس قبل أن يسلّم الروح بليلة. والحقيقة أن السُّبحات مصنوعة من نواة الزيتون الذي كان يجمعه من بيوت اللبنانيين المهاجرين. أما القوارير الفارغة التي جلبها معه فيملأها من ماء الحنفية مدّعياً أنها مياه مقدّسة من نهر الأردن الذي تعمّد فيه يسوع. والنساء يُسبّحن بانتظام، عشرين مرّة «السلام لك»، وعشرين أخرى «أبانا الذي في السموات» بالبرتغالية التي كان الخوري يجيدها.

ويستمرّ نجيب في التهكّم، محاولاً إسماع سامي قصصه، مؤكداً أن رجال دين لا يعرفون شيئاً عن الدين: «مرّة سألت أحدَ الكهنة في عيد أحد القدّيسين: ماذا حدث لسَدوم وعمورة؟ فقال: لا أعرف السيّد سدوم ولا زوجته مدام عمورة. لا أحد يصدّق قصص الكتاب سوى أناس بسطاء مثلنا فنتورّط ويصبح أحدنا متنسّكاً». وضحك بسخرية محاولاً إسماع سامي: «والله سيكون للقصرانيين كاهن خاص بهم».

«أسكت، لا تناديني بالقصراني. أنا أكره لقبنا. من أين جاءت تسمية قصراني هذه؟ فقرية أبي لم يكن فيها قصور، بل مجرّد أكواخ مصنوعة من الحجر أكبر من أكواخ القرى المجاورة. إنّها مكابرة وشمخرة لا أكثر»!

أما أنا فكنت أضحك عندما أسمعه يقول إن الحضارة الآشورية سقطت بسبب غرور الآشوريين، لأني كنت أظنّ أنها اندثرت لمجرّد أن النساء فيها كنّ مشغولات بلفّ ورق العنب المحشوّ بالأرز واللحم.

«إن لم تتكلموا لغتنا في البيت، ولم تعلّموها لأولادكم من بعدكم، فسننقرض ذات يوم»، كانت جدتي تقول. شبابنا في الغربة يتزوّجون من شقراوات بحجّة أن بناتنا لسنّ جميلات وأنوفهنّ كبيرة. لكن الأنوف الكبيرة الزائدة تملأ سلّات الزبالة منذ بترها في معتقلات السجون النازية وحتى بعد انتهاء حرب لبنان الأهلية. وأنا أتخيّل أنه في يوم من الأيام لن يكون ثمة نساء مثل جدّتي تصلّي للقمر والمنديل على رأسها وضفيرتها السميكة تستريح فوق كتفها.

 كنت أحبّ أن أكون قريبة منها معظم الوقت وهي في المطبخ الصغير تُعلّم أمي أسرارها وأنا أصغي فتترُكني أساعدها وتقول: «مستقبل البنت في المطبخ حتى وإن أخذت أعلى شهادات الدنيا»! حاولت أن أساعدها مرّة بتقطيع الفلفل الأخضر الحارّ، ولا أدري كيف طارت حبّة صغيرة ودخلت عيني. وسمعني سامي أصرخ من حرقة الألم، فدخل المطبخ وضَرَبني: «أما كان بإمكانك أن تقطعيه بحذر؟». فوبّخته جدّتي: «بدلاً من أن تأخذ أختك إلى حنفية الماء البارد وتساعدها في غسل عينها قمتَ بضربها. هكذا أنتم يا أولاد داود تعرفون فقط أن تلوموا بعضكم بعضاً، وفي أوقات الشدّة لا أحد يساعد الآخر».

في المغيب ينتقم منها سامي عندما يراها تصلّي فوق السطح ووجهها نحو الشرق والهلال يرتعش على صوتها مردِّدةً صلواتها الموروثة، فيضرب سامي باب السطح بعنف فتفزع جدّتي وتلتفت بسرعة في الظلمة دون أن تراه، لكنها تعرف أنه هو، حيث كانت تعرف كل واحد منّا من وقع خطواته. فتقطع صلاتها: «يا قوّاد لماذا ضربت الباب بشدّة»؟ ثم ترجع إلى صلاتها، وأنا وتمارا نضحك ونضحك فتركض وراءنا بعد أن تنهي صلاتها فلا تستطيع أن الإمساك بنا.

ماتت جدّتي ودفنّاها قرب النهر في مقبرة مزدحمة. وقبل موتها بأشهر قالت، وكأنّها تتنبّأ برحيلها: «يا ويلي. سأموت في شيخوختي ولا يبكيني أحد. ليتني متّ في شبابي ليُقال: ماتت ليّة صغيرة»! عدنان قال لها: « ولا يهمّك يا بيبي! نعدك بأننا سنبكي كثيراً، هذا لو مت قبلنا». فتقول: «طبعاً سأموت قبلكم». فيتدخّل سامي: «الموت لا يعرف الأعمار. وهو قريب من كل واحد منا سواء أكنا أطفالاً أم شيوخاً». يوافقه فاروق. تقول أمّي: «اسكتوا لا تتحدّثوا عن الموت، لأن الأم لا يجب أن ترى موت أولادها. الوالدان يموتان أوّلاً ثم الأبناء».

هكذا زاد شوقنا إلى جدّتي في زوايا البيت والمطبخ، ورائحةُ الحطب العالقة بضفائرها تطاردُني منذ أكثر من عشرين خريفاً.

احتارت أمّي في ما تطبخ فأعدّت لنا شوربة العدس، وقبل أن تطبخه وضعته في صينية ووقفت عند نافذة المطبخ المشمسة لتنقّي حبّاته من الأحجار صغيرة. فاروق يقول لها: «ما إن يبرد الجوّ قليلاً وتظهر غيمة في السماء حتى تطبخي لنا شوربة العدس الحمراء». أما هي فمن باب التنويع تطبخ أحياناً المجدّرة من الحَبِّ البنّي غير المقشور، وكانت أم هيثم الفلسطينية تُفضّل مجدّرة أمّي على مجدّرتها: «زاكية مجدّرتك يا أم إبراهيم. أحسن شيء عملته في حياتي أني علّمتك طبخ المجدرة». وفاروق يقول: «العدس هو هو وإن تغيّرت الأسماء واختلفت طرق طبخه، وكأن لا شيء هناك في العالم سوى العدس. اللعنة عليه»! تطبخه أمّي وتكرّر الحكاية التي سمعناها للمرّة الألف؛ حكاية الجاسوس الموسادي والعدس. وكيف أنه قبل شنقه من قبل سلطاتنا، سألوه عن رغبته الأخيرة قبل الأعدام فقال «أريد حفنة من العدس». فملأ كلتا يدَيه بالعدس ثم نثره على الأرض، قائلاً: «بعدد هذه الحبّات يوجد جواسيس في بلدكم لا يمكنكم الإمساك بهم كما أمسكتموني».

عدنان الوحيد الذي يحب شوربة العدس ويضع فيها قطع الخبز الرقيق المقلية بزيت الزيتون. علّمته أم هيثم أن يرشّ القليل من الكمّون فوقها. لا يأكل عدنان شوربة العدس إلا إذا كانت ساخنة جداً: «العدس يختلف طعمه لو برد». فاروق يقول لأمّي في كلّ مرّة تطبخ فيها العدس: «قولي بأن هذه هي آخر مرّة تطبخينه لنا». فتردّ: «اسكت. أنت تكرهه مذ كنت صغيراً، لأنك عندما كنت في سنتك الثالثة وضعتُ حبّة العدس غير المقشورة في منخارك ونسيتها هناك. حتّى سمعناك أنا وأبوك بعد أيام تشخر وصوت صفير يأتي من أنفك فأخذك داود إلى المستشفى. حجّي زرنان عثر على البذرة وإذا بها قد أنبتت. وأنت بكيت لأن الملقط كان قد خدش أنفك». فقال فاروق بأنه لا يتذكّر ألمه. «لا أحد يتذكّر آلام الطفولة. الأم وحدَها، لا تنسى آلام أولادها» أجابته أمّي.

بعدما رحلنا إلى المدينة بسنين، سمعنا بأنّ لأبي أختاً اسمها فريدة، تصغره بعشر سنين تقريباً. وبأنها كانت جميلة جداً. عندما سألنا أمّي عنها ارتبكت، وقالت بأنها رأتها مرّة واحدة فقط قبل زواجها من أبي: «لا تسألوني عن أشياء لا أعرفها، ثم إنها أمور لا تخصّكم». لكنّها تقول بعد إصرارنا: «كلّ ما أعرفه أنه في صغرها أرسلها جدّكم إلى دير الراهبات، بقيت هناك ثلاث سنين ومرضت بعدها مرضاً خطيراً، فرجعت، وجاء الحكيم ليكشف عليها فقال: ابنتكم مريضة وليس لها حلّ إلا بالزواج. فصرخ به جدّكم: أنت مجنون! لكنّ هي قالت: أنا لا أريد أن أصبح راهبة، سأنزل إلى المدينة الكبيرة، لأني لا أحبّ القرية، فهنا كل واحد يعرف الآخر. أريد أن أعيش في بغداد، وسأرى كل وجه مرّة واحدة. فقال أبوها: إن رحلت إلى المدينة واحتجت مالاً فلا تظنّي بأني سأبيع حصّتك وأعطيك المال كالابن الضالّ». ورحلت، لكنها سرعان ما عادت حاملةً معها أقمشة صنعت منها فساتينها التي لا تلائم وضاعة القرية. فساتين صفراء ووردية ترتديها مع قبّعات من اللون نفسه. كانت منبوذة من جميع النساء اللواتي خفنَ على أزواجهنّ منها، لأن سحرها عن حقّ كان يغوي أصلب الرجال. سألت تمارا: «عجباً، لماذا لم يحدّثنا أبي عنها؟ أم أنه كان يخجل من أن له أختاً هربت مع رجل متزوّج، صاحب معمل الخياطة الذي كانت تعمل فيه»؟ لا أحد يعرف. قيل إن مصوّر القرية المجاورة احتفظ بصورها لكنه كان يرفض أن يُريها لمن يريد، ما عدا بنات عمّي موشي لأنه كان يداعبهن. زوجة عمّي فتنهر بناتها لو فتحوا موضوع عمّتهم: «اسكتوا يا بنات، عمّتكم حتى وهي صغيرة كانت تدندن كلمات الأغنية التي تقول: والله لأركب سيارة يا لا لا... كانت طائشة، ولم تعمل حساباً لكلام الناس». أما عمّي موشي ففرح عند اختفاء أخته، فاحتال وأخذ حصّتها في الأرض، الحقل الجنوبي. قال جدّي: «والآن فريدة ماتت في عيني، أفكّر في أن يكون الحقل الجنوبي من نصيب أولاد داود». لكن موشي كذب على أبيه: «آبار الحقل الجنوبي تشقّقت ومياه عيونه تعكرت». فقال نجيب: «ألم أقل لكم إن عمّي موشي يأكل نصيب الكلّ مثل أرض عمّتنا فريدة؟ سأحاربه حتى أحصل على الأرض. فماذا لو رجعت عمّتنا في يوم ما»! أجابه يعقوب: «كفى يا نجيب. أنت لا تعرف شيئاً عن الأرض ولا حتى موقعها». «أنت يا يعقوب من دون جميع الناس ليس لك أن تعطي رأيك في هذا الموضوع، لأنك سبب المشاكل كلّها».

وسامي لا يقول شيئاً، بل يهزّ رأسه ويقول: «كيف سيواجه يعقوب وجه الله يوم القيامة؟ حتى الحيوانات ارتاحت من شقاوته بعد سفره، فاليوم وادي حجلان مليء بالحمير التي لم يقتلها». كلّ فشل في حياة يعقوب يرجع إلى تلك الظهيرة التي قرّر أن يذهب فيها إلى الوادي قرب النهر. كان نهر الفرات يفصل منذ الأزل بين وادي حجلان وحديثة التي تركناها منذ زمن. أخذ يعقوب سكّيناً حادّة من المطبخ ونزل الوادي راكضاً وفي قلبه رغبة أن يرى حماراً يتعذّب تحت الشمس. ربط السكين بخشبة يتدلى منها حبل طويل. رأى حماراً كهلاً فطعنه في رقبته. تدفّق الدم مثل نافورة دون أن يراه أحد غيره. خاف من منظر دم الحمار وسماع نهيقه الأخير، ظنّ أن الله سيعاقبه فوراً فركض واختبأ خلف شجرة، وغرس سكّين الجيب الصغيرة في كفّه، فانشغل لدقائق بجرح يده عن منظر دم الحمار. رجع إلى البيت يتقيّأ، وأصيب بالحمّى ثلاثة أيام. بعد تلك الحادثة أصبح يعقوب من أرقّ الرجال، لكنّه لم يحتمل البقاء، لأنه عرف المكان الذي فيه دُفن الحمار. لم يدفنه هو بل صيّادو السمك. سافر يعقوب غرباً بعد سنين، وتعرّف إلى إمرأة إيرلندية الأصل، كانت تُهينه في الفراش، لأنه أخبرها بكلّ شيء. فلم يعد يستطيع أن ينام معها حين تذكّره بدم الحمار. ويعقوب لم يجلب سوى الحزن إلى قلب أبي، خصوصاً تلك المرّة عندما أمسكت به الشرطة لأنه تبوّل عند حائط الجامع وهو سكران. استيقظ أبي في منتصف الليل وذهب إلى التوقيف فرآى يعقوب نائماً على الأرض الباردة. دفع الكفالة، راتبه الشهري، من أجل إطلاق سراحه. قال أبي للشرطة: «ابني هذا ليس عنده دين أو إيمان، لا تلوموه. أعتذر يا رجال. أبوس رؤوسكم، نحن أناس مساكين ومسالمون، لا نحبّ المشاكل». فقال أحد الرجال: «يا أبا إبراهيم، كلّنا يعرف كم أن ابنك هذا يحبّ المشاكل منذ صغره. فذات مرّة وضع حفنة من الفلفل الأسود المطحون فوق المروحة في حصّة مدرس اللغة العربية. وعندما اشتغلت المروحة، طار الفلفل على الطلبة، وعطس الأستاذ أكثر من سبع مرّات».

صمّمت أمّي بعد حادثة التبوّل عند الجامع، على تهريب يعقوب من العراق، فأخذته صوب الحدود شمالاً. وكانت الطريقة الوحيدة لتهريبه مع المال هي أن يكون برفقة راهبة. وبعدما أخذت حصّتها، وضعت راهبة طاعنة في السن المال في جبّتها، فالراهبات لا يتم تفتيشهن إن وقعن بيد السّلطات. لكن يعقوب رجع وقال: «ما زلت صغيراً على الغربة». فغضبت أمّي جداً لأن محاولة تهريبه كلّفتها الكثير. بعد سنين، زوّر جواز سفر، ورحل دون أن نودّعه لأننا كنا نتوقّع عودته بعد أيام قليلة.

الصعود إلى القرى البعيدة لرؤية المعجزات المزعومة لم تكن سوى ذريعة للهرب. فصورة القدّيسة مريم مطبوعة على حائط أحد البيوت كالنور. هكذا، كلّ يوم يصل الناس من المدن أفواجاً بالباصات. البعض للهرب والبعض للمعجزات، فيرون صور أم المخلّص التي ليست سوى ظلال ساقطة على الجدران بفعل أضواء السيارات. أما الذين آمنوا، فقد صدّقوها لأنهم جاؤوا من مناطق بعيدة لهذا الغرض. تقول النسوة: «انظروا إلى وجهها الأبيض. إنها تبكي من أجل خطايانا». ويبدأ الناس بتقبيل الحائط ولمسه لأخذ البركة. رجل يافع صعد خصيصاً لطلب الشفاء من حَبِّ الشباب، والنتيجة أن البثور ازدادت بعد ساعات من احتكاك وجهه بالحائط فاستفسر من أحد القساوسة عن سبب عدم الشفاء، فأجابه القسيس الذي كان يجمع العطايا بكيس من قماش القطيفة الأحمر: «يا ابني، الله إله شفاء وليس إله تجميل»!

لا أصدّق كيف نجا يعقوب من الموت في جبهات القتال؟ ربّما قَلعُ أضراسه الأربع أنقذه. فكلّ مرّة كان يشتاق فيها إلى أضواء المدينة ونسائها، يلجأ إلى طبيب الأسنان العسكري ويتظاهر بألم في ضرسه فيقلعها، وهكذا كان يُسمح له بإجازة مرضية لثمانية أيام عدا إجازته الشهرية.

 في بداية خدمته العسكرية كان يعمل في المطبخ. ويعدّ القهوة يوميّاً للضابط الذي يشتكي من كونها رديئة. وفكّر يعقوب ذات نهار وقال «هذا الوغد لا بالأمس ولا اليوم أعجبته قهوتي». في اليوم التالي، قال الضابط ليعقوب وهو يحتسي قهوته ويدخن: «من الآن أريدك أن تصنع قهوة كالتي صنعتها اليوم». خلف باب المطبخ ضحك يعقوب: «الأحمق لم تعجبه قهوتي حتى تبوّلت فيها».

يُقال إنهم اكتشفوا البترول تحت مقبرة في كركوك، حيث دُفن فيها أحبّائي من أيّام الحرب، حرب الثماني سنوات التي لم تنتهِ بعد. سنحاريب، عمّي مات بلا سبب. لا أحد يموت في الحرب بسبب. وصلنا الخبر السيّء ككلّ الأخبار السيّئة التي تصل يوم الثلاثاء. والأسوأ أنه مات قبل أشهر قليلة من إعلان وقف إطلاق النار الكاذب، ربّما لم يُقتل في المعركة بل انتحر. أحياناً، يُفضّل الإنسان أن يموت على أن يواجه الحياة ما بعد الحرب! مرعبٌ هو السلام الذي يعقب الحرب مباشرة أكثر من الحرب ذاتها. أمّا عمي فكان يعرف ما لا يريد. عاش ثلاثة وثلاثين عاماً، كافية، ليذهب بطلقة واحدة وإلى الأبد. فتركنا نحن وأولاده مع يتم فقدانه. بعد يومَين من موته، وجده الجنود خلف صخرة، وفي جيبه نصف رغيف يابس، وفي جنبه النازف رصاصة ذهبية اخترقت كبدَه. بكى أصحابُه بكاء مُرَّاً، رغم أنها لم تكن المرّة الأولى التي يرون فيها قتيلاً. إلا أنّها كانت المرّة الأخيرة لرؤية سنحاريب نائماً وفمُه يقطر عسلاً لأن النحل في حزيران يتيه ويفقد ذكاءه أمام الآلهة السومرية السمراء. قلنا له أن يفعل كما يفعل المئات: أن يطلق رصاصة بيده اليسرى على إبهامه الأيمن أو بالعكس. لكنه قال: «لا والله لن أقلع ظفراً من أظافري للإعفاء من الخدمة العسكرية». وهكذا رحل دفعة واحدة. كان أصدقاؤه وأمّه يدعونه سنحاريب، باستثناء أبيه الذي كان يناديه سنخيرو. وفي الأوراق الرسمية كان اسمه: حسن خيرو. ووراء تلك التسمية الخطأ قصة. فحينما كان عمّي في الخامسة من عمره، أخذه جدّي إلى العمادية بغية إصدار الجنسية العراقية له في مقرّ الشرطة آنذاك. وسأل الشرطي جدّي عن اسم ابنه فقال: «سنخيرو». أما الشرطي فسمع وكتب «حسن خيرو» دون أن يسأل جدّي عن تهجية الاسم، وحتى لو سأل فجدّي كان يجهل العربية. أما عمّي سنحاريب فكان يقول مفتخراً: «لو لم يكن اسمي سنحاريب، لتمنيت أن يكون اسمي سنحاريب». وكان أصدقاؤه يمازحونه: «لكن اسمك حسن خيرو». فكان يردّ: «حسناً، لو لم يكن اسمي حسن خيرو لتمنيت أن يكون حسن خيرو».

كانت أمّي تروي لنا قصّة الاسم مراراً، وهي تضحك وتبكي في الوقت نفسه، وتجفّف دموعها بسرعة، خوفاً من أن يراها أبي فيبكي هو أيضاً على أخيه الأصغر. فهي تشعر بالذنب تجاه ولدَيه لأنها فقط تتصل بهما هاتفياً، إذ هما يعيشان مع أمّهما في كركوك. أحياناً ترسل إليهما كعك العيد ومبلغاً تجمعه بعد عناء.

عمّي موشي أراد بعد موت أخيه مباشرة، أن يأكل نصيب عائلته في الأرض فزوّر بعض الأوراق، واستغلّ حزن زوجة عمّي سنحاريب، وسلّمها الأوراق بحجة أنها أوراق الدفن ووقّعَتها دون أن تقرأها. وشكّت أمّي به فهدّدته: «إيّاكَ أنْ تأكلَ حقّ الأرملة، أنا أعرف تأريخك القذر من قبل أن أتزوّج أخاك وأسرارُكم مكشوفة أمامي، حتى قبل أن أدخل بيتكم. أنا أعرف ما كنت تفعله وأنت صغير حيث سرقت سيّارة صاحب العمل وهرّبتَها إلى الموصل وبعتها هناك، وظننت أنّه لن يعرفك أحد هناك. ورآك أخي يوسف تتحايل على المشتري الذي أمسكوه وذهب إلى الحبس أترى كم الدنيا صغيرة»؟ حاول عمي أن يقاطعها لكنها أكملت: «الآن تدّعي العمل الخيري للكنيسة. ولا أحد يصدّق بأنّك محتال، لأنك قد دخلت بيت الله وتسرق الله والناس تقول عنك شريف لأنك تمسك بصندوق الكنيسة ولا يعرفونك تمام المعرفة. الله وحده سينتقم منك لا الناس لأن إنتقام الله أقوى من إنتقام النّاس. لا أدري كيف تستطيع أن تنام في الليل وأنت تسرق اليتيم».

أجابها عمّي موشي: «أنت إمرأة شرّيرة لأنك لو فكرت جيّداً لرأيت أن اليتيم الحقيقي هو أنا وزوجتي المسكينة اللذين اعتنينا بأبي كلّ سنوات مرضه بينما أنت وزوجك تهرّبتما من مسؤولية أبي، وسنحاريب كان يطارد لسنوات هذه المرأة. والآن تريدين الأرض بكل بساطة لك ولأولادك. ليس لك شيء في أرض أجدادي. فأنت وأولادك لا تعرفون الزراعة بل ولا تعرفون موقع الأرض. فقط تجرأي واقتربي منها وانظري ماذا ستفعل بك زوجتي؟ المرأة الفاضلة هي التي تجد حقلاً فتقتنيه مثل زوجتي. أين أموالكم؟ كلّها صرفتموها في الشرب والدخان وتضييف الناس. أما أنا فزرعت حقل أبي وتعبت فيه، وزوجتي اعتنت به أيضاً معي بينما زوجك كان يلعب القمار ويشرب مع أصدقائه. داود يغار منّي لأن عندي جبلاً...».

«تتكلم على داود وكأنه حيّ يا شرّير، الفرق بين داود وبينك أن داود كان مشغولاً في إطعام أبيه أما أنت فاتكلت على أبيك كي يطعمك. أتظن بأنّنا أنا وأولادي سنتركك وشأنك»؟

«هكذا بالحيلة سيحصل على الأرض وبدهاء زوجته اللعينة». قال نجيب، وأضاف: «سأصعد أنا أيضاً إلى الأرض لأن عمّي قال لي: اعرفْ عدوّك».

«أحاقدٌ أنتَ على عمّك يا نجيب»؟ سألته أمّي بينما هي تجلس وتشرب الشاي وتدخّن في الحديقة. «لا يا أمّي. للأسف أنا لا أعرف كيف أحقد فأنت وأبي ربَّيتماني على أن أُكِنَّ مشاعرَ طيّبة تجاه الناس. ليتك أعطيتِني درساً في الخوف من الناس، من أقرب الناس إليَّ. أبي رحمه الله أيضاً كان يقول: أحبّوا أعداءَكم. سهل على الإنسان أن يحب أعداءه عندما تخلو حياته من الأعداء. سرّ المشكلة هو الفرق بينك وبين زوجة عمّي. أنت لا تتكلّمين معنا في التفاصيل، بل تسكتين عن كل شيء حتى عن الحقّ. منذ صغرنا، عندما كنا نتخاصم مع أطفال الجيران، كنت تقولين بأننا نحن على خطأ وغيرنا على صواب، حتى قبل أن تعرفـي السبب. أما زوجة عمّي موشي فهي تساند أولادها في كلّ شيء. وتقول، أنتم دائماً على صواب لأنكم أولادي»!

وعلى الفور قالت له أمّي: «لماذا تقارنني بامرأة شريرة؟ ليتنا نتعلّم قليلاً من دهائها. إنّ قشّة في بيت عمّك موشي لا تتحرّك دون أمر زوجته التي تقول لولدَيها، غالب ونادان: لا تتركا أختَيكما بعيدة عن نظرَيكما لئلا يأتي الغرباء وينتهكوا عرضنا! هي لا تريد أن تتزوّج ابنتاها. أتريدني أن أكون شرسة مثلها؟ زوجة عمّك تضع ماء الشرب في قنانٍ بالقرب من شبّاك المطبخ كي لا يفتح أولادُها الثلّاجة كثيراً. وإذا جاع أحدهم تقول له: انتظر حتى نجلس جميعنا على المائدة! وإذا جلسوا للأكل فهي التي تقرّر الكمّية في الصحن. وإيّاهم أن يطعموا المتبقّي في صحونهم للقطط السائبة، فالقطط لا تموت من الجوع، لأن الجيران يطعمونها! إذا رنّ الهاتف، لا يردّ عليه أحد سواها فهي تريد أن تعرف من المتكلّم وماذا يريد؟ عمّك لا يعمل شيء بلا علمها ولا حتى شراء كيلو بطاطا. أما البنك الذي يودعون أموالهم فيه، فموظفوه يعرفونها ويخافون منها، وحالما تدخل المصرف تتوقع أنّ يخدمها الجميع فوراً. ذات مرّة تأخّر أحد الموظفين في خدمتها فصرخت: لولا أموالي لأشهرَ مصرفكم إفلاسه! ثم ندمت على فتح فمها، ونظرت حولها، فلو سمعها أحد ما من معارفها لشاعَ خبرُ أموالها... أي أموال؟ ليس عندنا ولا فلس»!

كان نجيب يحزن لأن زوجة عمّي تقمعه. أمّا أنا وتمارا فكنا نحتفظ بعلاقة صداقة جميلة مع ابنتَي عمّنا موشي. وكنّا نقول لبعضنا الآخر: ليس لنا شأن بخلافات العائلتَين، فنحن وإن صار لنا نصيب في الأرض لكننا لن نترك بغداد أبداً. وكنا أنا وتمارا نسخر من ابنتَي عمّي: «أمّكما تشكو بأن ليس لديكم مالاً، وهذا معناه أن لديكم الكثير منه. فالإنسان كلّما كثرتْ أمواله قال: لا أملك! أين تخبّئ أمكما الذهب كي نأتي ونسرقه»؟ وتضحك شيرات: «أمّي تخبّئ ذهبها في المطبخ، في قدور الطبخ».

«إن عرفت بأنك أفشيتِ سرّها لقتلتك».

«أوه. إنها طريقة قديمة يستخدمها الأغنياء البخلاء، أما أنا فلا يهمّني لو سُرق الذهب، لأننا لا نستخدمه على أيّ حال. كما أنني لا أحبّ حليَّ الذهب».

***

إنها مشكلة المياه التي لا تنتهي. و«الماي مقطوعة يا أفندي» منذ قرون، في بيروت في عمّان في بغداد، المياه راكدة في الصهاريج نصف الممتلئة. شكرنا الله كالعادة على نعمة الماء، وبالنسبة إلى غيرنا لم تكن المياه سوى مصدر طبيعي وحق لم نستطع نحن التمتّع به. تخاصمنا عليه لذلك كان لا بدّ من الحرب. نحن اليوم بحاجة أكثر من أيّ وقت مضى إلى حرب توحّدنا. حرب تأخذنا من عدم إلى عدم. يوجد عدو، إذاً يوجد دافع قوي للعيش ودافع أقوى للموت! يتجرّأ أحدهم فيقول: «حيثما يوجد ماء توجد حياة». لأن تكاليف السلام أكبر من تكاليف الحرب، فضّلنا الحرب. الحرب أسهل من السلام. نحن الذين أعدنا صناعة جميع مخلّفات الحديد والألمنيوم، من أجراس الكنائس حتى علب البيرة، فتحوّلت إلى معدّات ثقيلة في أوقات الحرب، حين جاهدنا على إبادة بعضنا البعض. وماذا عن الأبواب ومغاسل الألمنيوم، النساء الماجدات يغسلن الصحون في الحمّام! لا تسألوا كيف ولماذا؟ المعادن نفدت ولم يبقَ لنا سلاح آخر نحارب به سوى الماء. لم نتوقّع أن سنوات الجوع ستنتهي فقط عندما تبدأ حرب أخرى.

سعاد القحبة، وهي امرأة في حيّنا، اختارت مهنة البغاء أيام الجوع لأنها المهنة الوحيدة المتوافرة. أيضاً لأنها سبقت مهنة الزراعة. أولادها جاعوا، اضطرّت المسكينة إلى وضع النقاب والنزول إلى الشارع لتنقر على شبابيك السيّارات «ألفَ دينار.... ألفَين». كان ذلك في بداية الأزمة عندما الصفر في العملة كان له قيمة. رأتها امرأة فصرخت بها: «لو كنت شريفة لكشفت عن وجهك». هربت سعاد من أمامها، وأخذت طريقاً آخر. في الشهر المبارك تمرّ الشريفة، من عند رجل، أيّ رجل، متمتمةً: «يا ربّ اجعله في عيني ثوراً»! فهي لو كانت مومساً لما قالت هذا الكلام. أما سعاد ففي رمضان تجوع هي وأولادها. زوجها أستاذ رياضيات، مرتّبه الشهري لا يكفي لشراء كيلو لحم ودزينة بيض. وكان يقول لماذا نأكل اليوم إن كنا غداً سنموت؟ وفي أواخر الشهر نفسه، لدى اشتداد جوع الأولاد اضطرّت سعاد إلى استئناف العمل وقالت لأحد الرجال الشرسين: «أرجوك، لا تسكب داخلي لأني صائمة»، فلم يتفهّم. ونامت تلك الليلة باضطراب، لأن الضمير لم ينفكّ يذكّرها بالحقائق الباطلة. أنا تمنّيت أن أقول لسعاد: «لا تهتمّي يا عزيزتي، فنساء كثيرات عبر التاريخ امتهنَّ البغاء أثناء الجوع خلال الحروب. الماجدات العراقيات لسنَ في الطليعة. نامي بسلام». تـبَّـاً للرجال الذين لا يسمحون للمرأة بالعمل إلا في هذه المهنة في بعض المناطق من العالم.

