عنما طلب مني في ديسمبر 2013 بصفتي عضوا في نقابة نقاد السينما الفرنسية أن أشارك في إستفتاء عن أفضل أفلام العام الفرنسية والأجنبية، اخترت على الفور فيلم " لمسة خطيئة " A TOUCH OF SIN للمخرج الصيني المتميز زانج كي ZHIANG KE، الذي اخترته ليس فقط كأفضل الأفلام الأجنبية التي عرضت في فرنسا لعام 2013( ومازال يعرض في القاعات الفرنسية ولحد الآن)، بل وكأفضل فيلم في العالم أيضا في حصاد عام 2013 السينمائي المنصرم، فقد كان الفيلم بهرني جدا حين شاهدته في مهرجان " كان " السينمائي 67 الذي أواظب على حضوره منذ عام 1982 وأكتب عن أفلامه. ولم يكن هينا بالمرة وأنا أتابع أفلام السينما العالمية منذ أكثر من أربعين عاما في المهرجان أن أنبهر بفيلم ما الى هذه الدرجة..إلا أن الفيلم الصيني استطاع أن يستحوذ على تقديري وأعجابي في التو، ولم تكن لى حيلة في ذلك، إذ ماذا تستطيع أن تفعل مع " فيلم بديع " كهذا ؟..
فيلم يقتلعك من مكانك أمام شاشة المهرجان، ومنذ أول لقطة في الفيلم، لكى يزرعك في قلب الصين الذي ربما يكون نصف شعبها يمثل نصف سكان الأرض أو أكثر، ثم يروح يحكي عن معاناتهم وآلامهم وانكساراتهم في ظل النظام العالمي الرأسمالي الاستهلاكي الجديد، ويتسامي الفيلم بإسلوبه وفنه، فيصبح في الحاضر الآني بمثابة "نبؤة" للمستقبل، بل ويصبح أيضا كما يقول المفكر والمخرج السينمائي الفرنسي جان لوك جودار، يصبح " أكبر منا " بمجرد إعجابنا به.
لذلك رشحته مع فيلم " الجمال العظيم "LA GRAND BEAUTE للحصول على جائزة "السعفة الذهبية " LA PALME d OR من ضمن الأفلام القادمة من أنحاء العالم للمشاركة في مسابقة المهرجان للدورة 67 المنصرمة، وحزنت جدا عندما لم تنصفه لجنة تحكيم المخرج الامريكي الكبير ستيفن سبيلبيرغ ومنحت جائزة أفضل فيلم لفيلم "حياة آديل" للمخرج الفرنسي من أصل تونسي عبد اللطيف كشيش الذي لم يعجبني، ووجدته طويلا ومملا، ويستطيع الناقد كما يقول المخرج الاسباني العظيم لوي بونويل أن يغفر أي شييء لأي فيلم إلا أن يكون مملا. إلا أن النقاد الفرنسيين في المهرجان "عبدوا" فيلم كشيش ربما بسبب جرأته في معالجة موضوع الحب المثلي "السحاقي" بين فتاتين، وأعتبروه بسبب مشاهد ممارسة الجنس في الفراش على كل لون وشكل في الفيلم بمثابة "هدية"، لايجود ولن تجود السينما الفرنسية بـ"رائعة" مثلها!
فيلم " لمسة خطيئة " : نبؤة من الصين تنذر بوقوع كارثة ؟
بينا برز ضمن الافلام من نوع " سينما المؤلف" التي شاركت في المسابقة فيلم "لمسة خطيئة" A TOUCH OF SIN الذي أعتبره أهم فيلم سياسي عرضه المهرجان، وهو يعرض لاربع قصص من خلال أربع حوادث حقيقية FAITS DIVERS وقعت بالفعل في اربع مقاطعات صينية، وجعلت الناس في الصين كلها يتحدثون عنها، فقد انتهت كل قصة بمأساة دموية مروعة.
في القصة الاولي يكتشف مواطن صيني ان عمدة البلدة التي يعيش فيها قد اشتري منصبه فينطلق ليفضح الفساد في قمة السلطة، وعندما يعد له رجال العمدة كمينا، ويكادوا يقتلونه يقرر - وحيث ان القانون لايعتد به في مثل تلك بلاد لا توفر للمواطن الرعاية والحماية والأمن الضرورية- أن ينتقم بنفسه لنفسه، فيحمل بندقية ويقتل برصاصها العمدة ورجال العمدة ويستريح. وتبرز احدي قصص الفيلم التي تعمل فيها سيدة في عيادة سونا – دعارة مقنعة - وعندما يرغب احد الرجال في مضاجعتها، تقول له انها تعمل فقط كمشرفة وليست مومسا، فيضربها بحفنة من الاوراق المالية ويظل يضربها لمدة ثلاث، ويمعن في ضربه فتلتقط سكينا في غفلة منه وتروح تطعنه وتطعنه، ويتفجر الدم في وجهها ويتناثر على ملابسها ويغرقها في مشهد من أبشع وأقوى المشاهد الدموية في مهرجان كان 66 الفائت .. ياللرعب ... إن الاحساس بالظلم والسكوت عليه هو قنبلة موقوتة- كما ينبه الفيلم - موقوتة فقط لفترة، لكنها لن تظل موقوتة الى الأبد في ظل استبداد وهيمنة الانظمة الاستبدادية القمعية، وانتشار الفساد والفوضى في الصين، وسوف يأتي وقت تنفجر فيه لامحالة..
