لا يكفى مقال ولا حتى كتاب للإجابة عن سؤال هذا العنوان: كيف سيطر الفكر الأخوانى على نسبة غالبة من الرأى العام فى مصر؟ وهذا سؤال يتجاوز بكثير الانتخابات الأخيرة ونتائجها، فالسيطرة تشمل حتى تلك الأغلبية التى تقاطع الانتخابات أو التى لا يعنيها أمرها. المسألة فى الواقع هى قصة انقلاب فى ثقافة المواطن المصرى ووجدانه، تم تدبيره على امتداد ثلاثة عقود على الأقل، بحنكة وعلى مهل، وكان يكسب أرضا جديدة فى كل يوم. ولم تفلح أصوات الإنذار المبكر فى وقف مساره ولا فى حشد القوى لمواجة خطره والتصدى لزحفه. أسهمت فى نجاح هذا المخطط سياسات داخلية وخارجية، وأموال دولية طائلة، ونزوات للتاريخ غير متوقعة، وقفزات فى وسائل الاتصال غير مسبوقة، ولكننا نقتصر فى هذا المقال على النظر فى الخلفية الفكرية والثقافية لهذا الانقلاب وعواقبه.
فحتى الستينيات من القرن الماضى كان فى مصر مجتمع مدنى قوي، ينخرط فى كفاح تحررى للتخلص من تخلف قرون طويلة فى ظل الخلافة العثمانية التى وصفها مفكرنا الكبير جمال حمدان بأنها «استعمار ديني» من نوع باطش غريب يتستر بمفهوم الخلافة، ليستنزف آخر قطرة من عرق المصريين ودمائهم. وعلى مدى قرون ذلك الاستعمار تمثلت الأسس النظرية أو المنظومة الفكرية للحكم العثمانى فى التسليم بحق السلطان (الخليفة فيما بعد) فى الحكم المطلق والأمر والنهى دون أية حقوق للرعية غير الطاعة العمياء لهذا القائد الديني. ويصف لنا جمال حمدان بعبارات موجعة حال الأمة فى ذلك العصر بقوله ـ «كما يفصل الراعى بين أنواع القطعان، فصل الأتراك بين الأمم والأجناس المختلفة عملا بمبدأ فرق تسد، وكما يسوس الراعى قطيعه بالكلاب، كانت الانكشارية كلاب صيد الدولة العثمانية، وكما يجلب الراعى ماشيته كانت الامبراطورية بقرة كبرى عند الأتراك للحلب فقط.»
وفى ظل ذلك الحكم المهلك، المستند إلى مرجعية دينية زائفة يتبرأ منها إسلامنا الحنيف، «عم الخراب اقليم مصر» على قول الجبرتى المؤرخ المعاصر لهذه الحقبة المظلمة. وكاد المصريون يندثرون فعلا لا مجازا بسبب المجاعات المتكررة والمجازر والأوبئة. وبارت الأرض الزراعية بسبب اهمال الحكم لأعمال الرى والصرف، ولهروب الفلاحين من أرضهم، فرارا من جباة الضرائب الفاحشة والمتكررة. وانتشر فيمن بقى من السكان على قيد الحياة (وهم قليل بالقياس إلى أى عصر فى تاريخنا) الجهل الشامل والخرافة والشعوذة.
والفضل كل الفضل فى خروج مصر من هذا الفصل الكارثى من تاريخها يرجع إلى جهود أجيال متتابعة من المثقفين، عملت على تصحيح مفاهيم البطش العثماني وإلغائها. وخرج رعيلهم الأول من عباءة محمد على ومشروعه الكبير. لولاه لما تسنى لهم نشر مفاهيمهم الجديدة المتحررة، ولولاهم لما كان مشروعه سوى مجرد فصل لحاكم آخر مستبد سخر الشعب لمجده الشخصي. استطاع هؤلاء المثقفون العظام أن يغيروا بالتدريج كل الأسس الفكرية المتخلفة للحكم العثماني، وأن يشيدوا بدلا منها منظومة فكرية عصرية ومدنية ظللنا نعيش فى نطاقها قرنا ونصف القرن من الزمان، وأبرز ملامح هذه المنظومة هي:
1 ـ إحياء فكرة الوطن (مصر)، التى كانت غائبة تماما فى ظل فكرة الأممية العثمانية التى تجعل كل سكان الامبراطورية رعايا على قدم المساواة فى العبودية لإمام الأستانة.