أثناء الحرب كنّا أنا وتمارا منشغلتَين بمشاكلنا وهمومنا، قلقتَين من أخبار الحرب الضارية. «أخي الوحيد مات في الحرب. كان قد هرب من جبهات القتال. لكنه مات وهو في أكثر الأماكن أماناً: الفراش» قالت صديقتنا فرح وهي تبكي عندما ذهبنا لعزائها. أخوها مات بسبب الخوف من الموت، أقصد الموت بالسلاح الكيمياوي. وضع طبقات سميكة من الإسفنج في كل فتحات الغرفة من أبواب وشبابيك وأحكمها بعناية، ثمَّ ختمها بالخشب، كي يستحيل على الكيمياوي التسرُّب إلى الداخل. ولأنَّ الوقت كان شتاء، أشعل المدفأة، في الليلة الثالثة من القصف. والمدفأة النفطية (علاء الدين) رغم شكلها البريء، قتلته. دخّنت بعدما نفد النفط فيها لأنه نسيَها ونام، فاحترقت فتيلتها وبدأت تصدر أول أوكسيد الكربون، فاختنق ومات. «كان أخي الوحيد لي، أتعرفون ما معنى أن يهرب الرجل من الحرب فيموت في الفراش»؟ قالت وهي تبكي بمرارة وأنا أبكي معها، وأتذكّر موت عمّي سنحاريب، فأبكي أكثر. ترفع فرح رأسها وتأخذ نفسا: «لا أريد أن يقول لي أحد بأنه قدره، وكان من المفترض أن يموت في تلك اللحظة سواء أكان في المعركة أم في فراشه، لا أريد».

كانت جدّتي محقّة عندما رأت في حلمها الذي حكته لنا بدل أن تحكيه للساقية. رأت نيراناً قادمة من جهة الشرق، نيراناً تلتهم زهور شقائق النعمان في سفح جبلها. وللأسف تحقّق حلمها. وليلى جارتنا التي تدفع زوجها الجالس في المقعد المتحرّك، تذبل كل يوم، منذ أكثر من عشرين سنة. فنحن لم نَرَ سمير إلاّ وهو جالس في مقعده ذي العجلات التي يُسمع صوتها من بعيد. وهو دائما عابس الوجه وزوجته صامتة. ذات صباح جاءت ليلى تشرب القهوة مع أختي تمارا. أذكر أنّ عينَي ليلى في ذلك اليوم كان فيهما بريق لم أرَه من قبل. سمعتُها من خلف الباب، تبوح لأختي بما حدث بينهما، هي وسمير يوم الخميس. هي التي ظنّت أن الذي لزوجها المشلول لا يصلح لشيء غير التبوّل. لكنّ زوجها الذي تعوَّق في الحرب من أسفل الظهر حتى القدم، يلعن الحظّ، ويكفر، خصوصاً عندما يعطس، إذ يتذكّر اللذّة المفقودة. سمعه الجيران مرةّ يصرخ بزوجته: «أنت غير ملزمة بالعيش معي، أنت محبوسة في إعاقتي». كان يدعوها إلى هجره كلما رآها تنظر في المرآة.

تلك الليلة كان سمير يدخّن في غرفة النوم بينما هي مشغولة بترقيع سرواله من جهة المؤخّرة، كان بقربه على الطاولة وردة حمراء في كأس ماء. دحرج مقعده نحو الطاولة، أطفأ سيجارته وأخذ الوردة بين يدَيه. سقطت قطراتها على قميصه الذي راح يفكّ أزراره. ثمّ طلب من ليلى أن تترك ما بيدها وتأتي للجلوس في حضنه. نظرت إليه غير مدركة ما يريده بالضبط. فكرّر طلبه. وقفت أمامه دون أن تقول كلمة، ثم سحبها من يدها وأجلسها في حضنه. بدأ يرفع عنها ثوب النوم الخفيف، ويمسح قطرات العرق من خلف عنقها. ثم مدّ يدَه إلى ساقَيها وبدأ ينزع لباسها الداخلي وهو يتنفس بانتظام، بينما هي تتلوّى بين ذراعَيه، إذ راح يؤرجح الوردة بين نهدَيها اللذين ألصقهما بصدره. ونزل ببطء، بالوردة التي بدأت رائحتها تنتشر بين أنفاسهما، لمس بطنها. انتفضت. طلب منها فتح ساقَيها لمداعبتها، قامت لتطفئ النور ثم عادت إلى حضنه. في الظلمة سقطت أفواف الوردة واحدة بعد الأخرى. الأفواف المبلّلة بندى الفجر المبكر. في الصباح لملمتها وهي تبتسم برضى، ولا تذكر من أين جاءت هذه الوردة بالضبط. لم تعرف أن للورود منفعة في الليل أيضاً.

كانت ليلى تشرب القهوة بهدوء عندنا، وتتحدّث مع تمارا عن تفاصيل الليلة، وأنا أتنصّت من خلف الباب. قالت تمارا: «قلت لك ألف مرّة قد لا يكون سمير عاجز جنسياً. تأكّدي أن بإمكانه تأدية عمله كالأسد طالما أن الدم يتدفّق في كل أعضائه. هو يظن بأنه عاجز، بسبب المجتمع الذي أقنعه بأن الرجل المقعد لا يستطيع ممارسة حياة جنسية ناجحة. وظيفتك أن تساعديه في بعض الأوضاع الخاصة. عليك أن تقوّي عضلات فخذَيك بحيث لا تتعبين. أفهمت. أنت التي عليك أن تكوني فوقه».

«ماذا يقول عني لو رأني في كلّ مرة أنا التي تقوم بالعملية وليس هو»؟

«ليس مهماً ما يقول. المهم أنكما تتمتّعان. أنت تفكّرين الآن كامرأة جاهلة. اسمعي، الرجل يحب أن تهجم المرأة في الفراش فوقه كاللبوة الجائعة. كما أن المرأة وهي فوق الرجل تتمتع أكثر من بقية الأوضاع. استغلي إعاقته. لا تخجلي. أشعلي شمعة وانظري إلى ظلّك على الحائط واستدارة جسدك وأنت عارية فوقه. ضعي موسيقى وارقصي. نعم ارقصي فوقه، لا يوجد رجل يرفض هذا الوضع الرائع سوى المتخلّف الذي قد يقول: لا أسمح للمرأة أن تركبني. عليك من الآن أن تستغلي هذا الوضع السيء وتحوّليه إلى بركة. حتى لو حبلتِ، لا تهتمّي بما يقوله الناس».

في ذلك الصباح لم تقلب ليلى فنجان القهوة، بل غادرت مفكّرة بنصيحة تمارا، وعلى وجهها ابتسامة خجولة. وأنا أتخيّل ساق الوردة التي لم تنكسر في يد سمير، وأسمع صراخه المكتوم، وهو يلعن المعارك المقدّسة كلّما عطس.

زوجة سالم، وهو معوّق آخر، قالت: «وضعتُ أربعة جوارب في الغسّالة الأوتوماتيكية، وبعد أشهر من انقطاع الكهرباء وجدت ثلاثة فقط». تعرّف سالم إلى جميل في المقهى وهو مُعوَّق آخر، لكن بقدم يمنى سليمة، وهي بنفس قياس قدم سالم اليمنى المقطوعة، والمدفونة أيضاً في مقبرة جماعية للأطراف المبتورة خلف حديقة المستشفى العسكري. أخيراً عثر سالم على شخص يتناوب معه على شراء زوج أحذية واحد، فيدفع مرّة كلّ ستة أشهر بدل ثلاثة أشهر، وكل واحد منهما يلبس فردة واحدة. سالم يرتديها في قدمه اليسرى وجميل في اليمنى. إلى أن تشاجرا يوماً، لأن جميل أصرَّ على اختيار اللون البنّي: «لكننا كنا اتفقنا على اللون الأسود منذ البداية».

«زوجتي ملّت من رؤية قدم يتيمة بفردة حذاء أسود كل هذه السنوات».

«أوه. زوجتي تنسى أحياناً أن لي قدماً واحدة. فعندما تساعدني في ارتداء ثيابي تقوم وتبحث عن الفردة الثانية. تبحث في الخزانة. تبحث تحت السرير».

مُعوَّقو الحرب محسودون! قالت أم أحد القتلى: «أنتَ عيناك على الأقل مفتوحتان وإن لم يكن لديك أطراف». لكنها لا تسأل: من سيأخذ شخصاً مبتور اليدَين إلى الحمّام ليقضي حاجته؟

هؤلاء الذين تعوَّقوا في بداية الحرب، فرحوا لأنهم حصلوا على إعفاء من الخدمة، لكنهم حزنوا بعد وقف إطلاق النار لأنه من المفترض أن كل شيء سيعود إلى وضعه الطبيعي، إلاّ هُم. فالذي كان في جبهات القتال رجع. الأسير أيضاً رجع وإن كان قد تعذّب، لكنه قد ينسى. والذي مات، بُكي عليه كفاية ونُسي. «ماذا عني»؟ يسأل المعوَّق: «ها أنا أستيقظ كلّ صباح، أغسل وجهي بيد واحدة وأكسر خبزتي بيد واحدة و... و...».

أما الذي عوّق نفسَه عمداً، كالذي أطلق رصاصة على أبهامه، فطارت له إصبع أو إصبعان، فإنه يتمنى الموت كل يوم لائماً نفسه: «كيف لي أن أعرف بأن الحرب كانت ستتوقف ذات يوم»؟

انظروا كم أفسدتنا الحرب. أفسدتنا إلى درجة أننا نخاف العيش من دونها. في الأيام الأولى، كنّا نصلّي أن تنتهي، كان ذلك قبل حوالى الثلاثين عاماً. لم أعد أذكر، فنحن لا نعرف شيئاً غير الحرب. تماماً مثل عائلة السيّد آدم. هل يستغرب أحد بأنّ هناك حرباً؟ أنا أستغرب بأن هناك سلاماً.

الناس أيام الحرب كانوا يدخلون في مساومة مع السماء: «لا مانع في أن نأكل الخبز الناشف ونشرب الماء كلّ حياتنا، فقط لو انطفأت هذه النار». وها نحن اليوم نأكل الخبز الناشف والماء، والحرب لم تتوقّف. إنها لعنة الصلوات نصف المستجابة. هه. لا حرب في العراق! وكأن أحدنا يقول لا شاي في إنكلترا. ماذا سنطعم الأولاد الذين سيولدون في زمن غير زمن الجوع والحرب؟

في سنوات القحط، لم تكن الحصص التي توزَّع علينا كافية. فكانت أم زينب صديقتي تطبخ البامياء بلا لحم، وتسلق الدجاجة وتعمل منها شوربة، معيدةً الدجاجة إلى الثلاجة، لتطعمها لأولادها في يوم آخر! وكانت زينب تقول: «أكره أسمي. لماذا أسموني زينب؟ كل مَن اسمها زينب تعيسة منذ يوم ولادتها».

أكل العراقيون لحوم حيوانات غير صالحة للأكل، عندما قام بعض المهاجرين العرب بذبح الحمير الهرمة التي لا تنفع في نقل الرمال الهشّة والإسمنت المغشوش. باعوا لحومها المطاطية إلى المطاعم الرخيصة، التي يأكل الجنود فيها، قبل الالتحاق بجبهات القتال الوهمية. قال أحد هؤلاء المهاجرين: «العراقيين دولْ بيفطرو لحمة. دي عربيّة الزبالة أصلها عربيّة لحمة».

الزوجات الفرعونيات في البلاد السعيدة يحسبن الدولارات الرطبة، والمهرّبة في الملابس الداخلية المبللة بقطرات من البول الملوّث بالبلهارسيا وعَرَق الخوف من الانفضاح والدخول في سجن الزنزانة الصغيرة، داخل الزنزانة الكبيرة: العراق! تهبط الطائرة في ميناء القاهرة الجوي، يحاول رجل الجمارك نهب ما اشتراه أحدهم من الأسواق الحرّة من ويسكي ودخّان بعدما استغلّ مرض المسافر ودوران رأسه لأن المضيفة رفضت إعطاءَه البرشام، فلفَّ رأسه مع حزام الحقائب الرخيصة والمليئة بالبق. كذلك الغوايش المسروقة من الزوجة الثانية العاقر، والموقّتة... حتى يرجع الزوج العراقي الأول من القتال الذي توقّف منذ قرون.

جارنا المسكين كتب رسالة إلى نفسه، عثرت عليها زوجته عالقةً بين خشبتَي درج قديم: «أوقفوني وأنا مارّ بالقرب من مقرّ الحزب. استأجروني رغماً عنّي. ربطوا تابوتاً فوق سيّارتي، هكذا، مثل قطعة أثاث مستعملة. قتيل حرب داخل صندوق في أعلى المركبة. لا أكياس الثلج ولا الأطياب استطاعت أن تخفّف رائحة الموت. في أول كيلومتر قطعته السيّارة، ذاب الثلج وبدأ الماء يتقطّر على ذراعي الممتدّة من الشبّاك، وأنا أسوق والجالس بجانبي عسكري يدخّن بهدوء. اتجهنا إلى بيت القتيل، سمعت أمّه الخبر قبل لحظات. ابنها أنتن منذ أربعة أيام. رأتني أفكّ الحبال من حول الصندوق. تركناه بلا كرامة في باحة البيت ورحلنا. كثيرات هنَّ الأمّهات، اللواتي لم يبكين على أولادهن مباشرة، بل إن احداهن دفنت فخذ عجل لعشرين يوماً في حديقتها، ولم تبكِ حتّى حفرت ورأت اللحم وقد تفسّخ. ثم قالت: «هكذا تفسّخ ابني» وبدأت بالنواح».

أمل، أملي، ليتني أرى الأشياءَ بعينَيكِ، لأنّك أنتِ من قلتِ: «ليتني أرى الأشياء بعينَي حصان فهي تبدو أكبر من حجمها الطبيعي».

شعر أبوكِ بالفشل عند ولادتك ولعن الحظ، لأنه لم ينجب صبياً يدعوه باسم أبيه المرموق الذي هاجر وحده إلى الهند ولم يعد، هناك تاجر بالجياد واغتنى. وأنت قلت: «أعود وأرجع إلى زوجي لأني لم أعد أحتمل اللعنات الوراثية التي تطاردني وهي كالطفرات المتناقلة من الجيل الأول إلى الجيل الثالث». رجعتِ إليه. وإذا به يعدّ العَصْرونيّة من جبنة وخبز حار مع الشاي. كانت ثيابه المتراكمة، بحاجة إلى كيّ. تصبّبتِ عرقاً تلك الليلة في فراشه أيضاً. عندما استيقظت صباحاً، بدا كلّ شيء على ما يرام. وهو يذهب في حياته اليومية حتّى يحين موعد اللمس المُحرّم. لأنّه هو يراقبك وإن لم يكن ينظر. بل يتظاهر بالصلاة أيضاً. بالله يا توأمة روحي، حاولي ألا تشبهي زوجَك. لأن الزوج والزوجة، بعد فترة من زواجهما، يشبهان بعضهما البعض. أما أنت فحذار أن تشبهي أحداً سوى نفسك. بل كما قال أحد الشعراء، عليك أن تعيشي وتموتي أمام المرآة. فلا تموتي وأنت تطبخين. يداك خُلقتا كي تُقبَّلا فقط. يكفي أن أمّك ماتت، وهي تغسل السبانخ المُشبع بالكبريت، الكبريت غير الطبيعي، والممتزج بنتروجين أواخر آذار. ليتني أبحر في سفينة نصف محطّمة نحوك، لأن البحر ليس سوى بعض من أمواجك. تزوّجت أنت أيضاً وندمت. كثيرة هي المرّات التي نريد فيها الانتقام من الأهل أو من حبيب قديم فنتزوّج. هكذا هي المرأة، عندما تنتقم فإنها لا تؤذي غير نفسها.

اسمعي ما تقوله تمارا وهي التي ظنّت أن مشاكلها ستُحلّ لو تزوّجت، إذ جاءت قبل أيام تبكي بلا توقّف، وأنا أنظر إليها بتعجّب، فهي نفسها تمارا التي غضبت من أمّي لأنها أثناء فترة الخطوبة العمياء قالت لها: «فؤاد لا يعجبني».

اليوم هي تقول: «أعرف رجلاً يُحوِّل الخمر كلّ ليلة إلى بول. أعرفه لأنه زوجي. أحياناً يقيم في بيتي، حيث أترك الأبواب نصف مفتوحة. يهيم منتصف الليل في الطرقات بحثاً عني، وأنا مستلقية في فراشه أحلم بمياه شرب غير ملوّثة، وكوابيس الزبونات، ففي الصباح قد يشتكين من سوء خياطة الملابس، فإما هي ضيّقة وإما عريضة، بينما يحتسين القهوة الباردة، ويجرّبن فساتين العيد التي تلائم أيضاً مناسبات أخرى كالمآتم»!

«لمَ لم تسمعي نصيحتي عندما قلت لك: نظّفي المرحاض بفرشاة أسنانه». «خفت أن يراها مبلّلة».

هو أيضاً يغار عليها من رجل ميت.

مرّة دعا فؤاد أصحابه للغداء في البيت، ودخلت تمارا بصينية الأرز تتوسّطها دجاجة محمّرة مستلقية على ظهرها وفخذاها مرفوعتان في الهواء. صرخ بها: «أهكذا تحرجينني أمام أصدقائي بدلالاتك الفاضحة»؟! وضربها: «لو كنتِ ذكية، لكان عندك عشيق، لكنك غبية لذلك بقيت معي»!

وأنا أنبّهها: «إياك مهما كنت تَعِسَة في زواجك، أن تنتقمي منه بقتل نفسك، فأفضل طريقة للانتقام من زوج سيء هي أن تصبحي أفضل منه».

بعض النساء ينتقمن من أزواجهن بحرق أنفسهن، مثل أم عبد الغفور جارتنا في حديثة. كنّا صغاراً ولم نعِ معنى أن يقتل الإنسان نفسه. رغم أن الأطفال أحياناً ينتحرون كالبالغين. أشعلت أم عبد الغفور النيران في جسدها وانتحرت انتقاماً من زوجها لأنه قرّر أن يتزوّج عليها. لا أدري لمَ تنتقم النساء من الرجال بالانتحار، خصوصاً بالانتحار حرقاً. ألا توجد طريقة ثانية؟ وما الضير في الانتحار في الفراش من طريق أخذ دواء مسكّن مثلاً؟ أم لا بدّ من الدراما وتلقين الزوج درساً بعد أن تكون هي قد احترقت فتبقى صورتها وهي مشوّهة في مخيّلته طوال الوقت. كأن الهدف من الانتحار ليس الموت، بل قول شيء ما بأبشع طريقة. تلبس البرلون. تسكب القليل من النفط على ثيابها ورأسها وتشعل النار في الحمّام. ما الضمان بأنها ستموت؟ امرأة من حويجة أعرفها، انتحرت مرَّتَين. في المرّة الأولى أحرقت نفسها بعد شهر من الزواج. لم تمت في الحال، لكنها عادت فقتلت نفسها بقطع أوردتها بسكّين بعدما رأت نفسها في صينية تُركت بجانب سريرها.

أنا وأنتِ نفكّر في الانتحار دائماً، لكننا نقول: لنعش من أجل بعضنا البعض. كم أخاف عليكِ من نفسك، لأن أختك ماتت بمرض السكّري المفاجئ، إذ هي خافت، لا من القنابل التي كانت تسقط فوق رؤوسنا بانتظام، بل لأنّ قطة سائبة سوداء قفزت من شبّاك غرفة نومها المفتوح. خافت وهي في العاشرة وماتت في الثانية عشرة. ذلك كلّه بسبب الشبّاك الذي ظننتِ أنك أنت تركتِه مفتوحاً ذاك الصباح.

أنت أيضاً تخافين عليَّ، إذ ليس لي رجل يحبّني وأحبّه، اطمئني. ففارس أحلامي سيأتي راكباً على حمار. وسأقول له حين أراه مارّاً: انزلْ بالله انزل، وتعال بسرعة لندخل إلى المخدع وتقبّلني طويلاً فقد كادت شفتاي أن تتشقّقا.أكاد أمسك بأوّل رجل يصادفني في الشارع ليقبّلني.

أنت تعرفين الرجل الأخير في حياتي، خاف مني عندما رأى أذنيَّ الكبيرتَين اللتين لا يغطّيهما شعري جيّداً، فهرب. أما ذاك الذي تركتُ بيته في الحي القديم في ليلة ممطرة، فلم يحببني قطّ، كأنها معجزة أني استيقظت صباح اليوم التالي، وإذا برأسي ما زال ملتصقاً بجسدي الذي لم يلمسه وأنا في بيته. عرفت أنه خاف أن يحبّني لأنه قال لي: «لا تجلسي عن شمالي». لم أحزن حينها عندما تركني وذهب خلف أخرى. لكني الآن على يقين من أني بحاجة إلى علاج. فمنذ أن تركني، بدأت أضحك وأبكي في الوقت نفسه. والأمراض بدأت تغزو جسدي الضعيف. التقرّحات التي ضربتني كانت كافية لأن تقتلني. انتظرت ضربة أخفّ كي أموت على مراحل. فعندما وضع الطبيب الناظور في أمعائي الفاسدة وجد ثغرة كبيرة بحجم حبّة الجوز في سقف الأمعاء الغليظة. واكتشف أنّ الأكل لا يأخذ مجراه الطبيعي لذلك استأصل جزءاً منها ومطّ أمعائي حتى كادت تنقطع، وأنا قلت: سحقاً لأيام الجوع الكافر. الحزن لا ينخر عظامي الهشّة فحسب، بل يسبّب لي القرحة أيضاً.

سأبقى أغنّي أغنيات لكلّ شيء عدا الحبّ. قل لي أيّها الحب، متى سأفقد قلبي وفي أي مدينة، كي لا أرحل صوبها. أما ذاك البعيد، فقد كان الحبّ الحقيقي الوحيد في حياتي، لأني جعلته يفلت من يدي كالعصفور الجريح. وكم تمنّيت أن أراه مع امرأة أخرى كي أحصي خسائري في المعارك التي لم أخضها بعد. أما هو فتمنّى الشفاء لي وتركني.

أعرف أنه لا يوجد رجل يرغب بفتاة مثلي ذات أذنَين بهذا الحجم.

أنت تعرفين مأساتي، ففي البداية حاول صديق أخي الاعتداء عليّ، ثم إنني امرأة قد أقع في الحب بلحظات، لكني أحتاج العمر كله كي أنساه.

تصوّري يا أمل، كنت أصلّي وأنا صغيرة كي تطول قامتي مقدار إصبعَين أو ثلاث. لكن تمارا أخبرتني بأنه إذا لم يتغيّر حجم حذائي مؤخراً فمعنى ذلك أن قدمَيَّ توقفتا عن النمو، وإذا توقفت القدم عن النمو فالقامة ليس لها فرصة في أن تطول شعرة واحدة. قلت لها: «لا أحب أن يقول عني الناس: تلك القصيرة». كذلك سمعت تمارا صلاتي إلى الله بأن يُصغِّر أذنيَّ بمعجزة. وطالت صلاتي كثيراً، وبعد ساعات نظرت في مرآة باب الخزانة وبكيت إذ لم يتغيّر شيء. بعد سنوات، نصحتني تمارا بأن أرى طبيباً. قال لي الجرّاح بأنه لا يستطيع أن يغيّر شكلهما. مازحني: «أذناك محميتان». ثم قال: «الشكل الخارجي، وإن بدا غير محبّب، فهو مهم، فالله خلق الأذن الخارجية بشكلها الغريب كي تحمي الأذن الداخلية. على كلٍّ، لا أحد يحب شكل أذنَيه. لكن لا تقلقي، فالأذن تنمو ببطء شديد». ولا أدري لماذا قال لي إن الأذن هي العضو الوحيد في جسم الإنسان الذي لا يتوقف عن النمو حتى الموت، قبل أن يسألني محاولاً تغيير الموضوع: «كيف تنظّفين أذنَيك من الداخل»؟ فأجبت بأني لا أنظّفهما أبداً. فصاح: «ممتاز. الناس تظن بأنها تعتني بالأذن بكثرة تنظيفها بالماء والصابون، لكنهم بذلك يجلبون لأنفسهم أمراضاً هم في غنى عنها، خصوصاً لدى إدخال نكّاشات الأذن الخطيرة. نقول لهم: نظّفوها من الخارج بالمنشفة. لكن لا أدري لماذا يأتي المريض إلينا إن لم يأخذ بنصيحتنا»!

استطردَ أكثر: «العيادة التي بجانبي لطبيب أسنان، وهو يحتار مع زبائنه. تصوّري، مرّة جاءت زبونة شابة وأمرته بقلع جميع أسنانها! ووضع طقم أسنان اصطناعية مكانها، بحجّة أنها عاجلاً أم آجلاً ستضع أسناناً اصطناعية! حَسِبها تهزأ منه، لكنها أكّدت له بأنها جادة! عندئذ نصحها بالذهاب إلى طبيب آخر. ومرّة جاءته امرأة عجوز طالبةً منه إنقاذ السن الوحيدة المتبقية المنخورة نخراً، وحجّتها أنها لا تريد أسناناً اصطناعية لأنها سمعت بأن الأنسان بسن واحدة أفضل من طقم اصطناعي! وهكذا يحتار الأطباء مع مرضاهم. لا نستطيع أن نخمّن في ما يفكّر المريض حتى يفتح فمه ويفاجئنا». وحين غادرت قال لي وكأنه يعتذر: «أنت بحاجة إلى ثقة بالنفس، لا إلى عملية».

أما أنا فقد ساعدت نفسي بنفسي لأن أمل قالت إن الإنسان الذي لا يشفي نفسه بنفسه، عبثاً يبحث عن العلاج خارجاً. ما زلت أخجل من أن أواجه الناس بأذنيَّ الكبيرتَين لذلك أُخفيهما بشعري الذي لم أرفعه أبداً وأتركه يطول، رغم أني أتوق إلى ربطه أحياناً إلى الخلف. أمل تقول لي: «ولماذا تتركين في نفسك حسرة أن تصففي شعرك كما تشائين».

«وماذا عن أذنيَّ»؟

«عندما تكشفين عيوبك فأنت بطريقة غير مباشرة تخفينها. ألم تسمعي بأن أفضل طريقة لإخفاء العيوب إظهارها»؟

«قلت لك بأني أكره شكلي: وجهي الصغير وأذناي الكبيرتان وجسدي النحيل وقامتي القصيرة».

«أنت بحاجة إلى رجل يكتشف جمال روحك».

لكن لو يرجع ذاك الذي سكبتُ نفسي عند قدمَيه وكأنهما قدما قدّيس، لجلست عندهما ولثمتهما ومسحتهما بشعري. أنا متأكّدة بأنه سيشعر بما شعر به يسوع عندما دهنت مريم أخت لعازر قدمَيه ومسحتهما بشعرها.

كنت على يقين من أنه الرجل الوحيد الذي أحببت، لأنه الرجل الوحيد الذي به حلمت. ولأني بلهاء صدقت كل قصص الغرام التي سمعتها. وسألت أمل: «هل توجد وصفة ناجحة للحبّ»؟

«ليس هناك وصفة ناجحة للحب لأن الحب هو الوصفة الوحيدة الناجحة. ألا تعرفين بأنّ الحبّ يجدّد خلايا المخ».

صرخت في نومي، لأني دائماً أحلم بالكابوس نفسه: أنا أسقط من رأس سلّم عمودي وعالٍ. وأمل نصحتني: «لا يهمّ لا يهمّ، فالرجل الذي سيرفّ له قلبك لم يولد بعد، أو أنه بالخطأ وقع بيد امرأة أخرى». حين سألتني عن الرجل الأخير في حياتي؟ قلت لها: «لا بدّ من أنه غير رقيق لأنه يأكل بوحشية. أظنني لا أحبّه لأني شكوت من رائحته». أمل تقول عني إني تعقّدت منذ حادثة الاعتداء. هي وحدها تعرف. فلا شيء آلمَ قلبي أكثر من أن صديقاً لأخي فاروق تحرّش بي. في الصيف كنت أحبّ الصعود إلى سطح الدار واستخدام خرطوم الماء في تبليل جسدي. كانت تمارا تشاركني اللعب أحياناً إن لم تكن قد نامت القيلولة. لم أتعرَّ قط لأن تمارا تقول إن بإمكان الجيران رؤيتنا، لأن أسطح بعضهم أعلى من سطحنا. ذات ظهيرة بعدما انتهيت من اللعب بالماء والتعقّم بالشمس اضطربت وأنا أفتح باب السطح لأني لم أتوقّع أن أرى أحداً يترصّدني. كان هيثم صديق أخي واقفاً خلف الباب يلهث. اقترب مني بحجّة مساعدتي في حمل الطشت. انفلتت منشفتي التي كنت ألفّ بها جسدي. ملابسي الداخلية المبللة ملتصقة بجلدي. وبحجة أنه يلتقط المنشفة، انحنى وسرق لمسة سريعة من صدري. ثم مسكني من ذراعي وقال تعالي نضع الطشت في الغرفة. فتح باب إحدى غرف النوم التي لا نستخدمها في الصيف. كانت الغرفة حارة جداً، شعرت بحرارة ورطوبة. قلبي يخفق بسرعة وأشعر بالغثيان. سألت نفسي لماذا يقترب مني بهذا الشكل ويلمسني؟ ثم لماذا هو وحده، وكيف وصل إلى هنا، وأين فاروق أخي؟ حاول إغلاق الباب لكني قلت له: «أنا عطشانة، أرجوك دعني أنزل». وضع يده على فمي وقال: «لا تتكلمي فقد يسمعوننا». نشف فمي ولساني لصق بسقف حلقي. سمعت ثقل تنفّسه فقد كان خائفاً أكثر مني. ركع عند قدمي وبدأ يتحسّس فخذي. تذكّرت ألا أصرخ لئلا تسمع أمّي فتضربني. هدّدته وقلت له بأني سأصرخ. رفسته وفتحت الباب، فقد توازنه وهربت. نزل بعد دقائق وانتظرني عند باب الحمّام حيث تركت الماء يجري. كنت أبكي بصمت. ابتلعت بكائي كي لا يسمعني أحد بينما الجميع نيام، وشعرت بذنب كبير. عندما خرجت قال لي بصوت مرتعش: «كنت أسخر منك يا مجنونة. لماذا تخافين مني»؟ ذهبت ونمت القيلولة، ثم استيقظت بصعوبة.

