في دراسة سابقة بصدد الحديث عن العلاقة بشأن العرب وإسرائيل تحدثنا عن الوجه الأول من هذه العلاقة، وكان بعنوان: "العرب وإسرائيل من التبرؤ إلى تأريخ الاستيطان"، وكان باختصار شديد يستهدف توصيف ملامح الصراع بين العرب كدولة كبيرة موحدة ومتكاملة وبين الكيان الصهيوني الذي ظل يسعى لتكوين دولة مؤسسات تستهدف تقويض هذه الدولة القوية والمتماسكة من جهة، وإلى نسف كل معالم العربية والعروبة في منطقة فلسطين في الوقت الذي غاب العرب فيه عن المشهد سياسياً واقتصادياً وتعليمياً وتحول من سيد مطاع إلى حالات من التشتت في الوقت الذي سعت فيه إسرائيل إلى إعلان التسيد المطلق في جوانب التسليح والأمن الداخلي والارتقاء غير المنازع في مجال الاقتصاديات المعرفية وتكنولوجيا المعلومات.
وبمجرد أن انتهى الكيان الصهيوني من توثيق استيطانه الهمجي الذي خالف فيه كل الأعراف الإنسانية بمساعدة أمريكية وتمويلات مشبوهة من قطاعات أوروبية كثيرة بحجة التعاطف التاريخي إزاء ما جرى لليهود من تعذيب واضطهاد وممارسة عنصرية وتحقير في المجتمعات الأوروبية، جاء التفكير إلى كتابة سيرة ذاتية جديدة لكيان صهيوني تتيح لليهود إقامة وطن ولو عن طريق الاغتصاب وتشتيت الأعراق والأنساب الأخرى، ويكفي للقارئ أن يقرأ مقدمة كتاب الباحث المصري محمد السماك المعنون بـ"الصهيونية المسيحية والموقف الأمريكي" رغم صغره ليكتشف تاريخ التغلغل الصهيوني في فلسطين والذي يمكن توصيفه بملامح كتابة السيرة الذاتية لوطن لا أصل له، لكن حينما نستعرض التواريخ منذ سنة 1492م حتى عامنا هذا لأدركنا على الفور أن بني صهيون يسيرون وفق مخطط محكم ومنظم ولا يتغير بتغير الأجواء الزمانية والمكانية والإحداثيات السياسية والاجتماعية الواقعة بالمحيط العربي أو بتغير الأنظمة الحاكمة سواء داخل إسرائيل أو في الدول والبلدان المجاورة. ولعل عام 1839م هو البداية الحقيقية لتكريس واقع وحقيقة جديدة تسمى إسرائيل وبداية تاريخية تمنحهم الوجود المكاني لإقامة دولة وكيان على أرض فلسطين العربية.
فهؤلاء اليهود الذين اعتقدوا أنهم بحق شعب الله المختار، فكروا لوقت طويل كيف يكون لله شعب ولا يكون للرب وطن؟ ومن هنا جاءت المؤامرة الخبيثة لتكريس وجود صهيوني على أرض فلسطين ولو بصورة ورقية ومؤتمرات تنظيرية وكتب ومطبوعات تمهد لكتابة سيرة ذاتية لوطن لا وجود له في الأصل. ففي عام 1839 جاءت مذكرة سكرتير البحرية الإنجليزية إلى وزير الخارجية بالمرستون التي يقترح فيها دعوة أوروبا إلى الاقتداء بقورش لإعادة اليهود إلى فلسطين. وبعدها بعام واحد أس في سنة 1840 كانت الرسالة من بالمرستون إلى سفير إنجلترا بالقطسنطينية من أجل حث السلطان العثماني الضعيف زمنياً وعسكرياً وسيادياً على تحويل هجرة يهود أوروبا الشرقية إلى فلسطين.