2 ـ إدخال مبدأ الوحدة الوطنية والمساواة بين المسلمين والمسيحيين فى الحقوق والواجبات وعلى قول الطهطاوى فإن ـ جميع ما يجب على المؤمن لأخيه المؤمن يجب على أعضاء الوطن فى حقوق بعضهم على بعض لما بينهم من أخوة الوطنية ـ وهكذا تم نفى المبدأ العثمانى للفصل بين الملل وسياسة فرق تسد.
3 ـ نفى وجود السلطة الدينية، يقول الإمام محمد عبده بوضوح ـ أصل من أصول الإسلام قلب السلطة الدينية والاتيان عليها من أساسها ـ ويقول أيضا ـ لا يسوغ لقوى ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد، وليس يجب على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به من أحد، إلا عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله، بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف، وإنما يجب عليه قبل ذلك أن يحصل من وسائله ما يؤهله للفهم. وبذلك تم نزع أى قداسة أو صفة دينية عن أى حاكم بشرى مهما كان لقبه. كما تم نزعها وبالمثل عن أى جماعة ومؤسسة تدعى لها سلطة دينية من أى نوع.
4 ـ تحرير المرأة التى كانت فى وضع أسوأ من الرقيق أو الإماء، والمساواة بينها وبين الرجل، وأذكر فى ذلك دور قاسم أمين والشيخ الإمام.
5 ـ الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية وحق التعليم للجميع. وهى قيم جديدة تماما. لم تطبق تلك المبادئ العصرية بالطبع فورا، ولا من تلقاء نفسها، بل عبر صراع دفع المثقفون خلاله أثمانا فادحة. لكن هذه المبادئ اكتسبت مصداقيتها لأنها نبعت وتطورت من خلال معارك وطنية ضد الاستبداد الداخلى والاستعمار الخارجي، ولأنها كانت تستجيب لحاجات ملحة للمجتمع. وربما أهم من ذلك لأن رواد التنوير الأوائل كانوا حريصين باستمرار كما رأينا على إثبات أن هذه المبادئ العصرية مستمدة من صحيح الدين. ومع أنه كانت هناك طوال الوقت تيارات سلفية تحن حنينا قويا للعودة إلى المنظومة العثمانية، إلا أن الشعب المصرى أثبت انحيازه فى النهاية لهذه القيم الجديدة خلال ثورتيه الكبيرتين فى 1919 و 1952.