بعد هذه الحادثة بيومَين. وبينما كنت في المساء أفرش الأسرّة فوق السطح وأعدّها للنوم، رأيت بين الشراشف مجلّة خلاعية على غلافها صورة لفتاة عارية. كانت تلك المرّة الأولى التي أرى فيها كيف يكتمل جسد المرأة عندما تبلغ. لكن لم يخطر لي بأني أنا يوماً سأنضج وأكتمل. رأيت صوراً لامرأة واحدة مع أكثر من رجل، ونساء مع نساء. تقزّزت. لم أفهم بالضبط ما يحدث. تصفّحت المجلة كلّها. وأعدتها إلى مكانها بين الأغطية المتبقّية. عندما انتهيت ونزلت، كان هيثم يقف مبتسماً، بينما كان أخي مشغولاً مع أصحابه. اقترب مني وقال: «الآن رأيت كم قد يكون كبيراً. أتريدين أن تري الذي لي»؟ أردت أن أبكي، أن أهرب، أن أصرخ. لكنه ضحك وقال: «يا لك من ساذجة. أتصدّقين بأني حقاً سأريه لك»؟ وعلى الفور التحق ببقية الشبّان كي لا يثير شكوكهم. بعد تلك الحادثة صرت أخاف أن أكون وحدي في البيت. لم أعد أثق بأخوتي وأصدقائهم، بل لم أعد أثق بأي رجل. وعندما كبرت. تعرّيت أمام رجل لا أعرفه بلا خجل لأنه لا يعرفني كفاية.

آه أنت يا أمل، تعرفين أحزاني. فهكذا ببساطة اكتشفوا البترول في مقبرة دُفن فيها أحبائي. أخشى أنهم سيقولون لنا يوماً لملموا أمواتكم وادفنوهم في بقعة أخرى. ماذا سنفعل، هل ندفنهم في مقبرة مستعملة، أم مقبرة جماعية، أو ربما المقبرة التي طُمرت فيها بقايا أطراف حمير سرقها المهاجرون؟

آه يا كركوك. أيتها المدينة المحترقة بدموعي ودموع أمّي وأبي التي ذرفناها على عمّي سنحاريب، كم مرّة أشرقت الشمس وغابت دون أن أزور مقابرك؟!

مرّةً قال عمّي لزوجته: «أخاف من الموت».

بعد موته قالت هي: «الذي لا يخاف هو الجبان».

كان عمّي يحكي لنا حكايات من جبهات القتال: «القذيفة التي لا تسقط على رؤوسنا نحن الجنود، تسقط وتقلب التربة وكأنها تحرث الأرض. العشب الذي ينبت بعد أسابيع في تلك البقعة بالذات يكون أخضرَ جداً. كيف يقول البعض بأن الموت أقوى من الحياة»؟

كان الجنود يجلبون حاويات القذائف إلى البيوت، والنساء يصنعن منها مزهريات، يضعن فيها الورود الاصطناعية ويتركنها قرب التلفزيون الأرعن.

***

من مكسيكو سيتي إلى تيوانا، نام يعقوب في الباص. عندما وصل المدينة الساحلية كان الجو ماطراً، فنزل في أول فندق رخيص. دفع الأجرة وصعد إلى غرفته الصغيرة. رمى حقيبته على الفراش ثم فتح الشبّاك ورأى في الشارع امرأة جميلة واقفة تحت المطر. نزل فوراً. لكن لم يجرؤ على أن يتكلّم معها. كانت مومساً تسند ظهرها إلى حائط أحد المطاعم تحت المظلّة. بشرتها بيضاء وأنفها دقيق. تدخّن سيجارة رفيعة وسروالها الأحمر النايلوني يلمع ويلتصق بفخذَيها. يكاد يعقوب يلتهمها بنظراته. أما هي فلا تنتبه إلى وجوده، لأنها مشغولة بتصيّد الرجال الذين يمرّون بسيّاراتهم الفارهة. تذكّر يعقوب بأن المال الذي معه لا يكفي لبائعة الهوى فابتعد عنها واشترى ساندويشاً من البائع المتجوّل. كان الشارع يعجّ بالباعة والبارات المفتوحة طوال الليل. صعد إلى غرفته ونام نوماً متقطعاً. صباحاً، قبل أن يتصل بالمهرّب الذي سيساعده في عبور الحدود إلى أميركا، رغب يعقوب في اكتشاف المدينة. تيوانا مدينة صاخبة على المحيط الهادي بالقرب من حدود ولاية كاليفورنيا، شوارعها مكتظّة بالناس. وطينها هشّ لا يشبه طين العراق. أراد يعقوب أن يرى الأقيانوس الكبير فأخذ الباص ومشى على الشاطئ. رأى من بعيد رجلاً وامرأة يمارسان الحب بفظاعة في مياه المحيط الباردة. اضطرب يعقوب وصهل جسده وسال لعابه. «الأفضل أن أذهب قبل أن أرمي بنفسي فوق إحدى المستلقيات على الرمل». مشى بلا هدف. شعر بالجوع. ليس بعيداً، سمع صوت رجل يصرخ: «cinco pesoscinco pesos». اقترب من مدخل الباحة المكشوفة التي تشبه الاصطبل، أحد الرجال منعه من الدخول قائلاً له: «الدفع مقدّماً». قالها بالإنكليزية، فضحك أحد الزبائن، وعرف أن يعقوب مهاجر من الشرق فقال له: «سأدفع عنك وعني». ثم سأل يعقوب: «الأخ عراقي »؟

«نعم، كيف عرفت»؟

«من عينَيك».

«لكني أسمر كالمكسيكيين».

«عيناك فيهما براءة الشرقي، ليس للمكسيكيين صفاء عيوننا».

كان المكان صاخباً بموسيقاه ومكتظاً بالرجال. النادلات يرتدين الملابس التقليدية المكسيكية الملوّنة ويتحرّكن بسرعة حاملات المشروب والمأكولات للزبائن. سأل الرجل: «هل أنت مسيحي ؟».

«تسألني عن ديني قبل أن تسألني عن اسمي»؟

«عذراً. لم أعرّفك بنفسي. اسمي شاكر وأنا فلسطيني».

«وأنا يعقوب. شكراً على الدفع».

«كنت أعيش سابقاً في سان دييغو. وفيها الكثير من العراقيين أغلبهم من كاثوليك العراق، لذلك سألتك عن دينك. هم يملكون دكاكين لبيع الخمور. الحياة غالية هناك، فأتيت إلى تيوانا واشتريت مزرعة للخسّ، ثم التحقت بي زوجتي، أما أولادي فأرسلتهم إلى البلاد، أقصد الأردن. الخسّ في المزرعة يُصدَّر كل يوم إلى مطاعم لوس أنجلس والحمد لله وضعي جيّد. وأنت منذ متى هنا»؟

«لقد وصلت بالأمس من مكسيكو سيتي في طريقي إلى أميركا، لي أخ في سان دييغو. وأنت؟ كم سنة صار لك في الغربة»؟

«عشت في أميركا ثمانية وعشرين عاماً (عندما سمع يعقوب ذلك قال في سرّه: «ياه! لا بد من أنه رأى في حياته الكثير من السيقان البيضاء). هذا المكان وسخ، فتيوانا مدينة مكسيكية جغرافياً لكنها لا تعكس روح المكسيك بل هي ما يريده الأميركيون أن تكونه، كي يتمرّغ زوّارها من السيّاح في ملذّاتهم بعطلة نهاية الأسبوع ثم يعبروا الحدود راجعين إلى أميركا بعد أن يكونوا قد شربوا وتبضّعوا. انظر، بعد قليل تحت تلك الخيمة الخضراء، سيتم عرض لامرأة ستمارس الجنس مع حمار، المكسيكان يفعلون أي شيء من أجل المال. وهكذا هنّ المكسيكيات يعملن الفحشاء وعند المصيبة يصرخن: سانتا ماريا»!

انسحب يعقوب معتذراً وغادر المكان، لكن صوت الرجل المكسيكي كان يطارده فيما هو يبتعد: «خمسة بيسوس خمسة بيسوس».

أتى المهرّب الذي لفحته الشمس بصحبة السائق إلى الفندق مساء، وقال ليعقوب: «غداً سننطلق فجراً إلى الحدود». كان يدخن بلا توقّف. طلب من يعقوب نصف المبلغ على أن يدفع له النصف الآخر عند الوصول كما اتفق الرجل مع إبراهيم. وطمأن الرجل يعقوب بأن كل شيء سيكون على ما يرام فالناس تعبر الحدود إلى أميركا كل يوم بالمئات.

في سيارة حمل قديمة، ركب يعقوب في الخلف مع عائلة مكسيكية. كان الجو بارداً والظلمة حالكة جداً. «ماذا لو أمسكت بنا الشرطة - قال يعقوب في سرّه - أين سيرسلونني؟ لا أريد الرجوع إلى مكسيكو سيتي. لكن لماذا أنا خائف والأطفال الذين معي ليسوا خائفين».

التفت بينما هم يمرّون بلافتة كبيرة على جانب الشارع مكتوب عليها بالإسبانية: «Aqui empieza la patria». وبعد دقائق من الخوف والقلق، وقف السائق ونصحهم بالركض، ثم سمعوا صوت رجل يتكلم الإسبانية، كان مهرّباً آخر ينتظرهم ليعبر الحدود ويُريهم الطريق. ركضوا لمدّة ساعة تقريباً بلا توقّف. ساعد يعقوب المرأة بحمل ابنها، وهي تشكره في الظلمة «غراسياس سنيور»، بينما زوجها يحمل الطفل الآخر. أضواء من بعيد بدت كأنها لقرية صغيرة. بعدها وصلوا الأوتوستراد. فكان رجل آخر بانتظارهم في باص صغير. قال يعقوب: «لا بدّ من أننا قد وصلنا ولاية كاليفورنيا».

انفصلوا بعد وصولهم إلى محطة بنزين، فأكلوا واستراحوا. اتصل يعقوب بإبراهيم فأتى وأخذه. كان لقاؤهما تاريخياً وجلسا لساعات يتحدّثان عن الأهل والجيران والحرب. يعقوب كان متعباً فقال: أريد أن أنام لشهر. لكنه استيقظ سريعاً وقال: «لم آتِ أميركا كي أنام. سأنام عندما أموت». تعجّب يعقوب من أدب ولدَي إبراهيم، لكنهما لا يتحدّثان إلا الإنكليزية. لديهما هرّ لا يطارد الفئران لأنه قط منزليّ فقدَ غريزة المطاردة. «أشعر أن شيئاً ما ينقصني، لا أدري ما هو»  قال إبراهيم. وأضاف: «لقد غيّرتني الغربة. وكل من يقول بأن الغربة لم تغيّره فهو كاذب. المهم حدِّثني عن العراق والأرض الطيّبة. أتعرف أني أكتب الشعر عن الوطن الحبيب؟ اسمع ما كتبته مؤخراً: بلدي/ مرض أنت لا شفاء منه/ قطعة من السماء أنت سقطت على روؤسنا/ فأخذتنا من هوس إلى هوس».

تهكّم يعقوب: «عندي أيضاً قصيدة جديدة عن العراق»، وراح يتلو بصوت عالٍ: «يا أيها الوطن القوّاد، اليوم أنت لست لي أكثر من أي وقت مضى...».

صاح إبراهيم: «ما هذا يا يعقوب! عيب أن تشتم الوطن هكذا»!

«لماذا لا أشتم الوطن؟ ألسنا جميعاً أحببنا العراق لكنه لم يُحببنا»؟

«حب الوطن هو الحب الوحيد الذي ينبغي ألا يكون مشروطاً. المحبّة غير المشروطة هي المحبّة الوحيدة الحقيقية. فلا ننتظر منه أن يحبّنا بالمقابل».

«اسمع، لا تصبح مواطناً شريفاً على غفلة. أوكي؟ أكره كلمة «الوطنية»، إنها كلمة وسخة بل شتيمة. للوطنية طعم لاذع كطعم الصابون في العيون»!

«آه، كم أشتاق إلى العراق! أنا مصنوع من الديناميت، والشعر أيضاً، وسأنفجر، وستتطاير بعد لحظات الكلمات كالشظايا في كل مكان».

«أيحق لي أن أحب العراق دون أن يسمّوني وطنياً»؟

«أنت دائماً متقلّب يا يعقوب. للتوّ قلت لي بأنك لا تحب العراق. نحن هكذا، فلو تحدّثت مع رجلَين من الشرق الأوسط في أمر الوطن فستجد بأن لهما ثلاثة آراء بدل اثنَين»!

***

كتبت تمارا رسالة بعد أشهر من غيابها تقول:

أعزائي، أعرف بأنها ستأتي الليلة أيضاً لتمصّ دمي، هذه الحشرة اللعينة التي تدسّ عشّها غير المرئي في فراشي. كيف سأزوركم قبل أن أتخلّص منها. وماذا لو حملتها معي فعلقت بملابسي وحقائبي. ربما سأنقع فراشي وملابسي وأثاثي بالنفط فتموت أو تهرب. لكن أين تهرب؟ تذهب إلى الجيران؟ أنا أريد أن أتخلّص من هذه المشكلة بحلّها وليس بإبعادها. توقّفت إلى حين عن خياطة الملابس للجيران كي لا تعلق بملابسهم. كيف سأغفر لنفسي لو كنتُ السبب في نقلها إليهم. قرصتها مؤلمة. بل هي عظّة لا قرصة. لا أستطيع التفكير، أنا مشغولة بمكافحتها. ألا يكفي بأن الحياة لا معنى لها لتقوم هذه الدويبة اللعينة بإضافة قلق إلى حياتي العبثية. أظن أن القنابل التي سقطت على رؤوسنا في الماضي لم تزعجني قدر ما يزعجني القمل. الإنسان يصير طعاماً للحشرات بعد موته، أما أنا فصرت طعاماً لها في حياتي. فؤاد يوبّخني ويقول عنّي مجنونة وبأنه لا حشرات في الفراش بل وسواس في رأسي المريض. أشعل الضوء فجأة لرؤيتها، فتسرع وتختفي. أرى آثارها لكني لا أراها. الدماء التي تمصّها تنطبع على شراشف سريري. هو لا يصدّقني لأنها لا تمصّ دمه. حكيتُ له أسطورة البقّة التي تتعوّد على دم شخص واحد حتى لو كان ثمة شخصان في السرير. ضربني على رأسي: «أتقولين إن دمك أطيب من دمي». أحكّ جلدي بيأس. يقال إن الواحدة منها تضع  أربعمئة بيضة وإنها لا تموت بسهولة، إذ تستطيع العيش بدون طعام لستة أشهر. يا الله لماذا خلقت الحشرات بقابلية على العيش ستة أشهر بدون طعام والإنسان بلا ماء لثلاثة أيام لا أكثر. قامت بعض الدول في الماضي باستخدامها في الحروب الجرثومية. حقاً إنها سلاح! لم أنم الليلة الماضية. كنت خائفة من مجيء الحشرة المقيتة المسمّاة «فسفس». ليس لي شيء آخر أفكّر به. بطني تؤلمني من الخوف. يُصيبني مغص حقيقي في كلّ مرة أرى واحدة منها. آخر مرّة رأيتها لم تكن داكنة، يوجد الكبيرة الغنية بالدم والشفافة والصغيرة السريعة التي تركض لتختفي تحت الشراشف. أم وليد جارتي خافت على فلوسها، إذ ظنت بأن الحشرة قد تأكل الأوراق فوضعت حبات النفتالين في صندوق التوفير وبعد أشهر فتحته وإذا بالفلوس سليمة. الحشرة أيضاً كانت سليمة إذ يبدو أنها عاشت على النفتالين فأبيضت. اللعنة! إنها لم تمت حتى بالنفتالين. قلت لها: «يا أم وليد هذه الحشرة لا تموت إلا مباشرة بمبيد قوي». قالت بغضب: «نحن نموت بالنفتالين والبق لا يموت! وليد ابني كان يحك حتى أدمى ذراعه. أخذته إلى الطبيب، فقال لي ليس عنده علاج للسعة البق. والحشرة لحسن الحظ لا تسبّب أي نوع من الأمراض ولا تنقل الأمراض».

سخر مني فؤاد عندما أخبّرته بما قالت أم وليد. أنا لم أكن أنوي أن أحدّثه عن الحشرة. لكني لم أملك موضوعاً آخر أحدّثه به. قال واعظاً: «الإنسان سيّد المخلوقات وها أنتم تخافون من دويبة صغيرة ليس لها أي تأثير».

كيف لا يكون لها تأثير إن كنا لا ننام كفاية؟ أنا لا أشبع نوم. ما إن أغمض عيني حتى توقظني ولا أعرف ما أفعل. أحك أم أبحث عنها كي أقتلها فوراً؟ كم أكرهها. لم أكره أي شيء آخر في حياتي أكثر من هذا المخلوق. لا بدّ من أن العقارب التي تلدغ الناس أرحم لأنها لا تتكاثر بسرعة ويمكن رؤيتها والقضاء عليها وتفاديها بعدم النوم بقرب رائحة اللحوم مثلاً. العقارب تحب اللحوم فقط، لكن البق يحب كل شيء. لو كانت هذه الحشرة تطير لفتحت لها الشبابيك كي تطير خارجاً كالبعوض. لكنها تزحف فوق سريري وتحته. تزحف على أعصابي. تعيش في فكري وتسبح في دمي. يا الله ماذا سأفعل؟ من سألوم؟ إذا كانت قصة نوح صحيحة، فلا أفهم لماذا أخذ معه هذه الحشرة. لكن ربما المسكين لم يأخذها معه بل هي من علقت بثيابه. قالت لي أم وليد «يا تمارا. كنت أستيقظ سابقاً على لمسات أبو وليد في الليل ويريد أن... أما اليوم فأني أستيقظ على لسعة الحشرة. أتعرفين ما أفعله فوراً؟ أقوم بتبليل مكان اللسعة بلعابي. تصوّري صرت خبيرة في البق. وعندما أمسكها بعد مص دمي مباشرة، أقوم فأقتلها وأرى دمي في كل مكان. على الحائط. على الشراشف. وأحيانا أشمّها بعد أن أقتلها، رائحتها كريهة كرائحة الكيمياويات في المختبرات. والمشكلة أنها حالما تمصّ الدم تكبر».

أخذت أم وليد زوجها إلى الطبيب، لأن الحشرة قرصته في خصيتَيه. حذَّرها زوجها: «إياك يا امرأة أن تقولي لأحد». عندما رأى الطبيب خصيتَي أبي وليد محمرَّتَين، كتم ضحكته وقال لأم وليد: «ألم تأتِ بابنك لي قبل أيام؟ لقد قلت لك، للأسف، مكافحتها صعبة. لو كنّا في الغرب، لكافحناها بالبرد القارس. فالطريقة الوحيدة التي قد نتخلّص منها بلا رش المبيدات هي في انخفاض درجة الحرارة إلى ما دون الصفر، وذلك بترك الشبابيك والأبواب مفتوحة ليوم أو يومَين. وهذا معناه أننا لن نستطيع القيام بذلك، لأن درجة الحرارة هنا لا تنخفض إلى درجة الجليد. ربما في مدن ثانية يقومون بهذا. في الأردن مثلاً. فعمّان أبرد عاصمة عربية ذات يوم ستخلو من البق».

«إن شاء الله. لكني لست في عمّان». قال أبو وليد وهو يحكّ خصيتَيه. سأله الطبيب: «أي نوع من البق عندكم»؟ «وكم نوعاً يوجد يا دكتور؟ نحن لا نعرف غير نوع واحد». أوضح الطبيب: «الناس يشتكون من نوعَين: نوع يٍعيش على الخفافيش ونوع على بقية الحيوانات الأخرى. الأرجح أن الذي لكم من النوع الثاني». أعطاه الدكتور دهناً خاصاً لتخفيف الحكّة: «استخدمه مرَّتَين في اليوم. بعد تنظيف المنطقة جيّداً بالماء وتنشيفها».

في مساء اليوم نفسه، جلس أبو وليد ويده على خدّه: «كم هذه الحشرة خبيثة، فهي تعيش على دم الخفّاش الذي هو بنفسه يعيش على دماء الحيوانات الأخرى. لا أحد يستطيع التخلّص منها. حتى لو حصلت كارثة طبيعية كالزلزال، فكلنا سيموت وستبقى هي حيّة تسخر منّا. سأستخدم الدواء لكنه لن يفيد. عليّ اختراع طريقة أتفادى بها الاستيقاظ ليلاً من الألم بين الفخذَين، فهو لا يُحتمل». ذهب أبو وليد إلى السوق واشترى شريطاً لاصقاً من الجهتين، لصقه حول سريره. قالت زوجته «يا مجنون ماذا تفعل»؟ أجاب: «أنصب فخاً للبق. إنه لزج إلى درجة أن عنكبوتاً ستلتصق به، فما بالك بالفسفس»؟

في الصباح استيقظا وإذا بعشرات البقّات التصقت بالشريط، وتدريجاً تخلّصا من البق: «من الآن فصاعداً سأنام نوماً غير متقطع»، قال، فعلّقت: «لو لم تضع هذا الشريط، لقمت بتربية السحالي الصغيرة التي تأكل الحشرات ولأصبحت أول مواطنة تربّي أبو بريص في العراق».

يكفي كتابة عن هذه الحشرة، وكأن حياتي خاوية من أي أحداث جديرة بالكتابة. على فكرة أكتب لكم الآن والوقت غروب. وليس الغروب سوى فجر آخر. والفجر ليس سوى غروب آخر. يجب أن أصبِّر قلبي التعِس. تصوّري بالأمس سألتني أخته: «تمارا، أتكرهين زوجك»؟ «عجباً أي سؤال هذا»! قلت لها ثم سكتُّ ولم أشأ مجادلتها. ترى من يتجرأ ويسأل زوجي: «أتكره زوجتك»؟ ربما ستسألونه يوماً. لكن ما نفع أسئلة كهذه؟

سألتكم منذ البداية، أهذا الرجل يليق بي زوجاً؟ لكنكم مثلي لم تنظروا إلى المدى البعيد، والآن أنا أخاف كلام الناس. لا أجرؤ على هجره. أنتِ الوحيدة التي نصحتِني بألا أتزوّجه، فكيف لم أسمع كلامكِ؟ الجميع ضحك عندما قلتِ لي: «لا تتزوّجيه لأنه يقضم أظافره». تلك كانت علامة كافية. كم مرّة يندم الإنسـان لأنـه لم يقل: لا؟ التعاسة هي أن نحاول إرضاء الجميع. من الآن فصاعداً اخترتُ أن أُرضي نفسي أولاً، وأُرضي نفسي ثانياً، وأُرضي نفسي أخيراً. سأتصل بكم هاتفياً حالما تعود الخطوط طبيعية

***

شعر يعقوب بعدم ارتياح في بيت أخيه. إبراهيم وزوجته يتجادلان كل يوم:

«ارجع لوحدك. رامي ومريم لا يريدان الرجوع. من الصعب أن يتركا أصدقاءهما ويبدأا حياةً جديدة».

«كأن الأطفال يعرفون ما معنى الصداقة! صداقة الطفولة ليست صداقة».

«لم يعودا صغيرَين. أنت غادرت العراق عندما كنت في عمر رامي. ومريم لا تريد الرجوع، أتفهم»؟

«مريم صغيرة لا تستطيع التخطيط لحياتها».

«لو رجعنا ستنسى مريم الإنكليزية ولن تتعلم العربية».

«سأفكر بهذه المشكلة لاحقاً. هناك الملايين من البشر يعيشون حياتهم دون حاجة إلى الإنكليزية».

«ماذا ستعمل هناك؟ هل سألت نفسك هذا السؤال»؟

«لا أدري. سأفكر في الأمر لاحقاً. كل ما أعرفه أن العراق مكاننا الطبيعي».

«الرجوع يُخيفني. أعطني سبباً واحداً عن ضرورة عيشنا في العراق»؟

لم يردّ عليها، بل صمت ثم قال ليعقوب: «أتعرف؟ في سنتنا الأولى هنا، زرعنا الخضروات والفواكه. وخيارنا زحف إلى حديقة الجيران الذين كادوا أن يسبّبوا لنا مشكلة بعدما صرخوا بنا وكأننا اقترفنا جرماً كبيراً: لماذا ينبت خياركم في أرضنا»؟ وبعد برهة صمت، بدأ صوت إبراهيم يخفت بحزن: «كيف لا أشتاق إلى العراق؟ أنا في غربة حقيقية هنا. كل لحظة أجد سكاكينها تدخل في أحشائي وعليّ أن أخفي ألمي وأضع ابتسامة بلهاء على وجهي. إن لم أرجع الآن، فمتى سأرجع؟ وإن لم أرجع أنا، فمن سيرجع؟ كم هو مرعب أن يستيقظ المرء صباحاً ويجد نفسه في قارة أخرى وإلى الأبد. الهجرة للطيور فقط وللأسماك وليس للبشر... أو على الأقل ليست لي».

سمر التي هالها الكلام الغامض الذي بدأ يطلقه لها عن العودة، لخّصت موقفها من الأمر برمّته ببضع كلمات: «أنت لا تعرف معنى السعادة. إن لم تجدها هنا فأبداً لن تجدها في مكان آخر». خرجت سمر من الغرفة وتركته مع أخيه. قال إبراهيم لنفسه وكأنه يرى ضوءاً قادماً من مكان آخر في شرق العالم: «أحقاً أجهل تعريف السعادة؟ آه السعادة ربما هي التبوّل في قطار يتحرّك بسرعة سبعين كيلومتراً في الساعة مغادراً حلب نحو الموصل. يا رب، أشعر بالفشل هنا. كأنني خارج العراق فاشل رغم أنفي وبائس أنتظر موتي». يقول له يعقوب: «أنت لست فاشلاً. أنظر إلى العز الذي تعيش فيه».

«لا، أنت لا تفهم. الفشل حقيقي أما النجاح فنسبي. عندما كانوا أولادي صغاراً، كنت أتمتّع بكل لحظة بوجودي معهما. الآن تركاني إلى عالمَيهما الخاصَّين بهما. أذكر كيف أن رامي اكتشف سوريا على خارطة العالم. انظر يا أبي، قال بفرح، سوريا تشبه مسدّساً مصنوعاً من النحاس انصهر للتوّ. رامي تعلّم قراءة الساعة ذات العقارب وعرف ميكانيكية الزمن قبل أن يتعلّم قراءة الساعة الالكترونية. أما مريم فأرسلتها أمّها مرّة لتوقظني وهي تغنّي لي أغنية فيروز: تك تك تك يا أم سليمان تك تك تك جوزك وين كان... كأنهما ولدا بالأمس. هكذا الأولاد يكبرون بسرعة. حين كان رامي في الصف الأول، طلبت معلمة صفّه رسم علم الوطن، فرسم العلم العراقي. أرسلت المدرسة رسالةً رسمية لنا تعلمنا بأن رامي أميركي لا علاقة له بوطن الآباء. الدولة هنا تتدخّل في أمر تربية أولادي. يا للمهزلة! تربية أولادٍ ليسوا لي هي ضريبة الرفاهية التي عليّ أن أدفعها مُكرهاً في هذه الغربة الملعونة...».

قاطعه يعقوب: «كأنك تمرّ في أزمة نفسية. لا يمكن أن تغيّر حياتك بهذا الشكل. الغريب أنك لم تُكيِّف نفسك على الحياة هنا وكأن الرجوع إلى العراق ليس سوى ذريعة. ماذا ستفعل هناك؟ تفتح دكاناً؟ تجلس في المقهى...»؟

«وما العيب في المقهى؟ الرجال الذين يجلسون في المقاهي يناقشون ويجدون حلولاً لكل مشاكل العالم المعقّدة. سترى بنفسك يا يعقوب بعد أن يزول مفعول المخدِّر السحري لهذه البلاد. في أميركا لا يوجد ثلاثاء، أو أربعاء أو خميس، إنما فقط هناك الجمعة إلى الإثنين. هكذا يمرّ الوقت. أتظنّ أني سأظلّ في عملي حتى أتقاعد ويصل بي العمر إلى السبعين فأنظر إلى الوراء ولا أجد شيئاً؟ أنا لست سوى آلة عاطلة عن العمل، تعجز عن الاستجابة عندما يكبس أحدهم أزراري المعطوبة. قد أصبح يوماً مثل بوب، فتلملم البلدية جسدي كالقمامة لينتهي في حاوية زبالة. جلّ خوفـي أن ترميني زوجتي ذات يوم خارج البيت كما فعلت زوجته. أول صديق لي في أميركا هو روبرت المتشرّد الذي تعرّفت إليه تحت أحد الجسور عندما تعطلت سيّارتي في أول يوم لي في سان دييغو. هو يفضِّل أن نناديه بوب. كان جندياً في الجيش الأميركي. ضحية من ضحايا الحرب الفيتنامية. يذهب مرّة واحدة في الأسبوع إلى المأوى ليستحمّ قسراً ويرجع إلى الفضاء. فضاء القطار حيث يعيش. طردته زوجته بعد رجوعه من الحرب وأخذت البيت والأولاد والكلب. من يصدّق أن هذا الرجل ذا الملابس الممزّقة واللحية الرثّة قد وصل من السموّ الفكري إلى درجة أنه يتجاهل الجوع لأن الشبع ليس هدفه ولا يهتم بامتلاك أربعة جدران يجد نفسه بينها أحياناً محصوراً مع امرأة بصوت عالٍ مثلاً. فبوب وحده الذي عرف، وبوب وحده هو الذي خبّر. الرجل الذي لا يملك حساباً في البنك وبدوره فهو لا يملك دفتر الصكوك والأهم من ذلك ليس له عنوان تصل إليه الفواتير المتأخّرة. كان يطلب السجائر من ركاب القطار ويدخّن عندما يصل القطار المحطة الأخيرة. في معطفه المرتَّق يخبّئ زجاجة ويسكي موضوعة في كيس ورقي، يرتشف منه في الليالي الباردة. أحب سان دييغو لأن الثلج لا ينزل فيها، ففي الأماكن الباردة، كما يقول، تتجمّد أطراف بعض المتشرّدين، الأطراف غير المغطاة ولا حتى بالكرتون. لا بدّ من ارتكاب جنح صغيرة بحيث لا تزيد عقوبتها عن ثلاثة أشهر كافية لتمضية الجزء الأكبر من فصل الشتاء مع الناس الطيّبين في السجن. فعلى موظّفي الدولة المحافظة على وظائفهم أيضاً. في السنوات الأخيرة لم تعد السجون تتسع، ليس لأن الجريمة زادت بل لأن البطالة ارتفعت. فالبطالة تسبّب الجريمة، والجريمة تقود إلى البطالة. البطالة المرغوب بها بين الرجال الذين يكرهون دفع الضرائب».

