يتناول الكاتب المشهد التونسي عامة وتجربة الفنان حافظ الجديدي، كجزء من جهد تقوم به ثلة من الفنانين الذين راهنوا على الفن المعاصر، وأصروا على جعل فنّهم فنّا اجتماعيّا يتدخّل في قضايا المجتمع، ويمارس في المكان العام بما يؤمن له التشابك مع إرتجال السابلة ومشاركتهم.

ثورة بشر من طين

محمد الفارس

توجد اختلافات متباينة حول تعريف الفنان، فبينما يراه البعض أنّه باحث ومجرّب بالأساس يراه الآخرون أنّه مرآة لواقع المجتمع وقضاياه، إلا أن الجميع قد يتّفق على أنّه في حالة مخاض دائمة، يولّد الأفكار وينفذها بما أوتي من إمكانيات وليكون معاصرا يكون ملزما بمواكبة التحولات التي تطرأ على المشهد الفني المحلي والعالمي وعدم التقوقع على نفسه، وبذلك ففنان اليوم اجتماعي بطبعه. وبعيدا عن الأروقة والمتاحف لا يزال الفنان يبحث عن إنزال الفن من عليائه وقدسيته التي زاولته طوال القرن المنقضي.

وعند حديثنا عن المشهد التشكيلي التونسي يروق لنا التركيز على الجهد الملحوظ الذي تقوم به ثلة من الفنانين اللذين راهنوا على الفن المعاصر وأصروا على جعل فنّهم فنّا اجتماعيّا يتدخّل في قضايا المجتمع وشواغل العامة وجعل الفن يولي الأهمية للحياة اليومية البسيطة ليصبح واقعا متعايشا يمارس في الساحات العامة والأماكن العمومية فيتنقل الفن حيث المتفرّج العابر فيكون أكثر واقعيّة وأكثر تلقائيّة ليلعب الإرتجال دور الرّيادة في عمل يبدأه فنان ويواصله العامة بمشاركتهم التي تصل إلى حد المشاركة بالجسد.

صار اليوم فن الشارع الذي تبلورت معالمه مع ظهور الفن المعاصر، يباغت الشارع التونسي بعروض قياسية ينجزها فنانون تونسيون راهنوا على كسر الحدود بين الفنون والفن والحياة الواقعية ومن هذا المنطلق بدأت تتبلور معالم الفن المعاصر في تونس منذ عقدين تقريبا ليصبح فنا يحضى باهتمامات النقاد ويستدرج العديد من الفنانين.

تستوقفنا في هذا الإطار تجربة حافظ الجديدي الذي جمع في نشاطه الفني العديد من الأجناس الفنية ويلحظ المتتبع لتجربته توجهه في السنوات الأخيرة إلى فن الشارع من خلال العديد من العروض القياسية من بينها "بشر من طين I" و"بشر من طين II" و"بشر من طينIII"، وإن كانت العروض الثلاثة متشابهة من حيث توظيف الجسد الحي واستعمال مادة الطّين، فإنّها تختلف من حيث الإخراج والفضاء والزمن.

اتّسم العرض القياسي "بشر من طينI" الذي أنجز سنة 2008 بوقفة تفكّر وجودي وكان ولادة كائنات طينية تخرج  للعامة وتمشي متثاقلة في طريقها نحو شاطئ "بو جعفر" بسوسة وعلى دقات الطبول تدخل البحر لتخرج في هيئة بشرية بلباس مدني، وقد حظرت في هذا العرض القياسي الرمزية حيث يعود الإنسان إلى طبيعة خلقه ليعانق ضوضاء المدينة.

تتواصل رحلة البشر الطينيون ليخرجوا في سنة 2011 في شارع الحبيب بورقيبة بتونس العاصمة ليلا، وفي شارع مزدحم بالمارة سار الطينيون مع المارة على إيقاع الطبل حاملين في أيديهم قفافا ويتقدمهم قائدهم حاملا مضلة سوداء، وبالرغم من أن العرض غلبت عليه التلقائية والإرتجال، فقد غلب عليه تصوّر نقدي اجتماعي خاصة وأن العرض جاء بعد الثورة الشعبية في تونس وفي وضع إجتماعي متوتر فكان العرض ذو علاقة بواقع العامة ويسجّل واقعا يوميا في طابع تمثيلي فني.

 


 

تعاودنا إطلالة الطّينيين في 14 جانفي 2012 في حلّة ثوريّة وسمّي العرض بـ"ثورة بشر من طين" ليسجّلوا صورا من الثورة التونسية فترى رجلا طينيّا يجرّ عربة إعتاد التونسيون على تسميتها بـ"الكريطة" عليها رجل يتلمس جثة وراءها ثلة من الطينيين يرفعون أيقونات رمزية لعدسة تصوير وكتاب وقلم بالإضافة إلى أيقونات المواقع الاجتماعية الإلكترونية، ليسير الركب من أمام شاطئ بو جعفر ويجوب الشارع ويصل للمدينة العتيقة حيث دخل الطينيون خلوة ليخرجوا بأياد زرقاء كإشارة للحدث الذي شغل الشارع التونسي وهو الإنتخابات في شكل نقدي وفي طابع فني تمثيلي.

