تحيل رواية (وديعة إبرام) وهي أحدث إصدارات الروائي العراقي المجدّد طه حامد الشبيب قارئها إلى المتن الروائي المسبوك الذي عقده بدأب مدهش مذ انغماره في العالم السردي منتصف تسعينات القرن الماضي، بل إن أثره الروائي الجديد (أعني وديعة إبرام) يدفع المتلقي (بله الناقد والباحث) للتوصل الى تخريجتين متحايثتين: القطيعة والتراكم، القطيعة مع السائد السردي العام والتراكم مع منجزه الخاص الذي بلغ مع جديده الصادر اثنتي عشرة رواية كاملة لا تذكر إلا مع ساردها ولا يوسم هو ألا بها، وان أية مقاربة للرواية الجديدة هي بمعنى ما اتصال بالمتن السردي الذي أثثه طه حامد الشبيب منذ روايته الأولى (انه الجراد – 1995) وحتى أيقونته الأحدث (وديعة إبرام – 2011).
ومن المفيد أن نأتي هنا إلى استشعار المغزى الكامن خلف توالي ظهور الروايات الشبيبة _ وباضطراد كمي لافت _ وبشكل هندسي وزمني دقيق: رواية كل عام تقريبا وهو ما لم تشهده الرواية العربية والعراقية منذ نشأتها الطويلة والقصيرة حسب التراتب الزمني للأولى والثانية، بمعنى آخر إن الزخم الروائي للشبيب كميا ونوعيا يوجب على الدارس الموضوعي أن يكيف الروايات الاثنتي عشرة للشبيب في مرتبة بحثية مميزة لغرض دراستها وتنميطها واستخراج الظواهر الفنية والمناحي الجمالية والاستهلالات الزمنية التي انطلقت منها وفارقتها في آن، كما أن مسعى بحثيا كالذي ندعو إليه سيفضي حتما إلى تأشير مغزى إصدار رواية جديدة كل عام ولا يخرج عن كون الروائي مصمم على تأسيس نوع روائي مجّسر بمتونه الموارة بالفرادة والاختلاف،ولعل هذا الجهد النوعي في الدرس لو تم لتيسر الخروج بتوصلات نقدية مفارقة بل مضادة لما هو مشاع ومعلن في الراهن.
وقد ذكر الناقد العراقي الكبير الدكتور حسين سرمك حسن في سياق ندوة احتفائية بمنجز طه حامد الشبيب الروائي ((إن كل رواية من رواياته عالم مستقل قائم بذاته ولا يكرر نفسه لا في الحبكة ولا في البناء على الرغم من أن أسلوبه فيها واحد وإلا فمعنى ذلك أنه يتغير شخصيا أسلوبيا في كل رواية يكتبها، ويبدو لي أن لا احد يجرؤ حتى الآن على تقديم دراسة أسلوبية لهذا الروائي والواقع أن دراسة الأسلوب والأسلوبية هي من اعقد المعضلات في النقد العالمي. طه حامد الشبيب يسعى بإحكام ومكر لتحطيم سلطة العقل ومسخ هيبة المنطق إن أعظم ما حققه التحليل النفسي للمعرفة البشرية هو تأكيد حقيقة صادقة وفي العراق يكاد يكون طه هو الوحيد في هذا المجال ينطبق عليه هذا الاستنتاج على روايته الأولى (انه الجراد) وما تلاها))،ولا شك أن إشارة الدكتور سرمك تبطن إدانة واضحة لخفوت وتباطؤ الصوت النقدي العراقي في استغوار المنجز السردي الذي قدمه ولم يزل روائي مجدد كالشبيب.
