تصادف هذه السنة الذكرى المئوية للمفكّر النجدي عبد الله القصيمي (1907 ـ 1996)، وكان أمراً غير مألوف أن تنشر صحيفة الرياض السعودية في عددها ليوم 25 كانون الثاني (يناير) الماضي، مادّة تشيد به، هو الذي ظلّت أفكاره رجيمة وشبه محرّمة في المملكة، بل وتسجّل كذلك أنّ كتبه «عادت إلى الرفوف الأمامية في أكثر المكتبات، وهناك اقبال متزايد عليها واسمه اصبح متداولاً بين الشباب وفي مواقع الانترنت وهو يعود من جديد ككاتب يعاد اكتشافه». صحيح أنّ كاتب العمود، ممدوح المهيني، يلتزم الكثير من الحيطة حين يشدّد على أهمية أفكار القصيمي (التي لا يعرض أياً منها، مع ذلك!)، إلا أنه يكتب التالي بوضوح كافٍ: «في الوقت الذي يجرف الزمن الكثير من المفكرين العرب ويحولهم إلى مفكرين ولى زمنهم فإن أفكار عبدالله القصيمي تعد الآن من أكثر الأفكار الحية والتي يبدو أنها ستعيش عمراً طويلاً.»
وأن يصل المرء متأخراًَ، خير من أن لا يصل أبداً!
في مطلع الستينيات من القرن الماضي اقتحم القصيمي الحياة الفكرية العربية، وبدا على الفور صوتاً جديداً غير مألوف في نبرته التمردية الشاملة، يستخدم لغة احتجاج حارّة لم يسبق للمعجم العربي أن استولد منها هذا الموشور العريض والمتفجر من مفردات الإنشقاق، ويتكيء على طرائق في المحاججة (العقلية والوجدانية، التأملية المنسرحة على هواها والمنطقية المنحصرة في نطاق ملموس ومُضيّق كخرم إبرة)، تبدو كمَنْ تحرّرت نهائياً من وطأة المحرّم أياً كان، وانفلتت من أي عقال ـ تقليدي أو غير تقليدي ـ لجم ويلجم قواعد التفكير العربي في المسائل الفلسفية أو الاجتماعية-السياسية أو الأخلاقية أو الفقهية. وفي تلك الحقبة استهدف القصيمي العقل العربي بكلّ ما كان يتعايش أو يتصارع في جُنُباته من تيارات وأفكار، سلفية كانت أم ثورية، يمينية أم يسارية، ملتزمة بهذا اليقين أو عدمية بصدد أي يقين. وكان لهيب نجد وجزيرة العرب يزيد من سخونة التأملات الحارقة التي بَدَت على حافة التفكير العقلاني لكلّ وجدان، ولامست التحصين الوجداني لكلّ عقل. ولم يكن بغير دلالة كبيرة أن الأوساط الثقافية التي أبدت ترحيباً خاصاً بظاهرة القصيمي، مثلما أبدت بسالة وعناداً نزيهَيْن في تقديمه والدفاع عنه في أوقات ضنكه، كانت هي ذاتها الأوساط التي خاضت معارك الريادة في الأدب والفن والفلسفة، وكان طبيعياً أن تجد في أفكار القصيمي حاضنة طبيعية لاجتهاداتها وصراعاتها.