في هذا العروض القياسية تحوّل الشّارع إلى فضاء فنّي يسكنه بشر من طين ومارّة شدّهم الذّهول ممّا يشاهدونه، ودفعهم الفضول للالتفاف حول المؤدّين والتساؤل عما يرونه ويسمعونه. اختلط المؤدّون بالمارة فاختلط الفضاء الواقعي بالفضاء الفني ولعبت الحركات التي يؤدّونها دورا هاما في كسر حدود الفضاء ليتوقّف الزمن الواقعي ويبدأ الزمن الفنّي، وهو عبارة عن احتفال بالإنسان الطّيني.

في خضمّ هذه العروض اختلط المتفرّجون بالمؤدّين فأعطى العرض القياسي الفضاء الواقعي صبغته التّمثيليّة المسرحية ليصبح الشارع فضاء واقعيا وتمثيليا في آن واحد ويكون المؤدّون مصدرا لفرجة حيّة وتنبثق بين الفنّان والمتفرّج علاقة جسديّة فتغيب الفرجة المركزيّة كما عهدها الفن التقليدي في الفضاء المشهدي وتحضر المشاركة الجماعية ما بين المؤدّي والمتفرّج، فيتسايران في الشّارع يعانقان ضوضاء المدينة بازدحامها وسيّاراتها  وضجيجها، هنا والآن يدور العرض ولا شيء يخفى عن المتفرّجين فيحضر الارتجال وعنصر المفاجأة وللمتفرّج آنذاك أن يعبّر عمّا يختلج في أعماقه تعبيرا مباشرا تلقائيّا فله أن يركض وله أن يصيح وله أن يلامس المؤدّين وكلّ شيء يجوز في هذه العروض التي جمعت بين التّمثيلي والواقعي في آن واحد.

ضربت العروض الثلاثة أفق انتظار المتفرّج وخرج عن المتوقّع حيث تحوّل من عابر سبيل إلى مساهم في أطوار العرض ومشاركا فيها ذهنيّا وجسديّا ليعيش طفرة من الأحاسيس في وقت وجيز لا يتعدّى السّاعة والنّصف، فيغوص في مغامرة جديدة لم يألفها.

للطّين علاقة حميميّة مع الإنسان حيث أن الديانات السّماوية أكّدت على أنّ الإنسان أصله من طين فجاء في القرآن الكريم " إذ قال ربّك للملائكة إنّي خالق بشرا من طين فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" (سورة ص) ويذكر أن المسيح كان يضع الطين السائل على وجه الأعمى يعيده مبصرا، ومنذ القدم كان الطين همزة الوصل بين الإنسان وطبيعته فصنع دمى الطّين وصيّرها آلهة تقيه جبروت العواصف والمطر والحيوانات المفترسة، وحتى الفراعنة وجدوا في الطّين مكوّنا لخلطة المومياء، وفي تاريخ ليس ببعيد منّا كتب كولمبس في رسائله عن السكان الأصليين لأمريكا: نحن في أوربا لنا وجه واحد وبمشاعر عديدة ولكني وجدت أولائك البدائيين لهم وجهان، واحد مثل وجوهنا وله نفس ما لنا من مشاعر وآخر عبارة عن قناع من الطّين وله مشاعر لا تحصى.

في العروض  القياسية "بشر من طين I و IIوIII" يحيلنا الموضوع إلى بداية الخلق فكأنّ المؤدّين كائنات بشريّة أخذت من هيئتها نشأتها الأولى وخرجت من الصلصال لتعانق جسد الإنسان المتمدّن الذي كست لحمه الثياب فاتّحدت صورة الخلق بصورة الحياة في صخبها وضجيجها.

وكانت هذه العروض القياسية أشبه بالطّقوس الاحتفالية وكان الشّارع فضاء اللّعب حيث مثّل فرجة عفويّة في فضاء عمومي وكوّن علاقة بين الفضاء الحي وفضاء التّمثيل وبين الواقع والتّمثيل وبين الفنّان والمتفرّج. وهي عروض زائلة تركت أثرها في المتفرّجين ولعب فيها الارتجال دورا هامّا  واكتست بالتّلقائيّة والعفويّة سواء في حركات المؤدّين أو في تدخّلات المتفرّجين، كما مثّلت علاقة الجسد مع المادّة وهي الطّين السّائل الذي يتميّز باللّيونة ويسهل تطويعه مما يعطي الفنّان أكثر حريّة ويغطّي الجسد بطبقة غير سميكة تحافظ على الشّكل ونتوءات الجسد فيأخذ هيئة مغايرة للمألوف ليصير جسدا آخر يتّصل اتّصالا مباشرا بأجساد المتفرّجين ويضمن التّبادل الملموس بدون حدود مكانيّة أو زمنيّة. ويحتلّ بذلك جسد الفنّان الفضاء العام ويجعله فضاء خاصا. وهذه قامت هذه العروض على التّعبير الحركي الذي لم يخل من الارتجال مما يذكّرنا بما نادى به "أرتو" في مسرح القسوة وغيره من المنظّرين للمسرح المعاصر بضرورة تحرير الجسد والكشف عن الجانب الإنساني فيه وجعله محور الفرجة. فتحرّر الجسد من الأسوار ليعانق الشّارع برحابته في لقاء مباشر مع المتفرّجين بغير سابق إنذار كاسرا قيود الفرجة التقليدية. فيصبح جسد المؤدّي هو المحور الذي يفجّر لغة حركيّة يغيب فيها النّص، ويكون الجسد هو باعث الرّسالة وما على المتفرّج إلا فكّ رموزها وفهمها.