ثم أكمل: «هذا هو بوب وهذا هو أنا. ربما اقترابي من سن الخمسين يجعلني أتوق أن أعيش بقية حياتي كطلقة واحدة. آه سن الخمسين. إنه الرقم الذي يستحيل علينا مضاعفته، فعندما كنت في العشرين كنت أقول: عشرون سنة أخرى وأصبح في الأربعين ولكن ليس الخمسون أبداً. سأرجع ذات يوم. مع أو من دون سمر وأولادي. كنت أقول في ما مضى إذا كنت تريد أن تعرف قيمة العراق، اهجره. هراء! فكيف صدّقت الأكاذيب أنا نفسي؟ لا تكن مثلي. منذ وصولي أميركا وأنا أعمل بلا راحة وكأنني ثور مربوط بناعور قرب نهر الفرات. مرّة واحدة فقط، أخذت إجازة، وسافرنا كلّنا إلى كندا لأن أولادي أرادوا رؤية الثلج. لكن قلبي في العراق. أما أنت فقرّر لنفسك. لا أريد أن أخيّب أملك. لكن أنا مصرّ على العودة. مكاني الطبيعي هو العراق. أحبّه كما هو بعواصفه الرملية وشمسه التي حين تضرب في الرأس تجعلك تشعر بأن الله أمسك مطرقة لامرئية وضرب بها على رأس مسمار كبير نهايته مثبّتة بجمجمتك. أحب العراق بكل شيء فيه، حتى طقسه المجنون الذي يجعل الغرباء مثل سمر لا يطيقون المكوث فيه. سأباغتهم وآخذهم في إجازة إلى العراق، قد يعودون ويرجعون إلى هنا. أما أنا فسأبقى هناك وليحصل ما يحصل».

***

لمَ العجلة في العثور على عمل؟ حدَّث يعقوب نفسه وهو يدخل حانة مكتظّة بالنساء والرجال ليلة السبت. خلف إحدى الطاولات امرأتان تشربان مباشرة من قنّينة البيرة، لماذا لا تصبّانها في كؤوس خاصة بالبيرة؟ ولماذا النوادي الليلية والبارات دائماً تكون شبه مظلمة، ألعلّ شرب الكحول خطيئة، والخطايا تُقترف في الظلمة؟ سأل يعقوب نفسه.

جلس مقابل النادل الذي يقدّم المشروبات من خلف البار، حيث كؤوس النبيذ معلّقة تعكس أضواء خضراء وحمراء، وفي مرايا خلفه رأى امرأة جالسة إلى يساره. فاستدار والتقت أعينهما. حيّته بإيماءة. كانت شقراء طويلة بشعر كثيف، كاللواتي يراهن في التلفزيون، ترتدي بلوزة خضراء وتنّورة جينز مع حذاء طويل من الجلد بكعب عالٍ. سألته: «ألم يزل الجو ماطراً في الخارج»؟ هكذا يتذرّع السكارى بالحديث عن الجو حين يريدون فتح حديث مع غريب. «لا. توقّف المطر»، أجاب يعقوب مرتبكاً. «أنا اسمي ميليندا وأنا من تكساس من أصل إيرلندي». قال بابتسامة: «وأنا أصلي من العراق. اسمي يعقوب». فقالت وهي تشير إلى أذنها: «لم أسمعك بسبب الموسيقى الصاخبة». «اسمي جاكوب». ابتسمت: «هاي جاكوب. قلت إنك من العراق؟ إذاً أنت تعرف العربية»؟ قالت له إن لديها وشماً بالعربية لكنها لا تذكر معناه، ثم سألته إن كان يرغب برؤيته، أجاب يعقوب ضاحكاً: «طالما الكلمات ليست شتائمَ». «لا أظن» قالت وهي تنزل ضاحكة من مقعد البار العالي. أخذته من يده إلى خلف حائط بقرب المغاسل عُلّقت عليه دعاية لبيرة «Old Style» تقول: «Believe or leave». هّمت برفع بلوزتها قليلاً ثم سحبت تنّورتها إلى أسفل إذ إن الوشم محفور فوق مؤخّرتها. سألها إن كان بإمكانه لمسه بحجة الظلمة، وكأنه لا يمكن أن يرى دون أن يلمس. على اللحم الأبدي كُتبت كلمات أبدية «أمل حياتي». سألها بينما هما راجعان إلى مقاعدهما: «من رسم لك الوشم»؟ أجابت بعدما رشفت قليلاً من خمرها الأبيض: «رجل في تكساس بمدينة صحراوية نائية حيث أعيش. هو اختار الكلمات المبهمة وقال إنها عربية وأنا أحب شكل الأحرف فهي جميلة». قال يعقوب في نفسه: «أنت تحبّين العربية لأنك لا تعرفين شيئاً عن حرف الضاد الخبيث والهمزة التي لا تسبّب سوى التشويش. نعم اللغة العربية لا مثيل لها». تابعت: «الرجل الذي حفر لي الوشم قال لي في وقتها معنى الكلمات، لكني نسيت». ودّ يعقوب أن يقول لها: آه ميليندا، كيف سأفسّر لك صوت أم كلثوم وموسيقى عبد الوهاب؟ وراح خياله بعيداً. «أتعلمين أي حزن يبعث المطر. وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر. وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع». ماذا لو حُفرت «أنشودة المطر» كلها وشماً على جسد امرأة من تكساس! يا الله كم أشكرك من أجل كلمات قصيدة «أمل حياتي» ومن أجل تكساس.

ظلَّا يدردشان بين رشفة وأخرى بجمل قصيرة وطويلة، بمعنى وعدمه، بوعي وبسكر. لم تكن إنكليزية يعقوب الركيكة حاجزاً بينهما، لأن لكنة الرجل الثقيلة محبَّبة غالباً إلى المرأة الغربية.

قالت له: «أحب كاليفورنيا، جوّها رائع والناس هنا ترأف بالطبيعة. اعتدال الطقس في غرب البلاد جعل الأمّهات اللواتي يحبلن بالخطأ لا يخشين على أطفالهن حديثي الولادة من البرد عندما يتخلّين عنهم بسبب الفقر وعدم القدرة على تربيتهم، لذلك كُتب على حائط إحدى البنايات حيث القمامة، كما رأيتها في الشارع الخلفي للفندق الذي أنزل فيه: الرجاء عدم رمي الأطفال في الحاوية. ضعوهم في صناديق من الكرتون على جنب»! جمعية رعاية الأطفال تلملم الصناديق النابضة كلما اتصل أحدهم بعد العثور على طفل متروك عند سماع بكائه».

توقّفت عن الحديث، ثم أمسكت بذقن يعقوب الخشنة وربّتت على خدّه: «أريد أن أدخّن». فتبعها خارجاً. أتكأت على جذع نخلة.

«لماذا لا ندخّن في الداخل»؟

«يبدو أنك جديد في كاليفونيا».

«بل جديد في أميركا كلّها، لي بضعة أسابيع هنا فقط».

أخبرته أن التدخين ممنوع في الأماكن العامة. رفعت رأسها فرأت السماء صافية: «أنا أكره تكساس وأحب هذه المدينة، سان دييغو حلوة. ربّما أحبها لأني سأتركها بعد يومَين». سألها يعقوب: «كم تبعد دالاس عن مدينتك»؟ أجابته بأن دالاس ليست بعيدة.

تطفئ سيجارتها، ويهّمان بالدخول راجعين إلى كأسَيهما. بدأت ميليندا تشرب بصمت. ثم مدّت يدها كطفلة، سألته: «معك دولار لنضعه في «الجيوك بوكس» ونرقص على أغنيتي المفضّلة؟ أتحب الرقص»؟ وقبل أن تنتظر الجواب نزلت ومشت نحو صندوق الأغنيات القديم، واختارت أغنيةً قديمة. رفعت قدمها وحرّكتها في الهواء وكأنها تتأهّب للرقص، ويعقوب يراقب ذراعَيها المكشوفتَين اللتين مدَّتهما إلى عنقه للرقص. لم يفهم كلمات الأغنية لكنه تمتّع بها لأنه يرقص ويشمّ رائحة امرأة عن قرب. أنفاسها بأنفاسه، حتى أنه لم ينزعج من رائحة الدخّان الممتزجة بالكحول. إنها امرأة كاملة.

«I have often told you stories about the way

I lived the life of a drifter waiting for the day».

رقصا دون الاكتراث ببعض الزبائن الذين ينظرون بدهشة: امرأة ترقص مع رجل أقصر منها، داكن البشرة بشارب كثيف. قالت له وهي تكاد تلتصق به «أتحب موسيقى الروك»؟ «لا» أجاب. قالت إن هذه الأغنية رغم أنها هادئة لكن يغنّيها فريق الهارد روك الـ«Deep Purple» واسمها «الجندي المرتزق»:

«But I feel Im growing older and the songs that I have sung

Echo in the distance like the sound of a windmill goinground

I guess Ill always be a soldier of fortune».

رجعا يشربان. قالت له إن أبا زوجها الأول مات في الحرب الكورية منذ أعوام عديدة، أما عن نفسها فهي تكره الحرب. عند نهاية السهرة حملت حقيبتها ومعطفها الخفيف وقالت بعفوية: «أتاتي معي إلى الفندق لنكمل السهرة هناك»؟ لم يصدّق ما يسمع، فهي التي قامت بالمبادرة. إنها المرّة الأولى التي سيكون فيها مع امرأة في مكان مغلق وحدهما معاً. فكّر على الفور بكل التفاصيل التي ستحدث، وقال لها بسرعة قبل أن تغيّر رأيها: «سآتي طبعاً».

 تلك الليلة تبلّل وشم ميليندا أكثر من أي وقت آخر.

«ما الذي يربطك بتكساس إذا كانت كئيبة: العمل أم الأهل»؟ تجيب وهي مشغولة بتدليك ظهره بيدَيها المتجعّدتين: «لا هذا ولا ذاك. أنا محبوسة هناك، لا أستطيع المغادرة سوى ستة أيام لأعود بعدها. فجدّي مات وترك أموالاً كثيرة لأولاده وأحفاده، لكن خوفه الوحيد كان أنه سيموت ويُنسى، فكان في السنوات الأخيرة مولعاً بتخليد نفسه، لذلك أوصى بوضع صرّاف آلي فوق قبره. ولكل واحد منّا بطاقة لسحب مبلغ كل أسبوع: ستمئة دولار فقط. وقد فعلها بطريقة تمنعنا من سحب ألف ومئتَي دولار كل أسبوعَين كي نزور قبره قسراً أسبوعياً، ونأخذ زهوراً وشموعاً بين فترة وأخرى. لكني في آخر مرّة أخذت معي كلبي وبالَ على القبر، بعدها شعرت بالذنب لأني تذكّرت الكلمات المدوّنة على الشاهدة: أحببتكم أكثر مما تحبّون أموالي».

ميليندا التعيسة لأنها لم تحقق ما تود فعله وهو الانتماء إلى منظّمة «مهرّجون بلا حدود»، اشترطت على يعقوب حلق شاربَيه قبل مضاجعتها، فدخل الحمّام وحلقهما قائلاً في سرّه: «سيطولان بعد أسابيع قليلة».

جثت فوق صدره في الفراش: «أتعلم؟ إنها المرّة الأولى التي أضاجع فيها رجلاً شرقياً»؟ لم يُعلِّق يعقوب، فتابعت: «حدّثني عن بلادك البعيدة. عندكم الكثير من النخيل. أليس كذلك»؟

«صحيح، حتى أني أظن بأن النخلة هي أصلاً سمكة متمرّدة رفضت العيش في المياه الحلوة، لذلك قام العراق بتبنّي جميع نخيل العالم».

«وماذا عن منطقة الأهوار؟ قرأت تقريراً عن عشر مناطق في العالم على الإنسان أن يراها، إما قبل أن يموت وإما قبل أن تزول، إحداها أهواركم».

وبينما همَّ يعقوب بالحديث عن العراق وعن طفولته، قاطعته: «كان لإحدى صديقاتي زوج من إحدى الدول الشرقية لم يحدّثها أبداً عن تقاليدهم لأنه كان يخاف أن تهزأ منه. أما هي فلم تعرف لماذا كان يفكر بتلك الطريقة، فنحن هنا نحب التعرّف إلى طريقة عيش الناس من البلاد الأخرى». قالت ذلك وقفزت مسرعة من فراشها: «لا تتحرّك سأعود حالاً». اختفت لدقائق وأتت بقنّينة نبيذ أحمر. فتحتها وسكبت قليلاً منها في كأس صغيرة. قرَّبتها من بطنه ثم سكبت بحذر في سرّته بينما هو مستلقٍ على ظهره. رشفت الخمر سريعاً قبل أن ينسكب على الملاءة البيضاء. أخذ الزجاجة من يدها ووضعها جانباً. قالت وهو يداعبها: «للسرّة فائدة وحيدة بعد ولادة الإنسان، فعندما يكبر تصبح كأساً صغيرة للنبيذ المعتّق والجديد معاً». ظلّ يعقوب يفكّر طوال الليل كيف أن بعض الناس لا يؤمن بوجود الفردوس وأنهار الخمر، فردوس فيها نساء حُفرت على أجسادهنّ ألغاز بحاجة إلى فكّ رموزها. أيّ امرأة ستمرّ أمام عينَيه بدون أن يرى وشماً محفوراً على كتفها أو كاحلها فإنه سيتخيّلها بوشم في مكان لا يرى الشمس إلا نادراً كالذي لميليندا، التي قالت وهي ترتمي على صدره: «الرجل الحقيقي ليس الذي يقاتل ويموت في الحرب بل الذي يلحس المرأة من رأسها إلى قدمها... مثلك تماماً يا جاكوب».

في الصباح قالت له بينما كانت تشرب قهوتها: «سآخذك معي إلى تكساس». لكن يعقوب أجابها بهدوء: «مهلاً، عليّ أن أتصل بأخي».

«قل له إن صديقة ستجد لك عملاً في شركة هناك. ولا كذب في ذلك لأني سأطلب من أحد أقربائي أن يجد لك عملاً في شركته».

***

حبلت تمارا بعدما تخلّصت من الحشرة. كانت تتوحّم كثيراً في الأشهر الأولى حتى أنها اشتهت مرّة أن تأكل صابون الغار. قال لها الطبيب: «هذا طبيعي، لأن الحوامض لديك غير متعادلة». ولم تُطِق شمّ رائحة اللحم. قالت لها أمّي: «أنا أيضا كرهت رائحة اللحم أثناء حملي بسامي».

مرّت أشهر الحمل وفؤاد يضرب تمارا على أمور تافهة. لكنها لم تقل لنا ذلك إلى أن ضربها مرّة بحيث ساءت حالتها وخافت إسقاط الجنين. ضربها لمجرّد أنها لم تُعدّ له العشاء وقالت له إن عندها أكلاً من البارحة: «إن لم تصنعي لي العشاء الآن فسأولدك من فمك»! قالت أمّي عندما سمعت بمشاكل تمارا: «لا تتدخّلوا في حياة أختكم. كل رجل يضرب زوجته أحياناً. أبوكم لم يضربني أبداً لكن أعرف بعض النساء علاقتهنّ بأزواجهن أصبحت متينة بعد الضرب»! غضبت جداً من أمّي وقلت لها إن على تمارا أن تأتي وتعيش معنا. «لا تأتي تمارا لزيارتنا وهي زعلانة من زوجها، لأن الناس ستقول بأني أشجّع ابنتي على الطلاق! ليس عندنا طلاق في العائلة». ثم وبّختني: «أنت ما زلت صغيرة. لا تقولي لنا ما علينا فعله نحن الكبار».

أمّي تنصح تمارا: «اسمعي يا بنت، امرأة ذهبت مع أخوتها الذكور إلى المحكمة لتطلّق زوجها وكان القاضي حكيماً جداً طلب منها خلع ملابسها أمام الجميع. فتوارت خلف زوجها وبدأت تخلع ملابسها، فنبّهها القاضي إلى أنها احتمت بزوجها كي لا يراها أخوتها عارية. وهكذا رجعت إليه». علقّت تمارا: «رجعت إليه وإن لم تكن سعيدة».

نجيب لم يسمع كلام أمّي، بل ذهب ليلاً إلى بيت تمارا قاطعاً مسافة أكثر من ساعة. فرحت تمارا حين رأته وبكت كثيراً. أما هو فضرب فؤاد على وجهه: «إن رفعت يدك على أختي مجدّداً، لقطعت لك عضوك ورميته للكلاب».

«سأدخله فيك يا نذل. هكذا سأفعل بك وبأختك، بعضوي الكبير...».

وتمارا تبكي وفؤاد يهدّدها حتى تركت البيت. كانت آثار الكدمات ما تزال على ظهرها وساقَيها. وأمّي تقول لها: «يا ابنتي كل رجل يضرب زوجته على الأقل مرّة واحدة»! أثار حنقي هذا الكلام، فقلت لها ألا تسمع كلام أمّي. خفت على صحّة الجنين ونفسيّته. وسألتها إن كانت نادمة لأنها حبلت من فؤاد؟

«عندما حبلتُ حزنت وفرحت في الوقت نفسه، حزنت لأني حبلت من رجل لا أحبّه، وفرحت لأنه بفضلي سيولد إنسان».

«يا تمارا لا أصدّق بأنك حبلت من هذا الرجل».

«إنه زوجي وعليّ أن أتحمّله».

«ماذا ستسمّينه إن كان صبياً»؟

فركت بطنها كأنها تفرك بطيخة ملساء جاهزة للقطع: «سأسمّيه سلام».

«وماذا ستسمّينها إن كانت بنتاً»؟

ردّت ببرود: «سأسمّيها سلام أيضاً».

«أنت حقاً مجنونة».

«سيسألني طفلي عندما يكبر ويعي معنى الكلمات: ماما، ماذا تعني كلمة الحرب»؟

«يا تمارا أنت تحلمين. كفى، لنغنِّ لسلام».

كنت أقرّب رأسي من بطنها وأغنّي أغاني نجاة الصغيرة وفيروز. في الليل وضعت سيمفونية الأربعين لموزارت، فقالت تمارا: «انظري كيف بدأ يرفس ويتحرّك حالما سمع اللحن». فكّت تمارا أزرار فستانها وكشفت عن بطنها وأخذت يدي ووضعتها على جنبها حيث كان الجنين يرفس. وتمتّعنا لدقائق بردِّ فعله. «لعلّه سيتذكّر بعد ولادته بأنه سمع موسيقى موزارت»؟ أجابت وهي مغمضة العينَين «لا أظن». سألتها: «ألا تقرأين له من نصوصك المفضّلة كي يتعوّد على صوتك»؟ أجابت: «لا أؤمن بالقراءة للجنين، إنها مبالغة». لكني أكّدت لها بأن العلم أثبت أن الأم لو قرأت لجنينها فإنه سيحّب ما سمع». فقالت: «هراء. لا أختار له أنا الآن ما سيحب أو يكره».

***

ما لا تعرفه ميليندا هو أنه طيور الشتاء لم تهاجر من غرب سيبيريا إلى الأهوار منذ أكثر من خمسين عاماً. حيث الأسماك المجوّفة طفت فوق المياه الخضراء، بفعل الطحالب النتنة التي لا تعلق أحياناً بأقدام العذارى الهرمات اللواتي يأكلن الخبز المنسي في التنّور وقشطة بلا عسل. هناك البعوض من النوعية المحسّنة، فلا أحد يحكّ ظهر أحد. هم الذين يعيشون على فيضانات دجلة والفرات، لا يحتاجون كهرباء، فماذا لو تعرّت الأسلاك وسقطت في المياه؟ وما هو هذا الصندوق البلاستيكي الذي كلما كبسوا على أحد أزراره في الثامنة مساء يجدون صورة تتحرّك في داخله لرجل ملعون، عديم اللون والرائحة يضحك ويسخر منهم بهزّ كتفيه ويدخّن سيجاراً مستورداً من هافانا. أما مَن تبقّى من رجال إحدى العائلات التي أُبيدت فقاموا بالانتقام من الرجل برمي الصندوق في الهور قائلين: «هذا مصير من يحاول قطع نسلنا، نسل سومر وأكد. دم نقي وملوكي يسري في عروقنا ليس كدمك الفاسد يا نذل». وراحوا يجذّفون قواربهم في مياه راكدة، قوارب مثلها ما زالت معلّقة في المتحف البريطاني عمرها آلاف السنين.

اتصلت ميليندا بشركة طيران وقطعت ليعقوب على حسابها الخاص بطاقة سفر إلى ميدلاند ذهاباً فقط. وقفت الطائرة في مطار لاس فيغاس. كانت ميليندا جالسة بفخر بجانب يعقوب لأن الجميع ينظر إلى فارق السن بينهما. بينما هو يمسك يدها الملآنة بالخواتم وأظافرها الاصطناعية المصبوغة بصبغ بني غامق، ناظراً من شبّاك الطائرة إلى هذه المدينة العجيبة. بينما ميليندا تشرب عصير الطماطة: «أتعرف أنه بالإمكان رؤية لاس فيغاس من الفضاء. أنها بالفعل لؤلؤة في الصحراء».

«هل عندك أولاد»؟

«لمَ تسألني هذا السؤال»؟!

«أعرف ليس عندك أولاد، أقصد ألم تتمنّي يوماً أن يكون لديك أولاد»؟

«فقط عندما أمرض، أتمنّى لو كانوا بجانبي. كل أطفالي الذين لم أنجبهم. فكيف أفتقد شيئاً إن لم أمتلكه من قبل؟ حياتي لا ينقصها شيء، إنها مكتملة. لديّ كلبي بيلي وصديقاتي. نعم هذه أنا. أتفهم؟ أنتم الرجال هكذا، تتزوّجون كي يكون لكم أطفال تلعبون معهم ونحن نتحمّل المسؤولية. أتعرف أن أختي ماتت بسبب زوجها الذي اختار موتها على التضحية بجنينها. فأثناء الولادة تعقّدت أمورها وقال الطبيب لزوجها، بأن عليه أن يختار بين أنقاذ الأم أو الطفل. لم يكن واحد منا هناك قربها، لن أغفر لنفسي خطيئة غيابي. في البداية قال زوجها: أريد أن تعيش زوجتي فقد لا أجد زوجة مثلها وستنجب لي لاحقاً طفلاً آخر. لكن قبل أن يقوم الطبيب بإسقاط الطفل، قال الزوج: دع الأم تذهب لأنها عاشت ما يكفي، أما الطفل فهذه فرصته كي يتذوّق الحياة! عندما رأيت أختي بعدما بقروا بطنها وأخرجوا الطفل الحيّ، بكيت كما لم أبكِ من قبل في حياتي. كانت شاحبة وباردة. لقد عشت حياة قاسية ورأيت بعيني موت أختي. أخي الأصغر أيضاً مات شاباً. فهو قُتل في حادث سيّارة. وكأنه مات في حادث سيّارة لأنه دائماً كان يخاف أن يموت بحادث سيّارة. وحادث الاصطدام هو المحاولة الوحيدة الناجحة لوضع شيئين في مكان واحد».

بدأت ميليندا تبكي، ويعقوب لا يعرف ما يقول. «كنت مجبرة منذ أن كنت في السادسة عشرة على السياقة لأننا كلنا كنا نعمل، حتى مات جدّي. لقد تزوّجت مرَّتَين لكن المجتمع لم يرحم امرأة مطلّقة في بداية عشرينياتها. لا أحب الحديث عن زوجي الأول. كان الغلطة الأولى. وعندما تزوجت للمرّة الثانية تزوّجت طبيب أسنان. لكن طوال حياتي تمنّيت أن أتزوّج سبّاكاً. أتعرف يا جاكوب. لو خُيِّرت أن أعيش حياتي مرّة ثانية لعشتها بالضبط كما هي. زواجي الأول كان عن حب أما الثاني فلم يكن للمال بل عن يأس». استغرب يعقوب، فقالت: «ألم تسمع أن المرأة تتزوّج أول مرّة عن حب أما في الثانية فلأجل المال؟ لكني كنت سعيدة في زواجي الثاني فقد كان زوجي يسوق بدلاً مني. لو تعرف يا يعقوب كم أكره السياقة». ثم بثقة وكأنها تحاول إخفاء فشلها: «أظن أن زوجي الثاني كان نافعاً، فبين فترة وأخرى كان ينظّف مجاري المطبخ التي تمتلئ بمخلّفات الأكل بتكرار غسيل الصحون. نعم كنت أطبخ حينها، أطبخ أكلاتي المفضّلة». سألها يعقوب عن أكلتها المفضلة؟ ضحكت: «أكلتي المفضّلة هي التي تُعدُّ في عشر دقائق وتؤكل في عشرين دقيقة... ستحب تكساس. أنا متأكدة من ذلك. حتى الصيف هناك رائع. أنا أحب الدفء جداً. الصيف في كل العالم هو نفسه الموسم الذي فيه يفتح أحدهم شبّاك شقّته في الطابق الثاني أو الثالث. ويظن أن طفله الصغير الذي يحبو قد اختفى تحت الأسرّة. فيعثر عليه الجيران في الطابق الأرضي».

لم يحتمل يعقوب طيبة ميليندا، فخرج يبحث عن عمل يُبعده عنها. اشتغل سائق شاحنة بعد وصوله بشهر، كي يكون في الطريق أكثر مما يكون مع كلب ميليندا في البيت الصغير الذي علّقت في مدخله لائحة خشبية صغيرة عليها صورة بيت وكلب مكتوب تحتها «الكلاب تسمح لنا بالعيش هنا». كان يرحل ليومَين ويعود، ثم يبقى أياماً بلا عمل. وميليندا تخرج مع صديقاتها وتسهر في البارات. كانت تستحمّ كل صباح، ويعقوب يلملم ملابسها الداخلية ومنشفتها التي ترميها بإهمال على أرض الحمّام: «عجيب. لماذا تستحمّ إن لم تكن قد اتَّسخت؟ لا بدّ من أن الاستحمام عندها عادة لا حاجة». وعندما يجلسان إلى مائدة الطعام لا تقبل أن يمسّ أكله مباشرة: «استعمل الشوكة والسكّين».

«أليست يداي أدوات أعطاني إياها الله! أنا غسلت يديَّ لكن لا أعرف إن كنتِ قد غسلتِ الشوكة والسكين! ثم لماذا تلمسين بيدَيك الأكل عندما تطبخين»!

نادراً ما تطبخ ميليندا، فهي تقوم بفتح علبة التونة وخلطها مع علبة أخرى من الذرة الصفراء ثم تقطِّع خياراً وتقول بأنها أعدت الطعام. كان يعقوب يسخر من الخبز الذي يشتريه: «خبزنا اليوم طازج ومغلّف بكيس بلاستيكي موضوع على رفوف المحلات ربّما منذ أسابيع».

ميليندا تحب الليمون كثيراً فهي تضع بضع حبّات منه في إناء أخضر فوق الطاولة المستديرة في مطبخها الأبيض النظيف. وفي ثلاجتها تضع علبة ليمونادا مكتوب عليها «عصير طبيعي» ثم بكلمات صغيرة في أسفل العلبة «مصنوع من مواد اصطناعية»! أما سائل جلي الصحون فمكتوب عليه «مئة بالمئة ليمون طبيعي».

ويسافر يعقوب من تكساس متّجهاً إلى أريزونا لنقل بضاعة. أخبره صاحب شركة النقل بأن عليه نقل شحنة واحدة مرّة في الأسبوع. ويسأل يعقوب نفسه: ماذا يفعل العراقي مثلي في تكساس؛ يتكلّم مع ميليندا عن أسعار البنزين؟ حتى هي قد بدأت تكرّر النكات نفسها والحكايات نفسها. بتُّ أعرف مسبقاً ما ستقوله عن خصامها مع أبيها: «عند موت أمّي، دفنها عمودياً كي يوفّر خمسمئة دولار. زاعماً أنه يوفّر مساحة من الأرض لشخص آخر»! وتجلس ميليندا لساعات تسمع الأخبار، ويعقوب يدخّن ويسمع أيضاً الأخبار المملّة اللاذعة عن الرئيس ويسخر: «هذه البلاد ليست كبلادنا التي بعد دقائق من جلوس العرب للتفاوض، تبدأ الشتائم بالتطاير مع الأطباق والكؤوس والأحذية أيضاً! تباً للرؤساء الذين لا يسقطون في الليالي من نوافذ القطارات، وهم بلباس النوم في طريقهم لتدشين النُّصُب التذكارية».

بشاحنته الصغيرة وصل يعقوب أريزونا التي سمع عنها دون أن يراها ولا حتى في التلفزيون. قال إنها تشبه صحراء العراق إلى حد ما. في إحدى المرّات وقف في محطة الوقود فرأى امرأة مكتوب على متن درّاجتها «هارلي ديفيدسون». كانت امرأة بشعر طويل أسود وترتدي الجلد البني. تبعها قبل أن تختفي. سأل عنها فقالوا له إنها خرساء يذهب إليها كل من يطلب الشفاء. اسمها أزوزا. زارها يعقوب بحجّة الرغبة في العلاج.

***

عمّي موشي زرع أشجار لوز في الحقل الشمالي، ونجيب مارَ غضباً عندما سمع بذلك: «عليه أن ينتظر على الأقل خمس سنين كي يأكل من ثمارها. لكني سأستعيد ذاك الحقل بالذات لأن اللوز هو آخر ما كان يجب أن يُزرع فيها. شجرة اللوز الخبيثة هي أول شجرة تُزهر لكن ثمرتها آخر ثمرة تؤكل في أواخر موسم الحصاد في الخريف. الحقل الشمالي مخصّص لزراعة كروم العنب فجدّنا الأكبر كان يأكل ويشرب من إنتاج العنب الذي في الحقل الشمالي أكثر من عصير العنب من كروم الحقل الجنوبي لأن أشعة الشمس كانت تسقط على الحقل الشمالي لفترة أطول في فصل الصيف». بدأ نجيب يدخّن أكثر من ذي قبل، مهملاً صحّته، فتقدّم العمر على وجهه، كأنه نشف بسبب الحقد. لم يكن قادراً على أن يغفر لأبي أنه رحل عنّا دون أن يحارب أخاه على وراثة الأرض: «ما كانت الأمور لتتعقّد هكذا لو أن أبي طلب حصّته من أخيه. كان يقول لنفسه إن حقوق الإنسان الطيّب لا تضيع هدراً، لا في هذه الحياة ولا في الحياة المقبلة، هذا إذا كانت توجد حياة أصلاً في العالم الآخر، على حسب زعم سامي». يقف بعيداً ويتأمّل الأرض: «أكاد أشمّ رائحة التراب المبلّل بعرق جبيني. إنها اللحظة التي لا أحد يقدر فيها أن يأخذها منّي. الأرض لي».