وفي أواسط عام 1966، في زمن عربي مضطرم كانت فيه بعض الأقلام (المرموقة والناجزة!!) تعتبر قصيدة النثر مؤامرة استعمارية لتدمير اللغة العربية، لم يكن من المستغرب أن ينساق الشاعر اللبناني أنسي الحاج إلى دفاع حارّ عن القصيمي، يذهب إلى حدّ القول: «هذا الرجل القادم من الصحراء، السعودي المقاتل كل شيء، الرافض كل شيء، الحرّ في وجه كلّ شيء، يتكلم كالشهيد الحيّ. ماذا يريد؟ يريد أن يفرغ الدنيا العربية من نفسها ويؤلفها على الحرية، والعقل، والكرامة. كتبه فضيحة تاريخية. فضيحة أن يكون العقل العربي قد ظلّ حتى الآن خالياً من عبد الله القصيمي (...) فضيحة، عبد الله القصيمي، تفضح ألوف ناسخي الكلمة العربية كل يوم من المحيط إلى الخليج (...) إقرأوا القصيمي. لا تقرأوا الآن إلا القصيمي. يا ما حلمنا أن نكتب بهذه الشجاعة! يا ما هربنا من قول ما يقول! يا ما روّضنا أنفسنا على النفاق، وتكيّفنا، وحطّمنا في أنفسنا الحقيقة، لكي نتّقي شرّ جزء مما لم يحاول القصيمي أن يتقي شرّ قوله في كتبه».
صدمات تفكير القصيمي كانت تتوالى مع صدور كل كتاب جديد، مغفلاً كالعادة من اسم دار النشر أو مكان الصدور، ومحتوياً ـ ضمن ما يشبه العادة الاستفزازية المزمنة ـ على سلسلة الألغام الناسفة الكبرى، التي تبدأ عادة من سطور الاستهلال على صفحة الغلاف الخارجية. في كتابه «العالم ليس عقلاً» يقول الاستهلال: «الثوار والقادة والفنانون والمفكرون قوم من المرضى والمتعبين، يعالجون آلامهم بتطبيب الآخرين»، فيبدأ من هجاء الجمهرة التي ينتمي إليها القصيمي نفسه، شاء ذلك الإنتماءَ أم أباه. وعلى غلاف «كبرياء التاريخ في مأزق» يتابع الاستهلال خطّ الهجاء ذاته بعد توسيعه لكي يشمل مفهوم الكلام والكتابة: «الكاتب والمعلم العظيمان هما أقسى عقاب يتلقاه الإنسان جزاء على اختراعه الكلام والكتابة والتعاليم«.
ولكي يعلن على الملأ امتداحه للعصيان وللعصاة، صانعي الحضارات بفضيلة خروجهم على الإجماع المعَمّم، فإنه صدّر كتابه «الإنسان يعصى.. لهذا يصنع الحضارات» بالعبارة التالية: «إنه لولا أفراد عباقرة عصاة قليلون يجيئون كولادة الشيء من غير أبويه أو كولادة الشيء بلا أبوين أو كولادة الشيء نقيضاً لأبويه، ليَهَبوا الحياة جميع قفزاتها الجديدة المتتابعة، ولكي يكونوا فيها العصاة الهدامين الأتقياء، لَمَا كان الانسان فقط أردأ الكائنات حظاً بل ولَكان أكثر الكائنات بلادة وهواناً وتعاسة». وأما كتابه (العرب ظاهرة صوتية)، وهو العمل الأشهر رغم أنه ليس الأبرز، فقد تصدرته الفقرة التالية: «إنه لا أَضيَع أو أخسَر أو أردأ حظاً ومجداً من كتاب عظيم أو جيد يتكلم اللغة العربية ويكتب بها مخاطباً الإنسان العربي .. إن اللغة العربية لن تكون إلا كفناً غير مجيد أو نظيف لكل فكر أو معنى عظيم أو حرّ أو صادق أو شجاع أو مبدع يكتب بها، أي لو كَتبَ بها .. وهل حَدثَ أن كَتبَ بها؟«. والحال أنّ المترادفات في العبارة الأخيرة (أضيع، أخسر، أردأ، عظيم، جيد، مجيد، نظيف، عظيم، حرّ، صادق، شجاع، مبدع...) ليست مجرّد بصمة أسلوبية لكاتب يكثر من استخدام التكرار والعطف، بل هي علامة مركزية كانت تؤشّر على طبيعة هذا الفكر الذي لا يكفّ عن التقلّب على أكثر من نار واحدة في الآن ذاته، ولا يكاد يطيق الاستقرار لبرهة خاطفة في دلالة بعينها لمفردة محددة. إنه يتشكك أبداً، ولا يشيّد أية عمارة إلا لكي يسارع إلى هدمها كأنما صَبّ مِلاط ما هو مؤقّتٌ في حجر الأساس ومنذ اللَبِنة الأولى، وكأنما تكمن علّة تشييد العمارة في حقيقة أنها قابلة سريعاً للتقويض والنقض.