وسرعان ما تحولت الرسائل والمذكرات الشخصية وإن كانت بصفة رسمية إلى مؤتمرات وندوات علانية من أجل تعميق فكرة إقامة وطن يهودي صهيوني على الأراضي الفلسطينية وتلازم مع هذه المؤتمرات قرارات برلمانية تؤيد الفكرة، ففي سنة 1844 وافق البرلمان البريطاني على تأليف وتشكيل لجنة اسمها "إعادة أمة اليهود إلى فلسطين"، ثم جاء عام 1845 ليكون بداية للمشروع الصهيوني في فلسطين بشكل رسمي، فلقد ظهر لأول مرة مشروع إدوارد متفورد وهو "إقامة دولة يهودية متكاملة في فلسطين" وبالطبع كان المشروع تحت الحماية الإنجليزية المؤقتة وذلك حتى تتمكن الدولة الناشئة من الوقوف على أقدامها بثبات. وتوالت الكتب والمشروعات الدنيئة التي تسعى وتحث قادة العالم بضرورة إعادة الأمة اليهودية إلى إسرائيل مثل كتاب إرنست لاراهان المستشار الخاص لنابليون الثالث بعنوان "المسألة الشرقية: إعادة بناء الأمة اليهودية". ثم كتاب "أرض جلعاد" لعضو البرلمان الإنجليزي لورنس أوليفنت الذي صار بعد ذلك وزيراً للخارجية، وفي هذا الكتاب اقترح إقامة مستوطنة يهودية على مساحة مليون ونصف المليون فدان إلى الشرق من نهر الأردن، وتحديداً ليهاجر إليها يهود روسيا ورومانيا.
وبالقطع أمر خطير أن نشير على عجل إلى تفكير الكيان الصهيوني بتوثيق وكتابة أي حدث سياسي أو اجتماعي أو ثقافي تتم فيه إشارة بسيطة إلى كلمة يهود أو يهودية أو إسرائيل، وكذلك توثيق أية كلمات تتعلق بوطن أو دولة أو هجرة أو مستوطنة تحديداً في الفترة التي سبقت الإعلان عن الوجود الرسمي لإسرائل في المحافل الدولية أي قبيل عام 1948، وهذه الفترة التي سبقت الإعلان تفرغت الكيانات الصهيونية العالمية إلى تسجيل كل إشارة أو لمحة دالة عن إسرائيل أو وطن لليهود حتى وإن كانت مجرد خبر صحافي قصير في جريدة غير مقروءة أو مطبوعة محلية. وربما المساندة الأمريكية التي وقفت بجانب المساعي غير المحمودة للصهاينة هي التي أغرت اليهود بتوثيق وكتابة سيرة ذاتية لملامح دولة في طريقها للإنشاء. فها هو هاري ترومان الرئيس الأمريكي في عام 1947 يدعو إلى تحقيق أكثرية يهودية في فلسطين، ووجه مذكرة بشأن ذلك إلى رئيس الحكومة الإنجليزية تسمح لمائة ألف مهاجر يهودي بدخول فلسطين.
المثير في شأن المسألة الصهيونية حقا هو الدعم المسيحي لتأكيد وتكريس هذا الكيان، وهذا لم يكن وليد القرن العشرين، بل له إرهاصات متجزرة في السيرة الذاتية للصهيونية، فنجد على سبيل المثال مارتن لوثر وهو زعيم ورائد حركة الإصلاح الديني المسيحي ورائد المذهب البروتستانتي يقول في كتابه المعنون بـ"عيسى ولد يهودياً" المنشور عام 1523م: "إن اليهود أبناء الله ونحن الضيوف الغرباء" ويردف قائلا في كتابه في موضع آخر: "إن الروح القدس أنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم". وربما هذا وإن كان يعكس الطبيعة المسالمة بعض الشئ للمسيحيين إزاء اليهود إلا أنه يبرهن عن خشية التيار المسيحي آنذاك من الشعور الدائم بالكراهية من جانب اليهود وهذا نجده في الأسفار اليهودية مثل: "من يفعل خيراً للمسيحيين فلن يقوم من قبره قط"، وأيضاً "يجب على اليهود السعي الدائم لغش المسيحيين".