كتب نجيب رسالة تفصيلية إلى إبراهيم الذي - رغم غربته - يحب أخبار الأرض: «المياه ما عادت تنحدر صوبنا. لذلك رأينا أنه لا بدّ من التحرّك. أولاد عمّي الأشرار قطعوا عنّا الإمدادات عندما حاولنا أنا وعدنان وفاروق أن ننقر عيناً في الأرض، قالوا: لماذا تشربون من بئر لم تحفروها؟ وجاء أمر فوري بمصادرة معدّاتنا واتهموني بسرقتها... نادان الكلب زرع الأرض قطناً. القطن الرخيص الذي لا يمتصّ سوى التقرّحات النتنة. كيف سيحصده؟ اللعنة عليه. أتمنّى أن تدمى يداه من شوكه ولا يشتري منه أحد، أنا أحقد عليه حتى وأنا نائم، ألعنه بكل عقلي الواعي وغير الواعي. ماذا عن يعقوب؟ ماذا يفعل في الغربة؟ هل يسألك عن الأرض أم أنه لا يهتم؟ والله سيأتي يوم ننسى فيه جميعنا الأرض، ويعقوب الوحيد الذي يشتهيها ولا يجدها».

أما أنا فقد دوّختني الحرب التي لم تتوقّف منذ دهور، الحرب التي راح ضحيتها قلبي الغضّ الذي كان في بداية الحياة. قلبي الذي ذهب مع عمّي سنحاريب. مئات الآلاف من الرجال ماتوا بلا سبب. والذي تمَّ تهريبه مع الراهبة، مثل يعقوب، نجا بحياته. كان لا بدّ من الخروج من العراق. مَن أتته فرصة الخروج هاجر كإبراهيم، ومن أراد الانتحار بقي في العراق بحجّة حبّ الوطن. نبضات القلب توقفت والحرب ما توقفت.

أعرف امرأة لديها سبعة أبناء استُبدِلوا بسبع سيّارات «تويوتا» مصفوفة أمام البيت والأب لا يجيد السياقة. لا أحد ينسى رائحة ذكرياته. في طين العراق كنت ألعب مع أحمد، لكنه مات وأنتن. أمّه أصرّت على فتح التابوت كي تتأكّد أنه هو. عرفَته من الخال البني على إصبع قدمه اليسرى. أنا لم أجرؤ على الاقتراب. القريبات والجارات رششن التابوت من خارجه والأرض من حوله بلا جدوى بماء الزهر. الكحول المتطاير ساعد على نقل الرائحة القوية حتّى شمّها جميع سكّان الشارع. وأنا أتذكّر بحزن كيف كنت ألعب معه. مرّة رأى الصليب معلّقاً على صدري فقال لي: «أمّي علّمتني أن أبوس الصليب كلما رأيته». وأنا أكتم ضحكتي: «الله يلعن شيطانك يا أحمد». يا ربّي كيف مات أحمد قبل أن يحلق لحيته لأول مرّة؟ أكاد أموت من الحزن.

أنام وأستيقظ، والحرب ما زالت قائمة.

إسماعيل إسماعيل... وأنت لم يشكرك أحد على الانتظار ولم يعتذر لك أحد على التأخير؟ تأخير سبعة عشر عاماً في سجون الأسر، وعندما حان الوقت لترجع، اخترت البقاء والزواج من مريم المجوسية، وصار اسمك «إسماعيل الخفاجي» لأنك فضّلت العيش في خوزستان وصرت تأكل البطاطا الحلوة، ليست كالتي كنت تأكلها من قبل؛ بطاطتنا الخضراء المسلوقة بدم الخراف التي تمّ ذبحها لأنها أكلت جرائد الصباح.

***

أزوزا يأتي إليها المرضى للشفاء، فتكتب على قشور الأشجار الناشفة كلمات الشفاء. أتى إليها صبي مصاب بسرطان الدم فخطّت له: «مَن قال إن الطبيعة لا تستطيع أن تشفي طفلاً صغيراً مثلك»؟ ثم رسمت شجرة الصبّار لتُفرحه. كتبت أزوزا على لوح من طين: «أحب الأطفال لأن الأشياء الصغيرة من حولنا ستكبر، فقط لو أحببناها كفاية». كانت أزوزا تعالج الناس في البيت. أمّها قالت ليعقوب: «لا يهمّ من أنت، ومن أين أتيت؟ المهم هو أن تقف معي وسط الأتون، وتخرج دون أن تتغيّر هيئتك أو تصدر منك رائحة الدخان».

تترجم الأم ما تقوله أزوزا: «لماذا يخاف الإنسان من الألم الذي ليس سوى ضعف يوشك على مغادرة الجسد؟ فالوهن يطفو على السطح كي يغادر الجسد كلياً وإلى الأبد. أنا لا أخاف من الموت لأن أحدهم قال لي إنه عندما تغضب الطبيعة، ترسل إلينا شخصَ الموت ليلقّننا درساً في التمهّل. أحياناً، أفقد قدرتي على المشي. لكن هذا ليس مهماً أبداً لأن قوّتي في يدي وليس في قدمي. فأنا أستطيع أن أشفي نفسي بالرقص». وتفتخر بابنتها التي تشفي مجاناً: «أي مبلغ يُدفع لابنتي مقابل الشفاء الذي تستمدّه من الطبيعة، هو إهانة. فهو لا يقاس بأي ثمن لذلك هو مجاني». ثم تضيف: «هي التي علّمتني أن أتحسّس الأشياء بظهري. لكني سأموت عندما أكفّ عن اللمس. الأشياء التي لا أعرفها لأني لم ألمسها هي فانية. اللعنة على التطوّر الذي طمس لذّات كثيرة للحواس، أولها اللمس. إجلس حتى يأتي زوجي، هو أيضاً مثلك قصير».

المرأة العجوز تتكّلم كثيراً ولا تعطي فرصة ليعقوب للتفكير بما تقوله: «أنا متأكدة بأنك لست إنساناً طبيعياً تحاول أن تكون كائناً روحانياً، بل أنت كائن روحاني تحاول أن تكون إنسان طبيعياً».

يدخل الأب بعد قليل عائداً من عمله. هو الذي يدير كازينو الخسارات الشهير «الذئب الأزرق». ينظر إلى يعقوب ولا يقول كلمة، ثم يتفاهم بالإشارات مع ابنته المحميّة من التلوّث الضجيجي السام. يجلس بجانب يعقوب: «ابنتي لا تحتاج إلى أن تتكلّم ولا إلى أن تسمع. قل لي ما فائدة الكلام؟ فنحن منذ أول يوم نتعلّم النطق فيه نتكلّم بلا توقّف ولا يسبّب لنا ذلك سوى المشاكل. ها نحن نتكلّم على الكلام ولا ينتهي».

صمت الجميع بينما هم يشربون شاي الأعشاب، وكأن الشرب عبادة. قال الأب بصوت مبحوح: «هوايتي اصطياد الخفافيش لأن الدم المتدفّق جراء جرح عند الرجال المسنّين مثلي لا يمكن إيقافه إلا بلعاب فم الخفّاش. السرّ الذي في لعابه لا يمكن تفسيره». نعس يعقوب وتثاءب قائلاً لنفسه: «هذا الرجل يخرف». سأله أبو أزوزا بعدما نظر عميقاً في عينَيه: «لماذا ضحكت عليّ في قلبك عندما قلت لك إني أستخدم لعاب الخفافيش في علاج جروحي»؟

كذب يعقوب فقال: «لم أضحك يا سيّد». فقال الرجل: «بلى ضحكت. أتظن أني أخرف؟ صحيح أني أهمل شكلي لكني أعرف ماذا أتكلّم. هكذا أنا قد يبدو عليَّ الجهل لأني لا أحب قراءة نبؤات كتبها صيّاد سمك، لكن الأرض والسماء راضيتان عليّ. كانت أمّي تجمع ريش أجنحة النسور بعد أن تموت وتنتقل لتصبح أساطيرَ، فتزيّن بها قبّعاتي لآخذ منها القوّة والشجاعة في العالم الروحي الحاضر».

اتكأت أم أزوزا على عكّازة مصنوعة من عظام فخذ الدب، وقامت وفتحت دُرجاً فيه حقيبة جلدية ذات رائحة قويّة جداً، كان كتاباً للصلاة ملفوفاً بخرقة تشبه جلد الحيّة وأعطته ليعقوب، كان ملمسه خشناً مقزّزاً. طبع يعقوب عليه قبلةً سريعة. هزّت هي رأسها وضحكت ثم أخذته منه. أما هو فأُحرج وانزعج: «ماذا كان عليّ أن أفعل»؟ جلست المرأة وفرشت ثوبها على الأرض وبدأت تتمتم بكلمات غير مفهومة. قامت أزوزا فجأة ورقصت. تكلّم الأب وكأنه يصلّي: «إذا لم يكن الرقص قوّة فلا بدّ من أنه صلاة. الآن أكاد أسمع وقع الرقصات وهي قادمة إلينا عنيفة. رقصات للشفاء. لو كرَّرتَ هذه الكلمات معي لأصبحت شريكي في الرقص، الرقص الذي يشفي الأرض. عندما تخبط قدمَيك بالأرض، فثمة شجرة ستنبت بفضل الرقص وسيراها كل من يدبّ على البسيطة. حينئذ يتعرّى حبّك السامي وبذلك تنمو الزهيرات من حولك أيضاً. متى رقصت وأينما رقصت ارقص لشفاء الأرض».

ظلّت أزوزا تدور وتحني قامتها الضعيفة دون أن تنسى التنفّس أثناء الرقص. وعندما انتهت، أحرقت بعض البخور واختفت. ادّعى الأب أن البخور جيّد للروح. قال يعقوب مجاملاً: «الآن دخلتُ حيّزكم الروحي وأنا غريب». لم يتوقّف الأب عن الكلام، ويعقوب قام بحجة الذهاب إلى الحمّام. فرأى ظلّ أزوزا. كانت تجلس في الغرفة المجاورة فوق جلد الحيوانات تمشّط شعرها. اشتهاها. رجع وجلس بجانب الرجل الذي قال له: «أحياناً أحب الابتعاد عن الناس كي أستجمع طاقاتي. فلا شيء يلهمني أكثر من الجلوس بصمت أمام حائط. أنا أحب الحياة. فهي دافئة كدفء قبر الشيخ، وباردة كفراش طفل أصيب بلوثة عقلية بسبب قلّة الحب وعدم التمسيد. نعم أنا أخاف من أبسط الأشياء لذلك أجبر نفسي أحياناً على الإصابة بالزكام عمداً كي يبقى جهاز المناعة لديَّ نشيطاً. المضادات الحيوية هي السبب في أننا اليوم كثيرون وهي السبب نفسه لانقراضنا الآتي بعد قرون. نحن لا نضيف الثلج إلى مشروباتنا لأنه يقتل البكتيريا النافعة للأسنان. دورة الحياة تُشعرتني بالغثيان أحياناً، فالبعوض تأكله العناكب، والدجاج يأكل العناكب، ونحن نأكل الدجاج، نحن المشبعون بمبيد الحشرات الذي يُسرِّع في فنائنا وبالمضادات الحيوية التي لا ينفع معها أي مضاد حيوي آخر للأسف. أقول لك وعليك أن تصدّقني هذه المرّة إن لم تصطده أو تقطفه فلا تأكله». وأكمل مفتخراً: «انظر إلى بيتي هذا، لو لم أبنِه بنفسي لظننت أن الأرض انشقَّت وأنبتته. أقدم طريقة مستخدمة في البناء هي بناء بيوتنا. نقوم باستخدام عارض طينيّ للجدران يُبرِّد البيوت صيفاً ويدفِّئها شتاء. أما الأساس فهو مكوّن من حاجز عبارة عن قضبان خشبية. أيضاً السقف مغطّى بحصير وطبقة ترابية. لقد اكتشف العالم الحديث، في السنوات الأخيرة فقط، المفهوم البسيط للبناء بهذا الشكل، أي الطين. أي مصمم ماهر يمكنه دمج هذه التقنية بشكل مضبوط مع استراتيجيات استخدام الطاقات الشمسية. البيوت نصف الدائرية قد تكون هي النموذج الأفضل، فالعديد من المباني تعكس مفهوم البناء الأمثل باستخدام التراب كما لدى بعض القبائل في بقعة أخرى من أرض العم سام. أنت الآن واقف على أرض أجدادي التي شربت من دماء الخيول التي اصطادها الرجل الأبيض وقتلها منذ قرون للنيل منّا لأنه عرف بأننا من دون حبّها لا نستطيع العيش. أتعلم أني أفضّل أن أرى رجلاً ينزف على أن أرى حصاناً يُقتل؟ أتقنت فن الحياة بمراقبة الخيول. الحصان علّمني دروساً في الحياة أكثر من الإنسان. لقد اغتصبنا الطبيعة بتطوّرنا، وصنعنا الماكينات التي تصنع الماكينات. أنا سعيد هنا لأني أعيش في أرضي رغم ضعفي. فعندما أطير أكون مجرّد طير، لكني عندما أزحف أحلّق عالياً، كنسور الجبال الشاهقة خلف قرص الشمس، التي تُشعرك أجنحتها بالشفاء والقوّة. فعندما تكون في حالة الصلاة وترى من بعيد النسور تعرف أن صلواتك تحقّقت، لأن أقرب الطيور إلى قلب الخالق هو النسر، وفوق أجنحته يحمل صلواتنا».

قال يعقوب في نفسه: «يبدو أن هذا الرجل لا يتعب. ألا يريد أن يغمض عينَيه مثلي»؟ قال الرجل: «أنت تعبان وأنا الآن تعبان مثلك لأن التعب مُعدٍ تماماً كالخوف. يبدو أنك تريد أن تنام. لكن أتعرف بأنه يوجد بديل عن النوم وهو ضحكة من القلب، فهي تساوي خمساً وأربعين دقيقة من النوم».

غادر يعقوب وعاد في اليوم التالي وسأل أزوزا أن تصحبه: «سأسمّيك عزيزة بدل أزوزا». ابتسمت له وهي تقيس القوّة المغناطيسية بينهما. أما هو فشبك يدَيها المرفوعتَين نحو يدَيه بينما هما جالسان على السرير يقابلان بعضهما البعض وهي مغمضة العين. بعد قليل بدأ ينزع ملابسها. فتحت عينَيها مذعورة وكأنه قطع صلاتها، وحرّكت رأسها بعصبية رافضة قبلاته، لكنه لم ييأس من المحاولة بل استمرّ بتقبيلها برقّة حتى استسلمت له وأغمضت عينَيها. أطفأ الشموع على جانبَي السرير في الفندق الرخيص، ولم يُزعجه شيء سوى بعض الأصوات الغريبة التي كانت تُصدرها أثناء المضاجعة.

مع ميليندا الأمر مختلف، فبينما هما متلاحمان في الفراش، تقوم هي بمناقشة أمور كثيرة تطفئ الجذوة عند يعقوب. أما مع هذه الكائنة الغريبة فقد اكتشف متعة الصمت وعدم الحاجة إلى الكلام. لمَ الكلام أثناء الجنس، والجنس لغة بحدّ ذاته؟ تصرخ أزوزا قبل وصولها إلى الذروة وتصرخ بينما هي في قمّة الذروة. بعد دقائق، تعي أنها مع رجل غريب في فندق، فتشير له أن يكف عن تقبيل ساقَيها. تدفعه بقوّة، وتقوم إلى الحمّام لتنوح بصوت مبحوح.

لم يجرؤ على سؤالها عن سبب بكائها، لأنها ستخرج وتكتب بالرسم على الرمل في الظلام. اختار يعقوب النوم على المعرفة. في الصباح هربت ورجعت إلى صحراء أبيها.

عندما ذهب يعقوب ليراها في كازينو «الذئب الأزرق»، أرسلت أباها ليتفاهم معه: «يا بنيَّ، لا أظن أن لك نصيباً معنا. ابنتي لها غاية في الحياة وهي شفاء الناس». غضب يعقوب ثم أقنع نفسه بأنه لم يتعلّق بها: «إنسانة روحانية أكثر مما يجب، تذكّرني بأخي سامي، فهي تصرخ لكن لا تتكلّم، وأمّها ترقص ولا تمشي. أمّها تحديداً لم أحبّها لأنها عندما رأتني قالت: وجهك عبارة عن علامة استفهام».

***

عندما جاء سلام إلى العالم في غرفة الولادة بالطابق الثاني في المشفى، طلبت تمارا من الممرّضات وضعه على صدرها العاري فور ولادته، كي يكون قريباً من جسدها الذي اعتاده طيلة تسعة أشهر. قالت الممرّضة لتمارا إن عليها تنظيفه. لكن أمّه أمسكت بيده الصغيرة ونادته باسمه هامسةً في أذنه بكلمات لم يفهمها أحد. في الغرفة المجاورة جاءت أصوات غير عادية. سمعنا بكاء مرّاً لامرأة ورجل. بعد فترة قصيرة تسرّب الخبر في جميع الغرف. قيل إن الطفل الذي وضعته المرأة كان برأس وأذنَي وأطراف كلب، حتّى جلده فيه وبر الكلب. رئيسة الممرّضات رأته وأخبرت بقية الممرّضات. الطبيب تمتم: «لا إله إلا الله»، وقتل الطفل بناء على طلب الأب. أراد الأب أن يأخذه كي يدفنه حسب الطقوس الدينية. لكن رئيس المستشفى اعتذر: «لا بدّ من بقاء الجثة هنا كي نُجري عليها تشريحاً يساعدنا في الدراسات وعرضها على جهات مختصّة».

أمّي قالت: «ليس حسناً أن تسمع أختك هذا الخبر المؤلم، كي لا تصاب بكآبة ما بعد الولادة مثلي». كانت تلك المرّة الأولى التي أسمع فيها أمّي تتكلّم على مرضها. خرجت إلى الممرّ ووقفت بالقرب من إحدى الممرّضات وسألتها إن كانت قد رأت الطفل، فصعبٌ تصديق هذه الظاهرة الغريبة. قالت الممرّضة: «أوه نحن نرى العجائب هنا في المشفى، خصوصاً منذ نهاية الحرب الثانية. لا يوجد تفسير منطقي للتشوّهات. يوماً ما سنعرف السبب. أنا رأيت الطبيب يقتل «الطفل الكلب» كما سمّيناه إذ حقنه بإبرة فتّاكة كي يموت بلا ألم. بعدها جلس الطبيب يأكل ويدخّن وكأن شيئاً لم يحدث. إنها المرّة الأولى التي أرى فيها مولوداً بشكل حيوان. لكن هناك أطفال يولدون بين حين وآخر، لا يتألمون. وهم الأسوأ، لأنهم يولدون بلا جهاز عصبي. حتى أنهم لا يبكون في لحظة انتقالهم إلى البيئة غير الطبيعية هذه. كثر منهم ماتوا قبل أن يصلوا سنّ العشرين فهم لا ينجون من حوادث تقع لهم لأنهم لم يختبروا الألم». قلت في قلبي: «آه، نحن نحبّك يا ألم. حقاً ما أجمل الألم وكم هو جدير أن نتباهى به». استطردت الممرّضة قائلة: «تعلّمت منذ بدء عملي في المستشفى أنّ كلّ شيء من حولي يولد كي يموت». ثم أضافت وهي تضع يدَيها في جيبَي ثوبها الأبيض: «هنا في قسم الولادة أتصوّر بأنَّ للصرخة الأولى التي يطلقها الطفل، القوة نفسها التي تمسك بالأشياء معاً. نحن هنا نرى أناساً يموتون أيضاً. الموت يا له من لغز لا نستطيع فهمه. قرأت مرّة أن صديقَين من الهند في مقتبل العمر أرادا اكتشاف سرّ الموت فقاما بشرب السمّ. لم يرجع ولا واحد منهما ليخبرنا عنه». سألتني الممرضة إن كان لديّ أطفال؟ أجبتها «لا، فالعالم مكان سيء لا يستأهل أن أورّط غيري فيه». وأضفت: «أنا غير متزوّجة». استأذنت: «حان الوقت لأنصرف، ولتأتي ممرّضة أخرى مكاني فترى العجائب هي أيضاً».

إحدى عاملات التنظيف، وهي لا علاقة لها بقسم الولادة، سألت المرأة أم الطفل المشوّه: «هل عندك كلب في البيت»؟ فردّت المرأة باكية مذعورة: «لم أنظر إلى كلبتي طوال فترة حملي مخافة من أن يولد طفلي بوحمة. يا ويلي ماذا فعلت كي ينتقم الله منّي هكذا؟ لماذا أنا بالذات أنجب ابناً غير طبيعي. لم أسمع من قبل عن امرأة أنجبت طفلاً بهيئة حيوان». وبكت بصوت عالٍ فبكت معها الممرّضات ومنظّفات المشفى. قالت لها ممرّضة تضع الكثير من الماكياج ذي الألوان الصارخة وعلى صدرها صليب ذهبي: «كوننا لم نسمع عن حالة كالتي لك فلا يعني ذلك عدم وجود حالات نادرة».

«آه كم تعذَّبت في أشهر حملي، وفي الأخير أنجب كلباً! ماذا سيقول عني الناس»؟ قال لها زوجها: «يكفي يا امرأة، لا يهمّ كلام الناس».

«هل كان شكله أقرب إلى الكلب أم إلى الإنسان؟ أكان أنثى أم ذكراً»؟ لم يجبها زوجها، وبكى هو أيضاً. فعرفت أنه كان أسوأ مما تتخيّل. ضربت نفسها مرّة أخرى وقالت: «ماذا سيقول عني الناس؟ سيقولون إني قد مارست الجنس مع كلب. آه لماذا يا الله؟ ماذا فعلت في حياتي كي تجازيني بهذه الطريقة»؟

قال لها زوجها محاولاً تهدئتها: «فكّري في طفلَيك الجميلَين. ستخرجين من هنا بالسلامة وترجعين إلى البيت. إنهما أحلى شيء في العالم».

ظلّ الأطباء يأتون ويذهبون ليتأكّدوا من سلامة المريضة التي كانت تضرب نفسها بشدّة، والممرّضات يمسكن بيدَيها وقدمَيها، ويعطينها المهدّئات بجرعات مضاعفة. نامت قليلاً ثم استيقظت باكية.

رجعنا عند المغيب إلى غرفة تمارا، أنا وأمّي بعدما نزلنا لنشرب الشاي في الكافيتريا، ولتدخّن أمّي سيجارة. أنا أكره رائحة المستشفى، إنها تذكّرني بالأيام التي كانت فيها أمّي تصطحبني معها عند أبي في عمله. شعرت بالغثيان. كانت تمارا نائمة. قالت أمّي إن أهمّ شيء في العالم هو الصحّة فلو خسر الإنسان صحّته فماذا سيبقى له؟ فقلت لها: «لا تتكلّمي لأن تمارا نائمة، وإن أردت أن تشكري الله على الصحة فعليك ترك التدخين». في الليل قبل أن نغادر المشفى، جلبوا سلام إلى أمّه لتراه. حملته أمّي. كان نائماً. أخرجت من جيبها عيناً زرقاء ضدّ الحسد مثبّتة بدبّوس ذي رأسَين وعلّقتها في ثوبه الصغير. وبعدما أعادته إلى تمارا، حملتُه أنا ونزعت الخرزة الزرقاء ورميتها في الزبالة.

في الصباح غادرت تمارا المشفى وبين ذراعَيها سلام مقمَّطاً. عندما جاء بها نجيب إلى البيت، كان فؤاد بانتظار أن يرى ابنه. قالت له تمارا في صوت خفيض وهي تضع سلام بين ذراعَيه: «يقال إن الطفل يقرِّب الزوجَين من بعضهما البعض». سألها وكأنه لم يسمع ما قالت: «أتظنّين أنّه يشبهُني أم يشبهك»؟ فأجابته «لا نعرف بعد. إنه ابن يومَين، والطفل يتبدّل شكله كثيراً في أسبوعه الأول».

ظلّت تمارا عندنا ولم ترجع إلى بيتها، بحجة عدم قدرتها على الاعتناء بابنها لوحدها. سلام هو الحفيد الثالث لنا بعد ابنَي إبراهيم، لكنه أول طفل عرفناه ودخل بيتنا، فعندما يستيقظ من النوم باكياً وأمّه غائبة، نهرع كلنا إليه، ونتسابق لإسكاته بحمله أو إطعامه، وأمّي تقول: «لا تحملوا الولد كثيراً لئلا يتعوّد على الحمل. دعوه يبكي قليلاً لأن المرحومة أمّي كانت تقول إن حنجرة الطفل تُصقَل في البكاء فيصبح صوته حلواً حين يكبر». سامي قال لها: «وهل تريدينه أن يصبح مغنّياً»؟ فأجيبه أنا دون أن يتوقّع مني ذلك: «مغنٍّ أو شمّاس في الكنيسة، يخدم إله الشمس أو يردّد صلواتٍ للقمر». فغضب سامي مني: «اسكتي يا قليلة الأدب».

تمارا مثل جميع الأمّهات الحديثات، خافت أن تحمّم طفلها في أيامه الأولى، فطلبت من أمّي ذلك: «حمّميه أنتِ لأني لا أعرف كيف أمسكه».

تتمتم أمّي ببعض الصلوات في الحمّام، وُتعلّم تمارا: «أجلسيه على مؤخّرته هكذا، وأمسكيه من تحت أبطه، كي تسيطري عليه، المرّة المقبلة ستحمّمينه لوحدك... هكذا كنت أحمّمكم كلّكم». وبعد أن تشطّفه، تقف ممسكة به من قدمَيه الصغيرتَين، قالبةً إياه رأساً على عقب، وتمارا تصرخ: «أمسكيه جيّداً لئلا يُفلت، فتنفضه أمّي وتقول لتمارا ألا تخاف فهذه رياضة للطفل، ثم تلثمه من فخذه وهو ما زال مبللاً وتتلقفه أمّه بالمنشفة. ثم تطلب مني أن أناولها حفّاظة. عندها تقول أمّي: «كنت أصنع حفّاظاتكم من قماش القطن الخالص المستورد من سوريا. في القرية كانت أمّهاتنا يستخدمن المبولة للصبي، فهي مرتبطة بالسرير الهزّاز المصنوع من خشب البلوط، في وسطه ثقب مرتبط بأنبوب صغير ينتهي بوعاء تنظّفه الأم في الصباح». وأسألها متعجّبة: «وماذا عن الأناث»؟ فتصرخ بي: «كفى. قومي وأفرغي الطشت من الماء واغسلي ملابس الصغير ولا تنسي استعمال الصابون الأبيض».

كاد سلام ينزلق من يدي وأنا أحمّمه في أشهره الأولى، فلم أعرف كيف أحمله بيد، وبالأخرى أبحث عن قطعة الصابونة في ماء الطشت. ناديت أمّه وطلبت منها صبَّ الماء فوق رأسه ببطء كي لا يختنق، فقالت: «لا تخافـي، إنه يعرف متى يتنفّس ومتى يقطع النفس فلا يتسرّب الماء إلى رئتَيه». سألتها: «أأنت متأكدة»؟ قالت: «الإنسان شرس ويعرف كيف يبقى على قيد الحياة منذ أول يوم له في هذه الغابة، نحن نخاف عليه الآن لكن لو رأيتِه كم كان قوياً لحظة ولادته، وكيف كان يدفع وكأنه يحاربني، ويقاوم الألم وكأن أحداً علّمه ذلك».

أمام التلفاز ذي القناة الواحدة تجلس تمارا وتشاهد برامج الحيوان: «تقوى غريزة الأمومة عندي حينما أشاهد برامج عالم الحيوان، خصوصاً عندما أرى الدببة كيف تحمي أولادها من الخطر».

أحياناً يأتي سلام على هيئة طفل مقمّط ينام بين ذراعَيها وهي تسمع الأخبار في الليالي. تأتي أخبار الحرب منذ ألف سنة، وكأنها تأتي الآن. إنه المذيع نفسه ما زال يقرأ بيان الحرب: «هاجمت القوّات العراقية الأراضي الإيرانية فجراً...». يذيع بياناً بأرقامه الستة. والمعركة الأخيرة خاسرة ككل المعارك، سقط فيها آلاف الضحايا من الطرفَين. مباشرة بعد البيان يأتي صوت فيروز: «يسعد صباحك يا حلو». صوت فيروز منذ 1967 عادة سيئة في الحرب، لأنه أفيون العرب.

عندما تكون وحيداً، ولا يوجد مَن يسمعك، فتلك فرصة للكتابة، لا تدعها تذهب منك. فأنا أكتب باسم الكتابة. أكتب باسم الحب الذي لا يعرفني. أكتب باسم الحرّية التي لا وجود لها سوى في أفكارنا، أكتب باسم التأريخ غير المزوّر، الذي نحن هنا شهوده. أظن أن كل شخص عاش حرباً واحدة على الأقلّ عليه أن يكتب قصته في كتاب يُحفظ للتأريخ.

بعد وقف إطلاق النار، انكسر داخلي شيء، آه كنت في العشرين عندما فقدت عمّي سنحاريب. ما زالت رائحة المسك تفوح من ملابسه النظيفة وتقول زوجته: «كيف أتزوّج بعد رحيله»؟ وأنا أبكي كلما تذكرته. وحده وجه سلام الصغير يبدّد أحزاني. «لا تلمسيه، قالت أمّه، إنه مصاب بالبرد من يوم العماد. طلبتُ من أبيه ألا نعمده وهو صغير لا يفهم. فالطفل لا يعرف ما يجري له عندما يعمّدونه. يعمّدون الصغير لأنه بلا إرادة. فماذا لو كبر وقلنا له ستغطس في الماء، لأن الماء رمز للموت! حقاً لا أفهم كيف أن جيراننا عمّدوا ابنتهم وأقاموا حفلاً كبيراً بفرقة موسيقية ورقص. ولو عرفوا بأني أسأل نفسي كل هذه الأسئلة لقالوا إني مجنونة بل كافرة. أبوه أصرّ على تبليله في الكنيسة. أنت رأيتِ كم كان الجو بارداً يوم عماده. وفي اليوم التالي ارتفعت درجة حرارته. سآخذه غداً إلى دكتور عصام ابن عم فؤاد».