الرواية كمشروع
تنطلق الكتابة الروائية للشبيب من مشروع رؤيوي سابق على التدوين السردي الذي تجسد في حلقات هي اقرب للبناء القائم على أسس هندسية ومعمارية ممهدة بل ومفضية لمشروع أولي صارم بمعنى أن الحلقات السردية التي أطلعنا عليها بشكل فردي إنما تتجمع وتتهيكل في هيئة مشروع كلي يحوي ويلم وحداته الموزعة زمنيا (ستة عشر عاما) وكميا (اثنتي عشر رواية) حتى ليمكن القول إن القراءة المفردة لأية رواية لا تنفذ لمعرفة ايجابية ومجسدة لما انتواه الشبيب في مشروعه إن لم نقل إن قراءة منقوصة كهذه ستكون قراءة سالبة.
والمشروع الذي نوهنا إليه يقوم إجمالا على انتشال الرواية من قبو الحكاية وتركيزها في فضاء الخطاب، فالباحث عن فن الحكاية سرديا لن يجده في متون الشبيب مع انها (المتون) لا تخلو من سياقات ألحكي في جزيئات الصراع والشخوص والمناخ العام للسرد لكن هذا يأتي جزءا من منظومة خطاب مؤسسة قبلا، والخطاب هنا يعني وجود رؤية فلسفية سابقة يسقطها السارد على العالم والإنسان فتصبح الرواية مهادا لتجسيد ذلك الخطاب الرؤيوي بشكل اقرب إلى البناء الهارموني، وبرغم من انقطاعات وحداته الظاهرة الا انه وفق مقاربة متنافذة يظهر متماسكا بقيم وخلاصات الخطاب المشار اليه.
(وديعة ابرام)
في روايته الجديدة (وديعة ابرام) يمد طه حامد الشبيب مجسات خطابه الى عالم موغل في القدم قد يحدث تماسا مع (عالم الماورائيات) او طبقة (المقدس) بمعنى أدق، وهو مجال لم يكن مطروقا بهذه الجرأة والكثافة في تراثه المنشور: لا في رباعيته الروائية الأولى (انه الجراد / الأبجدية الأولى / مأتم / الضفيرة) التي خصها لمواجهة السؤال الأزلي الذي شغل البشرية منذ فجرها: ما هي "حدود العلاقة بين السلطة والناس؟ او الحاكم والرعية؟" وصور تقاطع تلك العلاقة المأزومة وغير المتناظرة، في حين فجرت روايات أخرى مثل: خاصرة الرغيف / الحكاية السادسة / حبال الغسيل / مقامة الكيروسين، أسئلة كبرى تخص الأزمات البشرية في أهاب مفصليات تاريخية محتدمة بالاحتلالات العسكرية والمغامرات الانقلابية ومن هم الضحايا الأكبر في هذه التحولات الصاعقة خلال الألفيتين؟.
(وديعة إبرام) تتوغل أفقيا وعموديا في منطقة اشتغال لم تتجاسر على مقاربتها الرواية المكتوبة باللغة العربية ونعني بها المنطقة المقدسة التي تحفل باختلافات وتذللات وصراعات وانتهاكات ما بين الجهر بالتديّن او الهمس بالتمرد عليه حتى ليصبح الحوار معه (أي المقدس) أمرا تشوبه الخطورة والنبذ، غير أن الشبيب يفتح قي روايته باباً لن يتم غلقه بسهوله أو حتى تدارك نواتجه القادمة فهو يواجه سؤالا إشكاليا: كيف نشأ الدين ومتى ولِمَ؟! وسؤاله المركّب هذا يبدو متجاوزا الإجابة التي وضعها (دوركهايم) في كتابه "الأشكال النموذجية للحياة الدينية" وخلص فيها إلى إبراز المكانة التي يشغلها المقدّس في بناء الاجتماعي، انطلاقا من فرضية أن "كل المؤسسات الاجتماعية الكبرى تقريباً نشأت عن الدين "ودعا إلى أن نجد في الدين "التعبير المختصر للحياة الجماعية بأسرها"، وأكثر من هذا فإن الشبيب بتسريده لحيثيات وأركان وأسرار هذه المنطقة والتزاحم فيها وحولها والساعين بذلاً وانتفاعاً ووهماً ومحقاً يثير الشك ويبلج الخلاف مع ما ذكره سيسرون في كتابه (الدِّين في حدود العقل) من ان(الدِّين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية)!، لهذا أحدس ان الرواية هذه ستسحب حال نشرها إلى دوائر الجدل وحلقات الاختلاف طالما أنها جرؤت وناوشت المقدس بما يثلمه كشفاً وإشارة ًومراجعة ًوهذا ما لم يقابله منذ آلاف السنين وتعدد الحقب.