غير أن ذلك كله قد تغير كما ذكرت منذ أوائل السبعينيات. وأنا لا أكن ضغينة شخصية للرئيس السادات، بل إنى أقدر له تقديرا عظيما دوره فى معركة العبور، وأذكر له دوره فى تحرير سيناء رغم الملاحظات والتحفظات، على الثمن المدفوع لذلك وآثاره الممتدة حتى اليوم. ولكن فيما عدا ذلك فإن سياسته الداخلية كانت كارثة جلبت كوارث ممتدة أيضا حتى اليوم. وفى سياق موضوعنا فهو قد بدأ عصره بحملة شاملة على الثقافة فأغلق المجلات الثقافية جملة، وأغلق من بعدها المسارح الجادة، والمؤسسة الوطنية للسينما، وطارد وطرد المثقفين الحقيقيين من كل منابر الإعلام والثقافة. وبينما حسب البعض أن تلك ضربة لخصومه أو من اعتبرهم خصومه من الناصريين واليساريين، فقد اتضح أن مشروعه أبعد من ذلك بكثير. فالضربة كانت موجهة فى الواقع إلى قيم النهضة العصرية التى أشرت إلى أبرز ملامحها وإلى كل من يمثلونها أو يحملون أمانة مواصلتها من المثقفين. كان لابد من إخلاء الساحة من عناصر الممانعة والمقاومة للمشروع الفكرى الجديد، وهكذا نجح السادات فى تشتيت مثقفى النهضة والتطوير فى منافى الأرض، وإسكات أو إضعاف من بقى منهم فى مصر، وجلب بدلا منهم مجموعة من الوعاظ المهاجرين منذ العهد الناصرى إلى دول الخليج، ولم يكن هؤلاء الوعاظ استمرارا بأى بشكل لشيوخ مصر العظام مثل الإمام محمد عبده أو تلميذه الشيخ شلتوت ممن كرسوا جهدهم لجلاء مواءمة الإسلام للعصر ولكل عصر، وأنه لا يعارض النهضة والتطور الاجتماعى بل يحث عليهما. وعلى العكس من ذلك كان هؤلاء الوعاظ الجدد فى حينها معنيين تماما بإبعاد الدين عن قضايا التطور الاجتماعي، والحض على طاعة الحاكم فى المنشط والمكره، والمغالاة فى التركيز على الجوانب الشكلية للعبادات.
وفتحت أمام هؤلاء الوعاظ الجدد كل المنابر التى أغلقت تماما أمام المثقفين المدنيين وأكثر منها بكثير: كل الصحف والمجلات القومية، وأفضل ساعات الإرسال الإذاعى والتليفزيوني، ومطبوعات ومنشورات لا حصر لها فى الوقت الذى لم يكن فيه أى مثقف يستطيع أن ينشر فيه كتيبا صغيرا، انفرد الوعاظ بساحة الرأى العام، وأُضفيت عليهم قداسة، ونسبت إليهم كرامات من ماكينة دعاية جبارة، فنجحوا بالفعل فى التأثير على قطاعات كبيرة من هذا الرأى المغيب عن أى مناقشة أو عن أى وجهة نظر أخري. أصبح الوعاظ سلطة دينية. وأمسى على الجماهير الطاعة. ثم إن الوعاظ ردوا الجميل لصاحب الفضل، فأضفوا عليه بدورهم هالة دينية ثم جعلوه إماما. ألم يقل قائلهم تحت قبة البرلمان إن السادات ـ «لا يسأل عما يفعل؟» أو لم ينته الأمر باقتراح تسميته «سادس الخلفاء الراشدين؟» خطوة أخرى إلى الأمام نحو إعادة دولة السلطة الدينية. عندئذ، أو قبل إذ، دخل الإخوان المسرح فوجدوا المشهد مهيئا تماما. جماهير أدارت ظهورها، أو صُرفت عنوة، عن كل مكتسبات الدولة المدنية التى ضحت من أجلها أجيال متعاقبة، واستبدلت بالعقلانية الإذعان والدروشة. وكان الإخوان هم عصب التيارات الدينية التى لجأ إليها السادات للقضاء على البقية الباقية من قوى المقاومة والممانعة للردة الشاملة، لاسيما فى صفوف الطلبة والشباب أقوى أصوات الاحتجاج خلال السبعينيات. وعندما اشتد عود بعض هذه التيارات الدينية، تعجلت تحقيق أهدافها ودخلت فى صدام مباشر مع نظام السادات الذى خرجت من عباءته كما أسلفنا.
