معارك طاحنة ابتدعها المدلسون لجعل البشر أسرى مسبيين في سجون كبيرة، سجون بلا قضبان ولا جدران لكنها كانتونات حصينة لا يمكن الهروب منها فالقائمين على حراستها أناس سوغ لهم خيالهم المريض أن العقائد يمكن تفسيرها بالعقائد، وأن ماورد في كتب مقدسة عند أصحابها يمكن تفسيره بما ورد في كتب مقدسة عند آخرين، حراس كافرون بمبدأ التساوي الإنساني ودائما هم مشغولون بابتداع وتصدير أوهام التمايز الكاذب لبشر على بشر، وهم التمايز الديني والمذهبي والعرقي لمجتمعات يحتلها الجهل والفقر والمرض، ويتقاتل البشر لينسوا حاضرهم المتردي ومستقبلهم المجهول المشحون بالتعصب والإنقسام والتخلف، كما وأن معارك تفسير المقدس بالمقدس أصبحت معارك يومية دامية أشلاء قتلاها عرض يومي على كل الميديا في الجهات الاربع، وبالطبع يزداد عمق الهوة واتساعها كل يوم بفعل فاعلل خبيث يتجه بقوة نحو هدف أكثر خبثا وهو الوصول إلى نقطة النهاية وهو استحالة العيش المشترك أو استحالة (العشرة) بين أعراق وأديان ومذاهب عاشت قرون طويلة منسجمة ولم يكن اختلاف العقيدة أو المذهب أو العرق يشكل كل هذا العمق السحيق وهذا الاتساع الهائل لهذه الهوة القاتلة، والنتيجة هي صراع الكانتونات المتفجر الآن، ولعل الصورة في العراق تنطق بحجم المأساه فبعد خمس عشرة قرن من التعايش بين أعراق وأديان ومذاهب مختلفة كل الاختلاف عرب وفرس وكرد وعبرانيين وأشور وكلدان ومندائيين وأرمن وشراكسة، بعد كل هذه القرون من التعايش السلمي انفجرت أرض اللبن والعسل وتم تدشين وتكريس مظاهر الانفصام بين الاعراق في هذه المنطقة بدءا من الاسماء وحتى الأزياء مرورا بمفردات التعامل اليومي بين الناس، وبالطبع هم يعلمون تمام العلم أنه أي الإنفصام هو المرحلة التمهيدية اللازمة لبلوغ الهدف السامي أو نقطة النهاية أو الحل الحتمي وهو الانفصال والتقسيم، لأن الهوة تعمقت واتسعت ولم يعد في الامكان جسرها، وقد وصلت مجتمعات إلى نقطة النهاية وبلغت الهدف المنشود، بلغته بإقتدار ورأيناه رأي العين، رأينا الحل (الحتمي) في السودان حيث نحرت الذبائح في شوارع الخرطوم وأم درمان ابتهاجا (بتوحيد القبلة )، ورأيناه في الصومال مثال صارخ مثير للشفقة والسخرية ورأيناه في فلسطين وماتت بسببه قضية شعب، وجاري ترتيب سيناريوهاته (الحتمية) في العراق وفي مصر وفي نيجيريا وفي مالي وساحل العاج وفي سوريا وليبيا واليمن وغيرهم قادمون على نفس الدرب، ويبدأ فصل من المسرحية الهزلية الكاذبة الممجوجة بإدعاء مؤمرات الغرب (الصليبي) على (العرب والمسلمين)،والحقيقة أنه نفس الناتج الحتمي لنفس المعطيات، أي التمويل السخي المشبوه بهدف بث الفرقة والانقسام والفرز بين الاعراق، فكيف لنفس المعطيات أن تخرج ناتج مغاير؟ فعلي سبيل المثال لا الحصر هل كان يمكن للسودانيين أن يعيشوا معا متحدين مندمجين في ظل تمايز عرقي واستعلاء ديني وفرز عنصري وقهر ثقافي والإجابة بالطبع لا وألف لا.