***

بقي يعقوب في بيت ميليندا عاطلاً عن العمل بحجّة أنه يريد أن يبحث عن عمل في تكساس، أو أنه سيرجع إلى كاليفورنيا. وميليندا لها روتينها اليومي. كان يعقوب يستيقظ صباحاً ويعّد القهوة لها ويسقي النباتات الداخلية ويتكلّم مع الكلب بيلي، ويسأل نفسه: «أحقاً أنا في أميركا؟ كيف وصلت إلى تكساس بهذه السرعة؟ الأماكن التي كنت أراها في التلفزيون أراها الآن في الواقع». أبسط الأمور كانت تجعل يعقوب سعيداً، حتى الخروج للتسوّق وقلبه يرفّ متفحّصاً الجمال من حوله. فعندما دخل محلاً للأحذية وصعد إلى قسم الرجال، سألته عاملة هناك إن كان يحتاج مساعدةً للعثور على ما يريد. على الجانب الأيسر فوق صدرها مكتوبٌ اسمها على معدن رقيق بحروف فضّية: «لوام». جميلة وطويلة ورأسها حليق، سوداء كأنها قالب شكولاته شهيّ. تتكلّم بخجل وبلكنة محبّبة. يداها مُغريتان تحرّكهما ببطء وكأنها ملكة توِّجت للتوّ. عندما تبتسم تتلألأ أسنانها البيضاء التي تلائم بياض عينَيها الصافيتَين الخجولتَين. شفتاها مطليتان بأحمر شفاه ذي لون بني داكن كالقرفة. جلس يعقوب فناولته الحذاء وهو يراقب فستانها الأبيض يلامس الأرض كلما انحنت. جرّب الفردتَين ونهض، بينما هي انشغلت بمساعدة زبون آخر. تفحّصها يعقوب، ونظر إلى مؤخّرتها البارزة. شكرها على مساعدتها له. طلب لقاءها خارجاً، فرفضت. قال لها إنه سيأتي إلى المحلّ مرّة أخرى. تذرّعت بأنها لا تملك الوقت فهي لديها وظيفتان. هكذا هي المرأة، عندما لا يعجبها رجل ما تتذرّع بالوقت. سألها من أين هي؟ فقالت إنها إثيوبية.

رجع يعقوب إلى المحل بعد أيام، لكن زملاءها أخبروه بأنها في إجازة. لم يكفّ عن التفكير بجمالها وتفاصيل جسدها وأين سيراها ومع من تعيش وماذا لو كانت متزوّجة أو مخطوبة؟

بعد بضعة أسابيع، رآها وهي تغادر العمل من بعيد. اقترب منها فتذكّرته. أخبرته أنها كانت مع أمّها في زيارة بعض الأقرباء بواشنطن العاصمة. دعاها إلى شرب فنجان قهوة في مقهى قريب. جلسا قرب النافذة. كانت لوام ترتدي فستاناً أحمر وحذاء أسود مع حقيبة أنيقة وضعتها على الكرسي الفارغ بجانبها. جاءت النادلة وسألت يعقوب كيف يحب قهوته: سوداء أم بالحليب؟ فقال في قلبه المحشوّ بالشهوة: «أحب قهوتي كامراتي سوداء وحارّة».

حدّثته لوام عن سنوات الجفاف في بلدها الغني بالأسرار التي لم يكتشفها أحد بعد. «أنا سأكتشفها معك يا لوام»، قال بلهفة. ضحكت. رأى أسنانها المتلألئة فتعجّب. «عليكَ أولاً أن تتذوّق أكلة أثيوبية من طبخ أمّي». امتقع وجهه، فلا داعي لرؤية أمّها فهو بالكاد يعرفها. لكننها أصرّت: «إنها أمّي وصديقتي».

صارا يتقابلان مرَّتَين أو ثلاثاً في الأسبوع. شكّت به ميليندا. ليس من عادته أن يستحمّ كل يوم ويتعطّر، بل ويسألها عن رأيها بتناسق الألوان في هندامه: «أنت لست ذاهباً لرؤية صديق بل صديقة». يعقوب يجيد الكذب إلى درجة أن ميليندا تصدّقه: «إذا لم تصدّقيني تعالي معي لتتعرّفـي إليه أيضاً». فتقول له: «حسناً، اذهب ولا تتأخّر». ميليندا لا تهتم مع من يخرج يعقوب. تجلس وتشاهد البرامج الدينية. الواعظ يتكلّم بكل شيء إلا بالروحانيات: «السماء مغلقة فوق هذه المدينة». تغيّر القناة وتقول: «اذهب إلى الجحيم». ثم تحضن كلبها بيلي وتنام.

تمرّ الأسابيع ولوام تنتظر أن يدعوها يعقوب إلى عنده. لكنهما يتقابلان في المقهى نفسه دائماً. لدى خروجهما ذات مرّة قبّلها بحرارة. طوَّق خصرها بذراعه ثم عصر ثديها. ضحكت وقالت بدلال: «لا يا يعقوب». «تقولينها وكأنك تعنين نعم». أخذها في زاوية شارع واحتكّ بها: «ذات يوم سأنزع حذاءك وألحس قدمك وأمصّ أصابعها اللذيذة مثل أصابع الشوكولاته». قالت له بينما كانت تعضّ أذنه: «أنت جذّاب جداً». رفع رأسه إليها وقال بفضول: «كيف أكون جذّاباً وأنا قصير القامة وأنفي كبير»؟ أجابت: «معظم رجال التأريخ كانوا قصار القامة.أنت ذو وجه جميل يا يعقوب، وكما يقول الفرنسيون: الأنف الكبير لا يشوّه الوجه الجميل».

تجرّأ يعقوب منذ أول يوم خرجا فيه معاً على تقبيلها، ومنذ ذلك اليوم صار يلتهم شفتَيها الملتهبتَين ويدَيها الحارَّتَين. «اللعنة على ميليندا التي لم تترك المدينة ولا لليلة واحدة منذ أن قابلتها. لو أردت أن أُمضي ليلة مع لوام فكيف سأبرّر لميليندا إلى أين أنا ذاهب؟ لقد تعبت من الكذب. عليّ أن آخذ قراراً، فأجد عملاً وأرحل بعيداً عنها وأتعلّم كيف أدفع فواتيري وأعتمد على نفسي، فهي لا تضطجع معي على أي حال. اللعنة. ما كان يجب أن أخبرها بكل ما حدث لي في العراق».

***

في العيادة رحَّب الدكتور عصام بتمارا: «وأخيراً صار لكما طفل بعد كل هذه السنوات من الزواج». سألها عن اسمه وهو يداعبه. «سلام». «وأين أبو سلام هذه الأيام»؟ أجابته وهي تضع ابنها على طاولة الكشف: «بخير، لكنه لا يحب أن يكون على اتصال بأقربائه الطيّبين أمثالك»!

«ما به ابنك يا تمارا»؟ «أظن أنه أصيب بنزلة برد عندما عمّدناه قبل أيام». لم يكن عصام يسمع، كان يتفحّص وجه سلام وينظر إلى عينَيه، لاحظ بأنه لا يرمش تحت الإضاءة القوية أثناء الكشف. فمرّر إصبعه أمام عينَي الطفل فلم يستجب. «هل كل شيء على ما يرام»؟ سألته تمارا. حاول أن يتخلص من الموقف، فنادى الممرّضة من غرفة الانتظار كي لا يواجه هذه الأزمة لوحده. ارتبك ولم يعرف ما يقول. فسألته مرّة أخرى، بعدما نظرت إليه نظرة تهديد: «هل ابني على ما يرام»؟

أُحرج الطبيب وقال بصوت خفيض: «هل من المعقول أن الطبيب لم يفحصه يوم ولادته»؟!

صرخت تمارا: «أتقول أن سلام أعمى؟ ابني أعمى»؟

«أنا متأسّف. كيف لي أن أعرف بأنكم لا تعرفون. مجرّد النظر إلى وجهه يمكّن المرء من معرفة إن كان الطفل يرى أو لا يرى»، قال وهو ينظر إلى ممرّضته التي وضعت يدها على فمها كأنها تكتم صرخة. انهارت تمارا كلياً. ربّتت الممرضة على كتفها، لكن تمارا دفعت يدها وحملت ابنها وضربت الباب وراءها بعنف وخرجت باكية مذعورة لا تعرف ماذا تفعل.

ذُهلنا جميعاً بهذا الخبر، واجتمعنا حول سلام وهو في حضن أمّه. قبّلناه أنا وأمّي طويلاً، وقالت تمارا: «لا تقبّلوه لئلا تحمرّ بشرته». كانت قد بكت كثيراً إلى درجة أنها تعبت كثيراً ودخلت لتنام. حملته وأنا أقبّل رأسه. اقترب مني سامي ووضع يده على رأسه وصلّى. بعد قليل سأل: «أهو أخطأ أم أبواه»؟ تمنيت أن أقول له: «اسكت يا متخلّف»، ثم بعصبية صرخت: «ارفع يدك». قالت أمّي في صوت باكٍ: «ليتها ما تزوّجت وبقيت في بيت أبيها. ماذا ستفعل الآن؟ هي صغيرة ولن تقدر على أن تكون معه طوال الوقت، خصوصاً أنها تريد الرجوع إلى المدرسة. عليها أن تنسى فكرة الدراسة تماماً».

جاء فؤاد عصراً وأخبرته تمارا بأن ابنه أعمى فقال: «نحن لا يوجد في أصلنا عميان، الله أعلم من أين جاءت هذه المصيبة». لم يستطع أن يقول المزيد لأن نجيب كان يحدّق فيه بصمت أخافنا كلّنا. بعدما غادر فؤاد البيت غاضباً، فتح نجيب فمه: «لو كان فؤاد آخر رجل في العالم لما كان يجب أن تتزوّجيه». بدأت تمارا تبكي: «هذا الكلام فات أوانه. لم تقل لي هذا في البداية».

قال نجيب لأمّي: «لماذا تزوّجت تمارا؟ كان عليها إنهاء دراستها». ونظر إليّ: «أنتنّ البنات ما إن تصلن العشرين حتى تحسبن أن قطار الزواج فاتكنّ». قلت له: «لماذا تقول لي هذا الكلام؟ أنا تجاوزت العشرين ولا أريد الارتباط». قال بخبث: «الذي يقول إنه لا يريد الزواج، يكون متحمّساً للزواج في الحقيقة أكثر من الذي يتكلّم على الزواج طوال الوقت». وافقه عدنان. قلت لعدنان: «أنت بالذات اسكت. أنسيت كم كنت متحمّساً للزواج قبل سنتَين»؟ أجاب: «كنت صغيراً. الشاب ليس كالفتاة، إنه ينضج بسرعة». خالفته الرأي، فقالت تمارا: «بالله لا تقولوا ليعقوب وإبراهيم إن ابني أعمى». علَّق عدنان: «ما هذا الذي تقولينه يا تمارا؟ ألا تريدين لأخوتك أن يشاركوك أحزانك»؟ «الأخبار السيّئة لا يحتاج إلى سماعها أحد»، أجابته تمارا بصوت ملؤه بالشجن.

تكلّم غالب هاتفياً مع أمّي: «كان حزننا شديداً أنا وزوجتي عندما سمعنا بأن حفيدكم أعمى. ابنتي ستتزوّج وأنا أدعوكم بنفسي إلى الأكليل. قولي لنجيب أن يتصل بي وأنا أدعوه دعوة خاصة كي يأتي ويحضر زفاف ابنتي الوحيدة».

لم يشأ نجيب أن يردّ على ابن عمّه. فأرسل غالب للمرّة الثانية دعوة يقول له فيها: «لنتوقّف عن النزاع لئلا نُفني بعضنا البعض. والدم الذي يربطنا أكثف من الماء الذي نتخاصم عليه». قالت أمّي لنجيب: «أنت حرّ في أن تقبل الدعوة أو ترفضها، إنما للقتال وقت وللسلام وقت». فكّر نجيب: «سيكلّفنا اتفاقنا المشوّش التوقّف عن استخدام العنف. لقد اخترت أعدائي بحرص، أما أقربائي فلا أدري كيف حدث أن صاروا في حياتي. اللعنة على السلام».

نصح سامي نجيب: «اذهب إلى غالب وهو سيتفاهم معك على تقسيم الأرض.فطالما أنتما تتحاربان لن يعطيك شيئاً، لكن إن أصبحتما صديقَين وقريبَين حميمَين، فلا بدّ من أنه سيقنع عمّي فيعطيك نصيبك». انتفض نجيب: «إنهم ينصبون لي كميناً. يظنّون أني ساذج مثل أبي».

قالت أمّي: «مرحوم داود، دائماً تلومه. حسناً. إن لم تكن تريد أن تحضر حفلة الزفاف فعلى الأقل اذهب واحضر الليلة التي تسبق يوم العرس».

وصل نجيب متأخّراً كي يتفادى الكلام مع أولاد عمّه، وجلس على حافة الأريكة مع بعض الأقرباء الذين لا يراهم إلا في المناسبات ورفض أن يأكل. جاء نادان وجلس بجانبه وقال بينما كان يصبّ له العرق في كأس رقيقة ورفيعة: «أتريد الحقل الشمالي أم الجنوبي»؟ أجابه نجيب بعدما دفع الكأس رافضاً أخذها: «لا هذا ولا ذاك. أريد ما تركه جدّي لابنه ولعمّتنا فريدة». «لو أعطيتكم الحقل الشمالي فماذا ستفعلون به؟ أنتم كسالى، وأعرف بأنكم لن تزرعوه».

«هذه ليست مشكلتك. أفهمت»؟ أجابه ثم خرج لائماً نفسه على المجيء.

ذات نهار دافئ جاءت شيرات لزيارتنا. وسألناها: «ما هو هذا الخبر الذي سمعناه عن الأرض»؟ فقالت: «ابنة غالب أسقطت نفسها عن الحمار في طريقها إلى بيت زوجها. فسألها أبوها ما لها فقالت: «هَبني بركة». فأعطاها الحقل الشمالي وينابيع المياه العليا وينابيع المياه السفلى أيضاً. فصرخت تمارا: «نجيب سيموت لو سمع الخبر». قلت لها: «لا تخافـي. هو قوي. ثم أنه سيجد مشكلة أخرى ينشغل بها غير الأرض. الآن يكون قد سمع الخبر. فالأخبار السيّئة تصل بسرعة، وهو بالذات يتلهّف إلى سماعها. لأنه لا يكون سعيداً إلا إذا كان شقياً».

قالت شيرات معتذرةً: «سنبقى غريبات في بيوت آبائنا وأخوتنا. ها هم يعطون الأرض لبناتهم لكننا غداً سنتركهم إلى بيت الزوج...». علّقت تمارا وكأنها تُكمّل لشيرات جملتها «نترك السجن الموقّت إلى السجن المؤبّد».

***

قرّر يعقوب ألا يكذب كثيراً على ميليندا، ذاك أنه لا يوجد شخص يتمتّع بذاكرة خارقة تمكّنه من استعادة جميع التفاصيل التي لم تحدث. ميليندا ساذجة طبعاً، عرف ذلك منذ اليوم الأول، حيث طلبت أكلاً خفيفاً في الفندق وملّحته قبل أن تتذوّقه. الأغبياء فقط هم من يملّحون أكلهم قبل تذوّقه.

دعت لوام يعقوب إلى بيتها. «وأمّك»؟ «أمّي ستطبخ أكلة تقليدية من قريتها». لم يستطع يعقوب أن يرفض. التقيا عند باب العمل، وانطلقا بسيّارتها الصغيرة.

جلبت الأم ثلاث صوانٍ مدوّرة. في كل صينية كانت قد صبّت باعتناء فوق خبز الأنجيرا, شيئاً من السبانخ، وفي الوسط وضعت سمكة مشويّة. أيضاً شرائح من لحم الغنم المتبّلة بصلصة الفرفر مع سلطة الملفوف والجزر. أكل يعقوب مثلهما بغمس قطعة صغيرة من الخبز في الأكل الساخن. قالت الأم بعد صمت: «السمك في إفريقيا أطيب من السمك هنا لأنه يأتي من بحيرات الماء العذب». كان يعقوب يراقب الأم بلهفة وهي ترفع اللقمة إلى فمها وتلتهمها بشهيّة. ثم أكملت: «أنهيتُ دراستي بعدما كبرت ابنتي وصار عمرها ثلاثة عشر عاماً. النساء الإفريقيات يعرفن ما يردن. لقد تعبت في حياتي بعد موت زوجي. فهاجرنا أنا وابنتي، كنت أدرس وأعمل في الوقت نفسه. الحياة هنا صعبة كما ترى لكني كل سنتَين تقريباً أرجع إلى أثيوبيا». حدّثته عن القرية غير البعيدة عن خط الاستواء من حيث جاءت وعن أمّها التي ما زالت تعيش وترتدي الثوب الإفريقي الملوّن وهي المرأة المسنّة الوحيدة في القرية التي تلوك القات: «للأسف أبي مات قبل أن تراه لوام، كان رجلاً شهماً يفتخر بأصله الإثيوبي ويردّد: أنا أيضاً مثل حفيد سليمان السابع والخمسين بعد المئة، وملكة سبأ جدّتي أيضاً. من يدري قد أكون أنا أيضاً أمير الشمس الإفريقي، الرجل الذي اختارته العناية الإلهية. كان لأبي فرصة أن يمتلك حصاناً لكنه قال: لن أركب حصاناً، فالمسيح لم يركب سوى الحمار، هل أنا أفضل من المسيح؟ أمّي ما زالت في القرية تركب الحمار. الحمار هو أفضل صديق للمرأة الإثيوبية».

امتقع وجه يعقوب عندما سمع ذلك. انشغلت لوام وأمّها بالحلويات وإعداد القهوة بعد العشاء. «إفريقيا معروفة بالسحر لكن ليس في قريتنا، فنحن نحب ونحترم الله ولا نتعدّى عليه»، قالت لوام. حدّثته عن تأريخ إثيوبيا وعن الملك المخلوع والرئيس الحالي والبحيرات الهادئة. عن جدّتها التي لا تصاب بالملاريا لأنها تملك ناموسية غير مهترئة في حجرتها. قال يعقوب متهكّماً: «نحن استوردنا من القارة السوداء الأبنوس المرغوب به في جنوبنا البائس، وبالتحديد من زنجبار، العظام السوداء المحشوّة بالعاج المهرَّب. فلمَ نبدِّد ثرواتنا على إطعام أطفال جاحظي الأعين ببطون منتفخة، كأطفالنا»!

بعدما اختفت أمّها في الممرّ المفروش بسجادة حمراء، قالت لوام: «لقد حان موعد نومها. أمّي تحب روتينها، تنجز الأشياء اليومية بدقّة، ولها طريقتها الخاصة في النوم والأكل فهي تقسم بيضة الفطور إلى ثلاثة أقسام وتأكلها مع خمس زيتونات، وبعد الظهر تذهب مشياً لشراء جريدتها المفضّلة. خمس مرّات في الأسبوع».

رفّ قلب يعقوب فرحاً لأنه، في الظلمة عند عتبة الباب، سيقّبل لوام قبل أن يغادر. سيشدّها من ذراعها ويلصقها بالحائط ويبلّلها بالقبلات. صمتا للحظات. كان المطر ينقر على سقف البيت. همست لوام ضاحكة: «أمّي دخلت غرفتها ولا أحد يقدر أن يوقظها». كان يعقوب طوال الأمسية يتخيّل شكل غرفة لوام. طلب منها أن يرى حجرتها. لكنها قالت بحياء إنها لا تستطيع. فكّر يعقوب بأن أفضل مكان هو مدخل البيت أو المرآب خلف سيّارتها. أما هي فقالت وهي تقبّله وتسحبه من يده: «لنجلس في سيّارتي». سألها: «ماذا لو فتحت أمّك الباب»؟ «لا تقلق، إذا أتت أمّي سأفتح باب المرآب بمفتاح التحكّم من بعيد ونتظاهر بأننا على وشك الانطلاق. سأترك المحرّك دائراً». كان المرآب الصغير مظلماً، وفي زواياه الكثير من الصناديق القديمة والجرائد. جلست لوام خلف مقود السيّارة. قبّلها يعقوب قبلة طويلة. فكّ أزرار ثوبها فقفز نهدها الأيمن. لكنه أراد وضع النهد الأيسر في فمه قبل الأيمن. ثم رفعت فستانها وتحسَّس يعقوب ساقَيها. أخذت يده ووضعتها بين فخذَيها: «انظر ماذا فعلت بي يا يعقوب. أوه كأنك تعرفني منذ أعوام». كان المكان ضيّقاً لذلك اقترحت لوام أن يستلقيا في المقعد الخلفي. اضطجعت وساقاها تتدلّيان من المقعد. قفز فوقها بينما هي تفكّ حزامه وهو يرفع فستانها ويلثم ثديها الأيسر وكأنها بين يدَيه تمثال برونزي لنحات ذوّاق. تعرَّق يعقوب فوقها وقبل أن يلتحما قال لها بأنه يريد القليل من الهواء. فشغّلت المحرّك والمكيّف. كانت شبابيك السيّارة قد تبللت من الداخل بأنفاسهما. تأجّجت مشاعر يعقوب عندما شعر بحرارة فَرجها. بعد عشرين دقيقة، شعرا بالتعب وكانا يتنفّسان بصعوبة فقد وصلت هي إلى الذروة وبعدها شعرت بحرارة حليب يعقوب. تملكّهما النعاس وناما مبتسمَين.

في الصباح، لم ترَ المرأة الإثيوبية ابنتها في غرفتها فخمنّت أنها خرجت تتمشّى. لكن بعد دقائق وهي في المطبخ، شمّت رائحة عادم سيّارات. بعدها رأت دخاناً قادماً من جهة المرآب. فتحت الباب الصغير المؤدي إلى المرآب من المطبخ. كان الدخان يملأ المكان، فهرعت إلى السيّارة. لم ترَ شيئاً بسبب كثافة الدخان. غطّت أنفها. فتحت الباب الخلفي للسيّارة ورأت ابنتها نائمة عارية تحت يعقوب. سحبت جثّته من فوق جسد ابنتها. كان ثقيلاً. أطفأت محرّك السيّارة وهي تنادي: «لوام لوام»! حاولت أن تركض إلى الهاتف. لكنها عادت تنادي ابنتها مرّة أخرى دون جدوى. سحبتها إلى الهواء الطلق خارج المرآب. اتصلت بالإسعاف وهي تبكي. رجعت إلى جثّة يعقوب ورفستها ثم صرخت من الخوف والصدمة. قفزت فوق بطنه المكشوفة فسالَ شيء أسود من فمه يشبه الصديد، فصرخت باكية: «يا ابن الحرام! ليتهم يدفنونك مثل سنجاب ضربته سيّارة في الشارع».

حين سمعت أمّي بخبر وفاة يعقوب، بكت كثيراً: «لا تخبروا للناس يا أولادي كي لا يضحكوا علينا ويقولوا ابنهم مات في أميركا أبشع ميتة».

قلت لها: «يا أمّي، الأمور التي نُخفيها عن الناس تنكشف أسرع مما لو أعلنّاها. الأمور التي نكشفها تُنسى بسرعة. الناس ستتكلّم وتنسى. ثم إن يعقوب كان معروفاً بحبّه للمجازفات». كان المعزّون يدخلون ويخرجون ثم يختفون بسرعة مثل أشباح. كنت قلقةً على نجيب وهو بعيد. أصدقاؤه يسألون عنه ولا ندري ما نقول لهم. هو مشغوف بأرضه ليس لأنه يريدها، بل لأنه عرف بأن غيره يشتهيها. حتى أن أمّي قالت: «لن يأخذ شبراً من الأرض حتى يدفع ثمنه غالياً؛ سيكلّفه حياته. ألا يكفي أني خسرت يعقوب. قولوا له أن يرجع».

في غمرات حزنها كانت تقول: «كيف سأصدّق موت يعقوب. ليتكم قلتم لإبراهيم أن يرسل جثمان أخيه». لكن عدنان يردّ: «أتعرفين كم هي مكلفة عملية شحن جثّة بالطائرة؟ سيكلّفنا موت يعقوب أكثر من حياته». فتقول هي: «الأم تحب أن تبكي عند قبر ابنها».

كنت طوال النهار أتنقّل بين المعزّين موزِّعةً القهوة المُرّة عن روحه. المعزّون يثرثرون فقط. لماذا نسمّيهم معزّين إن كانوا يفعلون كل شيء عدا العزاء؟

تعبت فخرجت إلى الشارع وحدي وأسناني تصطك بعضها ببعض بحركات غير إرادية حتى أُنهكت عضلات وجهي. تسكّعت لساعات ورأيت عاهرة تتمشّى في ظهيرة قائظة كالوباء في المدينة. قالت لي كلاماً لا يليق أن أخبره سوى لأمّي.

هربنا إلى الجبل مدّة سبع سنوات نحو الشرق، وكانت تمارا معنا.

قالت أمّي لسامي قبل أن نرحل: «اصعد إلى جبل سهدوثا يا بنيّ حتى ينقضي زمن الجوع».

لا أحد يعرف ما الذي يحدث هناك فوق الجبل سوى الذي صعد إليه. عندما وصل سامي إلى سهدوثا بعد سفر يومَين، سأله الكاهن: «على مَن اتّكلت يا سامي»؟ وأعطاه رزنامة مكتوب عليها «الرب قريب». «لا أحد يتوب عن شرّه في تلك المدينة»، قال الكاهن الذي كان لا يأكل سوى الخُضَر النيّئة باستثناء الفطر المحرّم. هو الذي صار كاهناً في نهار خريفي، في زمن شحّ الكهنة وفراغ الأديرة، كان يهيم في الشوارع في انتظار أن يحدّثه الله، لأنه لم يملك وقتها شيئاً آخر أفضل يفعله. ماذا لو لم يمرّ بجانب ذاك الإعلان المتروك على الحائط «إن كنتَ في انتظار علامة من السماء كي تصبح كاهناً فهذه هي العلامة». كان يتعرّى كل ليلة قبل النوم بحجّة أنه لو مات فجأة فإنه سيُردِّد مع أيوب: «عرياناً ولدتُ وعرياناً سأموت». يتساءل: «من يضمن أني سأستيقظ وأيّ قوّة هي التي ستوقظني كل صباح؟ جسدي مُعدّ للموت، بل مسبوك للزوال، لذا عليّ الانشغال بالموت أكثر من الحياة».

في ليالي الطين الطري تخرج الديدان لتشّم رائحة البشر، أولئك الذين على وشك الرقاد، لذلك كان يجب إمساكها من رؤوسها اللزجة وجمعها في وعاء يبيعه سامي سرّاً لبعض صيّادي السمك، فيعطونه السجائر الرخيصة كي يدخّنها عند منتصف الليل: «الآن كل ما أريده هو إعادة تشكيل الكلمات التي لا أرغب بسماعها حتى تناسب استقراري الروحي».

***

في المساء اجتمع الرهبان على ضوء الشموع وعلى غفلة قفز أحدهم وصرخ: «الله هو المحبّة والمحبّة هي الله». فربطوه وهو يصيح: «ألم يقل لنا ذلك الكاهن الأعلى؟ لا أريد أن أشاكل أهل هذا الدهر». تساءلت في قلبي: «لماذا قفز كالمجنون»؟ وسألته في اليوم التالي ماذا قصد بـ«أهل هذا الدهر»؟ أكان يعني العالم؟ وماذا به العالم؟ إن كان رديئاً فلماذا أصلاً وُضعنا فيه؟ حدّق بي قائلاً إن شهوة الشرّ إلى حين أما شهوة الشهوة فإلى الأبد! وتركني.

شرح لي جودت الراهب وهو يمشي معي في الرواق الممتدّ بين الهيكل وحجرات نومنا: «ربّما كان يقصد بأن الله وضعنا في العالم ليختبرنا على أمل ألا نختار العالم»؟ «لكني لا أفهم أني جائع وشبعان الآن. الجوع كالشبع، كلاهما يتركانني في يأس». «لنناقش هذا الأمر في ما بعد» قال جودت.

اكتشفتُ فوق جبل سهدوثا، بأن الصور تتحوّل إلى كلمات وليس العكس. في اليوم التالي وقبل أن أغسل وجهي، صرخ الكاهن الأعلى: «قوموا لنصعد في الظهيرة». كانت الريح ساكنة والصمت مخيف. سمعت صوت رموشي وهي تتحرّك. خفت أن يتكلّم معي الله ويفضحني أمام الغرباء. بعدها، وقف الكاهن وقال: «عندما يكون الإنسان غنياً فهو يملك بعض الأشياء، لكنه عندما لا يملك أي شيء فهو يملك كل شيء». وهمس الراهب الجالس بجانبي: «لماذا تغمض عينَيك عندما تصلّي»؟ ثم ضحك وأعطاني كتاباً صغيراً: «إياك أن تفتح هذا الكتاب إلا اذا كنت مستعداً لتغيير حياتك إلى الأبد». خفت أن أفتح الكتاب، فغضب الرجل وسألني في المساء نفسه: «لماذا لم تفتح الكتاب»؟ فأجبته: «ظننت بأن حياتي ستتغّير كما قلت. أأنت غاضب مني»؟ «لا، أبداً وحتى لو غضبت فالغضب صحّي لأن لحظات الغضب هي أكثر اللحظات صدقاً»، أجابني ثم قال بأن ركبتَيه ضمرتا بسبب السجود: «إياك أن تسجد إلا وأنت متكئ على رأس عصاك (ضحك) حلمي أن أرى بعينيّ الله واقفاً. أريد أن ألتصق به كي أتعلّمه. هو من قال إن السقوط تلا الخليقة مباشرة»؟

صرختُ في وحدتي: «اللعنة، في رأسي ترانزيستور يستقبل موجات وإشارات من الجهات كلّها». لكني لم أعد أحتمل الأصوات، خصوصاً تلك التي تعنيني. طلبتُ من جاري: «أعطني معولك كي أحفر لنفسي صومعة». «لا. لن أعطيك معولي لأني أعرف بأنك رجل سيصقل جبلاً في صومعته وليس العكس». أجابني: «على فكرة، سأنزل مع الرجال وبالمعول سأحفر في العمق».

بعض العناصر التي طفت على السطح بفعل التقليب المتواصل للتربة التي لا تتذكّر طعم المطر منذ سنين، كادت تفنى، لذلك صلّينا إما أن يرسل إلينا الله المطر وإما أن يبعث لنا صانع المطر. لكنه أرسل لنا زلازلَ صغيرةً كما في الماضي. كنّا نحفر بيأس ونعثر على الماس مرّة ونتخلّص منه، ومرّات كثيرة على الفحم ونستخدمه. الفحم الذي يكلّفنا استخراجه أكثر من قيمته الحقيقية.