أما الإخوان فكانوا أذكى من ذلك بكثير. لم يختاروا الصدام بل المسايرة. حاولوا إرضاء السادات بكل طريق، حتى بالامتناع عن نقد سياساته نحو إسرائيل التى أغضبت كثيرا من القوى الوطنية، بل وكثيرا من أفرع الإخوان خارج مصر. اشتروا الوقت ليحققوا على مهل مشروعهم الخاص بالسيطرة على العقول، ومن ثم على المجتمع. كان المئات أو الآلاف من الإخوان المسلمين قد خرجوا من مصر فى الخمسينيات والستينيات بعد صدام متكرر مع نظام عبدالناصر. ولا مجال للدخول فى تفاصيل هذا الصراع أو تحديد المسئوليات أو الأخطاء، وإنما يكفى القول إنه كان فى جوهره صراعا بين رؤيتين لنظام الحكم فى مصر. إما الدولة الدينية أو الدولة المدنية. وقد انحاز المجتمع فى هذا الصراع للدولة المدنية، وخاض صراعا مع الاستعمار فى الخارج مكسبه الرئيسى استرداد قناة السويس، وصراعا مع قوى الإقطاع والرأسمالية فى الداخل لتحقيق درجات من العدالة الاجتماعية، ولتحقيق مكاسب فى التنمية، هرمها الأكبر الباقى هو السد العالي. ثم جاءت بعد الانتصارات والمكاسب الهزائم والانكسارات منذ عام 67.
وفى أثناء الانتصارات والهزائم كان الإخوان المهاجرون يحققون ثروات طائلة فى المنافى الخليجية والأوروبية، وذلك إما على أساس أن تسعة أعشار الرزق فى التجارة، أو بطرق أخرى لا يعلمها إلا الله. وكانوا فى الوقت نفسه يحكمون أطراف تنظيم دولى يكاد يكون امبراطوريا (تحدث أمين صندوق هذا التنظيم الدولى على شاشة إحدى الفضائيات عن استثمارات بمليارات الدولارات فبارك الله فيما أعطي). وبهذا السند القوى دخل الإخوان المسلمون مصر بمشيئة الله آمنين فى عهد السادات كما أسلفت، ليجدوا الأرض ممهدة تماما أمام الدعوة والدعاة فعملوا بهدوء وروية. وتكفى الإشارة هنا إلى بعض أساليب تغلغلهم التدريجى فى المجتمع. بدأوا كما ينبغى لأى سياسى حصيف بالنظام التعليمى نفسه. جندوا آلافا من المدرسين الحكوميين، ومولوا إنشاء مدارس خاصة إسلامية التوجه والمناهج. وقد يذكر بعض أولياء الأمور فى حقبة السبعينيات الدهشة التى أصابتهم من تكثيف جرعة التلقين الدينى لأبنائهم فى المدارس والتى كانت تنصب على تلقين النصوص واتقان الشعائر والعبادات دون تطرق إلى المعاملات أو المنهج الإسلامى لتقدم المجتمع وتغييره نحو الأفضل. كان التعليم الإخوانى يكمل ما يبثه إعلام الوعاظ الساداتى ويستفيد كل منهما من الآخر فى نشر ثقافة التلقين والطاعة والتمهيد لسلطة الدعاة والوعاظ، لكى تؤتى هذه الثقافة أكلها حين يشب الجيل عن الطوق. وفى هذا السياق نشأت ظاهرة حجاب النساء. لم يكن المقصود منها فقط نشر ما اعتبروه زيا إسلاميا، بل كان الهدف الأهم هو إعلان الحضور فى الشارع وفى المجتمع والدعوة لاجتذاب مزيد من الأنصار. ولم يكن الانتشار سريعا وقوبل أيضا بنوع من الدهشة والرفض من مجتمع اعتاد على السفور لعشرات السنين دون أن يرى فيه منكرا أو خروجا على الأخلاق. وأذكر هنا مقالا لواحد من مفكرى الإخوان يعتب فيه على منتقدى الحجاب بقوله: نحن لا نعترض على سفور السافرات، فلماذا تعترضون أنتم على حرية المرأة فى ارتداء الحجاب؟ ذلك قولهم فى مرحلة الاستضعاف. أما الآن فى مرحلة التمكين فيعلوا الصوت إلى درجة تكفير المرأة غير المحجبة، ولم لا؟ انظر حولك. لقد غزت ثقافتهم الشارع باكتساح، فمن يجرؤ على فتح فمه؟
فى صحوة من صحوات الموت للدولة المدنية الرخوة انتبه وزير سابق للتعليم إلى آثار تغلغل الإخوان فى المدارس. لفتت نظره أيامها ظاهرة جديدة وغريبة هى ارتداء تلميذات من الأطفال فى سن السادسة أو السابعة الحجاب، وبدا ذلك (فى حينها) مضحكا أو مبكيا حسب رأيك. أظهر الوزير حزما، فأبعد عددا من مدرسى التيار الإسلامى إلى وظائف إدارية لمنعهم من التأثير على التلاميذ، وأصدر قرارا بتعميم زى موحد فى المدارس كان من شأنه نزع الحجاب عن الطفولة. لكن الوقت كان قد فات منذ زمن طويل على مثل هذا الضبط و الربط. كان الأمر قد استتب لحكم الوعاظ والإخوان للمجتمع، فى المساجد والمدارس والجامعات والنقابات والإعلام، ومؤسسات أخري، فكشر حكام المجتمع الجدد عن أنيابهم وأرغموا الوزير على سحب قراره. وبدا لمن يتابع الأمر أن الانتقال من حكم المجتمع إلى حكم الدولة هو مسألة وقت لا غير.
طريقة أخرى اختطها الإخوان للسيطرة على المجتمع وقد كتب عنها الكثيرون ولكن فيها الكثير من النظر، وأعنى بذلك الخدمات الطبية والاجتماعية التى يتبناها الإخوان ويقدمونها لا سيما فى الأحياء الفقيرة. ولقائل هنا أن يحتج: بعد أن تخلت الدولة عن واجباتها نحو أضعف شرائح المجتمع، ألا ينبغى توجيه الشكر للإخوان لأنهم يجلبون بعضا من ملياراتهم لمساعدة المحتاجين حقا؟ أو لا يصبح الشكر مضاعفا حين ترى لصوص العصر يفعلون العكس تماما فيهربون المليارات من أموال الشعب إلى الخارج تحت سمع السلطة وبصرها؟ وفى هذه الظروف ما جدوى سفسطة أمثالى بأن أعمال البر والإحسان الاخوانية هذه هى فى الأساس وسيلة بليغة لنشر الدعوة و اجتذاب الأنصار، وأنها لا تفعل إلا القليل للقضاء على الفقر؟ كلا الأمرين صحيح هنا: الاحتجاج والسفسطة!
وحتى لا يتوه منا خيط الحديث فالمقصود أن إضعاف الدولة المدنية وفسادها قد يسرا للإخوان تنفيذ مشروعهم فى السيطرة على المجتمع، ومن بعد ذلك كتحصيل حاصل السيطرة على الحكم. بدأ الأمر بإقصاء المثقفين من أنصار الدولة المدنية وتهميشهم حتى لا يكون لهم أى تأثير على الرأى العام (ومازال هذا مستمرا حتى اليوم) وحل محلهم فى منابر الإعلام وعاظ يؤسسون للسلطة الدينية وفى التعليم والنقابات دعاة من الإخوان يمهدون لقيام الدولة الدينية (ومازال ذلك أيضا مستمرا)، ولم تظهر أى قوة جديدة تحمل مشروعا قويا ومقنعا يتصدى للمشروع الإخواني.