وهذا الترادف سمة عضوية حتى حين يفضي في أقصى نماذجه إلى الهتاف المثالي، المشبوب لأنه يحاول مقاربة الحقيقة البسيطة من موقع متسام على بَشَر تلك الحقيقة، والإتهامي لأنه لا يستطيع أن ينضوي سوى في خطاب فضّاح للإنضواء:
»أتمنى بل وأطالب أن يُكتب فوق كل منبر عربي وعلى غلاف كل كتاب عربي وعلى الصفحة الأولى من كل صحيفة عربية وعلى كل قلم وفم عربي، هذا الهتاف أو الإنشاد أو التمجيد: أيها الكذب البليد، أيها النفاق الفضاح المفضوح، أيها الغباء الجاهل، أيها الجهل الغبي، أيها الصهيل العقيم البذيء، أيها السقوط، أيها العار الفكري والنفسي والأخلاقي والفنّي والتعبيري ... إن كل المجد والسلطان لك«.
هنا أيضاً لا يكون التكرار الكثيف لأحرف العطف والنداء عثرة أسلوبية أو انسياقاً وراء لهفة مشحونة لوضع الجميع في السلّة وسرد أكبر قدر متاح من لوائح الإتهام، بل هو أقرب إلى استخدام مبضع واحد لتنفيذ تشريح شامل واحد بضربة معمَّمة واحدة. واللغة عدّة خطابية في سياق ما يسميه القصيمي بـ»البصق في الرأس»، استناداً ـ في واقع الأمر ـ إلى حقيقة أن الإنسان «كائن لغوي، وكينونته اللغوية هي أشمل كينوناته الإنسانية»، واللغة الإنسانية «جهاز إنساني هائل وشامل للتغيير والتخطي والخلق والإبداع والرفض والرؤية المخترقة بلا حدود أو حواجز». هي بالتالي بيت القصيد عند رجل يهاجم ويستفزّ ويهدم، وهو يدرجها في عداد أسلحته الاستراتيجية لتحقيق قسطه، هو، من البصق في الرأس:
»إنها ـ كينونة الإنسان اللغوية ـ أشمل من كونه كائناً مفكراً أو متديناً أو أخلاقياً أو مذهبياً أو عاطفياً أو غير ذلك من مزايا الإنسان أو من خصائصه التي هي ليست مزايا وإنْ كان قد تفرّد بها دون سواه (...) إنه باللغة رأى إلهه ونبيّه وبطله وزعيمه وقديسه ودينه ومذهبه ونظامه وتاريخه ووطنه (...) أنت كائن لغوي، إذن أنت حتماً مستفرِغٌ وقاذفٌ مُلْقٍ في غيرك، وغيرك مستفرِغٌ قاذفٌ مُلْقٍ فيك. أنت حتماً مستفرغة فيك الآلهة والأنبياء والتاريخ والأديان والمذاهب، ومستفرغها على غيرك لأنك كائن لغوي«.
