هنا عرض مسرحي يحاول طرح رؤية جديدة لنص درامي عالمي طالما كان محور معالجات دراماتورجية عديدة، ومن خلال الإنصات لصوت نقدي أصيل نكتشف سمات ورؤية الإخراج التي تحكمت في تحقق العرض خصوصا بعد فعل المشاهدة الأولى والذي كان أمام لجنة الدعم والانتقاء المسرحي.

المأساة بقناع الملهاة في مسرحية «كاستينغ»

محمد زهير

في مكان وزمان غير محددين تلتقي ثلاث شخصيات/حالات، في بحث عن زمنها الضائع بعد أن تقدم بها العمر وتغير إيقاع الحياة من حولها، فلم يعد لها مكان في الملاهي التي كانت تستعرض فيها ألعابها البهلوانية، ولا في المسارح التي تألق في محافلها أداء بعضها.. ثلاث حالات تبحث عن استعادة المفقود الذي لا يمكن استعادته، فالزمن الوحش التهم نضارة العمر، والحياة تغيرت عوائدها، فلم تعد تحتفي بألعاب وفرجات كانت رائقة يوما. ولم يعد أحد يعير اهتماما لبهلوانات أنهكهم الزمن فصاروا عرضة لآفاته. وهذا يعني انقطاع ما كان موصولا بينهم وبين الغير، أي بينهم وبين الحياة التي كانت مقبلة عليهم في زمان تألقهم. وهو إيذان بالنهاية أو باقتراب النهاية.

ثلاث شخصيات مثقلة بذا كرتها فاقدة لمورد عيشها، تلتقي في مكان وزمان ملتبسين بحثا عما يرمم كيانها ويحرك حوافز الحياة في ذاتها. واللقاء كان بدافع "كاستينغ" لاختيار أحدها لعمل لا يُعرف ما هو بالضبط، قد تكون له صلة بما كانت تمارسه وقد لا تكون. وإذا كانت فماذا بإمكان المرهق الشريد سوى سقط عمل كيفما كان لسد غائلة الجوع!. بل إن "الكاستينغ" قد يكون مجرد خدعة وجدت في ذوات البهلوانات استجابة لإثبات أن صلاحيتهم لم تنته بعد! فكان لقاء كل منهم بالآخر لإشراع الذاكرة على نزفها الموجع. هكذا صار اللقاء لحظة لاستحضار واستعراض ما كان عليه حال كل منهم، وما يزعمون أنهم ما زالوا يمتلكونه من الطاقات والمهارات، يدعيها كل منهم على الآخر لإظهار تفوقه وجدارته من ثمة بكسب "الكاستينغ". وهو سلوك لإثبات الذات ووجه من الصراع الذي لا ينقطع بين البشر حتى وهم على حافة الموت، بل هو صورة للحياة في وجه من وجوه اختلالاتها، صورة التدافع والأثرة ومواجهة عنف الحاجة بعنف رد الفعل ضد الأقرب إليك، والمعاني نفس معاناتك. وهي حالة مضاعفة للمأساة، إذ يخطئ الفاعل فيها فأس الحطاب ويصيب الشجرة التي تنتسب إليها سلالة الفاعل المهيضة.

يفجر البهلوانات الثلاثة صراعا ضاريا بينهم، على خدعة وقعوا في شركها، أو على وهم باختيار أحدهم لعمل قد لا يكون موجودا أصلا!. ومن خلال ذلك الصراع يحاول كل منهم استرجاع زمانه رغبة في وصل المنقطع، وتمسكا بالحياة التي يضيق مجالها أمامهم فلا يعدو التدافع والتصادم، في محاولة استعراض كل منهم ما لديه، أو بالأحرى ما كان لديه، فتنتعش ذكرى الماضي في الحاضر وتجهد الذات في استحضار بقايا ساكنها، ويتيقظ توق الحياة في فضاء الخشبة كوهج النار قبل الانطفاء.

الرغبة المستحيلة في استعادة المفقود.. الصراع الضاري من أجل إزاحة الغير وضمان البقاء بأي وجه.. محاولة مواجهة اكتساح الزمن لخرائط العمر.. اللاعب الذي يصير لعبة.. انتهاء الدور والتمسك به رغم انتهائه.. العجز المتظاهر بالقوة.. تلك هي المدارات العويصة لخلفية هذا العمل الدرامي الذي يتقنع بقناع الملهاة، وهو في جوهره مأساة بأبعاد فلسفية وجودية، يرشح بها وضع الحالات وتطلعها، وهي تقاوم عجزها وتكابر في عدم التسليم بانكسار باد لإحساسها الجريح، فتتحرك في مجال رتيب، كل شيء فيه يخز الإحساس ويعكر صفاء النفس: المجال الملتبس المحدود بمداخل خلفية ليست أبوابا ولا نوافذ وبستائر مشعرة بالفراغ.. الكراسي الثلاثة الواطئة المتقشفة الخاصة بالبهلوانات، والتي تظل أغلب الوقت شاغرة في إشارة إلى شغور زمنها، والتي يحاول البهلوانات أن يؤدوا عليها بعض حركاتهم، في فضاء غير الذي كانت تلعب فيه! فتبدو حركاتهم غريبة غرابة لباسهم وقد أخذ منه الزمن جدته، فصار كالإشعار بالسفر الذي تشير إليه حقائبهم المحملة ببعض أشياء قديمة، كالشظايا من لحظات صارت سديما واستيهاما حلميا، لعله الانبثاق الذي بقي للذوات الثلاث في نهاية المطاف، لكي تواجه موتها المحتوم..