من المتن
يفرش الروائي زمنه السردي لأكثر من خمسة آلاف عام فيطرق فجر البشرية في مسارها الأول، المجاميع البشرية الهمجية والطبيعة البكر والعلاقات المشاعية، وفي أول مدينة في سومر تنشأ المكونات الإنتاجية الأولى وتنطلق فكرة الملكية بأشكالها البدائية وتتخلّق الدعوة لمبايعة ملك فبويع (ليلوم ابن ايناكلي) كاول ملك في (الأرضين) وسيحتاج الملك الى وزير فيكون (كاجينا ابن آينمر) وزيرا إلى يمين الملك ثم تسلسل باقي العناوين: الحاجب / صاحب خزائن القصر/ قائد الحرس / المنادي بأوامر الملك.. الخ.
ولا بد من أن يكون للملك قصر فيكون وبلاط فره فيُرفع، بهذا الشكل أقيمت اول ملكية في الأرض.. في سومر.
حكّاؤون أم معلمون؟!
كان هناك حكاؤون أربعة يعقدون جلساتهم الليلية على (رابية معشوشبة) ويجهدون بأعمال أفكارهم في ما ينرسم او يبرق في السماء وما يتحرك في الأرض من أشياء ومخلوقات،
وكانوا يسألون بعضهم: ما الذي يميزنا عن الحمير والبقر؟!
فكانوا يجيبون بتندر ((سوى أننا الشعيرَ نأكلُ ومثلما الحمير والبقر تتسافد نتسافدُ)) ثم مضوا يشخصون أبصارهم بين السماء والأرض ويساءلون بعضهم: من أين نبتدئ؟ وما المتحرك؟ ما الثابت؟ وما النواميس التي تنظم الحياة؟ وقد قلبّوا الأشياء في السماء كانت ام على الأرض ليستقطروا منها النواميس ((فلم يغفلوا شاردا أو واردا إلا وميزوا نواميسه المنظمة لكل شؤونه))،
وفي الوقت الذي انشغل فيه الحكاؤون أو الشبان الأربعة بتأمل الأشياء والنواميس في العارض والسماء، كان رجال الملك من وزير وقادة يغزون المزارع البعيدة والقرى في أطراف سومر لضمها إلى المملكة ويعمدون الى جمع الأموال وإخضاع الرجال (الهمج)،وإذ انشغلت الملكية في فتوحاتها وتخضيعها لما حولها , كان الحكاؤون في جدلهم يوشكون على (كشف الغطاء عن معرفة ما.. معرفة لم يخبرها احد قبلهم قط) وقد استهلت تلك المعرفة بسؤال خطير منهم: مَن الذي وضع للأشياء نواميسها؟!.
الصانع الكبير
أولئك الحكاؤون..زُرّاع الشعير.. أبناء سومر توصلوا الى كشف غطاء المعرفة: ثمة صانع كبير للأشياء وله صُنّاع صغار طوع أمره يُحيون ويُميتون البشر والحيوان والشجر نيابة عنه، فاطلقوا على هذا الصانع اسما دالا (آن) وعلى اول بنيه (انليل) ثم تسلسلت أسماء الصُناّع الصغار من بعد انليل.
