يوضح الكاتب الفلسطيني أن هذا الكتاب يكشف كيف استطاع “بروست” أن يصبح كاتبا ذا شأن عظيم، وأن"الشهوانية" في حياته هي قوام عبقريته بتحطيمه كل القيود ليسير حرّا، ليروي ما يعتمل في داخله وخياله ووجدانه، من دون مخططات مسبقة.

مارسيل بروست.. عبقري الطفولة

أوس داوود يعقوب

احتفى العالم والعرب نهايات العام 2013، بالروائي العالمي الفرنسي “مارسيل بروست” (1871 – 1922)، لمناسبات ثلاث، عالميا: ذكرى مرور 91 عاما على رحيله، والتي صادفت يوم 18 نوفمبر الماضي، ومرور قرن على صدور أول أجزاء روايته الشهيرة “البحث عن الزمن الضائع"، والموسومة بـ”جانب منزل سوان”. أما عربيا، فقد كانت المناسبة صدور كتاب نقدي تناول حياته الشخصية والإبداعية، ونصوصه الأدبية.

في كتابه “مارسيل بروست.. عبقري الطفولة”، الصادر حديثا عن “منشورات الجمل” بغداد/ بيروت، يكشف الناقد اللبناني سمير الحاج شاهين فصولا كيف استطاع “بروست” أن يصبح كاتبا ذا شأن عظيم، بعد أن رفضه الناشرون في بداية طريقه، “مكتفين بقراءة بعض صفحاته بقرف؛ خمنوه مؤلفا جنوبيا صالونيا، ومنهم أندريه جيد، الذي عاد، مع جاك ريفير، واعتبره اكتشافا فذا”.

ويعتبر المؤلف/ الناقد أن “الشهوانية” في حياة “بروست” هي قوام عبقريته، (ألم يصرح “بروست”: “لقد تركت في الماخور جزءا من كياني الخلقي”. لا يخفى ذلك أبدا سواء على القارئ أو الناقد، من خلال النافذة التي يختبئ خلفها الراوي ليتلصص لمدة طويلة على المشهد الخلاعي بين الآنسة فانتوي وصاحبتها، أو وهو يفتعل العطش ليدخل إلى فندق يتحول بصورة سحرية إلى مبغى للرجال. هكذا “بروست” حطم كل القيود ليسير حرّا، ليروي ما يعتمل في داخله وخياله ووجدانه، من دون مخططات مسبقة).

وقد خصص شاهين سبعة فصول لتناول نصوص “بروست” بالبحث والدراسة، هي: “حضورات الماضي”، و”نشوات الحاضر”، و”سرابات الهوى”، و”ندوات المجتمع"، و”تناوبات القلب”، و”كوكب الفن”، وأمجاد المستقبل”. فيما قسم الفصل السادس “كوكب الفن” إلى تسعة عناوين هي: “الاستفهامية”، و”الممددة”، و”الحالية”، و”الشرطية”، و”الاجتماعية”، و”المحورية”، و”المتوازية”، و”التكرارية”، و”التعددية”. بينما قسم الفصل السابع إلى ثلاثة عناوين هي: “في الرواية”، و”في المسرح”، و”في الشعر”. وفي هذه الفصول والأقسام يبرز الباحث اللبناني التأثيرات الكبيرة لأدب “بروست” التي تفشّت في كل تيارات الأدب المعاصر.

كان “بروست” يردّد دوما مقولته الشهيرة: “على الكتابة أن تكون مفتوحة على كل الجهات، أن تكون سفرا من دون بداية ونهاية، وعلى الكاتب أن يحلم بمثل هذا السفر دائما”.

وكان يلخّص نظرته إلى الحياة والفن، بقوله: “إن عظمة الفن والإبداع تتجلّى في البحث عن الحقيقة العصيّة، الممتنعة، التي تواكب حياتنا، طيّعة، ميسورة، لكنها لا تسلس لنا قيادتها وتوطّئ فهمنا لها إلا بالبحث الدائب، والفنان الحقّ الملهم هو الذي يتأتّى له أن يجد الخلاص بفنه، المفضي به إلى الحقيقة المنشودة، فالفن هو ينبوع الفرحة الوحيد، لأنه انتصار على الموت”. وكثيرا ما تساءل “بروست”، “هل سيتسنى لي الوقت كي أنجز مؤلفي. لا أريد أن يمتلئ قبري، قبل أن أبني عمارتي؟”.

وقد بقي هذا السؤال القلق، يلاحقه عاما بعد عام، مختزلا مخاوفه التي لم تفارقه طوال حياته، فهو حين ولد في العاشر من يوليو عام 1871، في منزل جدّه لوالدته، في أوتوي (وهي من ضواحي باريس)، ظن أهله أنه أضعف من أن يستمرّ في الحياة. ولقد عزا وهنه إلى حرمان أمه إبَّان حصار الألمان للعاصمة الفرنسية، التي دخلوها بعد أن انقطعت عن العالم الخارجي، خلال أربعة أشهر تجويعية. وعندما كان في التاسعة أصابته أول نوبة ربو، أثناء نزهة مع العائلة في غابة “بولونيا” المحاذية لهذا البيت. وكاد يموت تحت عين والده، وهذه العلة سببت له أوجاعا مبرحة ستلازمه حتى رمقه الأخير.