نشر الأستاذ محمدالسيد حبيب نائب المرشد العام للإخوان المسلمين مقالا قصيرا فى صحيفة ـ الشرق الأوسط ـ السعودية التى تصدر فى لندن، تحت عنوان غنى بالدلالات فيما يظهر ويبطن، شأنه شأن المقال نفسه. والعنوان هو: »حكم الإخوان غير وارد ولكن هكذا نتصور الحكم». ويطرح العنوان منذ عبارته الأولى فكرة أو احتمال حكم الإخوان ربما لأول مرة علنا على لسان مسئول كبير فى الجماعة، ثم يبادر فورا إلى نفى الفكرة أو الاحتمال، ومتروك للقارئ أن يعرف على النقيضين ينصب التركيز، وإن لم تطل حيرته إذا ما فكر قليلا فها هو العنوان نفسه يبسط تصور الإخوان للحكم، لا تنصلهم منه. وعلى هذا النحو نفسه من التقية والحذر يشرح نائب المرشد معالم البرنامج الإخوانى فى الحكم فى مقاله القصير. وسأتوقف فقط عندما يعنينى فى سياق هذا المقال أى تحديد دور الدين فى الحكم ثم دور الثقافة فى الدولة الإخوانية. ففى البند «ثانيا» من المشروع يورد المشروع كلاما جميلا عن الفصل بين السلطات، ويقترح أن تختار السلطة التشريعية «مجموعة من أصحاب الكفاءات الفقهية والقانونية والسياسية لتقوم بوضع دستور جديد (...) يفّصل اختصاصات السلطات مستهديا بقواعد الشريعة الإسلامية«. لن يكتفى المشرعون الجدد إذن بالنص العام الوارد فى الدستور الحالى وهو أن الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، بل يريدون للدستور الجديد أن يفّصل اختصاصات السلطات الثلاث على أساس الشريعة الإسلامية. فما هى الدولة الدينية إن لم تكن هذا بالضبط، أى تحديد مرجعية دينية مفصلة لكل مؤسسات الحكم؟ ثم من هم أصحاب «الكفاءات الفقهية» الذين ستختارهم السلطة التشريعية لوضع الدستور الجديد؟ هل هم فقهاء دستوريون مثلا؟ لا يبدو ذلك فهو يضيف بعدهم مباشرة «الكفاءات القانونية»؟ فمن هى يا ترى تلك الكفاءات الفقهية إلا أن يكونوا فقهاء فى الدين يعهد إليهم بوضع الدستور؟ إن كنت مخطئا فليحددوا لنا هوية هذه الكفاءات الفقهية. ولماذا بدلا من ذلك كله لم يقترح المشروع الإخوانى أن تضع الدستور جمعية تأسيسية منتخبة كما هو العرف الديمقراطى والمطلب الشعبى بدلا من تلك الكفاءات المختارة؟ وقد ترى الجمعية التأسيسية رأيا آخر، أحكم، فى شأن الدستور الموضوع للكافة.
فإذا انتقلت من البند الثانى إلى البند الرابع من مشروع الحكم الإخوانى المقترح فستقرأ مرة أخرى كلاما جميلا جدا عن إخواننا الأقباط الذين هم مواطنون لهم كافة حقوق المواطنة ولهم حقهم الكامل فى تولى الوظائف العامة ثم بين قوسين «فيما عدا رئاسة الدولة». وأنا لا أظن أن من مطالب الإخوة الأقباط الحالية رئاسة الدولة ولكن فى دستور أية دولة متحضرة يتم النص حصرا على حرمان أية طائفة من الحق فى تولى أى منصب حتى ولو كان هو مجرد حق نظرى يتعذر تحقيقه؟ ثم ما هى رئاسة الدولة (أو الولاية العظمي) المنصوص عليها فى هذا الاستثناء؟. هل هى رئاسة الجمهورية، وهى فى نظم دستورية مجرد منصب شرفي، أو رئاسة الوزارة التى هى الرئاسة الفعلية فى نظم أخري؟ أو كلاهما معا؟ فى الهند، الدولة ذات الأغلبية البوذية الساحقة التى قامت بعد حروب طاحنة بين المسلمين والبوذيين، تولى رئاسة الدولة الهندية المستقلة مسلمون أكثر من مرة حتى الآن. ألا يدفع هذا السيد حبيب، أو من وضعوا البيان، إلى شيء من التفكير؟ كان يجدر به أو بهم السكوت الحكيم على الأقل عن هذا الأمر، اللهم إلا إذا كان المراد توصيل رسالة خفية، كالتى سعى الرئيس السادات إلى توصيلها حين قال ببراءة: وبراعة أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة!