لكن هذا الصانع ذو العمر الطويل هل سيموت؟!.. فيجيب بعضهم (سيموت ولكن بعد أن ينطق بكلمة الموت على جميع الأشياء.. وسيموت بعد أن يتعب من رعاية الأشياء لكنه وقبل أن ينطق بكلمة الموت على نفسه سينطقها على جميع الأشياء في السماء وعلى الأرض) غير أن هذا الصانع الكبير الأول صنع له السومريون الأربعة امرأة ً فأولدها صُناعاً صغاراً ليمدوا له يد العون فلا يتعب من صناعة الأشياء ورعايتها، لكنهم رفعوا غطاء معرفة لم تخطر لغيرهم من المخلوقات أجمعين: ان هذا الصانع لا يموت ولكنه سينطق بكلمة الموت على الأشياء التي صنعها، ومن ثم توصلوا في جدلهم الدائب إلى ان النواميس ستبقى حتى بعد ان يموت صانعها، وهذه التخريجة الهامة ستطبّق على الملك ليلوم ابن ايناكلي الذي ما إن وضع النواميس للمملكة حتى مات في النهاية ولكن المملكة ستدوم بعده.
وماذا بعد صناعة المقدس الأول؟ وماذا بعد صناعة زوجة له أنجبت له صُناّعاً صغارا؟ لا ريب إذن إننا أمام محصلة منطقية قوامها أن الدين في نشأته الأولى كان صناعة سومرية !.
السحرية الواقعية
في هذه الرواية كما في رواياته الأخرى ينتهج طه حامد الشبيب نهجا مغايرا لما عرف في السرد الروائي ب (الواقعية السحرية) فقد سعى لترسيخ اختلافه ونهجه المغاير لسواه من الروائيين ولا سيما المنتسبين لمدرسة أمريكا اللاتينية، فهو يشيد وينمي ويرسخ مفهومه عن(السحرية الواقعية) وهو المفهوم المقابل لمفهوم مبدعي تيار (الواقعية السحرية) وحاذاهم وقلدّهم عدد كبير من الكتاب والروائيين وفي جميع القارات،لكن أديبنا المتنوّر الذي كان قد فطن إلى لعبة الإبهار والاستلاب شاء أن يشيع هو مفهومه واتجاهه وهكذا استنبط (السحرية الواقعية)وفيها يبدأ السرد من لحظة مفارقة تشي بسطوة سحرية الواقعة المنظورة بعين الراوي في الاستهلال ثم يزدحم المشهد بالفنطازيا والغرائبية..ولكن السارد(الذي يتوجب أن يكون عالماً وعليماً حسب الشبيب) يمعن في الرصد وتعليل الواقعة وكشف المتواري حتى يتضح للمتلقي انه إزاء واقعة معاشة في الراهن وان استهلها الروائي بمشهد سحري ما لبث إن انزاح أو تم كشطه وفضحه فإذا به هو الواقع المعاش ولكنه مغلف بإطار غرائبي أولا واقرب للسحر لو تم النفاذ لمجرياته وآصراته.
في (وديعة ابرام) نقع على الاستهلال ألغرائبي (السحري) الذي نوهنا عنه فنحن إزاء دولاب يدور ويلف بالأولاد الصغار حتى ليكادون يمّسون الأرض وتارة يصعد بهم إلى حضن السماء والراوي يرقبهم والغثيان يسري منه الى صغيره المُصفرّ، الدولاب في هذا المفتتح هو مفتاح الرواية كلها ذلك أن السارد (بلسان راويه الأول) يصعّد من مشهد الدولاب إلى المرتبة الغرائبية والسحرية: ((ركيزتا الدولاب منغرزتان مندقتان، عميقا في طبقة الأرض التي لا بد أنها، بل اقسم على أنها تطمر تحتها نفّر التي اتخذها انليل موطناً بعد أن فرغ من شطر جبل الكون الى ارض وسماء)).