استفحال الفساد والعنف والاستغلال في الصين
ويكشف الفيلم من خلال تلك الوقائع التي تنشر عادة في صفحة الحوادث، والتي أستطاع الفيلم أن يعيد تمثيلها كما وقعت بالفعل RECONSTRUCTION وبحرفية فنية عالية واقتدار، أن المسار الاقتصادي الرأسمالي الليبرالي الحر الجديد الذي ارتضته الصين، قد خلق هوة بين طبقة جديدة من الاثرياء الجدد، وبين طبقة من المعدمين، مكونة من الاغلبية الساحقة للشعب الصيني، وحولت الصين كلها الى ورش للعمل الحر والبناء والاستغلال والفساد البشعين. ودفعت باتجاه الهجرة من أعماق الريف الى داخل تلك المدن الصناعية الجبارة، وخلق طبقة من المجرمين الانتهازيين الذين استباحوا دماء الغلابة من المواطنين الصينيين، ودفعهم دفعا في اطار غياب القوانين الى أخذ حقوقهم بايديهم، والتمرد وعدم السكوت على الاهانات التي تمارس بحق المواطن الصيني، واذلاله واستفزازه، بل وتركيعه أيضا، ولايمكن للمواطن مهما حقر شأنه، ولا للانسانية جمعاء، ان تسكت على تلك اهانات.
لقطة من فيلم " لمسة خطيئة "
فيلم لمسة خطيئة هو فيلم "نبؤة" PROPHECY لأنه يقول ان ذلك المسار الاقتصادي سيؤدي في امبراطورية الصين العملاقة الى مأساة، بل والى الجحيم بعينه، وسيدفع باتجاه إما الانتحار كما يفعل أحد أبطال الفيلم، وهو شاب يبحث عن اي عمل لكى يوفر الضروريات لأسرته فينتهي به المطاف الى العمل كخادم في بيت للدعارة، وتصرخ أمه في التليفون نحن بانتظار ان ترسل لنا اي مبلغ ارجوك الحقنا، ولا من منجد أو معين في تلك القرى الصغيرة في أعماق الريف الصيني البعيدة عن العمران. فيستمع المسكين في نصف هدومه لتوسلاتها، ويتأسي لحاله وحال أسرته والبشر في تلك الامبراطورية الشاسعة، ولا يجد مخرجا لمأساته سوى الانتحار، وقد يدفع ذلك المسار الاقتصادي كما يشير الفيلم الى التمرد والثورة.
وأعتبر هذا الفيلم من أقوى الأفلام السياسية التي كشفت عن حالة الاغتراب أو الاستلاب الكاملة التي تعيشها الاغلبية الساحقة من الشعب الصيني، وكان يستحق الفوز بجائزة أفضل اخراج مثلا في مهرجان كان 67 الا انه حصل على جائزة افضل سيناريو! ومنذ يومين فقط وبالتحديد في 12 فبراير، أعلنت جمعية نقاد السينما الفرنسية عن نتائج استفتاء أفضل فيلم خرج للعرض التجاري في فرنسا في عام 2013 ففرحت جدا وصدقت توقعاتي، إذ فاز "حياة آديل" بجائزة أفضل فيلم فرنسي، وفاز فيلم "لمسة خطيئة" بلقب أفضل فيلم أجنبي وهو مرشح حاليا وبقوة للحصول على جائزة أفضل فيلم أجنبي في مسابقة الأوسكار في مارس القادم في هوليوود/ وأعتقد أنه سينالها. ودعنا نرى ..
***
فيلم " رقصة الواقع " : الحياة تستحق أن تعاش حتى لو كانت وهما .