هذا هو الناتج الحتمي لمعارك تفسير المقدس بالمقدس حيث لايستطيع أحد أن ينكر واقع قائم وهو الفارق الهائل بين عقيدتين ليس في الهوامش فقط لكن في المتون وهو صلب العقائد بدءا من طبيعة المسيح وحتي تعدد الزوجات مرورا بشعر المرأه ولحم الخنزير بالاضافة للفوبيا التي تصنعها الميديا الخبيثة عن رموز وتعابير مثل الكنيسة والصليب والتثليث والتنصير والتبشير وغيره، حيث يتم استغلال هذه المفردات بذكاء وخبث شديدين في تعميق وتوسيع الهوة التي هي عميقة ومتسعة أصلا وقد أصبحت بحرا من الكراهية والتعصب، حيث يتم دائما التعمية والتمويه على مبدأ الإختلاف ونفيه وكأنه خطيئة لايجب أن يوصم بها أحد، مع أنه كان السمة السائدة لعصور نهضة زالت مع زوال فكر التنوير والقبول الغير مشروط للآخر، حيث عاش الناس أعراق واديان وثقافات ومذاهب عاشوا تحت المظلة الأم السابقة على كل التفرعات اللاحقة وهي مظلة الإنسانية،حيث لم تكن ثقافة تفسير المقدس بالمقدس مستشرية
ومع انحدار وانحسار مبادئ سامية لفلاسفة ومفكرين وفقهاءعظام قدامى ومحدثين كابن رشد وابن عربي ومحمد عبده والسنهوري وطه حسين وفرج فودة والبوطي والجابري وابن أركون وغيرهم كثيرين، نقول انحسرت دعوات هؤلاء المجددين اللذين آمنوا بحتمية الاختلاف بين البشر دينا ولونا وعرقا لأنها مشيئة الخالق ووصلنا إلى محطات التخلف والانقسام والإظلام وفقه البادية، حيث تسود اليوم مبادئ ابن تيمية وأبو الأعلى وابن عبد الوهاب ومعهم المتفيقهين الجدد الذين دمروا مستقبل شعوب هذه المنطقة، وما صعود أسهم الأصوليات اليمينية في أوربا إلا رد الفعل المتوقع والحتمي على الجانب الآخر بعد فشل كل المحاولات اليائسة البائسة المتخبطة لما يسمى بالحوار أوالتقريب أوالتعايش بين الأديان أو المذهب،وكلها فشلت فشلا ذريعا لأن الهدف غائم والوسيلة ملتوية، فالعقائد هي الايقان بأمور وجدانية لا ترى ومستقرها القلوب لذا فان محاولات مواءمتها أو مقاربتها أو تطويعها هو هزل لكنه هزل خبيث يهدف لتحويل الهوة إلى هاوية وكان الأجدر أن يتم التركيز على ترسيخ مبدأ الاختلاف الحتمي المشروع حيث يجب أن يعيش الناس مختلفون، مختلفون في العقائد شركاء في الوطن، مختلفون في اللون شركاء في الانسانية، مختلفين في المذهب شركاء في المستقبل، مختلفين في هذا وذاك وتلك شركاء في هذا الكوكب الذي استخلفهم الخالق في إعماره.
ومع أن الجميع يدعون الاعتقاد في وجود واحد لاشريك له (مالك ليوم الدين) أي اليوم الذي تصدر فيه الاحكام الحقة النهائية من القاضي العادل الأوحد، فلماذا إذن يغتصب المتطرفون اختصاصه ويتعجلون إصدار أحكام الكفر والشرك على الآخرين المختلفين؟ مستخرجين نصوص من سياقها ومدعين التفويض الإلهي والوكالة الإلهية، والحقيقة أنها وكالة مزورة فهم وكلاء لآخرين يضخون أموالا بوفرة لهذا الغرض وهم ــ أي الممولين ــ في انتظار العائد المجزي وهو الحفاظ على أنظمة قمعية لا تستطيع الاستمرار إلا في بيئة بؤس وجهل وتعصب وعنف وانفصام وانقسام وصراع، وتلك بيئة لاتنمو إلا بثقافة تفسير المقدس بالمقدس،بيئة رعايا حريتهم وأرزاقهم هبة من ولي الأمر الذي لا يجوز الخروج عليه،والويل كل الويل لمن يفكرون في ذلك فسياط الفتاوي جاهزة لتلهب ظهورهم.
ولأن الاشياء يجب أن تسمى بمسمياتها الحقيقية منعا للتغرير والتدليس فالقتل في سبيل الله هو جريمة في حق الانسانية وحوارات الاديان هي جريمة في حق الضمير البشري والغريب أن هذه الحوارات لاتعقد أبدا في هذه المنطقة بل في منتجعات أوربا والسبب مفهوم للقاصي والداني.
واللذين يعتقدون بحلول توفيقية بين العقائد هم واهمون فذلك لم يحدث على مر التاريخ ولا نعتقد أنه يوجد حلول وسط يمكن ابتداعها لجسر هذه الهوة لكن يمكن إقامة معابر عليها، وذلك يتطلب مؤمنون عن قناعة بمبدأ الإختلاف، مؤمنون بحتمية العيش المشترك في مجتمع متعدد الأعراق والاديان والمذاهب والثقافات وهو مانراه في كل المجتمعات الناهضة المتوحدة التي تحترم حرية وكرامة واختيارات كل إنسان، أما البديل فهو مانراه في المجتمعات المحيطة من فوضى وتشرذم وعنصرية وتمييز وقهر وفقر وقتل وحرمان،إن كل صاحب ضمير ولو نصف حي يجب أن يخجل مما يحدث على هذا الكوكب إن هذه الدماء وهذه الارواح وهؤلاء المشردين الجوعى العراه في المخيمات هم سبه في جبين الانسانية كلها لأن حروب تفسير المقدس بالمقدس أصبحت مصدر يرتزق منها هؤلاء المفسرين ألذين أصبحوا أمراء حروب يأمروا بشر ليفجروا أنفسهم في بشر دفاعا عن مقدس أزاحوا عنه هالة القداسة وحوطوه بهالة من الدماء.