التحق بنا راهب غريب بعدما دعوناه في حلم هذه المرّة. دعوناه أنا والكاهن الأعلى، في فجر يوم شربنا فيه بولنا، نحن الذين شهدنا الجفاف الكافر. فمن الجبل المجاور دعونا السيّد الياس صانع المطر. لم يكن مجيئه ترتيباً سماوياً، قال الكاهن الأعلى، جاء الياس ومعه بخوره وأعشابه التي نبتت في برّية الجبال العطشى، أما صلواته فكان قد ضيّعها حين وضعها في صندوق انجرف مع آخر فيضان شهده النهر حين ارتفعت المياه النابعة من الهضاب المحيطة ببرّية جبله وليس جبل سهدوثا. الأمطار التي استحال إيقافها فوراً بعد صلوات الاستسقاء فصعد إلى قمّة سهدوثا وصعدنا معه ورأينا منظر الفيضان. طلبنا منه أن يصلّي هذه المرة بحذر وأن يطلب غيثاً فقط. صلّى ثم قال لنا: «في الوقت المعيّن سيهطل المطر». الياس توارث الصنعة عن الأجداد. كل المطلوب منه من أجل الحفاظ على المهنة وإجادتها، الاستماع إلى الإعلانات الروحية في الأحلام، والقيام بمراقبة حركة الحشرات من حوله وسلوك النباتات وسرعة حركة الرياح التي تنذر بمجيء المطر. مجيئه أو تأخّره. الكاهن الأعلى لم يصدّق، طبعاً، وقال إن هذا النصّاب الياس يظنّ بأننا لا نفهم وبأننا نحسب المطر نعمة وبأن المطر هو مجرّد بصاق الملائكة المتواصل على الأرض. أذكر أننا نحن أيضاً رأينا غيمة صغيرة بحجم كفّ صاعدة من جهة البحر. اقتربت مركبة نارية فوق سهدوثا وانفتحت أبوابها وخطفت الياس! أما صاحبه أويشا فعندما رأى المشهد صرخ: «إرمِ لي بثوبك كي يكون لي ضعفي من روحك». فرح كثيراً بالرداء وبينما كان عند النهر سقط رأس فأس أحدهم في الماء، فاستغاث بالنبي الأصلع حينما كان يعمل، فقام أويشا بقطع خشبة ألقاها في الماء، فطفا رأس الفأس، فمدّ الرجل يده والتقطه. استغرب الرجل وسأل: «أأنت ساحر»؟ «بل نبي»، قال أويشا، «أرجوك. لا تحاول أن تجد تفسيراً منطقياً لعوم الحديد على السطح بسبب قطعة خشب. فقط آمن وكفى». أما الياس فكان قد صعد إلى مدينة الرب ونحن بدأنا نحفر الآبار ونشرب.

تخلّصت من المعرفة التي تؤدي إلى التوبة، وصلّيت إلى الله وأنا أنظر إلى الأفق بأن يعطيني القوّة الخفيّة التي وحدها قادرة على خلق الأشياء في هذا المكان الخالي تماماً من العالم وشهواته. «صلِّ معي يا أخي»، قال الكاهن الأعلى, لكني كنت مسبقاً أصلّي للروح التي تفحص كل شيء حتى أعماق الله. أعترف بأني ضعيف. «أترى بأن ضعف الله أقوى من قوّة الناس؟ حين يولد الطفل تولد معه الخطيئة، لذلك نحن هنا فوق جبل سهدوثا». أكملت صلاتي وكأني لم أسمع ما قال: «جوّعني يا الله إليك وخوّفني منك»!

«إسمع يا سامي - قال لي الكاهن - مكتوب بأن تاركي الرب سيفنون. لا تحتقر ضعفك لأن ضعف الإنسان يُظهر قوّة الله».

كانت أفكاري في ذلك المساء عن الله أسرع من البرق. رجعنا إلى الهيكل ورائحة

العدم تملأ المكان، وكان صوت الضمير هادئاً وغير مخيف هذه المرّة لأننا كنا قد امتلأنا مسبقاً بروح الإرشاد الذي لا يقود إلى أي مكان كوننا اخترنا البقاء بعيداً عن الوادي. قلتُ، رغم عدم تأكّدي من كلماتي، بأن رغبتي بمعرفة الله ليست أقل من رغبتي بأن يعرفني الله. كل ما في جسدي هو أداة لا تخدم مشيئة الله ولا ترضيه. سحقاً لماذا تذكّرت بأن لي جسداً؟ ولماذا عليّ أن آكل؟ أنا الذي ظننت بأني قادر على الصوم. اكتشفت بصعوبة موقع عصب الجوع في جسدي الموهن، فبدأت أتحكّم به، لذلك بقيت في شعور دائم بالشبع وعرفت كيف أحوّل الطاقات إلى مخزون يكفي ستة أشهر، عندها يدخل الجسد في شبه سبات. ثم فقدتُ نصف وزني. بعدها تهللت وقلت إن الله الآن قادر أن يرى من خلالي. استيقظت مبتسماً ذات صباح وأنا موقن بأن عقاب الأشرار ليس عذاب جسدهم أبداً بل عقابهم هو ألا يكونوا في الحضرة الإلهية إلى الأبد لمقابلة وجه الله. كان الهواء بارداً جداً إلى درجة أنه لفح أسناني فبدأت بالنخر. طلبتُ حلاً من الكاهن الأعلى. قال: «الله خلق كل شيء كاملاً عدا أسنان الإنسان. تنبت للقرش سنّ في كل مرّة يفقد فيها سناً». «ماذا عنّا نحن أرقى المخلوقات»؟ لم يردّ، بل قال: «أريد أن يكون جميع الرجال هنا كما أنا». كان مرهقاً كونه خاض حرباً مع نفسه، وانتصر لأنه قال إن أعمالنا وأفكارنا لا تقود إلى أي انتصار. الانتصار الحقيقي هو الذي يأتي من الرب. أليس مكتوباً: «أنا الرب أحارب عنكم»؟ كل ما علينا فعله هو الاعتراف بضعفنا لتحلّ علينا روح هرقليس. الحرب الوحيدة التي ننتصر فيها هي الحرب التي نخوضها في العالم اللامرئي؛ هناك في الصراع مع أجناس الشرّ الروحية في السماوات، في مملكة إبليس، في الهواء تحديداً. لا توجد خسارة إذا كان المرء يحارب باسم الرب كما تقول الكلمة. تركته وقلت في نفسي: «الويل لي لأني أستخدم قدميّ ويديّ أدواتٍ للخطيئة». قرّرت أن أرمق جسدي بنظرة أخيرة فاستعرت المرآة التي في مخدع أحد الكهنة وتعرّيت في المساء. فأنا لم أتعرَّ منذ وصلت، وتعجّبت من المنظر القبيح، فتساءلت: لماذا لوّثت عيني بهذا المنظر؟ وصرخت أيضاً، فقفز الراهب النائم في الغرفة المجاورة، وعندما عرف سبب خوفـي ضحك لأنه قبل سنوات تعرّى هو أيضاً. جئت إلى العالم مبللاً، جائعاً وعارياً فلماذا لا أبقى كذلك طوال حياتي؟ لا بدّ من إعادة النظر في حياتي الفانية، فكّرت ثم اعتزلتهم فاكتشفت بأن للحياة المختبئة سرّاً لا يعرفه سوى ذاك الذي اختبر التماع الوجه بعد غياب أكثر من أربعين يوماً والتيه فوق جبل سهدوثا. استنزفت أحشائي الروحية قسراً، بعد غسيل الدماغ المتواصل، إذ قيل لي إن بالإمكان العيش إلى الأبد لو فرّغت ذاتي من ذاتي ومتُّ عن الجسد ووضعت رغباتي جانباً عدا رغباتي الروحية. وما إن فعلت ما نصحوني به حتى أدركت أن لي جسداً وأحببت نفسي كما لم أحببها من قبل. آه. عندها انفتحت السماء تحت سقف غرفتي، وتحوّلتُ رجلاً آخرَ، وبدأت أتنبّأ وكنت جاهزاً لمواجهة الخطر حتى مع تكاثر أوجاعي. طلبت من روح القيادة أن تأخذني خطوة خطوة، وإذا بها تقودني قفزات لم أكن مهيّأ لها، فتوسّلت إليها أن تتركني أرجع إلى ما كنت عليه في البداية، أي بداية الخليقة؛ خليقتي أو ولادتي أو ما شاء الناس تسميتها. أقفلت الأبواب خلفي، والشبابيك أيضاً، في انتظار معجزة تخلّصني من المعجزة الأولى، لكن شيئاً ما بدأ يتّجه نحوي في المغيب، شيء يشبه أفكار الناس رغم أني كنت وحيداً. بدأت تتسرّب أصوات الآخرين بوضوح من صنابير المياه الصدئة، ولم يكن من مفرّ. بدأت بتقيّؤ أحشاء أحشائي للمرّة الأخيرة وإذا بروحي تنزلق مع القاذورات. حينها عرفت أن عليّ البحث عن حلول. حلول ربّما ستزيد المشكلة تعقيداً مثل حضور العدم. أنا لن أنتظر حتى يوم القيامة، الآن سأخلع جسدي هذا وأرتدي الروحاني إلى الأبد وإن فشلت، فحتى ذلك اليوم، يوم القيامة، سأتظاهر بأن هذا الذي يجذبني إلى أسفل ليس لي.

في أحد الأيام فكّرت بوضوح وقلت بعدما أرهقني الجسد وكان لي رغبة شديدة بأن أدخّن، أنا الذي لم أدخّن من قبل، للهاوية أحشاء وللأحشاء هاوية. فما يهمّ، إن امتلكت السلطان أم لا؟ وما نفع القوّة المستعارة التي لا تنبع من الداخل؟ لأني في النهاية أنا أيضاً بجسدي أو من دونه سأرى الله. تملّكني إحساس بالوحدة القاتلة ورجعت مع الرجال فتعرّفت إلى الراهب الجديد. جاء من بعيد إذ عرف بأننا نرى في عزلتنا رؤى، لذلك أراد الانضمام إلينا. أيضاً سمع بأننا على جبل سهدوثا لا نحتاج شيئاً. هو وحده الذي تعلّقنا به رغم قصر فترة إقامته معنا. فكان كلّما وبَّخنا أحببناه أكثر. هو الذي قال: «أتعرفون بأني لم أعرف ما هي الشهوة حتى قال لي أحدهم: لا تشتهِ». كنا نعرف أنه يستعير أقواله من القدّيسين. رافقته في رحلته إلى القمّة مع رهبان شبّان. فكّرنا بالرجوع في منتصف الطريق لأن البرد كان قاسياً جداً لكننا بقينا نمشي. وظهر في الفجر ملاك، بعدما سهرنا طوال الليل نمارس التأمّل وكنت أصلّي صامتاً، سألنا منفردين عن رغبات قلوبنا. «ماذا عن الروح التي تفحص كل شيء حتى أعماق الله»؟ سأل ثم أضاف: «لا تخافوا أن ترغبوا». سألني أنا تحديداً بينما كان يهزّ كتفي هزّات خفيفة: «ماذا تريد أن أفعل لك»؟ وبعد صمت طويل أجبته: «لا شيء». في اليوم التالي ظهر أيضاً وطلبت منه المغفرة وشعرت بالذنب وصلّيت أيضاً: «يا رب اغسلني». الملاك أكل ومسح فمه وغادر ولم يسمح الوقت لأقول له بأني لم أكن أدعو كي تتحقّق رغباتي في السماء بل كي تكون مشيئة السماء هنا على الأرض، على الأقل أرضي. لم أفهم ما قاله قبل أن يموت آخر راهب دفنّاه هنا. هل الصلاة مثل ممارسة الحب عليها أن تتمّ سرّاً وليس في الأماكن العامة، أم أن ممارسة الحب مثل الصلاة؟ هو شهد الحضور الأبدي للأشياء والأبدية الحاضرة في الأشياء، ونحن كنّا قد عرفنا الكائن الأبدي الذي إذا ظهر فسنكون مثله في كل شيء. حتى قبل أن يقول لنا هو. أعرف أني سأصرخ: «احمل خطايانا عنّا لأنها ثقيلة. اللعنة، كلنا قتلة أبناء قتلة حتى لو لم نرتكب القتل بأيدينا. قتلة لأننا كرهنا بعضنا البعض ونقصت أعمارنا وها نحن في انتظار أرض جديدة مصنوعة من الماء وبالماء».

صرخت في نومي: «ويحي لي جسد». الراهب قليل الحياء في الصباح قال بتهكّم: «طبعاً لك جسد. ألست أنت من تحب التسكّع فوق المياه الفضّية في زمن الطوفان؟ قد لا ترى ظلّك فوقها. أنا أعرف كل شيء عنك، وأعرف أنك لا تحب أرض سهدوثا المقفرة». «لكني لا أقدر أن أتلفّت. لأني أخاف، ولو خفت سأستنجد حتى لو كنت أعرف السباحة، يا إلهي نجِّني». لكني سمعت صوتاً يردّد: «اصعد إلى قمة جبل سهدوثا. تطهّر هناك وسأُريك ما سيحدث بعد ذلك». توهّج وجهي بنور ساطع، لكني لم أعد أحتمل افتعال القداسة ولا أقدر على تقديم جسدي ذبيحة مقدّسة لإرضاء الله. قلت له إني أرفض الصعود لأني خاطئ وأريد أن أصلّي صلاةً لم يرفعها غيري أمام عرشه المقدّس.

دخلتُ إلى غرفتي وشعرت أن جدران المخدع تتحرّك صوبي. أغمضت عيني وأنا مستلقٍ. بعد دقائق، لا أدري لماذا فتحتهما، رأيت شرخاً في الحائط المقابل لفراشي لم يكن هناك من قبل. ذهبت في اليوم التالي إلى الكاهن الأعلى وقلت له: «كنت بحاجة إليك البارحة فلم أجدك». فاقترح تأجيل الحديث إلى ما بعد الطعام. كان يقصد الطعام الروحي أي الصلاة. وعند انتصاف النهار مشى نحوي حيث الضوء ينبعث من الشبابيك الصغيرة في الممرّ المظلم الرطب وهو يتمتم بكلمات مبهمة. أغلقَ بابي، ثم خرج هازّاً رأسه ورحل عنّي دون أن يقول كلمة. أحسست برغبة عميقة في النوم فوراً، رغم أن الشمس كانت عمودية فرقدت. استيقظت وقت المغيب وعرفت بأن صلاة المساء قد فاتتني، ففرحت وحزنت في آنٍ واحد لأني تحاشيت رؤية الكاهن الأعلى لعلّه ينسى ما حدث. الغريب أني لم أكن جائعاً. معدتي كانت خاوية وصوتها يكاد يُسمع في مخدع الراهب الجديد الذي بين ليلة وأخرى يسهر إلى الفجر من أول يوم لظهور الهلال إلى أن يكتمل في اليوم الرابع عشر. قبلها بليلتَين تنصّت على صلاتي وسمعني أتوسّل: «أرجوك اتركني فلم يحن الوقت». سمع قرقعة قادمة من حجرتي وكأن الأرض انشقّت وابتلعتني. جاء ليطمئنّ عليّ. إنه الكاهن الذي يكتب باليد اليمنى ويأكل باليسرى، المغرم بالأرقام والأشكال الهندسية، ويقول: «انظروا حولكم بتعجّب. أليس كل ما حولنا يريد أن يقول شيئاً عبر الأرقام؟ أنا قادر على أن أشمّ الأرقام. أن أتحسّسها. هي أرقّ شيء على الأرض. أستطيع أن أرى ألوانها البرّاقة». كان يستيقظ في الليل ليغنّي ألحاناً بلا كلمات، بل يدندن أرقاماً ويرتّلها وكأنها نصوص مقدّسة. كان يهمس لنا بأن للأرقام قوّة خارقة كقوّة الكلمات. «ففي البدء كان الرقم جنباً إلى جنب مع الكلمة حتى أن الله نفسه هو الرياضيات. هو الذي خلق كل شيء بمقاييس مذهلة. انظروا مثلاً إلى الرقم 60 إنه رقم يحلّ جميع المشاكل، والرقم 98 إنه طاهر. والرقم 77 إنه يثير الاشمئزاز. أما 42 فهو خبيث، وماذا أقول في الـ27؟ كل واحد فينا لا بدّ من أنه مختبر قوّة الرقم على الأقل في مرحلة من مراحل حياته».

كان هائماً في اليوم الثامن من وصوله: «ماذا سأفعل حين تأتي العاصفة فوق جبل سهدوثا»؟ وقفت هناك معه أنتظر أن يُسمعنا صوته. ثم قال الرجل بعد صمت: «الرب هو الزوبعة. مِن الزوبعة. وفي الزوبعة. كزقزقة العصافير يأتي». ثم أضاف: «لكن عجباً. هل تصدّق أن طيور السماء تغنّي مجد الخالق؟ الطيور هي طيور الأرض لا السماء، وهي تغنّي لتتكاثر. لمَ لا نعترف بذلك؟ قم لنرجع».

وذات صباح خرجنا، أنا وزملائي، إلى البراري القريبة من قمّة الجبل المقدّس، لشهرَين في رحلة تأمّلات وتضرّعات، أيضاً للصوم عن الأكل والكلام، وكنّا امتلأنا منذ بداية الرحلة بالروح فطفقنا مُهلِّـلَين. مررنا حليقي الرؤوس في وديان رهيبة فيها سمعنا صوت الكائنات العليا أيضاً، فانفتحت السماء ورأينا الجالس على العرش وصوته يشبه الرعد، زلزل المسكونة، وصرخ الواقف قريباً منه: «قدّوس قدّوس قدّوس». فهرب كلّ منّا خلف صخرة واختبأنا حتى الفجر ولا نعرف إن كنا نياماً أم أخذتتا غيبوبة. عندما استيقظنا مذعورين رأينا آثار مخالب على أجسادنا الطريّة، فصرخ أحدهم: «فلننسَ أن لنا أجساداً». أكملنا رحلة القداسة وكانت أجسامنا ناحلة إلى درجة أن الروح كانت نشيطة جداً. في أعماق كل واحد منّا كانت الرغبة مكتومة بعدم الرجوع إلى الهيكل. بينما نحن نعبر إحدى السواقي العميقة، مياهها مرتفعة حتى الصدر، انشقّت، فعرفنا أن علينا الاسترخاء لأننا في حضوره. وسألت نفسي: أحقاً الله مثلنا لا ينام؟ لم أستطع أن ألتفت عندما سمعت رجلاً يقهقه ويقول لي من خلف كتفي: «لماذا أنت معنا يا رجل رغم أنك لا تحب أن تكون هنا»؟

بعد قليل رأيت الرجلَين يتكلّمان. عرفت بأن السؤال لم يكن موجّهاً إليّ. فقال الآخر: «أمّي قحبة»! استغربت أن أحداً في وسعه وضع هاتين الكلمتَين جنباً إلى جنب. ثم تابع: «لولا الخوف من كلام الناس لضاجعت جميع الرجال. لم أرها مع رجل، لكني كنت أعرف أنها تخلع لباسها الداخلي للرجل الذي يصبغ شعره عند المطهرجي في القرية المجاورة لقريتنا».

جودت، الراهب المحبوس منذ الأزل والمقيّد بسلاسل اللذّات الشبقية، قال نادماً: «أنا أيضاً كل ما لا أحب أن أعمله... أعمله، لأن الجسد العاصي يشتهي ما لا تشتهي الروح. لكني أحياناً كثيرة أترك الله يفكّر عني. لا يهمّ. ذات يوم سأعرف كل شيء وستكون المعرفة كاملة. فقط لو اكتشفنا السرّ، سرّ إبطال مفعول الخطيئة. سأرجع طواعيةً إلى طبيعتي التي سبقت السقوط». سأل كاهن آخر: «السقوط في ماذا»؟ أجابه آخر: «السقوط عمداً في الخطيئة. فأيّ خطيئة هي فكرة، وأيّ فكرة هي خطيئة لو حدثت خارج حدود جبل سهدوثا المقدّس». أبدى الكاهن الأعلى رضاه التام عنّا، حتى إنه قال في صلاته هامساً: «يا شيطان الشعر الطمني». لكن الاستجابة لم تحدث لأن أحدهم قرأ «تكفيك نعمتي لأن قوّتي في الضعف تكمل». أما هو فظنّ نفسه في حلم وقد اختُطف وصعد إلى طبقات السماء العليا. ليس السماء بالضبط، لأن المسافة التي تربط الكواكب ببعضها هي المسافة نفسها التي تربط الجزيئة الواحدة بالأخرى في أجسادنا. ثم فكّر: «لا أحد يصعد إلى السماء إلا الذي نزل منها. فلمَ المشقّة»؟ عرف منذ البدء أنها فكرة سيئة أن يلطمه شيطان الشعر، تماماً كما أن الواحد أحياناً يطلب من السماء أن تلهمه وهو لا يعرف بالضبط ما يطلب. ففي آخر مرّة صلّى أحد الكهنة في صومعته: «يا سماء الهميني»، التهمته السماء واختفى، لأن الله أخذه. أما النائم بجانبه فبدأ يقطع نفسه، فسمعت أمّه وأتت لزيارته فوق جبل سهدوثا، ولم تحبّنا وقالت عنّا مجانين، آخذةً ابنها إلى السحرة، ولكن لم تنفع معه الرقي ولا الشفاء المزيّف الآتي من قيروان. منذ البدء لم يحتمل ثقل الروحيات الاستثنائي وبعدها اكتشف أن العالم ممتلئ فراغاً مملاً لذلك اختار الرجوع وبدأ يعرف ما لا يريد حتى كان بمقدوره شمّ الأشياء بعينَيه من بعيد، أيضاً معرفة أسرار الكاهن الأعلى في الصومعة المجاورة، إذ السعلاة تضطجع معه مرَّتَين في الأسبوع. إذ هو ضمن أبديته في الجحيم. أما أنا فخفت من الروح التي لي، إذ إنها روح تمييز، لذلك اخترت الا أسخّرها إلا في انتهار الجاذبية الذي يدوم لثوانٍ فقط بعد استيقاظ مفاجئ في أصباح ربيعية كئيبة.

سحابة صلوات ترتفع كل يوم فوق قمّة جبل سهدوثا، وبين حين وآخر يظهر ملاك الشرّ ليُفزعنا، فتتملّكنا أفكار لم تخطر على بالنا من قبل. كنّا نعالج الخوف بفكرة أن الناس بعد الموت يغنّون. يغنّون ويرقصون أيضاً. يغنّون أغنية الانتصار: «أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟...». ويتذكّر أحدنا أشياء كثيرة لا معنى لها مثل المرّة الأولى التي سمع فيها كلمة «الله»... قال جودت بخبث إن الرجال أبناء الله أما النساء فهنّ بنات الناس. أنت تعرف ما يحدث لو وضعنا الوقود قرب النار؟ مثل ذاك المكان الذي يستريح فيه الخشوع. وادٍ مقدّس، مبلّل بدموع القدّيسين، يفصل دير الراهبات عن دير الرهبان بعيداً جداً عن سهدوثا حيث الحفريات الأخيرة أدَّت إلى اكتشاف قبور صغيرة. عظام لأجنّة موضوعة في صناديق القربان المقدّس، مدفونة منذ أيام صلوات الغروب التي أعقبتها خلوات وأكل التين تحت الجفنات الرطبة. عندما سمع الراهب الذي يزني مع نفسه ويُدخِّن خلسة هذه الحكاية قال لجودت: «لماذا كل هذا التعقيد»؟ «أبعد يدك عن جسدي ولا تتحكّم فـيَّ. ماذا تقصد بأن ليس من حقّي أن أضرب جلق؟ أنت قلت مرّات عديدة بأنه لو كان ضرب الجلق خطيئة لخلقنا الله بذراعَين قصيرتَين. وأنا لو متّ وذهبت لأرى وجه الله فأول شيء سأفعله هو سؤاله عن اسمه». «لماذا تريد معرفة اسم الله»؟ سأله جودت. أعجبتنا فكرة أن نسأل الله كل واحد فينا سؤالاً عندما نراه. «لماذا خلقني بحلمتَين سأسأله»؟ قال الراهب جودت. ثم تجرّأت وقلت: «وأنا لا أريد سوى شيء واحد، أن أعرف لمَ خلقني الله بلسان». وقبل أن أُنهي جملتي امتدّ لساني لا إرادياً ونبتت عظمة فيه. أردت أن أصرخ: «أطلقني، أطلقني، حلّ قيودي». ذهبت إلى الكاهن الأعلى ورأى لساني. ضحك وقال: «دعني أولاً أحلّ مشاكلي فوق جبل سهدوثا ثم أحلّ مشاكل العالم وأدواته كلسانك... تعال معي. انظر إلى الهلال. وردِّد معي هذه الصلاة منذ أيام البابليين». فتحتُ فمي غاضباً فسقطت العظمة وإذا هي يابسة وضاربة إلى الاخضرار وصرخ: «هللويا»! بصقت دماً. رفعت رأسي، وإذا بكاهن جديد جاء من بعيد إذ عرف بأننا نرى في عزلتنا رؤى، لذلك أراد أن يختبرها وقال له الكاهن الأعلى: «لا يمكنك أن تعيش على اختبارات الغير». لكنه كان خبيثاً جداً إذ جلب معه آلهته الصغيرة المصنوعة من طين أحمر. كنّا نفتّش مخدع كل قادم جديد يدخل الهيكل، فسرق كل منّا إلهاً من آلهته. رغم ذلك، فقد ترك على بابي، أنا دون سواي، قصاصة صغيرة كتب فيها: «لماذا سرقت آلهتي»؟ سألنا الكاهن الأعلى عن الرجل الزائر فقال إنه فاشل لأنه عاجز عن ترك رغباته خارج الباب. أنا صدّقت كلامه بغباء، وقلت في نفسي مرتعداً: «ليتني أفهم الجسديات أولاً»!

جاء راهب جديد في بداية العام اسمه «فارس». شاب طويل تفوح منه رائحة النساء والمشروب. تسرّبت الشائعات في إحدى الخلوات المسائية عن أنه هارب من الخدمة العسكرية، لذلك اختار أهون الشرَّين ولحق بنا. أما هو فقال بحزن إن الرب دعاه، مذ كان في بطن أمّه، إلى أن يكون له. كان يحب الاعتزال ويكتب رسائل كثيرة نجهل وجهتها. في إحدى الظهيرات القائظة ظنّ فارس بأن كل شيء في سهدوثا عميق، فقفز في البحيرة ذات المياه الضحلة فارتطم رأسه بصخرة ومات. آه استشهد فارس فوق جبل سهدوثا. كان قد كتب رسالة إلى أمّه يقول فيها: «كُـفّي عن محبّتي لأن الآلهة لا تحب المنافسة». استلمت أمّه الرسالة بعد سماع خبر موته المفجع وعاتبت السماء بغضب: «لو كان ابني ههنا لما مات». تقصد في نار الحرب وجوع المدينة. وقال لها زوجها: «اسكتي يا امرأة لا تكفري». «أنا لا أكفر، بل الله هو الذي يلعب معنا لعبة الوجود»، أجابته. سألني الكاهن عاصي «أتظن أن أمّه على حق»؟ سألته لماذا يريد أن يعرف رأيي أم هي الرغبة في التجسّس على أفكاري؟ وأضفت بأني أتمنى أن أكون مثل فارس. أعتزل ولا أطلب سوى شهوة نفسي.

«أنت تخيفني لأنك قليل الكلام» قال لي. بعد صمت قصير، أجبته غاضباً: «ماذا تريدني أن أفعل؟ ألا أطلب شهوتي. عرفت أنك ستقول لي مثل هذا الكلام من أول يوم لما سألتني ما هو هذا الاتّكال الذي اتّكلته؟ اللعنة. أنا لا أجد أي عيب فـيَّ. فلماذا تحاول أن تُشعرني بالنقص»؟ عرفت أنها أول مرّة أغضب فوق سهدوثا. شكوت إلى جودت الراهب الذي أحبّ: «بات عندي مع مرور الزمن صغر النفس والاتّضاع المشوّش. ماذا تقول، هل سيعاقبني الله لأني خاطئ»؟ أجاب: «لا. لا أظن. لكن كل متعة محبّبة إلى قلوبنا هي خطيئة وسيعاقبنا الله عليها في الحياة القادمة، فمثلاً إن كنت تحب الخمر فسيسكب الله النبيذ الرخيص في جوفك الذي ستفتحه الأبالسة عنوة لأنك أطعت أوامرها أكثر من وصايا الله. ستشرب الخمر حتى تختنق، هكذا كل يوم». «ماذا عن الذي يحب الله. بمَ سيُعاقب»؟ سألته. «ربما بحضوره اللامنقطع». «لا، أبداً أبداً فالله لا يعاقبنا على خطايانا، بل يعاقبنا بخطايانا». ثم أضاف: «لا تأخذ الأمور بجدّية. أما زلت تصدّق بأن ثمة أرواحاً»؟ «أنا لا أصدّق أي شيء سوى الأرواح. حتى جسدي هو روح. أتظنّ أني رجل روحاني أم جسدي»؟ «أنت حتماً تفكّر كثيراً بالحضرة الألهية. أليست أفضل الأفكار تأتي إليك وأنت جالس في المعبد وحيداً؟ خطيئتي، أني مشيت وراء أفكار الله التي قال لي عنها الناس. أتريد أن تذهب إلى الفردوس»؟ لكني فكّرت بأن كل ما ليس الآن هو جحيم. الآن عرفت بأن العالم موشك على الانتهاء لأن المعرفة ازدادت والله يخاف من الذين يعرفون. أعرف بأن الكاهن الأعلى سيتهمني بأني أتكلّم على الله وكأنه واحد منّا. لكني سأقول له بأني أتكلّم مع الله وكأنه صديقي. لا أستطيع أن أبغض العالم مثله كوني لا أعرف شيئاً آخر سوى هذا العالم. فبماذا سأقارنه؟ اللعنة. أنا أتمزّق بين الجسد واللاجسد وأحياناً أخاف. فلا أحد يقدر على أن يؤمن ويخاف في الوقت نفسه. في أعماقي رغبة عميقة في العثور على حجّة كي لا أؤمن بالله. لا أحد سيصدّق لو قلت بأنّ من خلف شبّاك الاعتراف اعترف لي الكاهن الأعلى بخطاياه الصغيرة وقال: «صرير الأبواب التي تُفتح في الفردوس تُخيفني أكثر من صوت النيران المتّقدة في الجحيم. أحاول أن أغفر لله خطاياه التي أرتكبها ضدّي. أتمنى أن يكفّ الرجال عن الصلاة من أجلي لأني مريض بمرض لا شفاء منه وسأموت وأذهب الى الهاوية. نعم. أنا مريض لأني عاجز عن الحب». ثم صلّى: «يا إلهي كيف تسمح أن أموت مثل حشرة؟ أنا اليوم عندي إعلانات إلهية وسأكشف عنها حالما أنزع عني هذه النتوءات التي نبتت فوق جسدي الذي أجهل». عندما نزل عن كرسي الاعتراف سمع صوتاً يقول: «أنا الرب شافيك. ألم أشفِ روحك، فكيف لا أشفي جسدك»! من بعيد سمعنا صوته يغنّي: «بركات على رأس الصديق....بركات على رأس الصديق... أريدك أن تشفيني». ردّ الآخر: «لكني شفيتك يوم خلقتك». «ماذا عن ألمي»؟ أجابه «من الأفضل أن تتألموا وأنتم تفعلون الخير على أن تستمتعوا وأنتم تقترفون الشرّ». فكّرتُ: «ماذا عن الذي يستمتع وهو يفعل الخير»؟ فجأة، أمرني أن أسكت وقال لي بأني لو عرفت من هو أول رجل غرس كرمة لما شربت نبيذاً كل حياتي. «جرّب إنتاج التمر من بلح النخيل القائمة منذ الأزل»، هكذا قال المعلون حام بعدما التحق بنا بلا سابق إنذار.