إذا، انتقلنا الآن إلى ما يتضمنه المقال البيان عن الثقافة فى ظل حكم الإخوان، فسنجد الأمور أكثر وضوحا وسفورا. فهو يتحدث فى البند الأول عن ضرورة توفير حرية الصحافة والفكر والإبداع «فى نطاق المقومات الأساسية للمجتمع وحدود النظام والآداب العامة»، ثم يعود مرة أخرى ليتحدث عنها فى البند السابع فيقول نصا: «يقع على الحكومة عبء تشجيع الآداب والفنون بمختلف أدواتها ووسائلها شريطة أن يكون أدبا وفنا جادين وملتزمين بقيم المجتمع وثوابت الأمة، بعيدا عن الإسفاف، والابتذال والاستخفاف بالعقول وتسطيح الأفكار». لاحظ أولا قبل الدخول فى الموضوع أن الحديث عن الشروط أو القيود يفوق من حيث الحجم الحديث عن الحرية، ولاحظ كم هذه الشروط، واللغة العصبية التى صيغ بها هذا البند بالذات دون باقى بنود البيان.
وأرجو ألا أفاجئ الأستاذ حبيب حين أقول له إن الفن والأدب لم يعرفا هذه القيود الصارمة والقابلة للتأويل حسب المزاج وحسب التعصب إلا فى أشد عصور الانحطاط لأى مجتمع من المجتمعات. الإبداع والحرية صنوان. وقد أشير على السيد حبيبب بالرجوع إن أراد إلى الإنتاج الأدبى فى شتى عصور الحضارة الإسلامية. وأنا لا أشير هنا إلى من يعرفون بشعراء المجون مثل أبى نواس وبشار، بل أشير إلى أكثر الشعراء جدية وشهرة مثل أبى تمام والبحترى والمتنبى وإلى أكثر الناثرين تقوى واحتراما مثل الجاحظ أو ابن حزم الأندلسى إمام المفسرين من أهل الظاهر. ستثير دهشته إن قرأ إبداعهم الأدبى وهم أوغيرهم من أدباء المسلمين درجة الحرية فى تناول موضوعات الجنس والدين بما لا يجرؤ على مثله أى كاتب معاصر، من أدباء المسلمين ودون أن يحتج عليهم أحد فى عصرهم، كانوا يعرفون أن الضوابط الأخلاقية حسب الفهم المتزمت للأخلاق لا تحمى الفضيلة وإنما تحمى الرذيلة وتخلى بينها وبين النفوس، على قول الدكتور العميد طه حسين.
القيد الوحيد المقبول على الإبداع هو قيد القانون العام الذى ينطبق على المبدعين مثل غيرهم. وقد أثار نواب الإخوان ضجة كبيرة فيما عرف بقضية الروايات الثلاث، أدت إلى سحب هذه الروايات من السوق وإقالة الموظفين الذين سمحوا بنشرها. ولم يكتفوا بهذا النصر، بل رفع أحد محامى التيار الإسلامى قضية جنحة ضد الزميل الكاتب توفيق عبدالرحمن مؤلف رواية (قبل وبعد) إحدى الروايات الثلاث على أساس أن روايته تتعرض لعلاقة زنا بين زوجة مسلمة وعشيقها وتصف تفاصيل العلاقة، «وهذا ما تؤثمه أحكام القرآن والسُنة والشريعة الإسلامية»، على قول عريضة الدعوي. لكن محكمة العجوزة التى عرضت عليها القضية أصدرت حكما بليغا يجب أن ينحنى له كل مثقف بل كل مؤمن بحرية الرأي. إذ قضت بأن الأعمال الفنية لا يتوافر فيها عنصر القصد الجنائى الخاص، ومن ثم فقد رفضت قبول دعوى الجنحة المباشرة ضد المؤلف وأخذت برأى الدفاع أن عمله عمل أدبى يحتكم فى شأنه إلى نصوص وأحكام النقد الأدبى لا إلى نصوص قانون العقوبات. شكرا للقاضى وللقضاء المصرى آخر قلاع الدولة المدنية الباقية.