لقد صعّد الراوي الاول مرأى الدولاب الى مستوى اندلاق السحري والغرائبي منه، لقد بدا للعينين المسمّرتين فيه بأنه كان يلف خارج سيطرة صاحبه، بل بدا له ألاّ صاحب للدولاب وانه سيبقى يلف بالأولاد إلى ابد الآبدين دون أن ينتبه اليه احد فيوقفه، وقد تماهى الراوي أولا مع التربة التي يقف عليها الدولاب فتكشفت له مدينة نّفر حيث يستوطن انليل، وإذ يمسك بقاعدة الركيزة المعدنية الأولى ويغرز عينيه في تربتها سيرى المدينة في سومر حيث مملكة ليلوم والحكائين الأربعة، ثم يغرز عينيه بقاعدة الركيزة الأخرى فينفذ الى مدينة اور حيث تكون شخصية إبرام مشغولة بجمع وقراءة الألواح السومرية في بيت الألواح. إنها ليست انتقالة في المكان بل في الزمان كذلك فالفارق بين وقائع مملكة ليلوم في سومر وسيرة إبرام في اور تجاوز أربعة عشر قرنا.. هنا تبدت (السحرية الواقعية) بأوضح ما يكون , ذلك أن مستهل الرواية بمشهد الدولاب الذي يطل على ثلاثة مدن: سومر واور ونفر ويطوف على ثلاث وحدات زمنية متباعدة ولكن الدولاب يلم أشتاتها، كل هذا يحقق الاستهلال السحري للرواية ثم بتوارد الفصول وسياقات الأحداث التي يستردها الراوي من خلال إطلالات الدولاب عبر العصور والأمكنة يتجلى الواقع بتركيباته وتمظهراته جليّاً صادما بعد ان كان مولوجا ومتلبسا في السحري الاستهلالي.
السرد الثنائي
عمد الشبيب الى سرد ثنائي في حصر وقائع روايته وتدوير إخباره وتبليغاته:
- الأول: السرد المتناوب
- الثاني: السرد الدائري
في السرد المتناوب نكون إزاء ثلاثة رواة رئيسيين يتناوبون على تسريد الوقائع على ما بينهم من تباعدات في الزمان والمكان والرؤى وهؤلاء الرواة هم: شوكليتو / آمارجي / أم إبرام، ويمكن الزج بالحكائين الأربعة في رهط الساردين المتناوبين.
وفي السرد الدائري يضطلع السارد الاول بمهمة استهلال السرد ومن استكمال حلقاته وسد فراغاته التي يخلفها الرواة الثلاثة،وكان لافتا ان السرد في الرواية لا يستقر في منظور واحد او عند رؤية بعينها بل صيغ بطريقة متنقلة وموزّعة بين الأمكنة والحقب حتى تعطي سمات شمولية وجزئيات خطاب متكاملة.
مشكل اللغة
هناك ملمح أساسي في متن الرواية سيطول الكلام عنه ويشتد الجدل حوله لما يتضمنه من علامات مثيرة للظن والاختلاف، واقصد هنا ما له صلة باللغة التي صاغها الشبيب بطريقة إشكالية ومن الصعب أن تتكرر لا مع روايات الآخرين بل حتى في منجزه السابق لم يطرح نظيرا لها في السابق المنشور، نحن أمام مشكل صياغات لغوية عسيرة التركيب في تشكيلها ألحروفي أو تسريبها الدلالي (وهذا التخريج يخص عنصر الحوار وليس السرد) فلا يقطع المتلقي إن كان في مواجهة لغة عربية ام هو في حومة لغات أخرى يغلب عليها التهجين / الطلسم برغم من ان الحروف المكتوبة تنتمي إلى الأبجدية العربية ألا أنها منحوتة بهيئات تبعدها عن القاموس العربي بكل اشتقاقاته، لنقرأ:
(إن هي إلا تانكم الأخبار ما عن إخبار الشبان إياي شغلت) و
(مَن لي بمَن قولتي هذه يا فتيان قد سمع؟) وأيضا (خبر السماء في قلب عَمّنا شوكليتو كان، فإلى علم مليكه ذينكم الخبر قد أنهى)
وأيضا (بعينيك سيدتي على امارجي وصيفتك اقذفي.. أليس من زهر شفتيك شفتاها تصطبغان؟).