وماذا عن عبد الله القصيمي نفسه في هذه السيرورة من البصق والبصق المضاد؟ من الواضح أن ضمير المخاطب في النص السابق، وفي جميع كتابات القصيمي دون استثناء، هو حامل التعميم ومحموله، الجسد العريض الذي يخضع للتشريح بقدر ما يحرّض عليه، والهدف البعيد للتأمل الفلسفي في المعضلات مثلما هو الهدف القريب للتدليل على قرائن تلك المعضلات. وقارىء القصيمي مُلْزمٌ بالوقوف في موقع ضمير المخاطبة ذاك، وتَحسُّس أغوار نفسه حتى حين يتصل الأمر بنفس تبدو «أخرى» أو «مطلقة» أو «معمَّمة»، لا لشيء إلا لأن القرائن تسبح في محيط بلا ضفاف، وتشير إلى ملموس نفسي وشعوري وأخلاقي وسياسي، دون أن تحصره في معطيات معينة (أيّاً كانت في الواقع) لملموسٍ واحد بعينه، يتيح للقارىء فرصة الإنفلات وإقصاء ذاته عن تجربة التشريح. والقارىء ذاته كان يتحمّل الكثير من مشاقّ قراءة مفتوحة على مصراعيها، لا سيما حين نتذكّر أن الكمّ الهائل من الصفحات التي سوّدها المفكر النجدي الراحل كانت أشبه بحلبة تتصارع فيها شتّى المذاهب والأفكار والتيارات، يأخذ بعضها بتلابيب البعض، فتعيدُ فلسفة العبث إنتاجَ بضاعة سبق أن سحبتها فلسفات الأخلاق من التداول، ثم تجلب السياسة عضواً جديداً إلى مبضع التشريح بعد أن أعمل فيه الموقفُ العدمي من الوجود تمزيقاً، ويحاول علم النفس إضفاء شاعرية إنسانية بريئة على ركام كلامي عجزت تنظيرات علم الجمال عن تزويده بأي معنى، وتسعى «القيمة الميتافيزيقية» إلى التعويض عن غياب «القيمة الحضارية»، وهكذا... اللغة، في ذلك كله، تواصل ألعابها طَيّ نصّ يتدفق نقداً ويقطر مرارة، ولا يلتقط أنفاسه مرّة واحدة بعيداً عن مثار نقع الاستفزاز الأقصى وصدمة الهَتْك المباغت.
بعض هذه الاستراتيجية، وفي أمثلة عديدة سائر عناصرها، تتكرّر على مدار كل صفحة تقريباً، في أي فصل وأي كتاب. وللمرء أن يضرب الأمثلة بطريقتين: استعراض فهارس الكتب (التي تتألف عادة من مقالات مستقلة، طويلة عموماً وقصيرة في حالات نادرة)، والاستعراض التحليلي للخط البنائي (المتعدد، المتقلب، المتغاير، والمتنوّع) في المقالة الواحدة.
كتاب «أيها العقل من رآك»، مثلاً، يتألف من 477 صفحة من القطع الكبير، و11 مقالة، تسير عناوينها كما يلي:
"أنت لا تستطيع أن تكون ملحداً"، "أكبر التحديات لعبقرية الوجود"، "خصاء دولي للإنسان"، "من الوحشية أن تكون أخلاقياً"، "منطق الكون ومنطق الإنسان"، "الله في أفواههم .. وفي أعضائهم الشيطان"، "عن أبي هريرة عن رسول الله"، "إلهك .. إرادتك"، "كلّ وجودي.. تداوٍ من وجودي"، "الغباء خبز عالمي"، "أيها العقل من رآك". هذه «المطحنة» الحرّة تتضح أكثر مع عناوين كتاب «كبرياء التاريخ في مأزق»، الذي يتألف من 530 صفحة و18 مقالة: "هذا الذباب قتلني كل صباح مرتين"، "إلى كل طغاة العالم"، "وأما الاشتراكية..."، "رسالة من برغوث إلى إنسان"، "بين فساد له نسب وفساد يبحث عن النسب بضراوة"، "العبقرية بلا ذكاء"، "عصر الصراصير الزعماء"، "المذهبية والدعاية والثورة وحوش عالمية تفترس الإنسان"، "هل الشرف ضد الحياة أم الحياة ضد الشرف؟"