من أجمل أفلام موسم 2013 أيضا الذي أحب أن أقف عنده، فيلم " رقصة الواقع " LA DANSA DE LA REALIDAD للمخرج اليخاندرو جودوروفسكي من التشيلي (84 سنة) الذي يعد أحد أعظم وأهم المخرجين ليس في التشيلي فحسب، بل في العالم، وتاريخ السينما قاطبة. فقد كانت أفلام اللاتيني جودوروفسكي مثل فيلم "الجبل السحري" من أحسن الأفلام التي تركت بصمته السينمائية السريالية السحرية المميزة على "فكر" جيل بأكمله وأعني به جيل الستينيات، وما شهدته تلك الفترة من قفزات سينمائية "حداثية" MODERN باهرة في أعمال المخرجين: فيلليني من إيطاليا، وجان لوك جودار من فرنسا، وميلوش فورمان من تشيكوسلوفاكيا، وساورا من أسبانيا، ورومان بولانسكي من بولندا، وهيرزوج من ألمانيا.. وغيرهم..
وقد تميزت أفلام جودوروفسكي من التشيلي في أمريكا اللاتينية بأنها أفلام "ملحمية" و"مجنونة" بالدرجة الأولى فهي لا تحكي قصة لها بداية أو وسط أو نهاية حسب المفهوم الأرسطي لعقدة الحكاية، بل تناقش أفكارا فلسفية ووجودية عامة، وتسال في شموليتها أو كليتها الفنية TOTALITE إن كانت حياتنا هذه جديرة بأن تعاش، وتفتش وتنقب عن دلالاتها ومعانيها، وهى تطرح قضايا الوجود الإنساني الكبرى..
تجليات الخطاب الصوفي في "رقصة الواقع "
ولذلك تنضم في رأينا الى ما نحب ن نطلق عليه بـ تجليات " الخطاب الصوفي" في السينما العالمية، حيث يكون للأفلام ذات البعد الصوفي من هذا " النوع " طموحا أكبر وأوسع وأشمل في تجاوز الحكاية " السينمائية" الكلاسيكية التقليدية، والهروب من الاكاديمية الباردة المتحجرة العقيمة في أفلام السينما التجارية الإستهلاكية التي تدور في حلقة مفرغة .. ومن ثم الاقتراب أكثر من الفكر الصوفي LA PENSE SUFI الذي يفلسف وجودنا الحياة، ولا يسأل عن مصير الإنسان الـ" فرد"، بل يسأل عن مصير "الإنسانية" جمعاء، والكون بأكمله، وهو يناقش الهم الانساني الروحاني الكبير في تجاوز أو الارتفاع عن الماديات، وإعلاء شأن القيم الدينية الروحانية، ويؤمن بقدرة " الحب " المطلقة على صنع المعجزات كما في بعض أفلام الدانمركي كارل دراير، والامريكي تيرانس مالك، وهذا المخرج اللاتيني الفذ اليخاندرو جودوروفسكي في فيلمه الرائع "رقصة الواقع" الذي يعود به اليخاندرو الى السينما بعد فترة غياب وانقطاع طويلين امتدا الى أكثر من 13 سنة، وبفضل تكنولوجيا المعلومات الحديثة على شبكات التواصل الاجتماعي..
فقدعرض جودوروفسكي سيناريو فيلمه على شبكة الانترنت وطلب مشاركة الجمهور المتحمس في انتاج الفيلم بأي مبلغ، فاستجاب أكثر من 5 آلاف شخص لطلبه، ودفع كل واحد منهم ماتيسر من ماله الخاص لتمويل الفيلم، وبذلك توفرت لمخرجنا اللاتيني التشيلي أول "دفعة انتاج" – أكثر من 20 ألف دولار - مما شجع بعض شركات الانتاج والمؤسسات السينمائية الكبرى في فرنسا والعالم في مابعد على المشاركة في "مغامرة" صنع هذا الفيلم الكبير، في ما يمكن اعتباره بمثابة "ملحمة" SAGA سينمائية يحكي فيها جودوروفسكي عن "سيرته الذاتية" وتربيته وما فيهما من تجارب ودروس وعبر.
لقطة من فيلم "رقصة الواقع "
ملحمة تبدأ من عند طفولته في التشيلي التي يروح يقص علينا وقائعها في فيلم "رقصة الواقع" ويظهر هنا جودوروفسكي في صورة الطفل الذي كان منذ أكثر من سبعين سنة مضت والذي لم يتجاوز بعد كما يظهر في الفيلم التاسعة من عمره. وكما حكي لنا المخرج الايطالي الكبير فردريكو فيلليني عن طفولته في فيلم "اماركورد . إني أتذكر" يحكي لنا جودوروفسكي عن طفولته في سن التاسعة في تلك القرية الجبلية الموحشة " توبوكيلا" في آخر بلاد التشيلي ويتذكر، ويروح وهو يتذكر يحكي عن تلك الوقائع التي عاشها والتي جعلته يكبر ويشب عن الطوق بفضل تلك التربية التي طالته إن من خلال علاقته في البيت في الداخل مع والديه، الأب اليهودي الشيوعي المناضل "الغريب" الذي هاجر حديثا الى تلك القرية مع زوجته الاوكرانية أم جودوروفسكي، وكانت مغنية أوبرا سابقا وصارت الآن تملك وتدير محلا بإسم "أوكرانيا" في توبوكيلا لبيع الملابس الداخلية للنساء، كما يتذكر الطفل سكان وأهل تلك القرية المعزولة المطلة على البحر والبعيدة عن العمران في أعماق التشيلي أو ما يمكن أن نطلق عليه بـ "صعيد التشيلي" الجواني، وكيف كان لشخصياتها العجيبة الغريبة أبلغ الأثر على حياته، بل وصنعت منه هذا المبدع والمفكر والفيلسوف والمخرج السينمائي اللاتيني الذي ننحنى له تقديرا وأعجابا لفيلمه ولفنه..