هو الأرعن الهارب من لعنة أبيه التي تطارده حتى في جبل سهدوثا. «ما الذي اقترفته»؟ سألناه. أجابنا بعد تردّد: «أنا زنيتُ مع الحجر، وكذلك مع الشجر»! فآويناه عندنا. كان يتغوّط خلف شجرة الكستناء وينام بلا وسادة. قال: «لم تكن أمّي هناك. كانت تزرع الكروم في أول حقل استوطنته في أرض الأناضول. أبي في النهار يتذوّق النبيذ الذي عصره من كروم الحقل. كان قد سكر مباشرة بعد الطوفان. الطوفان الأخير. شرب أبي كثيراً وطال سكره وبدأ يغنّي أغانيَ تعلّمها من أهل الأهوار. أما سام ويافث فكانا في مخدعَيهما مع زوجتَيهما، بينما كانت زوجتي طامثاً في يومها الثالث. للمرّة الأولى رأيت بشرة أبي الحنطية. دائماً أتذكّره متسربلاً بردائه البنّي حتى أنه مرّة كاد يحترق وهو يعدّ محرقة القربان الذي قدّمه إلى الإله عندما رسونا عند منابع الفرات. آه لو رأيتم كم كان وجهه منبسطاً بفعل النبيذ الذي لعب برأسه، وكان يبدو لي وكأنه يبتسم ووجنتاه محمرّتان، حتّى عندما اقتربت منه لأكتشفه وهو مضطجع على الحصيرة الباردة نظر إليّ بعدما خلع آخر قطعة من ملابسه. بدأت أتحسّس مناطقه التي لم يمسّها سواه فدخل الشيطان قلبي وقلت: سأكون أول رجل يضاجع أبيه. كنت موقناً أن الله لن يندم ثانية على خلقه البشر ولن يُعيد خلق الأرض مرّة أخرى. طلبت من أبي أن ينام على بطنه وفتحت إليتَيه بأصابعي وأدخلته فيه. كان هو يضحك وأنا أتأوّه من الشهوة. سمعت أصواتاً قادمة من خلف الحجاب. سام يستنجد بيافث ويطلب منه أن يحضر رداءَه، مشيا باتجاه أبي مواريَين وجهيهما، وغطّيا الرجل السكران، بعدما صرخا بي وطرداني من الفُلك. زوجتي أدركت ما حدث دون أن تتعجّب لأنها مسبقاً تعرف قلبي المحمّل بالشبق».

لم نتجادل مع حام، لكننا تحاشيناه وكنا نقفل حجراتنا في الليل عند النوم. جودت كان يفتّش غرفته في كل مرّة يدخلها حام. يفتح الخزانة، ينظر تحت السرير لئلا يكون مختبئاً في مكان ما. كان الكاهن الأعلى أكبر منا جميعاً إلا أنه كان يفتخر بأن شعره أشدّ اسوداداً من شعرنا رغم صلعته البارزة من الخلف. مرةً قلت له: «آه يا فحل، أهكذا شعرك يشرب من قلبك اليافع فلا تشيب»؟ فصرخ بي: «أتجرؤ وتحسدني يا سامي»؟ «لا لا أنا لا أمارس الحسد». «بلى» صرخ بعدما ضرب قدمه اليمنى بالأرض بعصبية: «تحسد وتكذب أيضاً». استيقظ الكاهن الأعلى صباح اليوم التالي وبدأ يمشّط شاربه أمام المرآة وعيناه نصف مغمضتَين فذُعر لمنظر رموشه التي ابيضّت تماماً وصرخ صرخة مكتومة لم يسمعها أحد سوى السعلاة التي أتت في المساء نفسه وقالت له: «دعني أرى شعر جسدك أيها المغفّل». وعضّته من كتفه. دخلتُ حزيناً إلى الهيكل، وجلست أصلّي علّ الله يساعدني كي أتخلّص من الحسد. كان نهاراً دافئاً وفجأة حلمت بضفّة النهر؛ ذاك النهر الكبير، وبقاربي الصغير وصيد السمك. عجباً، لم يحدث قط أني ذات نهار دافئ في قاربي الصغير حلمت بالهيكل وببلل سروالي على مقاعده. انزعجت لأني أفهم نفسي أكثر مما يجب. رجعت إلى غرفتي أقرأ لعلّي أحب الله أكثر من أي شيء أخر. جاء الراهب المتمرّد يشكو من زميله وقال إنه وضع صخرة صغيرة عند فراشه على الأرض حتّى يتعثّر بها إذا ما حاول المشي في نومه منتصف الليل. بعد صمت قصير أضاف: «أنا لا أمشي في نومي لكني أستيقظ مرّات لأني أجوع». قلنا له بأنه دائم الجوع لأنه لا يأخذ كفايته من النوم. نصحناه: «حسناً خذ الصخرة نفسها وضعها على بطنك ليلاً كي لا تشعر بالجوع». كان قد أخذني خلف الجبل حيث المقبرة وهمس لي: «انظر الضباب في ذلك الوادي، إنه مجرّد غيوم على الأرض وبإمكاننا أن نضع صفائحَ رقيقةً من الألمنيوم نرفعها إلى أعلى...». أشار إلى صخرة كبيرة: «أترى؟ أوه، لا تنظر إلى إصبعي بل إلى الصخرة». «أمزح معك» أجبته. «نحن لا نمزح فوق جبل سهدوثا. انظر إلى تلك الصخرة. ماذا لو وضعنا صفائح رقيقة فوقها بحيث يمكن رفعها إلى أعلى بسهولة ويتكثّف الماء فيها فنجمعه»؟

حدث هذا قبل وصول الياس. لا أدري ماذا أفعل؟ فأنا لا أفهم بالضبط كيف أقدر على حصاد الضباب مثلهم؟ وزميلي يحب أن ينام في خزانة الملابس ويقول: «أحب الظلمة». انتبهت إلى أن عينه اليمنى أكبر من اليسرى، وهو يدخّن سراً وإذا نفد التبغ يلفّ الورق الرقيق ويدخّنه فارغاً. لا يشبهنا. هو هنا لغرض العلاج. أسرَّ لي يوم وصوله بأنه يتفادى التجمّعات، لذلك صعد إلى سهدوثا قبل موسم حصاد الضباب. حدّثه الكاهن بكلمات أشبه بالوعظ: «بإمكانك أن تهرب من الناس لكن فوق سهدوثا ستواجه الله»! وأضاف بتساؤل مريب: «لا بدّ من أنك فعلت أمراً مشيناً لذلك تخاف الناس». «لا، أبداً، فأنا لا أعرف كيف أتكلّم» أجابه.

بعد أسبوع رجعنا أنا وهو منهكَين من قمّة الجبل، إذ أمرنا الكاهن الأعلى أن نذهب إلى بيته الصغير لنجلب له واحدة من آنياته الفخّارية. وصلنا بعد المغيب لاهثَين. قلت له عند عتبة الباب: «اللعنة. نسينا أخذ المفتاح». رجعنا إلى الكاهن، فخاطبنا بسخرية: «من قال لكما إن الباب مقفل»؟ انهارت أعصابي وقلت: «لن أمشي هذه المشقّة ثانيةً». توسّل لي الرجل الآخر فمشيت. عندما وصلنا ظهراً، كان الجوّ حاراً وأخمصا قدميَّ امتلئا قروحاً وفقاعات صديد. خلعت نعليَّ لكني لم أغسل قدميّ حين رأيت في قعر إناء الماء الراكد ديداناً وطحالبَ. كنت عطشاناً فاقترحت أن نشرب من اللبن الذي جلبناه. فجأة دقَّ الباب رجلان غريبان كانا يسألاننا قليلاً من اللبن. «من هما؟ من أين أتيا؟ كيف عرفا أننا لا نملك سوى اللبن؟ اطردهما» قلت لزميلي الذي أجابني بأنهما مسكينان أدركهما ظمأ شديد ولا يريدان سوى شرب اللبن. أخبرته بأننا إن أعطيناهما اللبن فسينعسان وينامان عندنا والمكان هنا لا يتَّسع للجميع. لكنه تجاهلني وهمَّ بالخروج للحديث معهما. سحبته من ذراعه وأقفلت الباب بالمزلاج وتنفّست برعدة. «أنت تخاف من كل شيء وتشكّ حتى في الملائكة» صرخ بي واللبن يتصبّب من يده. «اشرب» طلبت منه وشربت أنا أيضاً. نظر من زاوية الشبّاك فرأى أن أحد الرجلَين قد سقط على الأرض ممسكاً بطنه ويضحك بعنف، والثاني يرفسه وعلامات السخط على وجهه، فبدأ الأول يرتجف. «اللعنة عليهما. إنهما فعلاً غريبا الأطوار» قال زميلي. الرجل المستلقي على الأرض وقف فجأة وبدأ يحك عضوه بيد وباليد الأخرى يهدّدنا: «سأنكحكما في المرّة القادمة إذا نزلتُ». من أين سينزل؟ تساءلنا بخوف. كرَّرت: «قلت لك أيها المغفّل إنهما قد يكونان ملاكَين. حقاً أرادا أن يضطجعا معنا». حلّ المغيب ونحن ننظر بحذر من الشبّاك لنتأكّد من انصرافهما. اختفيا فجأة في شبه سحابة. قال زميلي: «كانا غريبَين فعلاً ومن كوكب آخر. يريدان تذوُّق ما قد يشعر به الكائن عندما يكون بشراً. ملائكة سقطت لأنها اشتهت أن تكون مثلنا. الملائكة تغار من البشر بدلاً من أن يغار البشر من الملائكة»!

واحدة من الضربات التي لم ننجُ منها، ونحن عائدان، ضربة الضفادع الحمراء الصغيرة التي أمطرت رؤوسنا بسبب غضب الجالس على العرش.

جاء راهب أنذرته أمّه من البطن ألا يعلو المقصُّ رأسَه، وكانت قوّته في شعره. فسخر منه أحد الرهبان قليلي الحياء: «أقوّتك في شعرك أم في عضوك الصغير»؟ هو أيضاً عنده روح الرب، لأنه جاء عبر البحر. قيل إنه في طريقه إلى جبل سهدوثا رأى أسداً فقتله. لا بدّ من أنه رجل من نار. قال مفتخراً: «بمقدوري أن أعطس وعيناي مفتوحتان. هذه ليست المرّة الأولى التي آتي فيها إلى سهدوثا. كنت هنا سابقاً قبل أن يولد نصفكم. فبين خليقتي الأولى الترابية والثانية السماوية انسجام غريب جعل الكاهن الأعلى يصوم عنّي ويصلّي من أجلي. عندما عرف أني راضٍ عن نفسي مزّق ثيابه. لكني بعد زمن تمتّعت بالاختبار الروحي الذي لم أخبر أحداً عنه. طعامي البائد الذي كنت آكله بانتظام كنت أحسبه عقاباً، حيث أمضغ اللقمة ثلاثين مرّة ثم أبصقها، أو مرّتين وأبلعها. كنت معرّضاً للتذكّر فوق قمّة جبل سهدوثا، لذلك اخترت النزول. ها أنا أرجع. لكني مشغول بإبعاد الشرّ وكذلك بقراءة آيات من «سورة الناس»، كما أن غيري يُبعد الناس بتلاوة آيات من الكتاب... الساكن في ستر العلي قدماه تتدلّيان فوق رؤوس الأعداء. لماذا تبحثون عن الرغيف في الشوارع إن كان بالإمكان أن تفتحوا الأفواه باتجاه السماء والمنّ السماوي ينزل كل فجر كما أخبرني الكاهن الأعلى. أين هو؟ سألني الكاهن الجديد. لم أره لحدّ الآن. ما هو الخبر الذي علمتم به فوق جبل سهدوثا؟ لا جديد سوى ألّا أحد يتذكّر آخر مرّة رأى فيها عملة نقدية هنا. أنا سمعت في الطريق وها أنا الآن أخبركم أن الله نور. من ذا الذي يعمل الشرّ ويحب النور سوى الذي يرجع إلى جبل سهدوثا بعد حين مثلي».

جلب معه أفعى صغيرة سامّة كان يضعها في جيبه ويُخرجها ويرقيها، وكنت أخاف، فيقول بيقين تام إننا لو أحببنا الأشياء التي نخاف منها فالخوف سيزول تدريجاً. وحتى لو بقي فهو سيتحوّل إلى هواية ممتعة نمارسها بين حين وآخر. انزعجت لأني مكشوف أمام الجميع، وخصوصاً الله. وبّخني صوت فاختليت بنفسي في مخدعي. وكان رجل واقف عندي شبيه بابن الآلهة. ابتعد قليلاً فتبعته وحاول أن يكلّمني من خلف السياج المهدّم. سألته: «ماذا سيحدث بعد خروجي»؟ «سيحدث أن الأبواب ستُوصد إلى الأبد»، أجاب ثمّ ردّ على سؤال لم أتفوّه به: «الله مثل القرش، لو نام مات. احفظ وصاياه حتّى تعرفه». ذهبت إلى الفناء الذي يجمع الرجال وسألت الراهب الذي يتولّى إطعامنا، بينما هو يصنع أقراص الخبز على لهيب فضلات البقر اليابس، أن يعطيني رغيف خبز حارّاً، فامتنع بينما كان يهز رأسه ويقول: «ظننت أن الأكل ليس سوى أحد الأشياء التي تصوم عنها حتى المغيب». مشيت ورائحة الخبز تعذّبني. دخلت المعبد. قام الراهب الجديد بتلاوة صلوات لم أستسغها. ووعظ أيضاً بأن «الشيطان قد يغيّر شكله إلى شبه ملاك نور، لذلك، يا أخوتي، اختبروا الروح» وكان ينظر إليّ ويقرأ «لا تستوطن جسدك الميّت»... كأنه يتّهمني! أكمل بخبث: «للشياطين نظام تفتقر إليه الملائكة». كنت أول من ترك المكان بعد الصلاة دون أن أتبادل السلام معهم. قلت في سرّي وأنا أوصد الباب خلفي: «أما أنا فجسد».

يقال إن في المدينة خبزاً: «سأنزل وحدي، وها أنا قرَّرت ألا أختار السير في الطريق المعدَّ لي منذ الأزل. نعم أنا بدأت بالروح وسأتمّم بالجسد. كدت أصدّق ما علّموني إيّاه. ليت لي ذاكرة الأرنب، فأنسى بسرعة أن الناس العاديين كانوا قادرين على رؤية الهالات المحيطة بالناس العاديين». سألت نفسي إذا ما كانت الأشياء التي ندعوها موجودة... غير موجودة؟ أهذا معناه أن السعلاة التي ينام معها الكاهن الأعلى موجودة؟ جاء صوت واضح إلى درجة أنه لم يكن بإمكان غيري سماعه: «لن أبرِّئ الأرض». حينئذ وقعتُ على وجهي. فرفعني الروح إليه. كان بإمكاني رؤية الراهب الذي يخبز لنا في مخدعه، يضع الزنجبيل الطريّ مع صورة الرجل الذي يحب، تحت وسادته كي يحلم به في الليل. سمعته يهمس بوضوح: «هو ذا حبيبي يأتي طافراً»، ثم يحزن لأن كلمات الحب الرخيصة ردّدها لعشرات الرجال قبلاً. بعد قليل ندمَ فقال: «أنا أحاور الخطيئة، سامحني أيها الروح الأعلى». ثم فقأ عينه. كنت أراقب بصبر، الفرص تأتي وترحل... والكاهن الجديد، قبل أن يذهب في ما ظنناه غيبوبة، قال إنه أراد أن يشبه ذاك ويكون كالأنبياء الذين يهيمون في البرّية منتظراً مدينة مصنوعة من المادّة نفسها التي صُنعت منها السعلاة. فضّل أن يبقى في غرفته محبوساً، وذات يوم وجدوه ميتاً من التُّخمة، وأظافره طويلة صفراء عليها بقع بنّية. لم ينتن كالفطيسة، بل رائحة ناردين فاحت من جسده المتحلِّل. سمعت الصوت نفسه الذي سمعته مراراً من قبل، لكن بلهجة أخرى، أمرني هذه المرّة أن أصعد إلى قمّة جبل سهدوثا وأتطهّر: «سأريك ما لا بدّ من أن يحدث بعد هذا». توهّج وجهي بنور ساطع وقلت بأني لم أعد أحتمل افتعال القداسة ولا أقدر على تقديم جسدي ذبيحةً مقدّسةً لإرضاء الله. لا أريد. اضطررت أن أكون في حضرة الراهب الجديد عاصي. متحمّساً قرأ: «حينئذ تفرح العذراء بالرقص والشبّان والشيوخ معاً. وأحوّل نوحهم إلى طرب. وأعزّيهم، وأفرّحهم من حزنهم وأروي نفس الكهنة». سألته: «نحن أيضاً برتبة كهنة. أفلا يحلّ لنا الرقص مع العذراوات»؟ بعد صمت، أجاب: «اسمع يا سامي، للرقص شعور رائع فقط أثناء ممارسته وليس بعدها، إذ يشعر الإنسان بعد الرقص بفراغ لا تفسير له، أيضاً الحزن الذي يدوم يوماً أو يومَين. الرقص يبدأ بالانتشاء والفرح وينتهي بخواء الروح والحزن العميق الذي لا مبرّر له». خرجت إلى البرّية لأرقص على صوت الريح غير مكترث بكلامه لأني تذكّرت بأني قرأت مرّة ما قاله أحد الفلاسفة: «لا أؤمن بإله لا يرقص». شيء ما جذبني نحوه، وخفت أن يكون روح الله. في سرّي صلّيت صلاة غالباً ما كررّها الكاهن الأعلى. رقصت وصلّيت في الوقت نفسه. وحدّثت نفسي: «ويحي أنا الإنسان الشقيّ، من ينقذني من جسد هذا الموت»؟ ففقدت بصري. وقلت في سرّي «إن الله الذي يجازي بشرٍّ ولداً مثلي ليس إله حق من إله حق». كان الروح يحاصرني من الجهات كلّها. رجعت أتخبّط. وأخذني أحد الرهبان وقال لي: «لا تبالِ فإما أنك ستستردّ نظرك وإما أن أول شيء ستراه بعد أن تنفتح عيناك هو وجه الرب». كنت أتحسّس بطرف أصابعي ما حولي ولم أعرف بأني أتورّط في علاقة حقيقية مع الأشياء بمجرّد أن ألمسها عدا وجه الكاهن الأعلى. أخذوني معهم إلى البرّية. وهم لم يأخذوا شيئاً سوى السمك المملّح وبعض الماء. نسينا أن ننام وبقينا نصلّي لثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، ثم جاء الكاهن الأعلى ليطلب الشفاء لي بوضع اليد اليمنى على الرأس صارخاً: «يا رب افتح عينَي الولد». سألني بعدما انفتحت عيناي: «ما أنت راءٍ يا سامي»؟ «أنا أرى» أجبته. بعدها صلّى أحدهم أن يرى نموذجاً صغيراً من السماء، فإذا بالأرض أصبحت مذهّبة. تشاجرتُ معه وقلت له عن العداوة الأبدية بين الذهب وأشعة الشمس. احترقت أرجلنا الحافية وعميت أبصارنا نحن الذين كنا نصلّي وأعيننا مفتوحة. أمرتهم فوراً بأن يصلّوا لترجع الأرض كما كانت ترابية. فاستطعنا النزول. ترقّبنا بعد الصيام قدوم الخير فإذا في الأفق لمحنا الشرّ يزمر وصارت قلوبنا تغلي فينا. صرت أنوح بلا توقّف.

بعثت لي أمّي رسالة مع رجل يصعد الجبل مرّة كل سنة: «إنزل. نحن بحاجة إليك في المدينة، إذ لا خبز هنا للبنين. ليتك ما عرفت الطريق إلى سهدوثا».

قبل أن أترك الجبل أدركت بأن إله الكاهن الأعلى ليس إلهي. كما أنه عرف بأني أسأل نفسي صباح كل يوم إثنين: لماذا عليّ في الآحاد أن أتعرّف إلى كل هؤلاء الناس الجدد وأشترك في جنازات لأناس أجهلهم؟ في يوم الإثنين، تحديداً، أشعر بفراغ مخيف والكاهن يسخر مني: «الخبر السيء أنك ذاهب إلى الجحيم، والخبر الأسوأ أنك ذاهب لوحدك». تجاهلته ولم أودّعه. الرجل الوحيد الذي رغبت في أن ألقي عليه سلامي قبل المغادرة إلى الأبد هو جودت، نصحني: «لا تستعمل العالم كثيراً». توسّلت إليه أن يحكي لي القصة التي حكاها لي ذات مرّة، عن رحلة ثلاثة عشر يوماً طالت أربعين سنة؟ لم أنتظر. نزلت راكضاً بلا أمتعة وأنا أفكّر: «أخيراً ستَنظف أقدامي بغبار العالم».

***

لم يتكلّم سامي كثيراً بعد رجوعه، إلا أنه كان مبتسماً دائماً وتقطيبة ما بين حاجبَيه اختفت تماماً. كان يتحدّث عن كل شيء عدا سهدوثا، ونادراً ما يذكر اسم الله. لم تنصحه أمّي هذه المرّة في ما يتوجّب عليه القيام به. أما هو فقرّر الالتحاق ببقيّة أخوته في محاولة استرجاع الأرض.

اتصلت شيرات هاتفياً وقالت: «عندي موضوع أهمّ من الأرض، أريد أن أكلّمكما فيه أنت وتمارا. عمّتنا فريدة رجعت من مصر. سآتي لأزوركما قريباً».

جاءت بعد أيام وابتسامة عريضة على وجهها. قالت بلهفة بعدما غادرت أمّي الحجرة: «عمّتنا فريدة كانت طوال تلك السنين في مصر».

«لكن أين هي الآن»؟ سألت تمارا. «لقد عادت إلى بغداد. زوجة نادان، شهرزاد، هي الوحيدة التي تعرف مكانها». «ولماذا كانت في مصر»؟ سألت تمارا. «ألا تعلمين أن كل من يقوم بعمل مُخزٍ يهرب إلى مصر»! «وما العمل المخزي الذي ارتكبته»؟ سألتُها بخبث. «لا أدري. أمّي تقول إنها امرأة ساقطة، لأنها تزوّجت من رجل لا أحد يعرفه. لكن أنا مثلكما، لا أصدّق كل ما أسمع».

وسرح خيالي بعيداً للحظة، وبدأت أخطط لما سأقوله لها لو رأيتها، فهي ما كان يجب أن تتركنا. سأقول لها إني أفتخر بأن يكون لي عمّة مثلها. قالت شيرات: «ربما زوجها مات، لذلك عادت». قاطعتها تمارا: «ومن قال لك إنها كانت متزوّجة أصلاً»؟ «كلّ عاهرة تهرب مع رجل متزوّج ثم يتركها بعد أن ينتهي منها، ترجع وتقول إن زوجها قد مات»! وبّختها: «اسكتي. كلّ إنسان حرّ بأفعاله طالما أنه لا يؤثّر على سواه». «كيف لم تؤثّر علينا، ألا تعلمين أن أحداً لا يتقدّم ليطلب يدي بسببها. فالجميع عرف قصّتها. لقد أفسدت سمعتنا جميعاً».

صرختُ بها: «الرجل الذي لا يريد الارتباط بك بسبب عمّتك لا يستحقّك». أجابتني: «لا أدري. أمّي هي التي تقول لنا هذا الكلام».

«أنا أحبّ أمّي لكني لا أنصت إليها في أمور كهذه». وافقتني تمارا: «المهمّ الآن أن تدلّينا إلى مكانها؟ أم علينا التوسّل لشهرزاد زوجة نادان كي تفعل ذلك»؟

«هي التي تعرف، فقد رأتها في السوق وتبعتها إلى بيتها». سألتها: «لكن كيف عرفتها شهرزاد إن كانت قد اختفت منذ زمن طويل». ارتبكت شيرات: «أنا أملك صورة لها»! عاتبتُها: «شهرزاد ترى الصورة ونحن لا نراها»! غيّرت الموضوع: «كانت جالسة في صالون حلاقة وسمعت بعض النسوة يتكلّمن على امرأة تجلس بهدوء في زاوية دون أن تتحدّث مع أحد. همسن بأنها مومس متخفّية بملابس محتشمة وبأنها تتردّد لتصفّف شعرها كل يوم خميس. كانت الحلّاقة تثرثر كثيراً، قالت بعد مغادرة المرأة إن مدام فريدة سخيّة في البقشيش. شهرزاد تبعتها فوراً، حلفت إنها تشبه الصورة، فما زالت جميلة جداً ولم تتغيّر حتى بعد غياب أكثر من ثلاثين سنة. وتابعت المشي خلفها، نادتها باسمها فالتفتت. واجهتها ثم حدّثتها عن أخبار العائلة. بكت كثيراً عندما عرفت أن أباكم مات وأن عمّنا سنحاريب قُتل في الحرب. وبكت أكثر عندما عرفت أنه متزوّج وعنده ولدان. افترقتا لكن شهرزاد رأتها تدخل منزلاً صغيراً بغرفة واحدة خلف السوق». اقترحتُ فوراً: «صِفي لنا موقع البيت لنذهب إليها». «عليّ أن أسأل شهرزاد». «ألم تسأليها حتى الآن»؟ تحجّجت: «خفت من أمّي. أتذهبان معي قريباً إن ذهبت»؟ «طبعاً. وماذا عن أختك»؟ «أختي تخاف. وتقول العمّة ليس لديها حنين الخالة».

تهيّأنا بعد أيام، أنا وتمارا وشيرات، لزيارة عمّتنا فريدة في الجانب الغربي من المدينة، وارتدينا أجمل ملابسنا وأمضينا وقتاً طويلاً أمام المرآة، وكأننا في يومنا الأول في الوظيفة. تركنا سلام مع أمّي، ولم نخبرها عن وجهتنا.

طرقنا على باب البيت الصغير. لم يُفتَح لنا. بقينا ندقّ لدقائق. لم نشأ ترك المكان كلياً، فمشينا إلى نهاية الشارع قريباً من السوق. من بعيد سمعنا بائع السمك، وحده يصرخ في المغيب: «أخسر ولا يبات». عدنا ثانيةً، وقرعنا الباب دون جدوى. فتح الجيران بابهم الضيّق العالي ذا اللون الأزرق، خرجت امرأة شابة ملثّمة بالسواد. اقتربنا منها فكشفت عن وجهها المبقّع بالبهاق. خلفها أطلّت فتاة صغيرة حافية. سألتنا المرأة مَن نريد؟ قلنا: المرأة التي تسكن هنا. «لكن البيت فارغ منذ أكثر من عام، كانت تسكنه امرأة تقيّة تذهب إلى الكنيسة ثلاث مرّات في الأسبوع، وفي النهار تعمل منظّفة في دار الأيتام الذي تديره راهبات «أخوات يسوع الصغيرات. لم تكن تتكلم مع أحد ولم يعرف أحد اسمها. البعض قال إن اسمها نادرة وآخرون... ربما يكون فريدة. لكن لم يزعجها أحد لأن الكل يعرف بأنها كانت تقوم بأعمال حسنة. الراهبات أخذنها ودفنَّها. قيل إنها ماتت في نومها. لكننا نحن الجيران لم نرَ شيئاً. هل أنتن متأكّدات من أنها المرأة نفسها التي تطلبنَ»؟

 دخلت المرأة إلى بيتها وبقينا نحدّق بصمت في بعضنا البعض. سألنا شيرات: «أنت متأكدة من العنوان»؟ «قلت لكما، شهرزاد وصفت لي البيت وصفاً دقيقاً». سارعت تمارا إلى القول: «سأرجع، فسلام بحاجة إليّ». قلت لها لائمة: «لا يمكن أن نفقد الأمل بهذه السرعة». اقترحت عليهما: «اذهبا، وأنا سأبقى».

«لا تتأخّري». أمرتني تمارا.

لم أتبعهما بنظري لأرى إن كانتا تتلفّتان. لم أشعر بالخوف أبداً لكوني كنت وحدي. كان الشارع هادئاً وآمناً وشبه فارغ. قرعت الباب طويلاً. بقيت واقفة عنده، ثم مشيت لكن ليس بعيداً، ورجعت لأقرعه مرّة أخرى. خُيِّل إليَّ بعد ساعات أنني سمعت صوتاً خفيفاً قادماً من الداخل كأنه صوت شبّاك صدئ يُفتح للمرّة الأولى. قرعت الباب بقوّة أكبر. حزن وفراغ سيطرا عليَّ ثم جلست عند عتبة الباب وانتظرت طويلاً. وقفت عندما مرّ بعض الرجال ينظرون إليّ بتعجّب. ورأيت فجأةً، ظلاً منعكساً على حائط الجيران؛ ظلاً يشبه امرأة تتحرّك. ثم عرفت بأنه لم يكن سوى غسيل الجيران. لعنت نفسي لأني لم أكن قادرة على التفكير بطريقة سوية بسبب تشويش الآخرين عليّ، مثل الأهل أو رجال مرّوا بحياتي. أيقنت في تلك اللحظة بأني لن أفقد عذريتي الروحية إلا وأنا في سنّ الأربعين. بعد أقل أو أكثر من دهر، جاء صوت من الداخل يشبه صوت نحيب امراة، كان واضحاً، لأني قرّرت ولو لمرّة واحدة، أن أفكر وأسمع بصفاء. ظللت أدقّ على الباب بشدّة دون أن أفقد الثقة بأنه سيُفتح لي. لم أرجع تلك الليلة إلى البيت.

 

* ولدت ليلى قصراني في محافظة الأنبار بالعراق العام 1967 لعائلة آشورية. حائزة إجازة في الأدب الفرنسي من كلية الأداب - الجامعة المستنصرية. تقيم في الولايات المتحدة الأميركية منذ تسعينيات القرن الماضي.