، "هل الصرصار اشتراكي؟"، "الذباب على عيون الأطفال يؤكد أخلاقية الكون"، "الرضاعة العقلية من الأثداء الميتة"، "نحن نفكر لنعاقب ونشتم، لا لنعالج"، "خطاب مفتوح إلى المادة"، "هل الحرية كسب للإنسان أم للصوص؟"، "لستَ حرّاً لأنك تحيا"، "البطل طفل يذلّ كبرياء التاريخ"، "هل نعاني لأننا نحيا أم لأننا لا نسكن القمر؟" و663 صفحة من كتاب «فرعون يكتب سفر الخروج» تدور حول الموضوعات التالية: "الإيمان بحث عن متهم بكل الذنوب"، "إنهم لا يرون لأن لهم عيوناً"، "لا تحدّق في القمر"، "كيف ابتكر الإنسان عقله؟"، "الفكر جهاز لا يمكن تصحيحه"، "لماذا الوهم أعظم مجداً من الحقيقة؟"، "وحينئذ ستظلّ عاقلاً مهما أصبحتَ مجنوناً"، "هل تستطيع أن تحبّ الإله؟"، "فرعون يكتب سفر الخروج"، "أيهما الوحش: أنيابه أم أمعاؤه؟"، "القاتل بأمر السلطان شجاع"، "كل جواب يصبح سؤالاً بلا جواب"، "إذا تقادمت المذاهب والأرباب"، "لماذا يا أنا؟"، "سبّ الشيطان عزاء لأحزان القديسين"، "غباء الإنسان تعويض له عن قسوة الطبيعة عليه".
وكتاب «أيها العار إن المجد لك»، وهو أكثر أعمال القصيمي تركيزاً على المسائل السياسية وشؤون الساعة، يتألف من 597 صفحة، وتحمل مقالاته العناوين التالية: "أريد أن أتعلم الصدق"، "أتمنى له مزيداً من الحضارة ونقصاناً في صهيل العروبة"، "هذا الجنون أتمناه للإنسان العربي"، "بهذا السلاح نسبّ السحاب"، "حينما يعلن الشرطي نفسه سلطاناً ونبيّاً"، "لا تقرأ لئلا يصغر آباؤك"، "الطغيان لا يقتل الموهبة ولكن يفسد أخلاقها"، "ماذا يبقى لهم لولا أحقادهم؟"، "لئلا تصبح زعيماً أو نبيّاً"، "أريدك شاعراً يغنّي لأوهامي لا نبيّاً يلعن حبّي"، "النفط يكتب عن مزايا الأديان"، "اسرائيل توقع الكشف على الموهبة العربية"...
ومن الواضح أن موشور الموضوعات في هذه الكتب والمقالات عريض ومتباعد بسبب من طبيعة ما يتناوله، وموّسع إلى درجة الإنفلاش بفضيلة ميل القصيمي الموروث إلى التكرار والمرادفة. ثمة مقاربات لمسائل فقهية ودينية وسياسية واقتصادية وأخلاقية وفلسفية. وثمة نزعات عدمية وعبثية ومنطقية ووجودية وإيمانية وإلحادية وإرادية. وعلى امتداد الصفحات لا يخطيء القارىء طريقه إلى أفكار المعتزلة والمتصوفة والقرامطة، ثم ديكارت ونيتشه وهيغل وماركس وهايدغر وسارتر... ذلك لأن فكر القصيمي يسير على إيقاع متقطّع نَزِق، هو ربما إيقاع «البصق والبصق المضاد» لكي نستخدم تعبيره الفريد، دون أن يعبأ بحدود ما يمارسه من تشريح وتطهير، ودون أن يكون التبشير بالخروج والانشقاق مسقوفاً بأيّ خطوط صارمة تفصل موضوعياً (لأنها أساساً تتجاوز التأمل المحض لكي تهبط إلى قاع الواقع الفعلي المحض) بين مادية كارل ماركس التاريخية التي تريد للفلسفة أن تتصدّى لتغيير العالم بعد أن نامت طويلاً على حرير تفسيره، ووجودية هايدغر الظاهراتية التي تقتفي خطى الكائن في دائرة ضيقة من اقتران الوجود بالزمن وعجز الكائن عن مغادرة الدائرة أو حتى المشاركة في أطوارها.