يبدأ الفيلم حين يصطحب الأب ابنه في أول مشهد من الفيلم الى داخل سيرك حط بالقرية ويتعرف علي الأب بهلوانين ويطلبان منه حيث أنه عمل بالسيرك من قبل وكان يقدم "نمرة" أشجع رجل في العالم ويتحدى أي خصم ويصرعه، يطلبان منه أن يتسلق حبلا الى قمة الخيمة فيفعل ثم يطلبان منه ثانية حين يهبط أن يدخل معهما في مباراة ملاكمة فيرفض الأب استخدام قفازات ملاكمة ويخاف الطفل أن يضرب الأب أمامه ويهان ويخاف عليه لأنه يحبه فيركض غاضبا خارج الخيمة ويعدو في اتجاه البحار ويصفعه بحجر، فاذا بذلك البحر يثور ويضرب الطفل ردا على الصفعة بموجة عالية هادرة لا تنجح في الامساك بالطفل، وجره الى الماء ليغرق، لكنها تلقي على الشاطئ باطنان من أسماك البحر، وعندئذ يظهر أهالي القرية الجوعى العطشي المرضى بالطاعون لجمع تلك الأسماك والتهامها في حين تهبط طيور النورس لالتقام الأسماك من كل ناحية وزاوية أيضا والطفل في ذهول مما يحدث أمامه ولا يدري هل يتأسى لمنظر الأسماك أو لمرضى الطاعون الجوعى وحالهم ؟ !! ..
حكايات تشيلية .. لقهر الخوف والعتمة
ويؤسس جودوروفسكي ومنذ أول مشهد هكذا في الفيلم لحبل طويل من الحكايات المشوقة التي تعني بموضوع "قهر الخوف" والتسلل الى داخل المياه من دون وجل، وخوض "مغامرة" الحياة ذاتها ومهما كانت التضحيات، وتعلم التحليق بجناحين: جناح الأب الشيوعي المناضل القمعى الصارم الذي يعبد ديكتاتورا أسمه ستالين ويضع صورة كبيرة في قلب محل بيع الملابس الداخلية النسائية الذي تديره الأم، ويجهز الأب فيما بعد لرحلة لاغتيال الديكتاتور رئيس جمهورية لكنه لاينجح في مهمته ويصاب بالشلل ويعود من رحلته منكسرا. وجناح الأم التي تؤمن بأن الايمان بالله في القلب سكة لصنع المعجزات، وأن حب الله الكبير الذي يشملنا جميعا بعطفه ورحمته يمكن أن يطهرنا من كل أدراننا حتى أنها الأم بإيمانها الصادق العميق تنجح في الفيلم من شفاء الأب الذي أصيب بمرض الطاعون ..
يفتش الفيلم من خلال سرد الوقائع التي عاشها جودوروفسكي في طفولته وهو لم يتجاوز بعد الثامنة من عمره، يفتش في شخصية الأب ويعرض لأفكاره ويظهر الأب في أحد مشاهد الفيلم وهو يتبول على المذياع لأنه يبث خبرا عن رئيس جمهورية التشيلي الذي يكرهه الأب لأنه مسئول عن افقار وتجويع أكثر من 70 في المائة من جموع شعب التشيلي، وتظهر لنا قرية توبوكيلا في الفيلم كصورة مصغرة ميكروكوزم للتشيلي ويؤرخ الفيلم هكذا لفترة تاريخية أو مرحلة تاريخية في حياة الشعب التشيلي والقارة اللاتينية عامة فهناك الشعب المطحون الذي يمثله ضحايا العمل في المناجم وما يتطلبه من تفجيرات في الصخر وما تسفر عنه تلك التفجيرات من ضحايا في صفوف عمال المناجم ونراهم في الفيلم وهم يصدحون ب- " غنية المنجم " الذي خلق منهم مخلوقات مشوهة بعد أن طيرت تفجيرات المناجم أطرافها ونرى في الفيلم شرطة القرية تهبط الى الساحات وتجمعهم في عربة لجمع الكلاب الضالة، كما نرى أيضا حشود مرضى الطاعون الذين يعيشون بمعزل عن القرية في الجبل حين يثورون على تجويعهم وعزلهم، ويهبطون الى القرية في ثورة على المهانة والظلم وهم العطشى يطلبون الماء، فإذا بالعمدة يأتيه الخبر في الحال فيكلف شرطة القرية بعزلهم خارج القرية وقتلهم اذا تجرأوا على الخروج، ويذهب اليهم الأب الشجاع والد جودوروفسكي في الفيلم وهو يحمل لهم الماء على عربة تجرها الحمير، ويروح يوزع عليهم الماء، وبعد سقيهم اذا بهم وبعد أن ارتووا لفرط جوعهم، يهجمون على الحمير ويذبحونها على مرأى من الأب المذهول الملتاع !! ..