كان والده طبيبا من أسرة كاثوليكية محافظة. وكان لأمه المثقفة فضل كبير عليه فولع بالمطالعة، وكان أبوه يأمل، بعد أن أنهى “بروست” دراسة الفلسفة بمعهد “كوندورسيه”، أن ينتظم ابنه في السلك الدبلوماسي، ولكنه كان معلّق القلب بباريس. وكذلك تأتّى له أن يعقد أواصر الودّ مع كبار شخصيات عصره من أدباء ومفكرين وساسة، وكان متحدثا ظريفا يجيد التملّق والإطراء، وأعانه ذلك على النفوذ إلى مختلف طبقات الشعب، ومعرفة دخائل النفوس وتسجيل ما تعيشه الطبقة المخملية من سخافات وعبث ومجون.

ورغم أن “بروست” كان كاثوليكي النشأة، فرنسي الثقافة، لا يرتبط عقائديا أو وجدانيا باليهودية، فإن كثيرا من الأدبيات والمراجع اليهودية تصنّفه باعتباره يهوديا -لكون أمه يهودية-، فإن تناول “بروست” الشخصية اليهودية في روايته “البحث عن الزمن الضائع" دفعت البعض لوصفه بمعاداة السامية.

فروايته الأشهر تضمّ ثلاث شخصيات يهودية رئيسية، وتتميّز شخصياته اليهودية بالتكبّر الشديد ولكنه تكبّر يخفي وراءه شعورا عميقا بعدم الأمان، فاليهود في نظر “بروست” أقلية مضطهدة يتملكها جنون الإحساس بالاضطهاد والارتياب الشديد في الآخرين، وهم “جنس ملعون” أشبه بالشواذ جنسيا، على حدّ قوله.

نشر “بروست” في صدر شبابه كتابه “الملذات والأيام”، مع مقدمة بقلم أناتول فرانس، ثم ترجم لشاعره الأنكليزي المفضل راسكن. وكتب قصصا قصيرة. وقد اشتهرت كتابات “بروست” بأسلوب رشيق لكنه متكلف. وفي روايته “جين سانتويل”- التي لم تكتمل، والتي نُشرت عام 1952-، تترقرق فيها الانطباعات الأولى التي اتّضحت في روايته المقبلة “البحث عن الزمن الضائع". وله كتاب موسوم بـ”معارضات لسانت بوف”، وهو يحتوي مجموعة مقالات في النقد، يعارض فيها منهج أبرز النقاد في عصره وهو سانت بوف. وفي كتاب “دراسات بروست” للشاعر شارل بودلير والروائي جوستاف فلوبير، تكشف عن موهبته كناقد غربي ذي حسّ ونظرة ثاقبة في الفنون التي تقدمت كثيرا في زمانه.

ولقد كانت وفاة أبيه عام 1903 ووفاة أمه عام 1905 ضربةً قاسيةً عليه، وألحَّ عليه الربو وركبته الهمومُ والوساوسُ فجعل ينأى عن مجتمعه، معتزلاً دنياه مكرسًا حياته للكتابة، إيمانًا منه أن هذه هي الوسيلة الوحيدة للقضاء على مخاوفه تلك. فقضى ردحًا من عمره مع ذكرياته ينسج منها مادة رائعته الروائية العظيمة الشأن، “البحث عن الزمن الضائع، والتي احتفى العالم هذا العام بمرور 100 عام على نشر “جانب منزل سوان”، المجلد الأول من الرواية ذات الأجزاء السبعة، والتي آخرها، موسوم بـ”الزمن المستعاد”.

ولهذه الرواية منذ جزئها الأول حكاية طريفة في حياة “بروست” مع الناشرين، فحواها إخفاقه في العثور على ناشرٍ يرضى بنشر الجزء الأول منها “جانب منزل سوان”، فاضطر إلى نشره على نفقته الخاصة، غير أن الكتاب لم يظفر بالتقدير الجدير به، إذ استقبله معظم الجمهور بدون اكتراث أو عداء، ولكن أُعْجِب به قراء ذوو حس أدبي.

وكانت الحرب العالمية الأولى قد نشبت، وحالت دون نشر تتمة الرواية فاغتنمها فرصةً لإعادة النظر فيها، وقبلت أخيرًا “دار غاليمار” الباريسية بأن تنشر الرواية كاملة، (وهي التي لم تكن تصدر –آنذاك – غير أعمال عدد محدود من الكتاب من أمثال بول سوران وبول كلوديل واندريه جيد وشارل بيغوي)، وظهر فصلٌ منها موسوم بـ”في ظل الفتيات المزهرات”، فظفر الكتاب بـ”جائزة غونكور الأدبية”، فكتبت عنه وعن عمله عشرات المقالات وهكذا اطمئن “بروست” الذي ظل ينتظر الشهرة، إذ أصبح بين عشية وضحاها من مشاهير الكتاب في فرنسا.