لقد حاولت المسرحية أن تخترق الأستار الشفيفة المنيعة لنص مسرحي مراوغ، اقتبسه المبدع إبراهيم الهنائي ـ عن مسرحية "خدمات صغيرة لمهرج عجوز" لمؤلفها "ماطيي ﭭيشنيك" ـ وأخرجه لفرقة " همزة وصل للإبداع" من مدينة آسفي، المخرج أحمد الفطناسي، واقترح سينوغرافيا عرضه المبدع الحسين الهوفي.. لتتكاثف على تشخيصه مجموعة طاقات لم تذخر جهدا في بناء عرضه بما أتيح لها من إمكانيات.. وهي مغامرة صعبة تخوض غمارها هذه الفرقة الفتية، التي أسست لحضورها بالعمل المدروس والحوار الثقافي الملازم له.. وصعوبة مغامرتها في عملها الراهن "كاستينغ" يمكن اختصارها في:

1 ـ اشتغالها على نص درامي مركب في بساطته. فالظاهر منه كسطح البحيرة الزاخرة أعماقها بتدافعات الحياة وألغازها. وهو نص يتيح مساحات واسعة للمتخيل المنتج، إذ كل حالة من حالاته الثلاث تتقدم محملة بتجاربها الشخصية، التي كلما أمكن اختراقها كلما اكتشفنا ما تزخر به حياتها من مكاسب وتصدعات، حتى انتهت إلى ما انتهت إليه من الفقد والعطالة والتقدم في العمر والخسران.. وهو ما يضاعف دراميتها إذ نراها على حافة الموت المادي والرمزي، بعد انصرام سنوات التألق والإشباع، والوقوع بين مخالب الفقر والعجز والوحدة والتيه في العراء..

2 ـ اختيارها لنوع من المسرح ذي بعد ثقافي، أعني المسرح الذي لا يستجدي التصفيق بالحركات والعبارات والأوضاع المبتذلة، أو لا يستجدي التهريج بالتهريج.. وهذا الاختيار له تبعاته بطبيعة الحال، لما يتطلبه من دقة في التعامل مع مكونات عالمه، حتى يمكن التفاعل الإيجابي معها، سواء على مستوى الإنجاز أو مستوى المشاهدة.

3 ـ محاولتها تشييد العرض بقيمه الضرورية للمشاهدة الفنية. فالمسرح مشاهد تركيبية لمختلف العلامات المرئية والمسموعة، بكيفيات وطرائق مبدعة..

وعلى هذا المستوى فمسرحية "كاستينغ" اعتمدت في بناء عرضها على مكونات بسيطة لكنها دالة في هندسة الخشبة، وفي الملابس والأدوات.. والمهم في العمل المسرحي هندسة مكوناته في فسيفساء منسجمة المواد والنسب، وتركيبها في تآلفات فنية دالة.

وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى:

ـ دلالة الفضاء شبه المغلق الذي تجري فيه الأحداث، وما يثيره من إحساس بالنهاية وعبث الفعل في زمانه الساكن الرتيب.

ـ تأثيرية المقطع الشكسبيري، الذي عبر كالحلم في لحظة من لحظات المسرحية.

ـ استجابة المقاطع  الموسيقية لأجواء العرض، الذي لم يكن ليخلو من بعض الاستطالات غير الضرورية، وأحيانا بعض البياضات المقطعة لمتوالياته، وبعض الحركات الجسدية التي تفيض أو تشذّ عن إيقاع مجراه.

وإذا سلمنا مبدئيا بأن ملفوظ البهلوان يلائمه اللسان الدارج، فإن أبعاد حالته تستدعي ملفوظا متفاعلا مع خصوصية حالته في سياق المسرحية، أي تستدعي دارجة خاصة داخل الدارجة العامة، دارجة تلتقط وتعبر عن الانفعالات والتوترات والتداعيات المتدافعة في ذات الشخصية. فالحالة كالموقف والموضوع، تستدعي لغتها المفارقة. وهذا يتطلب بذل جهد إضافي دائما، في إيجاد الإبدالات اللغوية الملائمة لسياقات العرض ورهاناته.. وبطبيعة الحال، فاللغة الملفوظة عنصر بنيوي ضمن عناصر أخرى في نسيج العرض المسرحي، تتكاثف جميعا في إبداع مشاهده الدرامية، التي اجتهدت المسرحية ما أمكنها في بناء لحظاتها، بما توفر لها من إمكانات نعرف أنها على المستوى المادي من باب جهد المقل.

تصل فرقة "همزة وصل للإبداع" بهذا العمل "الكاستينغ" إلى الإنجاز السابع في رصيد عروضها المسرحية، فهي تعمل وفق برنامج مؤطر بفهم يعتبر المسرح قيمة ثقافية فنية هادفة.. ومسرحية "كاستينغ" حلقة في هذا المسار المتميز بتنوع تجاربه وطموحه المتواصل للارتقاء بممارسته من عمل لآخر، ففي عمل الفرقة الراهن (لموسم 2013 ـ 2014) يمتد أفق اهتمامها إلى تجربة جديدة مما تستجيب لطموحها في توسيع أفق الممارسة المسرحية المراهنة على البحث والإضافة.

 

إشارة:

معتمد هذه المقاربة العرض الذي قدمته فرقة "همزة وصل للإبداع" لمسرحيتها الجديدة "كاستينغ" بمسرح دار الثقافة ـ مراكش. مساء يوم 17-12-2013.