ويرحل الفيلم بنا في ذاكرة ذلك الطفل جودوروفسكي الذي كان ويفتش أيضا في هوية الأم التي كانت تناديه بإسم جده وكان ورث عن الجد شعرا أشقرا طويلا جعله أقرب مايكون بطفلة جميلة بشعر ذهبي طويل، لكن الأب يريد أن يخلق من طفله المدلل المخنث بواسطة الأم، يخلق منه رجلا، وعليه معها أن يمر بعدة اختبارات بواسطة الأب من ضمنها محاولة كتم الضحك اذا داعب الأب بطن قدميه بريشة، وأن يتعرض لصفعات الأب من دون أن يبدي ألما حتى لو تكسرت أسنانه وبصق الدم، ويصحبه الأب الى الحلاق الذي يقص شعره الأشقر ثم يأخذه الى طبيب الأسنان الذي يجري له عملية حشو من دون بنج، وعليه أن يجتاز كل التجارب، تجارب قهر الألم بأى شكل ليصبح رجلا، ويفوز بحب الأب وينال مكافأة سخية اذ يضمه الأب الى فرقة المطافيء الشجعان في القرية ويقبل بأن يشارك الطفل في عملية إطفاء حريق كبير شب في عشش المنبوذين الواقعة على الأطراف هناك ..
تستحق الحياة أن تعاش حتى لو كانت .. وهما
ويتوقف الفيلم أيضا عند شخصية مهمة في طفولة دودوروفسكي، شخصية ذلك الفقير الزاهد الصوفي الذي يعيش في القرية ويظهر دوما عاريا الا من قطعة قماش تستر العورة، وحين يلتقيه الطفل جودوروفسكي يلقي عليه ذلك الدرويش الزاهد بنصائحه ويشرح له أن كل الأديان تدعو الى السلام والحب ويروح يردد معه أغنية تضعه على الطريق الذي سلكه كل الزاهدين الواصلين، كما يمنح الطفل هدية عبارة عن ميداليات وشعارات لتلك الأديان إلا أن الأب حين يعود الطفل جودوروفسكي الى داره ينتزعها منه ويلقي بها في بالوعة دورة المياه ويقول له أن الله غير موجود ولاينبغي لطفل مثله إن أراد أن يصبح رجلا عن حق أن يعيش على " أوهام " كهذه..
يوسس جودوروفسكي في فيلمه " رقصة الواقع " لـ " أوبرا ملحمية"و معزوفة " سينمائيةعذبة دافئة سحرية للطفل المتمرد الذي كان،ويسحبنا مثل حكواتي من الزمان القديم الى حلبة الدهشة، بكل اختراعات وابتكارات الفن المذهلة ليحكي عن طفولة لطفل " غريب " آخر، و" تربية مغايرة " في وسط وبيئة تلفظك، ويعرض من خلال الف حكاية وحكاية في فيلمه الرائع الممتع لطفولة يمزج فيها بين الواقع والخيال، بين الحلم والوهم، ليقول لنا اننا جميعا نستطيع أن نرى في تلافيف حكايات طفولتنا مستقبل ذلك الرجل الذي سوف نصير اليه عندما نكبر، وأجمل مافي فيلم " رقصة الواقع " أن جودوروفسكي الذي تجاوز الثمانين من عمره يظهر بشخصيته الحقيقية في الفيلم في العديد من المشاهد في صحبة الطفل الذي كان لكي يعلق على الأحداث التي يعيشها ويصحبه في رحلة النضوج ويسدي اليه أيضا من آن لآخر بنصحه وارشاداتها كما إنسان يضييء بشمعة سكة ذلك الطريق الوعر الذي يجتازه ويمنحه أيضا من عطفه وحنانه، حبه وحدبه..