إن أية مقاربة للصياغة اللغوية المطروحة أصلا من خلل الحوار ستوقع قارئها في اللافهم واللاادراك لطبيعة الحوار وقصديته ذلك ان قارئ الجُمل الحوارية أعلاه سيصطدم بوحدات لغوية مبهمة لا تؤدي الى أي معرفة، غير ان الفاحص المدقق يخلص الى ان السياق اللغوي مطروح وفق ترتيب خاص:
شبه جملة – صيغة سؤال – أسماء = استهلال المقول أو الإخبار
وفي المقابل تأتي الأفعال دوماً في نهاية الجُمل، بمعني أننا نلتقي جُملا اسمية في البداية أما أفعالها فتتم إزاحتها إلى النهاية، ومن المعروف أن اللغويين العرب يفضلون تقديم الأفعال قبل الأسماء في الجُمل، لهذا قام الشبيب في هذه الرواية بكسر القواعد اللغوية المتوارثة وصاغ الجُمل الحوارية بشكل يحتفي أولا بالأسماء وأشباه الجُمل وعلامات السؤال ويطيح بالأفعال كخاتمة مقصية!
وقد حاولت الخروج بمسوّغ واحد يشكّل فهماً غائباً حول طبيعة المشكل اللغوي المطروح فخلصت إلى اجتهاد شخصي يرى أن السارد قد جنح باللغة الحوارية الى شاكلة مقصودة ولها التصاق وتنافذ مع المكوّن ألقصدي، فمتن الرواية يخبرنا بشكل دوري ان هناك فئتين لا غير تستحوذان على الحركة والفعل والمصائر من دون بقية الشخوص والجماعات التي هي اقرب إلى التمثل الجبري لأوامر ونواهي الفئتين وهما: الآلهة والملوك وليس هناك غيرهما مَن يمتلك القرار وإيقاع العقاب ودفع المصائر إلى حتوفها، من هنا كان مغزى إهمال صيغ الأفعال في الحواريات لأننا إزاء واقع لا افعال ظاهرة فيه ولهذا تعامل السارد بما يتناسب مع الظواهر المبحوثة فقدّم الجُمل الاسمية وأزاح الأفعال الى النهايات لان الحيثيات السردية لا أفعال تخضها وكانت الصيغ الحوارية التي تبدو ملتبسة أو عصية على الفهم متأتية من قصدية تعرف ما تعلن.
قصة خليقة
رواية (وديعة إبرام) تطرح خطابا جديدا وتماسّاً جريئا مع أكثر الطروحات الشائعة والمتسربة بين آلاف السنين حول مفاهيم ساخنة تخص: الآلهة والمقدس والأديان وما يستتبعها ذلك من توافق واختلاف، وما يحسب للروائي طه حامد الشبيب انه طرح رؤاه من مجسّات عالم يمتلك أدوات البحث والتقصي والجدل (الم يقل هو إن الرواية يكتبها عالِم لا أديب؟!) لهذا جاءت تجربته هذه وكأنها جهد مدروس لتشكيل قطيعة معرفية لا تخص الألوهيات وأبحاث الدين بل إنها تسعى في المقام الأول للجهر بقصة خليقة غير مطروقة، فاذا كان من الشائع أن هناك قصة خليقة بابلية وثانية إغريقية وثالثة توراتية فانه سيُتداول لاحقا أن الشبيب قدّم في روايته هذه (قصة خليقة شبيبية) لو صحّ التعبير والتنسيب.. وسيصح !
Newnadhum@yahoo.com