لكننا نرى مداً سافراً لمارتن لوثر وهو يمجد اليهود واليهودية بغير تبرير سوى الذي ذكرناه سالفاً فنجده يقول في موضع آخر من كتابه: "علينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل مما يتساقط من فتات مائدة أسيادها كالمرأة الكنعانية تماماً". وربما هذا التحول في فكر المسيحية تجاه اليهود واليهودية ارتبط بالظهور الثاني للمسيح والمرهون بقيام دولة لهم على أرض فلسطين.
لكن بات من الملفت للنظر والاهتمام معا أن الظهور الصهيوني في منطقة الشرق الأوسط تحول من مجرد استيطان بشري طفيف إلى موجات استعمارية تعكس الهدف الأسمى لديهم وهو استقطاب المنطقة وامتلاكها والسيطرة على مفاصلها جميعاً، وهذه الموجات بدأت بالفعل منذ الانهيار العسكري الذي تم في الخامس من يونيو عام 1967، والذي بمقتضاه بدأ الكيان الصهيوني في تسجيل سيرته الذاتية بسطور من الصعوبة محوها رغم انتصارنا التاريخي العظيم في حرب أكتوبر 1973، إلا أن هذا الانكسار الموسوم بنكسة يونيو كان بمثابة الإعلان عن علم ووطن وجيش لكيان هيولي لا أصل له بالنسبة لاعتقاداتنا التاريخية، لكنه تم بالفعل. وهذا ما سمح لإسرائيل التي أصبحت دولة رغم امتعاض الدول العربية والإسلامية ورفضها المطلق لوجودها دون نتيجة أو قرار بحلها، بالإعارة على المخيمات الفلسطينية على الأراضي اللبنانية في 1969 مستخدمة طائرات أمريكية الصنع، وهي في الأساس لم تكن تستهدف المخيمات الفلسطينية أو بحاجة إلى مطاردة الفلسطينيين الذين فروا من أراضيهم المقدسة بقدر ما حاولت إسرائيل أن تسجل فصلاً جديداً في سيرتها الذاتية الصنع بأنها قادرة على النيل من دول الجوار أيضاً تحقيقاً لنفوذ عسكري حتى وإن لم تسعى إلى احتلال الأراضي اللبنانية.
وباسترجاع تواريخ سابقة يمكن تحديد معالم السيرة الذاتية التي دشنتها إسرائيل، وهي بالقطع سيرة ذاتية دموية، ولك أن تتأمل الفترة العسكرية التي خاضتها ومرت بها إسرائيل من أجل تفكيك القوة العربية، وسرعان ما انتهت هذه الفترة بتقويض الطاقات العربية حتى تسيدت إسرائيل المجلات الاقتصادية والمعرفية والتكنولوجية، ففي الفترة من 1978 وحتى 1990 نجد إسرائيل تجدد الهجوم على لبنان وتقصف المفاعل النووي بالعراق، وترتكب أبشع مجازر القرن العشرين في صبرا وشاتيلا، ثم تستهدف تهجير يهود الأرض من كل مكان مثل الاتحاد السوفيتي سابقا وأثيوبيا إلى فلسطين العربية، وفي الوقت الذي انشغلت فيه الدول العربية المسكينة في تضميد جراحها سعت إسرائيل إلى التفرد والانفراد الثقافي والعلمي بدليل عدد براءات الاختراعات الهائلة في الكم والكيف والاستخدام والإفادة أيضاً، وأيضاً عدد الفائزين بجائزة نوبل في الطب والفيزياء والكيمياء، في الوقت الذي ذهبنا نحن مهتمين بالبحث لنا عن مكان ما بزاوية منسية لإلقاء قصيدة تندد بوحشية الصهاينة، وآخر ذهب ليجدد بكاء العجائز من السيدات من خلال رواية محلية الصياغة تشجب مجازر الإسرائيليين، بينما هم مستمرون في كتابة سيرتهم الذاتية بحروف لا تنمحي بتعاقب السنين.