ومع ذلك فإننى أشعر بخوف حقيقي. فهؤلاء كما يتضح من المقال البيان لا يعتزمون الاحتكام إلى القضاء ولا إلى أحكام النقدالأدبي، بل إلى إثارة الجماهير التى لا تعلم شيئا من ذلك كله. هم قد فعلوها من قبل، والخوف كل الخوف وقد دانت لهم هذه الجماهير. أن يثيروها من جديد بالدعاوى الأخلاقية الكاذبة لكى يحرقوا الكتب إن لم يكن الكتاب! لماذا كل هذا التعصب والعصبية؟ ربما لأن المثقفين هم الآن، مثلما كانوا منذ البدء ورغم كل ما أصابهم من إضعاف وتهميش هم أيضا آخر قلاع المقاومة ضد مشروع الدولة الدينية التى يرونها قريبة المنال، ولا أظنهم مخطئين تماما، لكنى ككاتب وكمسلم سأظل أرفضها وأقاومها مستهديا برأى الشيخ الإمام فى رفض أى سلطة دينية خارجية على ضمير الإنسان. ولمؤرخنا العظيم ابن خلدون رأى جدير بالنظر فيما نحن فيه الآن، فقد لاحظ أن الفتن التى تتخفى وراء قناع الدين تجارة رائجة جدا فى عصور التراجع الفكرى للمجتمعات، إذ يتواتر ظهور الجماعات التى تدعو إلى إقامة شرع الله والعمل بسنة نبيه عليه السلام ويصل فى تحليله إلى جوهر الموضوع فيقول:«وأكثر المنتحلين لمثل هذا تجدهم يطلبون بهذه الدعوة رئاسة امتلأت بها جوانحهم، وعجزوا عن التوصل إليها بشيء من أسبابها العادية، فيحسبون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤملونه.«
غير أنى اختلف مع ابن خلدون بعد ذلك حين يقول إن ما يحتاج إليه فى أمر هؤلاء هو إما تسليمهم لصاحب الشرطة، أو وضعهم فى بيمارستانات المجانين. فالواقع أن هؤلاء قد دفع بهم مرارا إلى صاحب الشرطة ومازالوا يدفعون، فلم يزد هذا دعوتهم إلا انتشارا، وإلا احتراما يستحقونه لدى الجماهير، مثلما يستحقه كل من يضحى من أجل عقيدته أيا كانت. إنما ما يحتاج إليه فى أمرهم هو أن ينهض من جديد أنصار الدولة المدنية المؤمنون بأنها هى التى قدمت ومازالت قادرة على أن تقدم خيرا كثيرا لهذا الوطن، وأن يطرحوا برنامجا معاكسا فى الاتجاه ومساويا فى الأهمية لفكر الإخوان المسلمين. وسيستغرق ذلك وقتا لا محالة، أرجو أن يكون أقل من الوقت الذى استغرقه الإخوان لينفذوا مشروعهم فى السيطرة على المجتمع. أما البيمار ستانات فيبدو والله أعلم أنها ستكون من نصيبنا نحن ما لم تتغير هذه الحكومة التى تدفعنا إلى الجنون بأفعالها وبانعدام أفعالها على السواء.