ويتدخل مخرجنا العجوز في الفيلم موجها حديثه الى الطفل الشخصية الرئيسية في الفيلم ويهمس له بكلام فيقول له : " أنت معي، كل ما سوف تصبح هو في داخلك، في حوزتك الآن، لاتدع أحزانك تقهرك وتكدرك، لأنه بفضل تلك الأحزان سوف تصل الي أنا، أنا ليس لي وجود الآن في حياتك، وبالنسبة لي انت أيضا لاتوجد بعد، لكن في نهاية تلك الرحلة في نهاية الزمن، عندما تشرع تلك " المادة " في رحلة العودة الى أصلها الأول، رحلة العودة الى منبعها، لن نصبح أنا وأنت إلا مجرد " ذكريات " لن نصبح واقعا أبدا، وسوف يحلم بنا إنسان ما أو شيء ما، ولذا أطلب منك أن تمنح كل حياتك الآن وفي اللحظة الى مغامرة الحياة الأصلية، امنح نفسك لذلك "الوهم" وعش. أجل عش الآن وفي كل لحظة ولا تنسى أبدا ذلك الطفل الذي تحمله في أعماقك، اجعله من فضلك جوهرتك، وماستك، ماستك التي ترى من خلالها العالم .. "
فيلم " رقصة الواقع " الذي عرض في تظاهرة" نصف شهر المخرجين" في مهرجان " كان " السينمائي 66 وخرج حديثا للعرض التجاري في فرنسا هو دعوة الى الحفاظ على ذلك الطفل الذي نحمله جميعا في أعماقنا، وهو تحية أيضا لتلك الأم الرائعة التي علمته أن العتمة أو الظلام هى ظل الله على الأرض، ولذلك لا يجب أن تخيفنا، وأنه علينا لكى نقهر تلك الظلمة أو العتمة التي تخيفنا أن نذوب في أحشائها، لكى نخرج من بطن العتمة مثل ذلك الرجل الخفي الذي يستطيع أن يتجول مطمئنا وسط العفاريت والرجال الخطرين الفاشيين المرعبين في قلب دغل الحياة الموحش ويقهرهم، وهو أيضا شهادة على قدرتنا نحن البشر على قهر ذلك الوحش المخيف الذي يسكننا، وقدرتنا اذا عرفنا قيمة الحياة وعشناها في الآن اللحظة، قدرتنا على أن نعب من بحرها، حتى لو كانت وهما، ومجرد حفنة من الذكريات، ونستمتع حتى الثمالة.تحية الى مخرجنا الكبير اليخاندرو جودوروفسكي على هذه "التحفة" السينمائية التي تستحق المشاهدة عن جدارة ..
***
"عن يهود مصر" في السينما . أوتراجيديا الفراق عن الأوطان
فيلم "عن يهود مصر" للمخرج الشاب أمير رمسيس، الذي أحب ثالثا أن أتوقف هنا عنده لا يوثق فقط لذاكرة المصريين اليهود، وعملية اضطهاد ممهنجة ومأساة الفراق عن الأوطان، بل يوثق أيضا للتحولات والمتغيرات التي طرأت على المجتمع المصري، وحولته من مجتمع "كوزموبوليتاني" منفتح ومتسامح وجاذب، الى مجتمع عنصري طارد، واستبدادي. وكنت سعدت - في زيارة الى مصر في الفترة من 18 مارس وحتى 20 ابريل 2013 أثناء فترة حكم الاخوان بزعامة الرئيس المعزول محمد مرسي - بمشاهدة مجموعة من الأفلام المصرية الجديدة الجريئة، من صنع شباب لم يتخطى سن الثلاثين بعد في معظمه. ومن ضمنها فيلم عن يهود مصر، وأعجبت آنذاك ليس فقط بالحرفية السينمائية العالية التي تميزت بها تلك الأفلام، وأساليبها الفنية المتميزة، بل بالقضايا والمشاكل والهموم التي طرحتها أيضا، وارتباطها بواقع وتناقضات و"تحولات" المجتمع المصري بعد ثورة 25 يناير 2011، مما يعكس وعيا متقدما عند هؤلاء الشباب، بقدرة السينما على النفاذ الى ما تحت الجلد، وبالإمكانيات الهائلة للصورة الوثائقية في الامساك بـ " توهج " الحياة ذاتها، والنفاذ الى روح مصر الحقيقية، وكيانها الروحاني..
وربما يكون العامل المشترك الذي يجمع بين كل تلك الأفلام هو أنها أفلام ديالكتيكية "مثيرة للجدل" وتحفز هكذا الى الحوار- الديالوج -، وترفض بوعي أو من دون وعي أن يكون هناك طرفا واحدا متسلطا، يفرض باستبداده وجبروته وعناده وتشدده، يفرض "أسلوب حياة" بعينه على المصريين، لكي يعود بنا الى عصور التخلف والتمييز والجهل، ويروح ينصب لنا محاكم التفتيش، ويطعن في وطنيتنا، ويتهمنا بالتخوين ..