الوجهة الثانية لالتقاط القصيمي والإمساك ببعض المفاتيح المنتظمة في اضطرام أفكاره، هي محاولة البحث عن مخطط تحليلي ما في أيّ من مقالاته. وهذه، بدورها، مهمة شاقة لأن الاستطراد والتكرار وتدوير الفكرة الواحدة على أكثر من محور، فضلاً عن التحلّل من أي ناظم منهجي في الصياغة وتطوير المادة، تظلّ سمات دائمة في نصوصه. ذلك لا يمنع القارىء من الانشداد إلى شبكات النص (إذ لا توجد شبكة واحدة من نوع يتضح نسيجه بعد القراءة الثانية أو الثالثة أو العاشرة!)، سواء بتأثير الصدمات المتتالية التي تخلّفها الأفكار ذاتها، أو تحت ضغط البحث عن الخيوط الناظمة ذاتها (هذه التي لا تتوفر إلا نادراً). ولعلّ مقالته «دفاع عن إيماني»، الواردة في كتابه «العالم ليس عقلاً»، هي أبرز الأمثلة على صنف نادر من نصوص القصيمي يبدو فيها أكثر ميلاً إلى التنظيم والتطوير المتصاعد للأفكار. وهي، من جانب آخر، تتسم بأهمية خاصة لأنها الوثيقة الأكثر وضوحاً حول موقفه من الإيمان، وهذا ما يعلنه منذ السطور الأولى حين يقول:
«إيماني بالله والأنبياء والأديان ليس موضوع خلاف بيني وبين نفسي أو بيني وبين تفكيري. ولا ينبغي أن يكون موضوع خلاف بيني وبين قرائي. ولو أردت من نفسي وعقلي أن يشكّا لما استطاعا، ولو أرادا مني أن أشكّ لما استطعت. ولو أني نفيت إيماني لما صدقت أقوالي. فشعوري أقوى من كل أفعالي! (...) إن الحقائق الكبرى لا تسقطها الألفاظ، كذلك الإيمان بالله والأنبياء والأديان من الحقائق القوية التي لا يمكن أن تضعفها أو تشكك فيها الكلمات التي قد تجيء غامضة أو عاجزة أو حادة لأن فورة من الحماس قد أطلقتها. إن إيماني يساوي: أنا موجود، إذن أنا مؤمن. أنا أفكّر، إذن أنا مؤمن. أنا إنسان، إذن أنا مؤمن».
وهذه الديكارتية المعدّلة هي واحدة من الرؤوس الفلسفية المتعددة التي تصنع هندسة ما للمنظومة الفكرية العريضة وراء مؤلفات عبد الله القصيمي ومسيرته الحافلة، منذ التتلمذ على أيدٍ فقهية في الأزهر، مروراً بالأطوار الوسيطة حين ضاقت به أرض العرب على ما وسعت فطردته الجزيرة العربية إلى القاهرة لتسلمه هذه إلى بيروت فتردّه «عاصمة الديمقراطية العربية» على أعقابه إلى القاهرة من جديد، وانتهاء برحيله التراجيدي الصامت في زمن استبق هجاءه منذ الخمسينات وتنبأ بحلكة ليله وبذاءة وقائعه. وإذا كانت هذه طبعة خاصة من الديكارتية، فليس لأنها تخفي ضعف الكائن أمام سطوة شرطه الوجودي وبحثه المحموم عن تمثيل نفسه في الصورة القصوى للكمال، وضمن أعقد معادلات التكامل والتنازع مع قوى الطبيعة المحيطة به. ذلك لأنّ القصيمي كان نموذجاً تراجيدياً فذّاً للإنسان الباحث عن المعنى، حتى في ذروة هجائه لكلّ وأيّ معنى، وحتى حين كانت دوائر الوجود تقوده من عبث إلى عبث، ومن استلاب إلى استلاب. وإنصاف الرجل يقتضي أن يشقى قارؤه طويلاً، وأن يتحلّى ببعض من قلق وأسئلة وتوثّب روح القصيمي، قبل أن تكون مثوبة القارىء أن يكسب هذا المزيج الإنساني المدهش من امتزاج الرؤى والفلسفات، وهذا التجواب الاستثنائي في مجاهل العقل والروح والجسد والمخيّلة، وهذه الجرعة من التمرّد: النزق بقدر انطوائه على السكينة، والشجاع بقدر عجزه أمام ما هو خارق عصيّ على الثورة الإنسانية.