الأمر الذي لم يعد خافياً على المراقبين للمسألة الصهيونية، أن هناك مرحلة رئيسة بعد قيام دولة إسرائيل تحديداً مرحلة السيرة الذاتية لهذا الكيان غير الطبيعي في الأراضي العربية، وهو المساعدات الأمريكية غير المنتهية ففي عام 1984 أقرضت الولايات المتحدة إسرائيل مئة مليون دولار، وبعدها بعام واحدة أي في 1949 قامت بمساعدة إسرائيل من أجل إنمائها بمنحة قيمتها مئة وخمسين دولار، في الوقت الذي فرضت شروطاً صارمة على بيع الأسلحة إلى باقي الدول العربية وهذا ما حدث بالفعل في 1954، وفي الوقت الذي تمد فيه الولايات المتحدة الأمريمية إسرائيل بأحدث الأسلحة النووية تلجأ هي إلى قرارات مجلس الأمن المسيس بضرورة إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أية أسلحة نووية حفاظاً على تميز إسرائل العسكري من ناحية وبقاء للسيادة العسكرية الأمريكية من ناحية أخرى.
وقد يعجب القارئ حينما يكتشف وجود عدة مؤتمرات ومنظمات أمريكية يهودية استهدفت ربط سلامة أمريكا بسلامة إسرائيل مثل مؤتمر القيادة الوطنية المسيحية من أجل إسرائيل ومقره بنسلفانيا وشعاره "حتى تكون مسيحياً يجب أن تكون يهودياً"، ومهمته نشر بيانات صحافية تأييداً لإسرائيل، وكذلك الاتحاد المسيحي من أجل سلامة أمريكا الذي يؤكد نظرية رضى الرب على أمريكا من خلال حسن معاملتهم لإسرائيل، بالإضافة إلى منظمة "جبل المعبد" ومهمتها إعادة بناء هيكل سليمان في القدس، ومقرها مدينة القدس نفسها، وهي تقوم بمهمة جمع الأموال لامتلاك العقارات والمباني المجاورة لموقع الهيكل بالإضافة إلى الإنفاق على عمليات الحفر التي تجري ليل نهار تحت المسجد الأقصى.
أخطر ما في الأمر أن خطابنا الثقافي والديني تجاه الكيان الصهيوني لا يزال يردد النغمة القديمة والمكرورة والتي تشير بأن الصهاينة هم أرذل البشر وأنهم القردة والخنازير وعلينا محاربتهم دوماً، وهذا ليس بكفيل لتحقيق النصر والانتصار على كيان ليس طبيعياً لأنه بالفعل جنين مشوه بأرض عربية إسلامية، لقد اعتدت سماع الخطب وقراءة الكتب التي يمكن توصيفها بالرقائق، تلك التي تندد بإسرائيل وبأهلها وأنهم أهل دعارة وفجور وفساد، ويميلون بطبيعتهم إلى الغدر والخيانة، وعشرات بل ومئات المنشورات الورقية التي توزع على المارة من أجل تصوير المجازر الإسرائيلية، لكن الأمر ينبغي أن يتعدى هذا الفعل الأخرس، لأن إسرائيل بالفعل تعمل وتنتج وتصدر وتبتكر وتسعى بأي صورة مشروعة وغير مشروعة للتسيد وافتراس المنطقة العربية من خلال نخب من العلماء والمخترعين والمبدعين، وكثيراً ما أرى أسماء كثيرة إسرائيلية ضمن قوائم علماء الطبيعة والرياضيات والفلك والاقتصاد والصناعة عموما والزراعة مؤخراً، وقلما أجد أسماء لامعة أو ذات مكانة مرموقة في مجال الأدب والشعر والفلسفة والتاريخ، على العكس من واقعنا المتأجج أدباً وكلاماً وأقوالاً وحكمة وشعارات ضاقت بها الكتب حتى استقرت على الجدران والحوائط المعروفة الآن بالجرافيتي. وإلى فصل ثالث إن شاء الله من فصول الرواية الصهيونية.