خرج فيلم "عن يهود مصر" للعرض التجاري في مارس 2013 وهي المرة الأولي التي يغامر فيها منتجه وموزعه بدفعه الى جمهور السينما في مصر. ذلك الجمهو الذي تعود على مشاهدة الأفلام الروائية فقط في دور العرض، ويعتبر أن الأفلام الوثائقية الطويلة مكانها الطبيعي في بلادنا في التلفزيون، وعروض هيئة الاستعلامات وأفلامها، التي كانت قديما على أيامنا تعرض علينا في الحدائق والميادين العامة!! وعلى اعتبار أن تلك أفلام كما يظن ذلك الجمهور، تصنع أساسا بهدف البروباجندا، والدعاية للنظام، والترويج لمشروعاته وخططه ونشر الـ" الهراء " الحكومي العام، مثلها في ذلك مثل الأغاني الوطنية المباشرة المبتذلة، التي تروج مازالت لحب الوطن بخبط الحلل والقباقيب، وتروح وسائل اعلام النظام تقصفنا بها في المناسبات الوطنية، وتجعلنا في أغلبها – بسبب تفاهتها وسخافتها - نستاء، ونقرف من حياتنا. وأيضا على اعتبار أن السينما هي وسيلة للتسلية والترفيه، ولذلك لا تصلح الأفلام الوثائقية كما هو شائع لمشاهدتها في دور العرض، لأنها أصلا تكون خالية من المتعة، ومجرد " بوق " للنظام الحاكم.. وهي أفكار سينمائية جد متخلفة بطبيعة الحال وقد عفى عليها الزمن، ومن الخطورة بمكان أن تظل هكذا قائمة ومترسخة ومتجذرة في المشهد السينمائي المصري العام، أو هكذا كانت، وحتى خروج فيلم أمير رمسيس للعرض، وهذه أول حسنة ربما تحسب لهذا الفيلم الوثائقي البديع، الذي ربما يسمح بتغيير أو بإعادة النظر في تلك المفاهيم، ويفتح بتميزه وجودته آفاقا أوسع لتسويق الفيلم الوثائقي المصري ..
يحكي فيلم أمير عن هؤلاء المصريين اليهود، فلا يحكي عنهم بتلك الصفة المقلوبة والمغلوطة كـ " يهود" أولا، لكي يطعن في وطنيتهم، ويتهمهم بالخيانة، ويلقي بهم في الحبس، ثم يقوم بترحيلهم قسرا، وسحب جنسيتهم المصرية منهم، كما فعلت كل نلك الأنظمة التي تعاقبت على مصر من أيام الزعيم الراحل الرئيس عبد الناصر وحتي الرئيس السادات..
لقطة من فيلم " عن يهود مصر "
بل يحكي عنهم كـ " مصريين " أولا وكـ "بشر" ومواطنين مصريين شرفاء، أخلصوا في حب الوطن وعشق ترابه، ومن ضمنهم محامين وتجار ورأسمالية وطنية وشيوعيين كافحوا من أجل مجتمع مصري أكثر عدالة وحرية وكرامة وتسامحا، ومنذ أيام الزعيم سعد زغلول وثورة 1919. لكن اذا بهم يتحولون وفقط بسبب ديانتهم، وحتي قبل ميلاد دولة اسرائيل الصهيونية الى "كبش فداء" لكافة الأنظمة التي تعاقبت على حكم مصر بعد ذلك، ويظهر في الفيلم "اخوانجي" متوحش، يكيل لهم التهم ظلما، ويعتبرهم وباء على شعبها، وهويتها الأصيلة!. كما يكشف الفيلم كيف ناصبتهم "جماعة الاخوان المسلمين" العداء على طول الخط، ومنذ أيام حكم الملك فاروق، وكيف مارست الجماعة الملعونة ضغوطاتها وسياساتها " الارهابية " عليهم، وقامت بإحراق بعض متاجرهم، حتي أجبرت البعض منهم على الرحيل الى جنوب افريقيا والبرازيل واستراليا..
هرتزل : " يهود مصر متدينين جدا .. وماينفعوش " !
بل والمضحك كما يكشف الفيلم، أن مؤسس الحركة الصهيونية هرتزل حضر الى مصر في فترة الاربعينات لكي يتفقد المصريين اليهود، ويري مدى استجاباتهم لمشروعه الصهيوني، ثم اذا به يصرح ملتاعا عند خروجه من مصر، انهم : "متدينين جدا، وماينفعوش" اي لا يصلحون لتجنيدهم في تلك الحركة لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فلم يكن أي من المصريين اليهود آنذاك بحاجة الى وطن آخر اصطناعي مفبرك غير بلدهم مصر، وبخاصة عندما يكون الوطن الجديد مؤسسا هكذا على طرد الفلسطينيين من بلادهم، وتشريدهم في أنحاء العالم، وبه يستغنون عن وطنهم الأصلي مصر .. لأ يا سيد هرتزل ..مش عايزينه!