ويبقى أن بين أهمّ السمات المعيارية في هذه الصيغة القصيمية، إذا جاز القول، أنها لا تكتفي بنفسها البتة ولا تتنامى في أي حدود رسمتها لنفسها، لأنها ـ وعلى نحو تركيبي رفيع القيمة ـ اعتزالية تصوّفية قرمطية، كانطية ماركسية، ديكارتية هيغلية، نيتشوية سارترية... وهنا، أيضاً، معيار جوهري لا يفسّر عزوفها عن صياغة منظومة ختامية فحسب، بل عجزها الموروث عن القيام بذلك أساساً. والأرجح أنّ هاهنا مقتلها كمنظومة فكرية غائبة، وبالتالي غير مؤهلة للانقلاب إلى قوّة مادية حينما تتبناها الجماعات ذات المصلحة في تحويل الفكر إلى حاضنة لتفريخ الإيديولوجيات في الحظائر الحزبية، للفلسفات والطبقات والسلطات.
ولكن ... أليست هاهنا أيضاً فضيلتها الإنشقاقية الرفيعة، اللائقة بالميل الإنساني النبيل إلى تجاوز الراكد وتطوير الحركة والتطلّع العنيد إلى ما هو كامن خلف الحلم وفي الباطن المحرّم من تخوم التفكير؟ لكأن عبد الله القصيمي سطّر أقداره بيديه، في كتاباته، وفي مواقفه التي قادته من منفى إلى منفى، هو الذي اعتبر أن «الحضارة كلها ليست إلا (...) صراعاً بين قادة الجماهير المخادعين وبين المفكرين الذين لا يحسنون فنّ خداع الجماهير». والحقّ أن الرجل لم يتقن قطّ -ولم يحاول أصلاً أن يتعلّم- فنّ خداع الجماهير، وكان على العكس بارعاً للغاية في جرحها، وخدش ثوابتها، وهجاء ركودها إزاء ضرورة اجتراح التجاوز، ومراوحتها العقلية والوجدانية في مكان لم يكن في نظره مخصصاً مرّة واحدة لجسد الكائن الإنساني المتمرد، ولا لكينونته العبقرية.
وفي رسالة إلى الصحافي السوري زهير مارديني، مؤرخة في أواخر عام 1972، أعلن عبد الله القصيمي أنه قرّر إحراق كتبه الثلاثة الأخيرة بسبب «هزيمة أقسى وأكبر من جميع التفاسير والتحديات والتساؤلات». وبعد عام، في رسالة أخرى، كتب يصف مراحل حياته الثلاث: «السلفية» التي انتهت بطرده من الأزهر، و«الثورية» التي بدأت مع محاكمة كتابه «هذي هي الأغلال» وتواصلت مع طرده من مصر، و«الراديكالية العدمية» التي احتضنتها مناخات بيروت الستينيات وانتهت بطرده من لبنان وعودته مجدداً إلى مصر. ومَن أثار كلّ هذه الفضيحة التاريخية، على حدّ تعبير أنسي الحاج، كيف له أن يأمل بأزمنة لا تكيل له الصاع صاعين: هتكاً وتمزيقاً وتوسيخاً وتشويهاً وإهانة؟