وتتعاقب شهادات المصريين اليهود في الفيلم بين القاهرة وباريس، وتتقاطع مع شهادات المفكرين ورجال السياسة والمؤرخين من أمثال محمد أبو الغار مؤلف كتاب "حكاية يهود مصر من الازدهار الى الشتات" وأحمد حمروش ود.سعد الدين ابراهيم وغيرهم، وتتداخل ببراعة مع المشاهد الوثائقية المأخوذة من جريدة مصر الناطقة والأرشيف السينمائي المصري، لتؤسس لهذه الرحلة السينمائية التاريخية الممتعة التي تحكي وياللغرابة عن "مأساة" ومعانات وتشريد وألم! ولكي تصبح في التو بفضل مونتاج الفيلم المتمهل الهادئ الذكي الرصين وحده، تصبح "درسا " في السينما الوثائقية السياسية العظيمة، و"إضافة" مصرية أصيلة الى تلك الروائع التي حققتها السينما الوثائقية عبر تاريخها الطويل على يد مخرجيها الكبار مثل الهولندي الطائر جوريس إيفانز JORIS IVENS و"نموذجا" يحتذى ..
كما يعتمد أمير رمسيس في تصوير مشاهد الفيلم من الناحية التقنية على اللقطة المتوسطة أو الوسطية التي تخلق نوعا من الحميمية مع أصحاب الشهادات وتبسط مساحة أكبر للتعقل والفهم الصحيحين وبشكل محايد، ولذلك يجعلنا نطلب المزيد، ولا نشبع من تلك الشهادات المشحونة بالأسى والاحساس بالظلم والحنين الى الوطن على لسان المصريين اليهود الذين تشردوا لأنها جميعها تذكّرنا بحقوقنا : حق الانسان في أن لايترك بلده، وحقه في الحفاظ على جنسيته، وحقه في أن يحاكم أجل ويدان، لكن بطريقة عادلة، ومن دون أن تلفق له التهم، وتتسسامي بعض تلك الشهادات الانسانية في الفيلم لتصبح تراجيديات، وكل تراجيديا منها تصلح لعمل فيلم مكتمل ..وقائم بذاته .. لايحكي فيلم أمير رمسيس – اذا تأملته مليا وتعمقت فيه - عن يهود مصر أو المصريين اليهود كما يزعم أو كما قد يتصور البعض، والواضح في الفيلم أنه ينحاز ويتعاطف فقط بالطبع مع هؤلاء الذين خرجوا أو طردوا من مصر من دون أن يرتكبوا أي ذنب وفقط لأنهم كانوا يهود..
عندما تسلبنا السلطة كياننا الروحاني
بل يحكي في الواقع عن تراجيديا حب مصر الوطن، وألم الفراق حين تنتزع منا قسرا هويتنا أو مصريتنا الأصيلة التي تمثل كياننا الروحاني فاذا بنا نتحول الى " مسخ "، ونصير غرباء عن أنفسنا والعالم بل وحتي تحت جلودنا، مثل هؤلاء المصريين اليهود الذين تشتتوا في أنحاء العالم لا لإثم اقترفوه بل بسبب من عقيدتهم، وصاروا لاهم مصريين ولا فرنسيين ولا مغاربة ولا شيء على الإطلاق، فما يصنع للمرء هويته وانسانيته يقينا هو ارتباطه بوطن وتاريخ في المكان وأرض، ولذلك تكون المأساة أفدح وأشد قسوة ومرارة - عندما يكون هذا الارتباط كما يبين الفيلم يخص بلدا بذاته هو مصر أم الدنيا، ونكون معرضين في أية لحظة - ونحن نخاف عليه من الهواء الطائر- وبخاصة في اطار تلك الظروف العصيبة التي تمر بها بلادنا تحت حكم وسلطة الاخوان، معرضين للتشكيك في وطنيتنا تحت أي مسمى و.. تخويننا..
ولذلك تكمن الأهمية القصوى لهذا الفيلم في أنه يشير بوعي أو من دون وعي الى أن الدور حتما سوف يأتي علينا اذا استمرت تلك الحكومات " الاخوانية " المتعاقبة الجاهلة في ممارسة سياسات التمييز والتفريق والتقسيم بين المصريين كما يحدث حاليا – كتبت هذا في مفكرتي السينمائية أيام حكم الاخوان وبعد مشاهدة الفيلم على الفور-- على اساس من دين أو مذهب، فكر أو عقيدة.تحية لأمير رمسيس على هذا الفيلم البديع عن الذاكرة والنسيان، الذي يخاطب فينا الوعي والوجدان،قبل أن كادت تلحق بنا جميعا – وبخاصة أثناء حكم مرسي وجماعة الاخوان - شبهات التجريم والتخوين..